التعسف في استعمال الحق

التعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون / بقلم وفي المنصوري

الاجتهاد: وردت قاعدة «التعسف في استعمال الحق» بهذا اللفظ في فقه القانون، وقد اُستند إليها كثيراً في إدانة المتعسّف في استعمال حقّه في الفقه والقضاء.

وورد مضمون القاعدة في الفقه الإسلامي أيضاً تحت قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» وبعنوان قصد الإضرار تحديداً، وللقاعدة تفريعات كثيرة في الفقه الإسلامي.

ويختلف التعسف في استعمال الحق عن نفس الإضرار، في أنّ التعسّف هو استعمال الحقّ في الحدود المرسومة له لكنّ الغرض غير مشروع ويستبطن الإضرار بالغير، بخلافه الإضرار فهو استعمال الحقّ خارج الحدود المرسومة له، فالإضرار في قاعدة «التعسّف في استعمال الحقّ» ناتج عن القصد ويستكشف من قرائن معيّنة، بينما الإضرار في قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» يشمل التعدّي على الغير بتجاوز حدود الحقّ الممنوحة لصاحب الحقّ.

فالإضرار في قاعدة «التعسّف في استعمال الحقّ» هو خفي ومبطّن، بينما الإضرار في قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» هو صريح وظاهر.

وما يميّز الاستعمال الطبيعي للحقّ والاستعمال التعسّفي له، مع أنّ كلّ منهما يستخدم الحقّ في إطار الحدود المرسومة له هو قصد الإضرار، وبدون قصد الإضرار يكون استعمال الحقّ استعمالاً طبيعيّاً له، ولذا ما يميّز بين الاستعمالين هو القرائن الخارجيّة، فهي التي تكشف لنا الاستعمال الطبيعي للحق من الاستعمال التعسّفي له.

بقلم المحقق وفي المنصوري * (1)

المقدمة

الأصل أن الإنسان يحق له أن يتصرف في ملكه أينما شاء ومتى شاء وكيف شاء كما هو مقتضى قاعدة: “الناس مسلطون على أموالهم”، كذلك هو حرّ في تصرفاته بحسب الحق الممنوح له في ذلك، لكن خرج من ذلك ما لو كان الإنسان يستعمل أو يستغلّ حقّه بقصد الظلم والإضرار بالآخرين، وإن لم يكن هذا التصرف في حدود الاعتداء والتجاوز عن الحق، فيكون تصرفه هذا باطلاً وغير نافذ من هذه الجهة، لأن قاعدة السلطنة التي مفادها أن الناس مسلّطون على أموالهم يتصرفون فيها كيف شاءوا إنما ذلك إذا لم يقصد الإضرار بالغير، أما مع قصد الإضرار فلا معنى للسلطنة، فلو لو لم يقصد الإضرار فتصرفه مشروع؛ لأنه يستعمل حقه وإن صادف تضرر الغير منه، أما لو قصد الإضرار فسد تصرّفه، فصورة العمل واحدة في الحالتين لكن اختلفتا في القصد.

والقاعدة بهذا اللفظ وردت في فقه القانون، أما في الفقه الإسلامي فوردت بعناوين مختلفة أبرزها قصد الإضرار أو المضارّة.

تاريخ قاعدة التعسف في استعمال الحق
وهي بهذا اللفظ وردت في القوانين الوضعية، فهي قاعدة قديمة عرفها الرومان وانتقلت إلى القانون الفرنسي القديم، لكنها اختفت بعد ظهور مبادىء الحرية الفردية وكانت المثل الأعلى للثورة الفرنسية، وطبيعي إن الإيمان بالحرية الفردية يعطي الحق للفرد في استعمال حقه غاية الحدود ولا يقيدها بقيد ما لم يكن متجاوزاً للحدود المادية لهذا الحق”.

لكن بفضل فقهاء من القانون الوضعي انتعشت هذه القاعدة في التشريعات الفرنسية من جديد حتى أصبحت من أمهات النظريات القانونية، ثم بدأ القضاء الفرنسي منذ منتصف القرن التاسع عشر يقرر هذا المبدأ في كثير من الوضوح، فأصدر أحكاماً تدين بعض الأعمال على أساس أنها تعسف في استعمال الحق، كما في المالك الذي يقيم فوق سطح جاره مدخنة غرضه الوحيد منها أن يحجب النور عن جاره، واُدين على أساس ذلك .

ثم جاء الفقه بعد ذلك فوضع بعض فقهاء القانون مؤلفاً في ذلك وهو: “التعسف في استعمال الحقوق” في الحقوق المدنية، جمع فيه أحكام القضاء واستخلص منها نظرية عامة، على غرار نظرية ” التعسف في استعمال السلطة” في القانون الإداري، ثم أخذت النظرية مكانها في التشريعات الحديثة، حتى حظيت بمكانة سامية في بعض القوانين الوضعية حتى جعلوها نظرية عامة حاكمة على سائر القوانين.(2)

المراد بالحق
عرّف جملة من الفقهاء الحقّ بانّه السلطنة على الشيء ومرتبة ضعيفة من الملكية قائمة بمن له الحق ومن عليه (3)، فيقال: حق الملكية، وحق الشفعة، وحق القَسْم، وحق النفقة، وحق الاستمتاع، وحق القصاص، وحق المطالبة بالدين، وحق الخيار، وحق الحضانة، وحق الوصاية على الصغير، وحق القيمومة، وحق الولاية على البكر ؛ فالسلطنة على المملوك سواء كان شيئاً مادياً أو غيره هو بعلاقة الملكية،

وسلطنة صاحب الخيار هو في إعمال حقه من الخيار لا غير، وسلطنة الشفيع إنما هي في إعمال حقه في الشفعة لا غير، وسلطنة المرتهن إنما هي في إبقاء العين أمانة عنده دون غيره من التصرفات، وسلطنة صاحب حق الارتفاق في المرور في الطريق دون غيره من التصرفات المخلة، وسلطنة صاحب الحق في إقامة الدعوى على شخص مدين له بحق مالي أو غيره، وسلطنة المستاجر إنما هي في الانتفاع من العين المستاجرة طبق الحدود المرسومة دون غيره من التصرفات، وحق الحضانة هو سلطنة الأم بحضانة الولد في مدة معينة ،

وحق النفقة والقسم للزوجة هو سلطنة الزوجة بالنفقة والقسم لها بشروط معينة، وحق الزوج بالاستمتاع هو سلطنة الزوج على زوجته فيما يتعلق بهذا الغرض، وغير ذلك من الحقوق الناشئة من نوع سلطنة ممنوحة لصاحبها على الشيء سواء عيناً مادية أم غيرها، وللحق خصائص كما هو مفصل في محله .

معنى التعسّف

القاعدة بهذا اللفظ مترجمة عن القوانين الفرنسية، وأظن أن الترجمة دقيقة بحسب تركيبها، وكان المترجم متوجهاً لما تحمله هذه المفردة من دلالة، ولذا اختارها دون غيرها من مفردات، وهو الجمع بين التعسف وبين الحق، فالعسف في اللغة الأخذ على غير الطريق، ثم قيل للظلم: عسف ولا تعسفه أي لا تظلمه، والعسوف: الظلوم.(4).

وقد ورد في كلام الإمام علي عليه السلام لزياد بن أبيه، وقد استخلفه لعبد الله بن العباس على فارس وأعمالها في كلام طويل: استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف.(5)

وأظن أن مفردة التعسف وإن كانت تستبطن معنى الظلم، لكنه ظلم خفي ومستور، لكونه استتر باستعمال الإنسان حقه، بخلاف الظلم فإنه واضح مشهور ويندرج في ضمن العدوان الصريح.

معيار التعسف في استعمال الحق

ورد في بعض المواد القانونية: ان من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لايكون مسؤولاً عما ينشأ من ذلك من ضرره “(6) .

ثم نصّت هذه المادة على أن استعمال الحق غير المشروع يتحقق بثلاثة معايير كل واحدة منها كاف في إثبات مسؤولية المتعسف في استعمال حقه، وأضافت لهما معيارين آخرين ماخوذين من الفقه الإسلامي، وهذه المعايير هي كالتالي (7):

١ . أن لا يقصد سوى الإضرار بالغير .
فإن ذلك يعد انحرافاً عن السلوك المالوف للشخص العادي، ولو كان هذا القصد مصحوباً بنيّة جلب المنفعة كعامل ثانوي، سواء تحققت هذه المنفعة أو لم تتحقق، أو تحققت عن طريق عرضي، فلو أن شخصاً غرس اشجاراً في أرضه بقصد حجب النور عن جاره كان متعسفاً في استعمال حقه حتى لو تبين فيما بعد أن تلك الأشجار عادت بالنفع على صاحب الأرض.

وقد ورد في بعض القوانين: ” لا يجوز استعمال حق عندما لا يكون هنالك غرض سوى الإضرار بالغيره (8).
وورد أيضاً : ” يلزم بالتعويض من يستعمل حقه بطريقة تتنافى مع الآداب وبنية ظاهرة في الإضرار بالغيره (9).
وورد أيضاً : ” لا يجوز أن يكون الغرض الأساسي من استعمال الحق الإضرار بالغير (10).
وورد أيضاً : يلزم بالتعويض ذلك الذي يسب ضرراً للغير بتجاوزه في استعمال حقه حدود حسن النية أو الغرض الذي اعطي هذا الحق من أجله. (11) 

ويفهم قصد الإضرار إما من تصريح صاحب الحق، وإما من القرائن الخاصة أو العامة الدالة عليه، كما ذكروا في مثال من يطلق زوجته وهو في مرض الموت، فإن القرائن العامة تدل على أنه يقصد حرمانها من الميراث، وإلا فلو كان غير راض بعشرتها من الأساس كان مقتضى الحال أن يطلقها وهو صحيح .

٢. إذا كانت المصلحة قليلة الأهمية بحيث لا تناسب الضرر الذي يلحق بالمقابل .

فإن ذلك أيضاً يعد انحرافاً عن السلوك العادي للأفراد، فإن من يقدِم على مصلحة قليلة الأهمية وفي مقابل ذلك يتضرر الغير ضرراً بليغاً من استعماله لحقّه هذا فإنّه إما مستهتر لا يبالي بما يصيب الناس من ضرر لقاء منفعة قليلة أو لديه نية خفية يضمر من خلالها الإضرار بالغير بداعي وجود مصلحة لكنها غير جدية أو غير ذات أهمية .

3. إذا كانت المصلحة غير مشروعة .
وهذا من أوضح مواضع التعسّف في استعمال الحق، فإن قصد الإضرار قد يكون مخفياً في المعيار الأول، أو يتذرع صاحب الحق بوجود مصلحة كبيرة في المعيار الثاني، فإنّه في هذا المعيار يستخدم صاحب الحق حقه لبلوغ مصلحة غير مشروعة خارج حدود هذا الحق، وخلافاً للغرض الذي تقرر لأجله هذا الحق”.

وأساس هذا المعيار أن الشارع أو القانون أعطى لصاحب الحق هذا الحق من أجل أهداف مشروعة، فإذا انحرف صاحب الحق عن هذا الهدف كان متعسفاً في استعمال حقه، فصاحب المنزل يصعد لسطح جاره من أجل أن يطلع على عرض الجار، أو مدير دائرة يحرم موظفاً من الوظيفة إرضاء لغرض شخصي أو حزبي، فكل هؤلاء استعملوا حقاً من أجل مصلحة وهدف غير مشروع، وإن كان ذلك في ظل الشروط المادية لاستعمال الحق”.

٤. تعارض استعمال الحق مع مصلحة عامة .
إذا تعارض استعمال الحق الشخصي مع المصلحة العامة يلجأ ولي الأمر إلى تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما توقف تصميم المدينة على هدم منزل أو تخريب مزرعة يجوز ذلك للمصلحة العامة، أو يمنع التاجر من استعمال حقه في الاحتكار من أجل مصلحة السوق وهي بالتأكيد مصلحة عامة .

5. استعمال الحقوق بما يؤدي إلى تعطيل استعمال حقوق أخرى.

لا يجوز استعمال الحق بما يؤدي إلى ادخال الضرر الفاحش على الغبر، جاء في مجلة الأحكام العدلية في المادة (۱۱۹۸) : «كل أحمد له التعلّي على حائط الملك وبناء ما يريد، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرراً فاحشاً”، والضرر الفاحش كما جاء في المادّة (1199) هو : كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة المقصودة من بناء كالسكنى أو يضرّ بالبناء أي يجلب له وهناً”.

وذكرت المجلة عدّة تطبيقات لذلك، والميزان فيها العرف الذي يختلف من زمان إلى لآخر، ومن مكان إلى آخر ايضاً (12).

 

محتويات المقالة:

المقدمة
تاريخ قاعدة التعسف في استعمال الحق
المراد بالحق
معنى التعسّف
معيار التعسف في استعمال الحق
مدرك القاعدة
الأساس الفقهي والقانوني للقاعدة
إشكال على القاعدة
ما يلايس القاعدة
1. لاضرر ولا ضرار
2. الجواز الشرعي ينافي الضمان
فروع القاعدة
الخاتمة
المصادر 
 

الهوامش

*1 -باحث في الفقه واصوله، كاتب في موسوعة أصول الفقه المقارن، وموسوعة الفقه الإسلامي المقارن، وموسوعة قواعد الفقه الإسلامي.
٢ – السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، ج ۱، ص ٨٣٥ ج ۸۳۹؛ الزهاوي، التعسف في استعمال حق الملكية، ص ١٥٨ وما بعدها.
3. انظر: النائيني منية المطالب، ج ۱، ص ١٠٥ – ١٠٦ ، الأصفهاني، حاشية المكاسب ، ج ١ ، ٤١. بحر العلوم، بلغة الفقيه، ج ۱، ص ۳۳ الصدر، ما وراء الفقه، ص ۳، ص ٢٢٦ .
4. الجوهري، الصحاح ، ج ٤ ، ص ١٤٠٣ ابن منظور، لسان العرب، ج ۹، ص ٢٤٥ – ٢٤٦ .
5- الامام علي نهج البلاغة، ص ٥٥٩.
6. السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني ، ج ۱، ص ٨٤١ – ٨٥٠ .
7. وينبغي التنويه إلى أن كل هذه المعايير موجودة في الفقه الإسلامي وبعناوين مختلفة، والشريعة الإسلامية لديها تشريعات كثيرة في إدانة المتعسف في استعمال حقه، كما سوف يأتي في فروع القاعدة.
8. الزهاوي، التعسف في استعمال حق الملكية، ص ١٦٦ .
9. المصدر السابق، ص ١٦٧ .
١٠. المصدر السابق، ص ١٦٧ .
١١. المصدر السابق، ص ١٦٨ .
12. راجع: كاشف الغطاء، تحرير المجلة، ج3، ص 413 و مابعدها. 

 

 

المصدر: مجلة المنهج الفقهي من منظار أهل البيت “عليهم السلام” المجلد 2، العدد 1 – الرقم المسلسل للعدد 3، أغسطس 2021،

 

تحميل المقالة

.pdالتعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky