الشعائر-الحسينية

مسيرة الإصلاح في الشعائر الحسينية / فضيلة الشيخ قيصر التميمي

الاجتهاد: إنّ حديث الإصلاح في الشعائر الحسينية له عراقته وجذوره الممتدّة بامتداد الوجود المبارك لأتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وخصوصاً في ظل طيف متنوّع من الحكومات الشيعيّة أو المتعاطفة ظاهراً مع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) التي حكمت بعض البلدان الإسلاميّة، كالدولة البويهية والفاطمية والحمدانية والصفوية والقاجارية.

ولكن يبدو أن حركة الإصلاح هذه قد تشكّلت بصورة واضحة ومعلنة وفي إطار منهجيّة علمية مدروسة منذ أربعة قرون تقريباً، وتحديداً في مطلع القرن العاشر الهجري، وفي بدايات عصر الحكم الصفوي، ولعلّ الرائد الأبرز لهذه الحركة الإصلاحيّة هو كمال الدين حسين بن علي الواعظ الكاشفي المتوفَّى سنة (910هـ)([2])، وخصوصاً بلحاظ ما دوّنه في كتابه الشهير (روضة الشهداء)، الذي كتبه سنة (908هـ)، حيث كان هذا الكتاب ـ الفريد من نوعه والمتميّز في مجاله ـ دستوراً مقدّساً بيد المختصّين والمهتمّين ببناء وتطوير وتوسعة الشعائر الحسينية، وخصوصاً في مجال القصّة ورواية المقتل الحسيني، حيث أضاف من القصص والحكايات العاشورائية ما لا تجده إلّا في هذا الكتاب([3]).

واستمرّت حركة الشعائر على هذا النمط التنموي التوسّعي إلى القرن الثالث عشر الهجري، حيث بدأت بعدها مرحلة جديدة وواسعة في تنمية الحركة الشعائرية،

ففي النصف الأول من القرن المذكور تقريباً، وفي عهد الملك فتح علي شاه (1183-1250هـ) انطلقت البدايات من الفتاوى المعروفة والمشهورة للميرزا القمي المتوفَّى سنة (1231هـ)، حول جواز ومشروعيّة إقامة التشابيه والمسرح الحسيني، وهكذا الفتاوى الأُخرى المنسوبة إليه في هذا المجال، كما يُنسب إليه ذلك في كتابه (جامع الشتات)([4]).

ثم توسّعت هذه الحركة الإصلاحية في النصف الثاني من القرن المذكور، ويمكننا أن نبتدئ هذا التاريخ بالحركة الواسعة والميدانيّة للفاضل الدربندي في مجال الشعائر الحسينيّة، وهو صاحب كتاب (إكسير العبادات في أسرار الشهادات)، والمتوفَّى سنة (1285هـ)، حيث تصدّى لدعم التوسعة والتطوير والتنويع في الشعائر الحسينيّة، في ظل الحكومة القاجارية في عهد الملك ناصر الدين شاه (1247-1313هـ)، وبأُسلوب اجتهادي فريد من نوعه، فكانت الحركة الإصلاحية للشعائر بنظره ينبغي أن تقع في سياق توسعة رقعة ما قد يُسمّى بالسُّنن الحسنة في هذا المجال، وهناك مجموعة كبيرة من العلماء والخطباء المعاصرين له اتخذوا ذات المنهج في التعامل مع الشعائر وسُبل تطويرها.

ومن الأمثلة على ذلك قول الدربندي(قدس سره): «فاعلم أن قضية نطح زينب بنت أمير المؤمنين رأسها بمقدّم المحمل، بحيث إنه جُرح وجرى الدم منه، يكشف عن فحوى أن ما لا يجوز فعله في مصيبة غير آل محمد ـ من الجزع الشديد، وشقّ الثياب والجيوب، ولطم الصدور وخمش الوجوه، وحثو التراب والرماد على الرؤوس وضربها بالأكف، وتلطّخ الوجه والجسد بالوحل، والألوان المسودة وما يشبه ذلك ـ يجوز فعله في مصائب آل محمد(صلى الله عليه وآله)، ولا سيّما في مصائب سيد الشهداء روحي له الفداء… بل يمكن أن يُقال: إن جواز كلّ ذلك ـ بل استحبابه ـ مما عليه السيرة والضرورة من المذهب»([5]).

ومن ذلك أيضاً قوله(قدس سره): «وأما الكلام في مثل جرح الرؤوس أو الصدور بآلة من الحديد أو نحو ذلك، فمما يُعلم تحقيق الحال فيه في بعض المجالس، وهو المجلس المتضمّن لقضية نطح الصديقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) رأسها في حضور الإمام على خشب الهودج»([6]).

فجاءت هذه العبارات وغيرها لترسم الملامح الأُولى للتأسيس الفكري والاجتهادي في مجال توسعة مساحة الشعائر الحسينيّة، والتدليل عليها بالأدلّة الشرعيّة والنصوص الدينيّة.

لكن، وفي حركة شبه معاكسة ومعاصرة أو متأخرة بطبيعة الحال، تصدّى بعض العلماء لما يرونه مخالفاً للشؤون الحسينية، ولعلّنا نضع في صدارتهم المحدّث النوري المتوفَّى سنة (1320هـ)، وعلي بن محمّد تقي القزويني المتوفَّى بعد سنة (1324هـ).

فقد تحدّث النوري كثيراً عن إصلاح المنبر الحسيني وتهذيب جملة من الشعائر الحسينية، خصوصاً في كتابه (اللؤلؤ والمرجان) المعرّب من اللغة الفارسيّة([7])، وهكذا القزويني في كتابه (أسرار المصائب ونكات النوائب)، ومن كلمات القزويني الواردة في هذا السياق على سبيل المثال قوله: «فإني أسمع وأرى في هذه الأزمنة والأوقات من الأخبار المجعولات والأكاذيب الموضوعات ما فيه تخريب الدين وتضييع شرع سيّد المرسلين واستهزاء المخالفين، فإنها من أعظم مصائب المعصومين(عليهم السلام) المظلومين، وإن سُمّيت بإقامة العزاء، وأُدخلت في عنوان الرثاء، لكنها في الحقيقة من البدعة في الدين، وداخلة في مصائب سيد الشهداء(عليه السلام) أرواحنا له الفداء، بل من الجروح الواردة على قلبه الشريف من الأعداء، وقد وضعها بعض العوام استحساناً بحسب رأيه السخيف، ثم نقلها بعض الأعلام مثلاً في كتابه، غفلة عمّا يترتّب عليها من المفاسد العظام، ونحن وإن تأخّر زماننا عن واقعة سيّد شباب أهل الجنان.. فننصره إن شاء الله بتوفيقه تعالى وتأييد أُمنائه بقلع أساس الكذب والافتراء، كاللهو والغناء بعنوان الرثاء والإبكاء…»، وهكذا يستمرّ في مقدّمته على هذا المنوال وبأُسلوب حادّ وشديد اللهجة([8]).

ثم ـ وعلى ذات المنهج ـ تلاهما مجموعة من العلماء الذين أسّسوا الأُسس ووضعوا الضوابط لتقنين الشعائر وتهذيبها أو تطويرها. وجاءت هذه الحركة التهذيبيّة كردّة فعل على ظاهرة توسيع واستحداث مجموعة من الطقوس والمراسم الحسينية، كما يؤكّد على هذه الحقيقة المحدّث النوري في انتقاده اللاذع والشديد للفاضل الدربندي، وفي مواضع كثيرة من كتابه (اللؤلؤ والمرجان)، كما أشرنا إلى بعضها.

ثم تلت تلك الحركة أيضاً حركة أُخرى لاحقة داعمة لحركة التوسّع والتجديد في مجال الشعائر الحسينية، وقد جاءت كردّة فعل أيضاً مضادّة لتلك الحركات التصحيحية، وهكذا استمرّ السجال والاختلاف في الرؤى بين موسِّع ومهذِّب إلى يومنا الحاضر.

إذن؛ نستطيع أن نقول: إن الحركة الإصلاحية في الشعائر الحسينيّة انقسمت على نفسها في مراحل مختلفة بين:

1ـ موسِّع وداعم للتنوّع والنشر والتحديث والإنتاج الشعائري.

2ـ وبين: مُهذِّب ورافض لما يراه من العشوائية في الصيرورة الشعائرية والتكوّن العفوي للطقوس والمراسم الحسينية.

والحديث حول هذه المسيرة الإصلاحية واسع وطويل جدّاً، لكننا نحاول تخصيص البحث وإيجازه في المحورين التاليين:

المحور الأول: الإصلاح في الشعائر الحسينيّة انطلاقاً من المسؤولية تجاه الدين والحكم الشرعي

الملاحظ أن حركة الإصلاح في دائرة هذا المحور (الحكم الشرعي) هي الطاغية في مجتمعاتنا، وقد شغلت هموم العلماء والباحثين منذ ما يزيد على أربعة قرون من الزمن تقريباً كما أشرنا، حيث تصدّى جملة من المفكرين وبشكل مُعلن وجريء لإصلاح بعض الشعائر الحسينية ـ توسعة أو تهذيباً ـ ومن منطلقات مختلفة ومتنوّعة، ولكن كان الهدف الأبرز لتلك الحركة هو الدفاع عن الدين والحفاظ على حرمة الأحكام والقوانين الشرعية.

أمّا في مجال التأكيد والدعم والتجديد والتطوير والتوسعة، فيمثّله الأعمّ الأغلب من العلماء والخطباء، وذكرنا في صدارتهم القمّي والكاشفي والدربندي وغيرهم، ولنا أن نستشرف الدعم العامّ للتوسعة الشعائريّة من الرسائل والردود الشديدة والقاسية التي صدرت من علماء النجف الأشرف وفضلائها للردّ على دعاة الإصلاح التهذيبي، والتي تؤكّد على ضرورة التوسعة والدعم والتجديد.

ومن ذلك على سبيل المثال: ما أجاب به الشيخ عبد الله المامقاني(رحمه الله) (1290ـ 1351هـ) في رسالته المعروفة (المواكب الحسينيّة)، حينما سُئل عن مشروعيّة المواكب المحزنة والتمثيل فيها، وإعلان الحزن بالندب والنداء والعويل والبكاء، وضرب الصدور بالأكف وشجّ الرؤوس بالحديد وغير ذلك، حيث قال: «لا ينبغي الشبهة في جواز الأُمور المذكورة في السؤال، بل وإدماء الرأس بالسيف، بل لو أفتى فقيه متبحّر بوجوب ذلك كفاية في مثل هذه الأزمنة ـ التي صمّم جمع فيها على إطفاء أنوار أهل البيت عليهم أفضل الصلوات والسلام ـ لم يمكن تخطئته»، ثم شرع في الاستدلال على هذه الأُمور وأمثالها بصورة تفصيليّة([9]).

ومن ذلك أيضاً الرسالة اللاذعة التي كتبها الشيخ مرتضى آل ياسين(رحمه الله) (1311ـ 1398هـ) في الردّ على ما كتبه القزويني في رسالته (صولة الحق)، ومن جملة ما جاء فيها قوله: «حتى جاءنا اليوم يريد أن يزيد على الإبالة ضغثاً وعلى الجرح ملحاً، فيبتزّ من أيدينا أغلى مجوهراتنا، وأعزّ مقدّساتنا، ألا وهي المظاهرات العزائية، التي اعتاد الشيعة القيام بها كل عام في العشر الأُول من شهر محرّم الحرام، حزناً على سبط الرسول وقرّة عين الزهراء البتول عليه الصلاة والسلام، وذلك كاللطم على الصدور في الشوارع، والضرب على الظهور بالسلاسل، وإدماء الرؤوس بالسيوف، وتمثيل فاجعة الطف بالصورة التي يسمونها الشبيه»([10]).

والشواهد في هذا المجال كثيرة جدّاً تفوق حدّ الإحصاء([11]).

وأمّا في مجال التهذيب والتنقية والتنزيه، فبعد مرحلة النوري والقزويني، نجد على سبيل المثال السيد محمد مهدي الموسوي القزويني، نزيل البصرة، المتوفَّى سنة (1358هـ)، قد تصدّى وبشكل صريح لحملة تصحيحية واسعة، سعى فيها لما يراه إصلاحاً وتهذيباً للشعائر الحسينية، وهو ينطلق في حملته من منطلقات شرعية دينيّة، وخصوصاً ما جاء في رسالته المعروفة بـ(صولة الحق)، حيث افتتحها بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب تصدّي العلماء للبدع، ثم قال: «فبطاعة الله سبحانه، وطمعاً في مثوباته، وهرباً من العقوبة الفادحة التي يُعاقب بها كاتم العلم، ما زلتُ بحمدِ الله سبحانه وحُسن توفيقه صادحاً ـ منذ دخولي البصرة من شهر شعبان إلى اليوم ـ في الناس بالنهي لهم عمّا قد تعوّدوه من الإتيان بضروب المحرّمات والمنكرات والسخافات والحماقات وجعلهم إياها من جملة الديانات الشرعيّة، خصوصاً مسألة التشبيهات التي يُمثّلونها في عاشوراء، فصرتُ مُنوّهاً برفضها ومُصرِّحاً بما فيها من التحريم؛ لأنّي أراها مُجلبةً لسخرية الملل الخارجة، وداعياً من دواعي الاستهزاء.

فحرّمتها علناً، منادياً بذلك بين الخلق، هادياً لهم إلى سبيل الحقّ والرشاد، ومقدِّساً للدّين القويم عمّا جعله منه جماعة الجاهلين»([12]). وأكّد بعد ذلك على أنّه مستمرّ في هذا الطريق، ولا تثنيه الزعقات وهجمات التشنيع والبهتان.

ثم انتقد تمثيل بنات الرسالة مما قد يوجب الإهانة وهتك الحرمة والسخرية والاستهزاء، وأن ذلك بنظره من المبتدعات والسخافات والخرافات المنكرة في الدين ولدى العقل والعقلاء، ولم يرد فيها نص ولا دليل، ويواصل القول: بأننا إذاً لماذا نكرر ما فعله يزيد وشيعته بعقائل النبوّة ومحجّبات الرسالة؟! وما هو وجه تكرار ما فعلوه من الجرائم في كلّ عام؟!

ثمّ حصر مشروعية اللطم في داخل المآتم، وحرّمها في الأزقة والطرقات، مستهدفاً من ذلك الحدّ مما قد يقع من المحرمات في تلك المحافل المختلطة.

وحرّم التطبير لما يؤدّي إليه بنظره من الوقوع في المحرّمات، من قبيل هلاك النفوس أو إيذائها، مضافاً إلى كونه ـ كما يرى ـ عملاً وحشياً همجياً لا دليل عليه ولا ثمرة فيه([13]).

وقد تصدّى جملة من العلماء للردّ على السيّد القزويني، وأقاموا الأدلّة الشرعية والعقلية المتنوّعة على ما استنكره من الشعائر الحسينية، وقد تضمّنت جملة من تلك الرسائل عبارات لاذعة ولهجة شديدة وكلمات جارحة، ولعلّ من أهمّ تلك الرسائل ما كتبه الشيخ حسن المظفر(رحمه الله) المتوفَّى سنة (1388هـ) بعنوان (نصرة المظلوم)، وقد كتبها في نفس السنة التي صدرت فيها رسالة صولة الحق (1345هـ)([14]).

ثم تلت هذه الحركة مباشرة حركة تصحيحية تهذيبيّة أُخرى، قادها السيّد محسن الأمين العاملي(رحمه الله)، نزيل دمشق، المتوفَّى سنة (1371هـ)، وقد كثر اللغط حول ما يتبنّاه ويدعو إليه من الإصلاح، وكُتِبت مجموعة كبيرة من الرسائل والبحوث للردّ عليه، وكان من أهمّ تلك الردود الرسالة التي كتبها الشيخ عبد الحسين صادق العاملي(رحمه الله) المتوفَّى سنة (1361هـ)، بعنوان (سيماء الصلحاء)([15])، وهي ما دعا السيّد الأمين إلى كتابة رسالة مفصّلة في هذا المجال بعنوان (التنزيه لأعمال الشبيه)، وقد تحدّث فيها مفصّلاً عن نهضته الإصلاحية في مجال الشعائر الحسينية، وناقش في مشروعية جملة من تلك الشعائر، كما حاول أن يهذّب بعضها([16]).

وكان المنطلق أيضاً والهدف الذي يرمي إليه هو الحفاظ على الدين القويم والالتزام بأحكامه وقوانينه الشرعية، حيث افتتح رسالته أيضاً بمسألة وجوب إنكار المنكر والنهي عنه، ووجوب إنكار البدع وردّها، وحاول أن يحصي بعض ما شاب الشعائر ـ برأيه ـ من المنكرات، وعدّ منها مثلاً:

1ـ نقل الأحاديث المكذوبة على المنابر، من قبيل حادثة الطيور، وعدّها من الكبائر.

2ـ تلحين الصوت بالغناء، وعدّها من المحرّمات.

3ـ إيذاء النفس وتعريضها للهلاك، بجرح الرؤوس حتى تسيل الدماء، وعدّها من المحرّمات أيضاً.

4ـ استعمال آلات اللهو، كالطبل والمزامير وأمثالها، وهو كذلك من المحرّمات.

5ـ تشبيه الرجال بالنساء في التمثيل، وتشبيه بعض النساء ببنات الرسالة، مما يوجب الهتك والمثلة المحرّمة.

6ـ صياح النساء في مسمع الرجال، وصوت المرأة عورة.

وهكذا كلّ ما يوجب الهتك والتشنيع والقدح في الدين والنفرة منه.

وقد تصدّى أيضاً كبار العلماء من النجف الأشرف وغيرها للردّ مفصّلاً على ما جاء في هذه الرسالة، وكانت كلّها تحوم حول الدليل والحكم الشرعي، وتنطلق من منطلقات وجوب الحفاظ على الدين والدفاع عنه([17]).

وبنفس هذه الأساليب وبالآليات ذاتها استمرّت مسيرة الإصلاح والشدّ والجذب بين المصلحين، الداعين إلى التنزيه، وخصومهم ممن يرى أنّ فيما يُدّعى من التنزيه هدماً للدين ووقوفاً بوجه الحركة الإلهيّة للرسل والأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وبين هذا وذاك كانت الشريعة والدين والأحكام الشرعيّة هي المنطلق الأساس وهي الغاية والهدف.

وفي هذا المجال بالخصوص نحن ندعو إلى أن يكون الإصلاح في هذه الدائرة إصلاحاً تطويرياً وبنّاءً ونافعاً، ولتحقيق ذلك نوصي في مقالنا هذا بما يلي:

1ـ مواصلة مسيرة الدراسات الدينية التخصصّية والاجتهاديّة المعمّقة في هذا المجال بالخصوص.

2ـ مراعاة الاختصاص الديني، واجتناب التعويم والخلط بالاختصاصات الأُخرى، إلّا بما ينفع في تحرير المسألة الشرعية مفهوماً وحكماً وموضوعاً ومتعلّقاً، وأمثال ذلك.

3ـ المحافظة على الجوانب الموضوعية والعلمية في المسائل والشعائر التي نسعى إلى إصلاحها.

4ـ أن نكون على قدر المسؤولية في الحفاظ على أصالة الدين وتشييد أركانه.

5ـ أن نمتلك الجرأة الكافية لدراسة مثل هذه الموضوعات الحسّاسة، أيّاً كانت النتائج.

ولكن هذا المحور بكلّ أبعاده قد أخذ قسطه الوافر من البحث والتحقيق، وهو لا يُشكّل في نظرنا إلّا مساحة خاصة ومحدودة في مجالات الاختصاص الإنساني الأكاديمي.

ولذا؛ نرى أن الجانب الأهمّ والمهمل في حركة الإصلاح هو ما نذكره في المحور الثاني.

المحور الثاني: الإصلاح في الشعائر الحسينيّة من منطلقات عقلانيّة وإنسانيّة

انطلاقاً من البعد الإنساني البشري، وبعيداً عن تجاذبات النص الديني، والاختلاف الاجتهادي في تحديد الحكم الشرعي والوظيفة الشرعية تجاه الشعائر الحسينية، ينبغي أن تبدأ مسيرة أُخرى موازية في الإصلاح،

ويمكننا أن نتصور هذه المسيرة منطلقة في اتجاهين:

الاتجاه الأول: الحركة العقلية والعقلانيّة الداعمة للمنظومة الدينيّة

بدأت هذه المسيرة العقلية والعقلانيّة في موازاة مسيرة الإصلاح في محورها الأوّل، لكنّها كانت بداية محدودة جدّاً، تعرّض لها العلماء والمفكرون بصورة عابرة وفي ظل وسياق التضحيات والجهود الكبيرة التي بذلوها للحفاظ على الدين والأحكام الشرعيّة، ويمكننا أن نتلمّس معالمها وأمثلتها في أدبيات مَن رفع راية الإصلاح والتهذيب في الشعائر الحسينيّة، ومَن تصدّى للدفاع عنها، فعلى سبيل المثال:

في أدبيات المصلحين

يستنكر المحدّث النوري على المؤلِّفين وأهل المنبر تناقل الأُمور الواهية والضعيفة فيما يرتبط بالقصّة الحسينية وحوادثها؛ مستنداً في ذلك إلى كونه مخالفاً للعقل والنقل، حيث يقول:

«فهذه المطالب الضعيفة الواهية والأخبار المختلفة حينما يُدرجها المؤلِّفون في كتبهم يُسلّطون بذلك الأعداء على أنفسهم، وهذا مخالف للعقل والدين».

ويقول في الموضع والسياق ذاته متحاملاً على الفاضل الدربندي لإدراجه مرويات كتاب مجهول حصل عليه من قارئ عزاء في كتابه أسرار الشهادات: «فقد أدرج فيه روايات ذلك الكتاب وأضافها إلى الأخبار الواهية المجعولة التي لا حصر لها، الموجودة في كتابه المزبور، فاتحاً بذلك للمخالفين أبواب الطعن والسخرية والاستهزاء، وقد وصلت به همّته إلى درجة أنه جعل جيش الكوفة مليوناً وستمائة ألف!.. ومن المطالب العجيبة التي نقلها لي مشافهة أنه سمع فيما مضى أن العالم الفلاني قال ـ أو روى ـ: إن يوم عاشوراء كان سبعين ساعة، وأنه كان يستغرب ذلك حينها ويتعجّب من ذلك النقل، لكنّه حينما فكَّر وتأمَّل في وقائع اليوم العاشر تأكّد وتيقّن أن ذلك النقل صحيح، وأن تلك الوقائع لم يكن لها لتحصل لولا تلك المدّة من الزمن.. وقد قوّى هذه الفكرة في كتابه، ويمكنك أن تعرف من خلال هذه الفقرة كيفية تفكيره!»([18]).

ويقول أيضاً بعد تشديده النكير على نقل الأخبار والوقائع المكذوبة على نهضة الإمام الحسين(عليه السلام): «والنتيجة الظاهرة لذلك وثمرته الواضحة إدخال الوهن العظيم على الدين ومذهب الجعفريّة، وتقديم أسباب السخرية والاستهزاء والضحك للمخالفين»([19]).

ويؤكِّد السيّد القزويني البصري في صولته على أنه يرى أن بعض الشعائر ـ وخصوصاً مسألة التشبيهات التي تُمثَّل في عاشوراء ـ «مجلبة لسخرية الملل الخارجة، وداعياً من دواعي الاستهزاء، فحرّمتها علناً، منادياً بذلك بين الخلق، هادياً لهم إلى سبيل الحقّ والرشاد، ومُقدّساً للدين القويم عمّا جعله منه جماعة الجاهلين»([20]).

ويقول أيضاً ـ وقد ملأ رسالته بأمثال هذه العبارات ـ: «وأما الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس فمحرّم.. فهو فعل همجي وحشي، مثل الضرب بسلسلة من الحديد، ولم يرد دليل شرعي على تجويزها، وما من سيرة يستند إليها فيها، بل هي بنظر أرباب العقول والمعرفة أفعال وحشية، وما فيها من ثمرة في التعزية»([21]).

واستدلّ السيّد الأمين أيضاً على حرمة التطبير وأمثاله بالعقل والنقل([22])، وأن ذلك يوجب نسبة المذهب وأهله «إلى الجهل والجنون وسخافة العقول، والبعد عن محاسن الشرع الإسلامي، واستحلال ما حكم الشرع والعقل بتحريمه، من إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها.. مما يُلصق العار بالمذهب وأهله، ويُنفِّر الناس عنه، ويفتح باب القدح فيه»([23]).

والكلمات في هذ المجال كثيرة جدّاً، وقد تمّ توظيف العقل والإنتاج البشري العقلاني فيها للدفاع عن الدين ومنظومته العقديّة وأحكامه الشرعية.

في أدبيات المدافعين

كذلك تمّ توظيف العقل البشري والنتاج الإنساني لدعم الشعائرية حكماً وموضوعاً، وعبارات العلماء واستدلالاتهم العقلية التوظيفيّة كثيرة في هذا المجال، كما جاء ذلك كثيراً في بيان فلسفة شعيرة البكاء وما يرتبط ببعض المراسم والفلكلوريات الشعبية العاشورائية وغير ذلك.

ومن ذلك ما صدّر به المامقاني رسالته في الردّ على القزويني في صولته، حيث يقول: «إنه تطابق العقل والشرع، ونطق الكتاب والسنَّة من الفريقين بإباحة كلّما لم يُدرك العقل فيه قبحاً ولا ضرراً، أو لم يرد فيه من المولى نهي ولا تحريم، بل على ذلك إجماع العقلاء وأهل الملل والأديان… ومن البيّن عند كلّ محيط بالأخبار، متطلّع في كلمات فقهائنا الأخيار، عدم ورود آية ولا رواية ضعيفة أو مرسلة بحرمة تشبيه شخص بشخص»([24]).

وقريب من ذلك ما ذكره الشيخ مرتضى آل ياسين(رحمه الله) في رسالته (نظرة دامعة)([25])، والشيخ محمد جواد الحجامي(رحمه الله) في رسالته (كلمة حول التذكار الحسيني)([26])، والشيخ حسن المظفر(رحمه الله) في رسالته (نصرة المظلوم)([27])، وغيرهم الكثير.

ومن كلا الطرفين تمّ توظيف العقل والنتاج البشري توظيفاً آلياً للدفاع عن حريم الدين ومنظومة الأحكام الشرعية.

الاتجاه الثاني: الحركة العقلية والعقلانيّة بعيداً عن المنظومة الدينيّة والأدلجة بشكل عام

يُعدّ هذا الاتجاه من المحور الثاني هو الأهمّ في موضوع بحثنا، ولا نريد أن ندّعي أهميّته على دراسة المنظومة الشعائرية من الناحية الدينيّة والشرعية، وإنما كلّ ما نريد أن نقوله في هذا المجال هو: أننا لم نجد دراسات إنسانية جادّة ومختصّة في هذا المجال إلّا نادراً، وقد اعتمدنا في ذلك على مسح ميداني واسع في مجال الإنتاج العلمي الحسيني المختصّ في مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينيّة، وهو من الأُمور الواضحة التي لا تخفى على ذوي الاختصاص.

ونحن اليوم بحاجة ماسّة ـ أكثر من كلّ زمان مضى ـ إلى دراسات إنسانية بشريّة حيادية قدر الإمكان في مجال الشعائر الحسينية، وإن كنت أُقرّ وأعترف بصعوبة وخطورة هذا اللون من الدراسات الإنسانيّة المتجوّلة في دوائر الدين وأروقته الحسّاسة.

إذن؛ بعيداً عن حناننا ومشاعرنا العطوفة تجاه الحكم الشرعي، بعد أن شكّلت جملة من الشعائر الحسينية ظواهر اجتماعية بارزة ألفتت نظر العالم والمجتمع الدولي، وشغلت المؤسّسات الإعلاميّة والسياسيّة، ليس من المهنية حينئذ ـ وفي المجال الإنساني ـ ترك الدراسات الإنسانية المحايدة ذات الصلة.

فمثلاً: في مجال علوم الاجتماع، إن كنت ـ أنا عالم الاجتماع ـ متديّناً مؤمناً، ومقلّداً في الوقت ذاته لمن يُحرّم أو يحلّل ظاهرة التطبير ـ مثلاً ـ في المراسم الحسينيّة، ينبغي أن لا يستميلني تقليدي وتبعيتي للحكم الشرعي أو تؤثّر سطوته في نفسي، بما قد يؤدّي في دراساتي الاجتماعية المختصّة إلى إهمال أو تحوير أو تعظيم أو تقزيم وتشويه هذه الظاهرة من الوجهة الاجتماعية، فقداسة المقدّس الديني شيء، والتجربة الاجتماعية الإنسانية ومعطياتها الحياتية شيء آخر، وليس بالضرورة أن يتوافق عالم الغيب (المعطى الديني) مع عالم الحسّ والإدراك والشهادة (المعطى الإنساني).

كما ينبغي أن تُدرس هذه الظاهرة أيضاً ـ وبالمنهج والأُسلوب ذاته ـ من وجهتها القانونية والإدارية، والسياسية والأمنية، والعسكرية والاقتصادية، والصحّية والبيئية وأمثال ذلك. وأن تبقى هذه الدراسات الإنسانيّة مفتوحة ومتواصلة، ثم يتبع ذلك العمل الجاد على إعطاء دراسات متكاملة ومشتركة ومقارنة بين مجمل المعطيات العلميّة لمجموع تلك العلوم الإنسانيّة المتنوّعة؛ بهدف الخروج بنتائج وتوصيات علميّة حقيقية ومفيدة في توصيف وتقنين وتقويم تلك الظاهرة في الشعائر الحسينيّة، ومن ثمّ مواءمة تلك التوصيات في مرحلة لاحقة مع المنتجات الدينيّة المرتبطة بتلك الظاهرة؛ لإعطاء دراسة علميّة متكاملة ومقارنة، تعتمد ثنائية المنتوج الديني/البشري.

وهكذا الحال فيما يرتبط بمراسم الشبيه العاشورائية، يأتي الباحث في مجال الآداب والمسرح والتمثيل والدراما والسينما والفنون الجميلة عموماً، ليدرس ظاهرة الشبيه والتمثيل الحسيني، والتي هي الأُخرى من طقوس عاشوراء ومراسمها.

ونرتقب منه أن يزوّدنا بدراسات تخصّصية مفيدة وبنّاءة، فمثلاً: ما هي توصيفاته العلميّة والواقعية لهذه الظاهرة؟ وما هو رأيه بها؟ وما هي انتقاداته لها؟ وما هي أهمّ التحدّيات التي تواجهها؟ وهل يمكننا تنميتها وتطويرها؟ وما هو السبيل إلى ذلك؟ وأسئلة أُخرى كثيرة جدّاً تبقى عالقة، لا يمكننا الإجابة عنها إلّا عن طريق معطيات الدراسات الإنسانية المختصّة ذات الصلة.

ولا أشك أبداً في كوننا بحاجة ماسّة للإنتاج الإنساني في مجالاته الفنيّة، لو أردنا أن نضع شعيرة التمثيل في نصابها البشري الصحيح، ونرتقي بها إلى مستوى رفيع يتناسب في عطائه مع النهضة الحسينية المعطاء.

وكذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى كلّ ما يرتبط بهذه الشعيرة الحسينية من مفاهيم ومفردات وطقوس، نفتقر في تأطيرها وبنائها إلى المنتوج الإنساني البشري، كالشِّعر، والأناشيد، والرسم، والتصوير، ولسان الحال، والقصّة وأمثالها.

وهكذا أيضاً هو حال شعيرة وظاهرة المواكب و(المشَّاية) أو التحشيد البشري والمسيرات السلمية، وما يرتبط بها مثلاً من مفاهيم سياسية وحكومية، وأمنية وعسكرية واجتماعية، كالإدانة، والتضامن، والإرهاب، والثورة، والمعارضة، والمظاهرات، والانقلابات، والاعتصامات، والسعي لتغيير السلطة، ومحاربة الفساد، ونحو ذلك.

فإن هذه المفاهيم المهمّة وغيرها، الناتجة والمنبثقة عن الطقوس والشعائر الحسينيّة، كلّها بحاجة ماسّة إلى دراسات اجتماعية ونفسية وأخلاقية، وقانونيّة وعسكرية، وسياسيّة واقتصاديّة وغير ذلك من العلوم والمعارف الإنسانية.

وفي هذا الضوء ـ وانطلاقاً مما بيَّناه هنا ـ نرى أن نختصر توصيتنا بالقول: إنّ على العلماء والباحثين في مجالات العلوم الإنسانية ذات الصلة القريبة والماسّة بالشعائر الحسينيّة، أن يبذلوا قصارى جهدهم ـ كلّ بحسب اختصاصه ـ للعمل الجادّ على تطوير وإصلاح وبناء الشعائر الحسينية في مجالاتها الإنسانية.

ولستُ أشكّ بالفائدة العظيمة والتأثير البالغ والبنّاء لرسالة أو أُطروحة أو مقال أو كتاب أو موسوعة، تختصّ بالطقوس والشعائر الحسينية، وتدرسها دراسة إنسانية علمية مختصّة ومحايدة، بعيدة عن كافّة أشكال الأدلجة ومظاهرها، وتأثيرات المعتقد والفتاوى والأحكام الشرعية، سلباً أو إيجاباً. والحمد لله ربّ العالمين.

 

الهوامش

([1]) محاضرة أُلقيت في جامعة الكوفة/كلّية التربية للبنات، في ندوة علمية مشتركة بين مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية والكلّية، بعنوان: (الشعائر الحسينية بين الواقع المعاش والطموح المنشود).

([2]) من الجدير بالالتفات أن هذا الرجل مُختلَف في مذهبه وتوجّهاته الفكريّة والعقديّة. اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج6، ص122.

([3]) اُنظر على سبيل المثال: ص495 من الكتاب وما يليها من القصص والحكايات التي تفرّد المؤلّف بروايتها. الكاشفي، حسين، روضة الشهداء، ترجمة وتحقيق وتعليق: محمد شعاع فاخر. وقد استُحدِثت جملة من المراسم الحسينيّة استناداً إلى بعض تلك القصص والحكايات.

([4]) هذا هو المشهور والمنسوب إليه، وقد بحثنا كثيراً في النسخة المعتمدة لكتاب جامع الشتات، وكذا غيره من كتب الميرزا القمّي، فلم نجد فيها سؤالاً ولا جواباً يرتبط بخصوص الشعائر الحسينية، وإنما طرق الميرزا شعائر الإسلام عموماً وبصورة عابرة ومرّ عليها مرور الكرام. وربّ مشهور لا أصل له، أو بقي في الصدور ولم يدوّن، أو إننا قصرنا عن تحصيل ما وجده الآخرون في مضانّه، أو أن هناك نسخاً أُخرى لم نقف عليها. اُنظر: الميرزا القمي، أبو القاسم، جامع الشتات: ج1، ص372ـ373.

([5]) الدربندي، آغا بن عابد، إكسير العبادات في أسرار الشهادات: ج3، ص247.

([6]) المصدر السابق: ج1، ص141.

([7]) اُنظر على سبيل المثال: النوري، حسين، اللؤلؤ والمرجان، تعريب: الشيخ إبراهيم البدوي: ص134ـ140، وص182ـ203.

([8]) اُنظر: الفشندي، القزويني، محمّد مهدي، أسرار المصائب ونكات النوائب، مخطوط: ص2ـ3.

([9]) الحسون، محمد، رسائل الشعائر الحسينيّة: ج1، ص201ـ202.

([10]) المصدر السابق: ص244.

([11]) اُنظر على سبيل المثال: المصدر السابق.

([12]) المصدر السابق: ص179ـ180.

([13]) اُنظر: المصدر السابق: ص186 وما بعدها.

([14]) اُنظر: المصدر السابق: ص309 وما بعدها.

([15]) اُنظر: المصدر السابق: ج2، ص7 وما بعدها.

([16]) اُنظر: المصدر السابق: ص165 وما بعدها.

([17]) اُنظر على سبيل المثال: المصدر السابق.

([18]) النوري، حسين، اللؤلؤ والمرجان، تعريب: الشيخ إبراهيم البدوي: ص199ـ201.

([19]) المصدر السابق: ص229.

([20]) الحسون، محمد، رسائل الشعائر الحسينيّة: ج1، ص180.

([21]) المصدر السابق: ص191.

([22]) اُنظر: المصدر السابق: ج2، ص171.

([23]) المصدر السابق: ص177ـ 178.

([24]) المصدر السابق: ج1، ص202ـ 203.

([25]) المصدر السابق: ص247.

([26]) المصدر السابق: ص272.

([27]) المصدر السابق: ص312.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky