الاجتهاد: استمرت حكومة الإمام علي بن أبي طالب”عليه السلام” من الفترة 35 هـ إلى 40 للهجرة، وتكون فترة حكمه قد بلغت أربع سنوات وتسعة أشهر وثلاثة أيام.
وقد مارس في هذه السنوات ألواناً من السياسة الإدارية الإصلاحية فقد جاء على أنقاض حكومة عثمان التي تخللها الكثير من الفساد السياسي والمالي بسبب ضعف الخليفة.
وقد كانت سياسة الإمام الإدارية والاقتصادية تنطلق من ثوابت لا يطيقها سواه، وأهم هذه الثوابت العدل.
فقد ورد عنه “عليه السلام”: <اعدل تحكم>([1])، وقوله: <العدل أفضل السياستين>([2])، فيكون العدل هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله سياسة الإمام علي “ع” وحركته الإصلاحية العامة.
واليك طرفاً من التراث الإداري في سيرة الإمام علي”عليه السلام”:
أولاً: السياسة الإدارية
تميزت سياسته الإدارية بعدم المداهنة مع الباطل والاقتناع بأنصاف الحلول، وقد تجلى ذلك في عزل عمال عثمان، واسترداد أموال بيت المال.
1ـ عزل عمال عثمان
يقول أرباب السير: انه لما بويع أميرالمؤمنين “ع” بلغه إنّ معاوية قد توقف عن إظهار البيعة لـه، وقال: إنّ اقرّني على الشام وأعمالي التي ولاّنيها عثمان بايعته، فجاء المغيرة إلى أميرالمؤمنين”ع”، فقال لـه: يا أميرالمؤمنين إنّ معاوية من قد عرفت، وقد ولاّه الشام من قد كان قبلك، فوله أنت كيما تتسق عرى الأمور، ثم أعزله إن بدا لك.
فقال أميرالمؤمنين “ع”: أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه، قال: لا.
قال: لا يسألني الله عزّوجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً، {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} لكن أبعث إليه وادعوه إلى ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى حاكمته إلى الله([3]).
لقد كان بإمكان الإمام “ع” أن يبقي على معاوية، ويكون معذوراً أمام التاريخ، لأن الظروف السياسية المحيطة به لا تسمح له بعزل هذا الوالي العنيد الذي يمتلك واحدة من أكبر الأقاليم الإسلامية وأغناها، وهي الشام، وقد هيمن عليها وعلى أهلها بشكل يتعذر عليه إزاحته.
ولكن الإمام لا يقبل بأنصاف الحلول وإنْ حققت لـه إنجازا سياسياً مؤقتاً فإن مجرد الإمضاء على بقاء معاوية ولو لفترة قصيرة بمعنى إعطاء معاوية مشروعية البقاء له.
2ـ استرداد أموال بيت المال
وكان الإنجاز الآخر هو استرداد أموال بيت المال.
فقد ورد أن الإمام “ع” خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: <ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى (بيت المال)، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق>([4]).
لقد استرجع الإمام “ع” الأموال التي أخذها عثمان من بيت المال وقسمها على بني أمية، فتشكلت منهم طبقة اجتماعية ذات نفوذ واسع، فقام الإمام”عليه السلام” بهذا الإجراء الصارم، وهو يعلم أنه سوف يجر عليه الكثير من الأزمات في حكومته.
3ـ الالتزام بالقانون
والجانب الآخر في سياسته الإدارية هو الالتزام بالقانون تجاه المتخلفين من القانون مهما كان المذنب يتمتع بالحصانة العشائرية أو المالية.
تأمل في هذه الصورة الرائعة التي يرسمها لنا الإمام الباقر”ع”، عن سيرة الإمام علي “عليه السلام” في تطبيق قوانين الدولة.
فقد ورد عنه “ع”: <أخذ (علي “ع”) رجلاً من بني أسد في حدّ، فأجتمع قومه ليكلموه فيه، وطلبوا إلى الحسن أن يصحبهم، فقال: ائتوه فهو أعلى بكم عيناّ، فدخلوا عليه وسألوه، فقال: لا تسألوني شيئاً أملك إلاّ أعطيتكم فخرجوا يرون أنهم قد أنجحوا، فسألهم الحسن، فقالوا: أتينا خير مأتيّ، وحكوا لـه قوله، فقال: ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم فاصنعوه، فأخرجه علي فَحَدّه، ثم قال: هذا والله لستُ أملكه>([5]).
بل أنه “ع” أقام الحد على شاعره عندما شرب الخمر، وهو يعلم إن عاقبة ذلك غضب الشاعر والتحاقه بمعسكر معاوية، وانحراف أقاربه الذين كانوا من المقربين عند الإمام “ع” الذين دخلوا على الإمام وهم في فورة الغضب والاعتراض، فكان جوابه “ع”: <وهل هو إلاّ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حداً كان كفارته، إن الله تعالى يقول {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}>([6]).
4 ـ عزل من ثبتت خيانته من العمّال ومحاسبتهم
وهذه صورة أخرى للحملة العلوية الشاملة لتطهير الدولة من العناصر من أمثال الأشعث بن قيس الذي استعمله عثمان على أذربيجان.
فقد ورد في التاريخ: أنه أصاب مائة ألف درهم، ويقول البعض: أقطعه عثمان إياها، وبعض يقول: أصابها الأشعث في عمله.
فأمره علي “ع” بإحضارها فدافعه، وقال: يا أميرالمؤمنين لم أصبها في عملك، قال:<والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين، لأضربنك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب>.
فأحضرها وأخذها منه وصيرها في بيت مال المسلمين، وتتبع عمال عثمان، فأخذ منهم كل ما أصابه قائماً في أيديهم، وضمنهم ما أتلفوا([7]).
وهذه سودة بنت عمارة الهمدانية، تصف لنا صرامة الإمام “ع” مع العمال الذين تثبت خيانتهم حيث تقول وهي تخاطب معاوية لتقارن بين ظلمه وجوره، وعدل أميرالمؤمنين “ع”: لقد جئته في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا، فجار علينا فصادفته قائماً يريد الصلاة، فلما رآني إنفتل، ثم أقبل عليّ بوجه طلق، ورحمة ورفق، وقال: لك حاجة؟ فقلت: نعم، وأخبرته بالأمر فبكى، ثم قال: اللهم أنت شاهد أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة جلد، وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، إذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملك حتى يُقدم عليك من يقبضه، والسلام.
ثم دفع إليّ الرقعة، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً ([8]).
إنّ الملاحقة للمفسدين وعدم التهاون معهم تؤدي بلا شك إلى الحياة الطيبة التي يظلّلها العدل والقانون، وهذا الرفض العلوي للشفعاء الذين يحاولون التوسط للمذنبين يؤسس للثقافة الإدارية التي يريدها الإسلام، ولسيادة القانون وخضوع الجميع له.
فليس من العدل أن تطبق مبادئ القانون بحذافيرها على الفقراء ويستثنى منها الأغنياء وأصحاب النفوذ.
5ـ نهي العمال عن أخذ الهديّة
رُوي أنّ علياً استعمل رجلاً من بني أسد يقال لـه: ضبيعة بن زهير، فلما قضى عمله أتى علياً بجراب فيه مال، فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ قوماً كانوا يهدون لي حتى أجتمع منه مال فها هو ذا، فإن كان لي حلالاً أكلته، وإن كان غير ذاك فقد أتيتك به، فقال عليّ: لو أمسكته لكان غلولاً، فقبضه منه وجعله في بيت المال([9]).
ومعنى الغلول: الخيانة.
والإمام “ع” يريد بهذه الإجراءات الشديدة أن يحصّن الموظفين في دولته من خطر الهدايا، فإنها مقدمة للانحراف والفساد.
لأنّ الغني وصاحب النفوذ وحده من يستطيع تقديم الهدايا وإقامة الولائم للمسؤولين وكان الأولى أن تكون من نصيب الفقراء، ولكنهم يريدون بذلك شراء ضمائر الموظفين واستغلال مواقعهم في الدولة.
6ـ اختيار العيون لمراقبة العمال
ورد في كتاب أميرالمؤمنين “ع” إلى كعب بن مالك: <أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد، فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب>([10]).
هكذا كان يتابع عمّاله وولاته حتى يشعروا بعيونه تراقبهم في المواقع التي يديرونها.
فإن الرقابة المستمرة بلا شك تمنع من التحلل والفساد الإداري والمالي.
ثانياً: السياسة الاقتصادية
1ـ مراقبة السوق
ورد عن الإمام الباقر”ع” انه قال: >كان أميرالمؤمنين “ع” بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبيبة، فيقف على أهل كل سوق، فينادي: يا معشر التجار، إتقوا الله عزّوجل.
فإذا سمعوا صوته “ع” ألقوا ما بأيديهم، وارعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول “ع”: قدّموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف “ع” في جميع أسواق الكوفة، ثم يرجع فيقعد للناس([11]).
لابد من وجود رقابة اقتصادية صارمة للسوق في تفاصيل البيع والشراء، والمعاملات التجارية الأخرى، وفي خلاف ذلك فإنّ السوق سوف يتحول إلى مركز مؤثر للفساد الاقتصادي.
ويصف لنا الإمام الحسين “ع” حركة الإمام علي “ع” في أسواق الكوفة بشكل تفصيلي.
فقد ورد عنه “ع”: أن (علياً “ع”) ركب بغلة رسول الله “ص” الشهباء بالكوفة، فأتى سوقاً سوقاً، فأتى طاق اللّحامين، فقال بأعلى صوته، يا معشر القصابين، لا تنخعوا، ولا تعجّلوا الأنفس حتى تزهق، وإياكم والنفخ في اللحم للبيع، فإني سمعتُ رسول الله “ص” ينهى عن ذلك.
ثم أتى التمّارين فقال: أظهروا من رديء بيعكم ما تظهرون من جيده.
ثم أتى السّمّاكين فقال: لا تبيعوا إلاّ طيبا، وإياكم وما طفا.
ثم أتى الكُناسة فإذا فيها أنواع التجارة، من نحاس، ومن مائع، ومن قماط، ومن بائع ابر، ومن صيرفي، ومن حناط، ومن بزّاز، فنادى بأعلى صوته: إنّ أسواقكم هذه يحضرها الأيمان، فشوبوا أيمانكم بالصدقة، وكفوا عن الحلف، فإن الله عزّوجل لا يقدّس من حلف باسمه كاذباً<([12]).
هكذا, ينزل الإمام “ع” بنفسه إلى السوق وبيده الدُرّة لكي يضرب بها المطفّفين والذين يغشّون في تجارتهم، ويباشر هذا العمل الشاق يومياً بنفسه, ولا يكله إلى غيره ليطمئن بنفسه إلى سلامة حركة التجارة في السوق.
قال الأصبغ: قلتُ له يوماً أنا أكفيك هذا يا أميرالمؤمنين، واجلس في بيتك!.
فيقول له الإمام “ع”: <ما نصحتني يا أصبغ>([13]).
لقد كان المجتمع الإسلامي يومذاك، بعد ما دبّ فيه الفساد الإداري والمالي بحاجة إلى نزول أميرالمؤمنين “ع” بنفسه إلى السوق، لأن القوانين وحدها لا تكفي ما لم يكن هناك سلطة تنفيذية تتجسّد في أرض الواقع.
ومن هنا كان الإمام “ع” يمثل هذه السلطة ويدخل في أوساط الناس ليتعلموا منه احترام النظام وتطبيق مبادئ القانون.
2ـ التسامح في جباية الخراج
يصف أحد الرجال الذين استعملهم الإمام علي “ع” لأخذ الخراج، فيقول: استعملني علي بن أبي طالب “ع” على بانقيا (وهي ناحية من نواحي الكوفة) وسواد من سواد الكوفة، فقال لي ـ والناس حضور ـ:<أنظر خراجك فجد فيه، ولا تترك منه درهماً فإذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمر بي. قال: فأتيته، فقال لي: إنّ الذي سمعت مني خدعة([14])، إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو>([15]).
وقال آخر: استعملني علي بن أبي طالب “ع” على بزر جسابور، فقال: <لا تضربن رجلاً سوطاً في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقاً، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا تقم رجلاً قائماً في طلب درهم. قال: قلت: يا أميرالمؤمنين، إذاً أرجع إليك كما ذهبت من عندك! قال: وإن رجعت كما ذهبت، ويحك إنّما أمرنا أن نأخذ منهم العفو ـ يعني الفضل>([16]).
3 ـ عدم التأخير في توزيع أموال العامة
ويروي أحدهم انه قال: شهدتُ علي بن أبي طالب “ع” أُتي بمال عند المساء، فقال:<أقسموا هذا المال، فقالوا: قد أمسينا يا أميرالمؤمنين! فأخِّره إلى غدٍ، فقال لهم: تقبلون ـ أي تكفلون ـ لي أن أعيش إلى غدٍ؟ قالوا: ماذا بأيدينا!. قال: فلا تؤخّروه حتى تقسّموه، فأتي بشمع، فقسموا ذلك المال من تحت ليلتهم>([17]).
4 ـ التوزيع بالسويّة
في الكافي عن أبي مخنف:<أتى أميرالمؤمنين “ع” رهط من الشيعة، فقالوا: يا أميرالمؤمنين، لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضلتهم علينا، حتى إذا استوسقت الأمور عدت إلى أفضل ما عوّدك الله من القسم بالسوية، والعدل في الرعية!! فقال أميرالمؤمنين “ع”: أتأمروني ـ ويحكم ـ أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن ولّيتُ عليه من أهل الإسلام!! لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجماً، والله لو كانت أموالهم مالي لساويتُ بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم!!>([18]).
وهذه دروس قيادية يرسلها أميرالمؤمنين “ع” عبر التاريخ إلى كل من يتصدى لموقع قيادة الجماعة المؤمنة وإدارتها، ليتعلم هذه القوة والصرامة في الحق والرحمة والتسامح مع الطبقة المستضعفة من الناس.
فيا لله كيف اجتمعت في تلك الشخصية العجيبة هذه الأضداد من الصفات: اللين، والرحمة، والرقة، والعاطفة، من جانب, والصرامة، والقوة، والحسم، والحزم، من جانب آخر، كل في موقعه.
ثالثاً: السياسة الأمنية
ورد عن أميرالمؤمنين “ع” أنه قال: <شر البلاد بلد لا أمن فيه، ولا خصب>([19]).
وفي هذا الجانب من قيادته وإدارته “ع” نريد أن نتبين الإجراءات الأمنية التي اتخذها الإمام “ع” في دولته.
1ـ الاستخبارات الأمنية
في كتابه “ع” إلى عماّله يقول:<بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أميرالمؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمال: أما بعد فإن رجالاً لنا عندهم بيعة خرجوا هرباً فنظنهم وجهوا نحو بلاد البصرة، فاسأل عنهم أهل بلادك، وأجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك، ثم أكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم، والسلام>([20]).
وكان الإمام× حريص على الجانب الاستخباراتي في حروبه، فقد روي أنه في وقعة صفين بعث “ع” خيلاً ليحبسوا عن معاوية مادة، فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري في خيل إلى تلك الخيل فأزالوها، وجاءت عيون علي فأخبرته بما قد كان، فقال علي لأصحابه: <فما ترون فيما هاهنا، فقال بعضهم: نرى كذا، وقال بعضهم: نرى كذا، فلما رأى ذلك الاختلاف أمرهم بالغدو إلى القوم، فغاداهم إلى القتال قتال صفين فأنهزم أهل الشام>([21]).
2ـ إجلاء المتآمرين أو حبسهم
روي أن أميرالمؤمنين “ع” استخلف حين سار إلى النهروان رجلاً من النخع يقال له: هاني بن هوذة، فكتب إلى علي”ع”: <انّ غنياً وباهلة فتنوا، فدعوا الله عليك أن يظفر بك عدوك، قال: فكتب إليه علي”ع”: أجْلِهِم (من مادة الإجلاء) من الكوفة ولا تدع منهم أحدا>([22]).
رابعاً: السياسة العسكرية
خاض أميرالمؤمنين “ع” في فترة حكومته ثلاث حروب رئيسية هي الجمل، وصفين والنهروان، وقد حقق فيها انتصارات عظيمة، ولولا تخاذل جيشه في صفين لتمكن من اكتساح جيش الشام والقضاء على نفوذ معاوية.
هذه الانتصارات لم تأت من فراغ بل من الإدارة الحكيمة للجيش وللعمليات القتالية، ومن خلال التنظيم الدقيق للقوات المسلحة، يقول ابن عباس: عُقم النساء أن يأتين بمثل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب “ع”، والله ما رأيت ولا سمعت رئيساً يوزن به، لو رأيته يوم صفين وعلى رأسه عمامة قد أرخى طرفيها، كأن عينيه سراج سليط، وهو يقف على شرذمة يحضّهم…([23]).
وقد تجلت عبقرية الإمام “ع” الإدارية لقواته المسلحة بعدة أمور:
1ـ تنظيم الجيش:
روي أن أميرالمؤمنين “ع” إذا زحف للقتال جعل ميمنة وميسرة وقلباً يكون هو فيه، ويجعل لها روابط، ويقدم عليها مقدمين، ويأمرهم بخفض الأصوات، والدعاء، واجتماع القلوب، وشهر السيوف، وإظهار العدة، ولزوم كل قوم مكانهم، ورجوع كل من حمل إلى مصافه بعد الحملة.
وفي وصيته “ع” وصّى بها جيشاً بعثه إلى العدو: <فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قُبُل([24]) الإشراف، أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءاً، ودونكم مرداً، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو إثنين. واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، وأعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم. وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فأنزلوا جميعاً، وإذا إرتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة، ولا تذوقوا النوم إلاّ غراراً أو مضمضة>([25]).
هذه الوصية تذكرنا بقيادة الرسول”صلى الله عليه وآله وسلام” لجيشه في معركة أحد، وكيف أنه وضع العيون على الجبل، وكانت تقود المسلمين إلى النصر الأكيد لولا مخالفة الرماة تعاليمه.
2ـ تأسيس القوات الخاصة:
وقد قام أميرالمؤمنين “ع” بتأسيس شرطة الخميس وكان قوامها ستة آلاف رجل من أصحابه المخلصين([26]) وقد ضمت في كيانها أسماء لامعة مثل عمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، عمرو بن الحمق الخزاعي، واصبغ بن نباته, وميثم التمار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، ومحمد بن أبي بكر، وقنبر مولاه وغيرهم من أصفياء أصحابه.
ويبدوا أن هذه القوة الخاصة أدخرها الإمام “ع” للتدخل في المهمات الخاصة التي تتطلب مواصفات خاصة في شخصية المقاتل.
ويصف الأصبغ بن نباته هذه القوة لرجل سأله: ما كان منزلة الإمام علي “ع” فيكم؟ قال: ما أدري ما تقول! ألاّ أن سيوفنا كانت على عواتقنا، فمن أَومئ إليه ضربناه بها.
وكان يقول: <تشرّطوا، فوالله ما اشتراطكم لذهب ولا لفضة، وما اشتراطكم إلاّ للموت، إنّ قوماً ما من قبلكم من (بني إسرائيل) تشارطوا بينهم، فما مات أحد منهم حتى كان نبي قومه، أو نبي قريته، أو نبي نفسه، وإنكم لبمنزلتهم، غير إنكم لستم بأنبياء>([27]).
ومن هذا الوصف يتضح أنّ السمة الأساسية التي تميزت بها هذه القوة الضاربة هي الطاعة الكاملة لأوامر الإمام “ع”، والخضوع الكامل لإرادته× خضوع الذي لا يناقش ولا يحتج ولا يعترض، فإن الأسماء التي ضمها كيان شرطة الخميس بلغت في مستوى الإخلاص والانقياد لأوامر الإمام “ع” ما جعل أصحابها مؤهلة تأهيلاً تاماً لهذه المهمة الخاصة.
فقد روي عن أميرالمؤمنين “ع” أنه قال لعبد الله بن يحيى الحضرمي يوم الجمل: <أبشر يا بن يحيى، فإنك وأبوك من شرطة الخميس حقاً، لقد أخبرني رسول الله2 باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس، والله سماكم شرطة الخميس على لسان نبيه “ص”>، وذكر إنّ شرطة الخميس كانوا ستة آلاف رجل أو خمسة آلاف([28]).
3ـ الحرب خدعة:
عن عدي بن حاتم: إن أميرالمؤمنين “ع” قال يوم التقى هو ومعاوية بصفين، ورفع بها صوته ليسمع أصحابه: <والله لأقتلن معاوية وصاحبه، ثم يقول في آخر قوله: إن شاء الله ـ يخفض بها صوته. وكنت قريباً منه، فقلت: يا أميرالمؤمنين “ع” انك حلفت على ما فعلت، ثم استثنيت، فما أردت بذلك؟! فقال لي: إن الحرب خدعة، وأنا عند المؤمنين غير كذوب، فأردت أن أحرض أصحابي عليهم كي لا يفشلوا، وكي يطمعوا فيهم، إن شاء الله>([29]).
4ـ المسالمة من دون وهن:
قال أميرالمؤمنين”ع”: <وجدتُ المسالمة ما لم يكن وهن في الإسلام أنجع من القتال>([30]).
وعنه “ع”: <من أفضل النصح الإشارة بالصلح>([31]).
وفي عهده إلى مالك الأشتر: <ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك، ولله فيه رضى، فان في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، وآتهم في ذلك حسن الظن>([32]).
اقرأ أيضاً:
المصادر والمراجع
[1] ـ ميزان الحكمة 6: 2425 عن غرر الحكم.
[2] ـ ميزان الحكمة 6: 2424.
[3] ـ موسوعة الإمام علي بن أبي طالب “ع” 4: 117نقلاً من أمالي الشيخ الطوسي: 87 وبشارة المصطفى: 263 والمناقب لابن شهر آشوب 3: 195.
[4] ـ المصدر السابق: 4: 121 عن شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 269.
[5] ـ المصدر السابق: 4: 130 نقلا عن المناقب لابن شهر اشوب 2: 147 ودعائم الإسلام 2: 443 وبحار الأنوار 41: 9.
[6] ـ المصدر السابق: 4: 131 وقد روى هذه الرواية صاحب الغارات في2: 533 وابن شهر آشوب في المناقب 2: 147 والمجلسي في البحار: 41: 9.
[7] ـ المصدر السابق: 41: 151ـ152 نقلاً عن دعائم الإسلام 1: 396.
[8] ـ المصدر السابق: 4: 152ـ153 نقلاً عن الفصول المهمة 127 والعقد الفريد 1: 335 وبلاغات النساء: 47 وكشف الغمة 1: 173.
[9] ـ المصدر السابق: 4: 155 نقلاً عن أخبار القضاة: 1: 59.
[10] ـ المصدر السابق: 4: 138ـ139 نقلاً عن تاريخ اليعقوبي 2: 204.
[11] ـ المصدر السابق: 4: 176 نقلاً عن الكافي 5: 151 وتهذيب الأحكام 7: 6: 17 وامالي المفيد 197.
[12] ـ المصدر السابق: 4: 176ـ 177 نقلاً عن الجعفريات 238، ودعائم الإسلام 2: 538.
[13] ـ المصدر السابق: 4: 177.
[14] ـ حتى لا يتهاون الناس في أداء الخراج، صرامة في القرار والتقنين وتسامح في التنفيذ.
[15] ـ موسوعة الإمام علي بن أبي طالب “ع” 4: 183.
[16] ـ المصدر السابق: 4: 184ـ 183 نقلاً عن السنن الكبرى للبيهقي: 9: 345.
[17] ـ المصدر السابق: 4: 191 نقلاً عن الامالي للطوسي 404 وتنبيه الخواطر2: 173 والمناقب لابن شهر آشوب 2: 95.
[18] ـ الكافي: 4: 31.
[19] ـ موسوعة الإمام علي بن أبي طالب “ع”: 4: 267 عن غرر الحكم للامدي ـ حكمة 5: 684.
[20] ـ المصدر السابق: 4: 268 نقلاً عن الغارات 1: 337، والبحار 33: 407.
[21] ـ المصدر السابق: 4: 269 نقلا عن وقعة صفين لنصر بن مزاحم 360.
[22] ـ المصدر السابق: 4: 282ـ 283 عن كتاب الغارات 1: 18.
[23] ـ المصدر السابق: ص 288 نقلاً عن تاريخ دمشق 42: 460.
[24] ـ قبل الاشراف: سفوح المرتفعات.
[25] ـ موسوعة الإمام علي بن أبي طالب “ع”: 4: 290 ـ 291 نقلاً عن تحف العقول 192 وقعة صفين: 124، الأخبار الطويلة: 166.
[26] ـ الاختصاص: 2.
[27] ـ المصدر السابق: 4: 292 ـ 293.
[28] ـ موسوعة الإمام علي بن أبي طالب “ع”: 4: 294 نقلاً عن رجال الكشي 1: 24.
[29] ـ المصدر السابق: 4: 303ـ 304.
[30] ـ غرر الحكم: 10381.
[31] ـ غرر الحكم: 9379.
[32] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 106، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب “ع”: 271.
المصادر: الأبدال