الاجتهاد: من المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الفقهاء مسألة مفطرية التدخين في نهار الصوم، فبين مجوز على نحو الفتوى أو على نحو الاحتياط الاستحبابي، وبين مانع على نحو الاحتياط الوجوبي أو الفتوى.
وهذه المسألة من حيث البحث التأريخي، لا نجد لها جذوراً في الفقه الإسلامي، وإنما شاعت بين أكثر متأخري المتأخرين وكل المعاصرين.
ولعل أول من تعرض لها بحسب تتبعي هو الفقيه الكبير الشيخ الكركي (قدس سره) تــ940 هـ في كتابه جامع المقاصد، وهو من الفقهاء المتأخرين، ثم شاعت بعده في كتب الفقهاء. فقال (قدس سره) (1) ــ مفسراً لقول صاحب القواعد في قوله وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق ــ : (الغليظ عرفاً، ويفهم من “إيصال” أن ذلك على سبيل التعمد، حيث يمكنه التحرز منه؛ ولا بأس بإلحاق الدخان الذي يحصل منه أجزاء، وكذا البخار للقِدر ونحوه به).
هذا بناءً على إرادته لمطلق الدخان حتى دخان التتن، وإلا فستكون المسألة متأخرة تأريخاً عن زمان الكركي (قدس سره).
ونتيجة عدم وجود ثقافة ــ تقبل الاختلاف في الآراء التي تصدر من المجتهدين ــ بين عامة الناس، أصبحت تلك المسألة مثار للخلاف والاختلاف والطعن والتشهير، وكأن الاختلاف بين الفقهاء لم يقع في كثير من المسائل، والحال أن مقتضى عملية الاستنباط والاجتهاد حصول الاختلاف في النتيجة الفقهية من مجتهد إلى آخر بسبب اختلافهم في بعض الأدوات الصناعية الفقهية والمباني الرجالية وقواعد الفقه والأصول واللغة فضلاً عن اختلاف الثقافة التي لها أثر في قوة الفقاهة.
سيما وإن بعض المسائل لم تكن مطروحة في زمان النص أو كانت مطروحة ولكن مع وجود تعارض نصي فيها، أو كان للزمان والمكان دور في تغير موضوعها.
ولعل مسألتنا من هذا القبيل إذ أنها من المسائل التي لم تكن واضحة البلوى في زمن النص لذا لا نرى تعرض الأئمة لها في نصوصهم ولا الفقهاء الأوائل في كلماتهم، ومن تعرض لها إنما ألحقها بحكم الغبار الغليظ الذي هو محل للخلاف أيضاً بين الفقهاء خصوصاً المتقدمين منهم، فقد ذهب بعضهم إلى المفطرية وذهب بعضهم إلى عدمها.
ولعل عبارة صاحب المستند خير ما يفي في بيان ذلك حيث قال(2) (فروع: أ: اختلفوا في حرمة إيصال الغبار إلى الحلق وبطلان الصوم به ــ مطلقاً، كما في كلام جماعة، منهم: الشرايع والنافع والتلخيص والتبصرة؛ أو الغليظ منه كما في كلام جمع آخر(3)، بل الأكثر كما قيل(4)ــ وجوازه… فعن الشيخ والحلي والحلبي وفي الشرايع والنافع وطائفة من أفاضل المتأخرين: الأول، ونسب إلى المشهور، بل عن الانتصار والسرائر والغنية والتذكرة والتنقيح ونهج الحق: الاجماع عليه.
وعن ظاهر الصدوق والسيد والديلمي والشيخ في المصباح: الثاني، حيث لم يذكروا البطلان به، وإليه ذهب جمع من متأخري المتأخرين، منهم المفاتيح والحدائق وظاهر المعتبر والمدارك: التردد).
الأقوال في مسألة مفطرية التدخين:
اختلف الفقهاء في حكم مفطرية التدخين كما قلنا، والأقوال في المسألة خمسة:
القول الأول: (الفتوى بالمفطرية).
وهو ما ذهب إليه جملة من الفقهاء، منهم السيد اليزدي (قدس سره) في العروة الوثقى ــ حيث ألحق البخار الغليظ ودخان التنباك ونحوه بالغبار الغليظ في المفطرية ــ فقال (السادس: إيصال الغبار الغليظ إلى حلقه… والأقوى إلحاق البخار الغليظ ودخان التنباك ونحوه)(5).
وأشكل على هذه الأقوائية أكثر من علق على العروة فذهبوا إلى الاحتياط.
قال السيد البروجردي في تعليقته على العروة: (محل تأمل نعم هو أحوط)(6).
وقال السيد الكلبايكاني معلقاً على كلام صاحب العروة أيضاً: (الأقوائية محل منع نعم الالحاق هو الأحوط)(7).
وأفتى بالمفطرية الشيخ محمد أمين زين الدين في كتابه كلمة التقوى(8) فقال (الثامن من المفطرات: أن يدخل الصائم الغبار الغليظ إلى جوفه عامداً ــ “ثم قال في المسألة 95″ــ يلحق بالغبار الغليظ (بالمفطرية) البخار الغليظ الذي يوجب رطوبة ما يلاقيه، فإذا تعمد الصائم إيصاله إلى جوفه فسد صومه، كذلك دخان التتن ونحوه، فلا يجوز للصائم إدخاله إلى جوفه عامداً).
وأفتى بذلك السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره) فقال: (إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق ويلحق به الدخان أيضاً…)(9).
القول الثاني (الاحتياط الوجوبي بالمفطرية).
وهذا القول ذهب إليه أكثر الفقهاء ولاسيما المعاصرين، قال الشيخ النراقي في المستند (10) (والأحوط الاجتناب عن شرب التتن؛ لاستمرار طريقة الناس عليه واطلاق الشرب عند العرب عليه).
وقال السيد الخوئي (قدس سره) (11): (السادس إيصال الغبار الغليظ منه وغير الغليظ إلى جوفه عمداً على الأحوط، نعم ما يتعسر التحرز منه لا بأس به، والأحوط (وجوباً) إلحاق الدخان بالغبار).
وقال السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) (12): (والاجدر بالصائم احتياطاً وجوبياً أن لا يدخل الدخان في جوفه أيضاً…).
وقال السيد السيستاني (13): (… تعمد إدخال الغبار أو الدخان الغليظين في الحلق على الأحوط وجوباً…).
وقال الشيخ الوحيد الخراساني(14): (… والأحوط (وجوباً) إلحاق الدخان بالغبار).
وقال الشيخ الفياض (15): (… الأحوط وجوباً أن لا يدخل الدخان في جوفه).
وأجاب السيد الحائري (16): (عن سؤال وجه له في مسألة 352: هل التدخين من المفطرات؟ فقال: الأحوط تركه في حال الصوم).
القول الثالث: (الاحتياط الاستحبابي بالمفطرية).
وهذا القول انفرد به ــ حسب علمي ــ السيد الشهيد محمد الصدر (17) فقال: (إيصال الغبار الغليظ إلى جوفه عمداً… والأحوط استحباباً إلحاق الدخان والبخار به “أي بالمفطرية”…).
القول الرابع: (الفتوى بعدم المفطرية).
ذهب إلى هذا القول بعض الفقهاء منهم، السيد محمد العاملي في المدارك (18): (وألحق المتأخرون بالغبار الدخان الغليظ الذي يحصل منه أجزاء ويتعدى إلى الحلق، وبخار القدر ونحوه وهو بعيد).
وذهب إلى ذلك أيضاً المحقق السبزواري في الكفاية (19) فقال: (وأكثر المتأخرين ألحقوا بالغبار الدخان الغليظ الذي يحصل منه أجزاء ويتعدى إلى الحلق كبخار القدر ونحو ذلك وأنكره بعضهم وهو حسن).
وذهب إلى ذلك السيد محمد حسين فضل الله (20) فقال في مسألة 981 : (لا يفطر الصائم بارتكاب الأمور “إلى ان قال” ثالثاً: تعمد إخال الغبار الغليظ وغير الغليظ… كذلك لا يفطر الصائم بالبخار ولا بالدخان من أي مصدر كان…).
وذهب إلى عدم المفطرية السيد مصطفى الخميني (قدس سره) (21): (وفي الحاق التدخين بايصال الغبار الى الحلق خفاء، كما لا يخفى مع انك عرفة في موثقة عمرو بن سعيد جوازه)
وحكى السيد مصطفى الخميني(22): في كتابه أنه سمع من بعض بأن السيد محمد الفشاركي (قدس سره) يقول بجوازه سراً.
القول الخامس (التفصيل).
ما ذهب إليه الشهيد الثاني في مسالك الإفهام (23) فقال: ” وألحق به (بالغبار الغليظ) بعض الأصحاب. الدخان الغليظ وبخار القدر ونحوه. وهو حسن أن تحقق معهما جسم”.
وذهب إلى ذلك أيضاً الشيخ جعفر كاشف الغطاء كما حكاه عنه الشيخ صاحب الجواهر(24) قائلاً: وفي كشف(25) الأستاذ: “أنه غير مفطر إلا لمن اعتاده وتلذذ به فقام عنده مقام القوت…”
وذهب إلى التفصيل أيضاً الشيخ الأعظم الأنصاري فقال(26):(وأما الدخان الغليظ ففي المدارك: إن المتأخرين ألحقوه بالغبار.
واستبعده تبعاً للمحكي عن التنقيح، وتبعهما في الكفاية والذخيرة ــ على ما حكي ــ والأقوى الإلحاق لو عمما الغبار لغير الغليظ، لتنقيح المناط والأولية وإن قيدناه بالغليظ فالأقوى عدم اللحوق، لأن الأجزاء الترابية تلصق بالحلق وتنزل مع الريق بخلاف الأجزاء اللطيفة الرمادية في الدخان فإنها تدخل في الجوف مصاحباً للدخان النازل.
ولا تلصق بالحلق ولا ينزل مع الريق منه شي والدخان ليس مما يؤكل أو الأجزاء الرمادية ليست منفردة عن الدخان حتى يصدق الأكل بنزولها.
وبالجملة فالفرق بين الأجزاء الترابية ــ الداخلة في الحلق مع الهواء ــ والأجزاء الرمادية النازلة مع الدخان ــ في دخول الأولى بنفسها في الحلق منفصلاً من الهواء الدخاني ولا يختلط بالريق ــ واضح، نعم لو قلنا: إن الصوم عبارة عن الإمساك عما يصل إلى الجوف مطلقاً، أو من طريق الفم ــ حتى الدخان أو حتى الأجزاء الرمادية المختلطة مع الهواء الدخاني ــ كان للإفطار وجه، إلا أن الأكل لا يصدق على الأول قطعاً.
لأن الدخان ليس مأكولاً ولا مشروباً ولا يصدق على الثاني أيضاً أكل الرماد ــ جزماً ــ بخلاف الغبار المخلوط بالمراد. نعم لو فرض غلظة الدخان على وجه ينفصل منه أجزاء ويتحقق معها جسم فلا يبعد كونه كالغبار ــ كما ذكره المحقق والشهيد الثانيان في حاشية الإرشاد والمسالك).
ومما ذكرنا يظهر أن الاجتناب من دخان التتن شيء قضت به سيرة المسلمين ومراعاة الاحتياط في الدين). انتهى كلامه رفع مقامه .
أدلة القائلين بمفطرية التدخين
استدل من ذهب إلى المفطرية بعدة أدلة لا تخلو من نقاش:
الدليل الأول: (الاستدلال بصدق الأكل والشرب).
هذا الدليل استدل به جماعة من الفقهاء منهم، الشيخ النراقي في المستند(27) إذ قال: “الأحوط الاجتناب عن شرب التتن؛ لاستمرار طريقة الناس عليه وإطلاق الشرب عند العرب عليه”.
وقد استدل بذلك من المعاصرين، الشيخ جعفر السبحاني فقال: “ومن جانب ثالث صدق الشرب على امثال دخان التبغ وغيره” وقال في موطن آخر: “وصدق الشرب عليه ثانياً، فيدخل تحت صحيحة محمد بن مسلم؛ أي: (لا يضر الصائم صنع إذا اجتنب عن أربع خصال…. الأكل والشرب…”( 28).
ويرد عليه: عدم صدق الأكل والشرب لا عرفاً ولا لغة على استنشاق الدخان وما تعارف عليه الناس من قولهم: “شرب التتن” إنما هو من باب المسامحة بالتعبير.
لذا عبر الشيخ الأنصاري “… إلا أن الأكل لا يصدق على الأول قطعاً، لأن الدخان ليس مأكولاً ولا مشروباً…”( 29).
وقال السيد الخوئي (قدس سره): “إذن لم يبقَ لدينا دليل يعتمد عليه في الحكم بالمنع، بعد وضح عدم صدق الأكل والشرب عليه”(30).
وقال السيد مصطفى الخميني(31): “والحق أنه تدخين وليس بشرب، ولذلك لا يقال ” شرب دخان العود” أو ” شرب الغبار الغليظ” أو “البخار الغليظ” وقال أيضاً: “لا يخفى كما مر إجمالاً: أنه لا يصدق الشرب على التدخين، واستعمال لفظ (الشرب) في زماننا هذا في متعارف البلاد العربية لا يكشف عن صحة إطلاق هذا اللفظ، فإن الاستعمال أعم، مع أنه لم يثبت استعماله في مستعملات العرب العرباء الفصحاء…”.
أقول: والأمر كما أفادوا في عدم صدق الأكل والشرب على عملية التدخين، فإن أهل اللغة قد نصوا على عدم استعمال الشرب والأكل في التدخين والدخان وإنما استعملوه في موارد بعضها على نحو الحقيقة، وبعضها الآخر على نحو المجاز، فقالوا في مادة (شرب): “شرب بالكسر مصدر أو اسم كما مر والماء المشروب”.
وقالوا “شرب الرجل شرباً: عطش وضعف بعيره أو عطشت أبله” و”أكل الدهر عليه وشرب أي هلك، وأكل فلان مالي وشربه” أي أخفاه، و(أُشرب فلان حب فلان. أي خالط حبه قلبه). والشَرْبة من الماء : ما يشرب دفعةً واحدة(32).
وقالوا(33) في مادة (أكل): “أكل الطعام أكلاً ومأكلاً: تناوله وبلعه عن مضغ”، و(أكله رأسه أي حكه) و(أكل مالي وشربه أي أطعمه الناس) و(الأُكْل والأُكُل: الثمر والرزق الواسع) و(تآكلت أسنانه أي تحاتت وتساقطت) و”الأُكْلَةُ: الغيبة” وغيرها.
الدليل الثاني: “دعوى قيام السيرة على المفطرية”
هذا الدليل استدل به بعض الفقهاء منهم:
الشيخ الأنصاري في صومه(34) فقال: “ومما ذكرنا ظهر ان الاجتناب عن دخان التتن شيء قضت به سيرة المسلمين ومراعاة الاحتياط في الدين”.
وقال السيد الخوئي (35) ــ بعد ان ناقش السيرة وغيرها ــ: “وعليه فمقتضى القاعدة هو الجواز وإن كان الاحتياط بالاجتناب مما لا ينبغي تركه رعاية للسيرة المزبورة حسبما عرفت والله سبحانه أعلم”.
وقال الشيخ النراقي(36): “والأحوط الاجتناب عن شرب التتن؛ لاستمرار طريقة الناس عليه…” إن كان يعني من طريقة الناس سيرة المتشرعة، وإلا فعل الناس لا حجية فيه.
وقال الشيخ السبحاني(37): “ومن جانب آخر استقرار السيرة على الاجتناب عن الدخان”.
(ثم قال) خصوصاً ان الإفتاء بالترخيص يوجب جرأة الناس لاستعمال سائر المفطرات” وهذا الأخير من كلامه ان عدهُ دليلاً فهو غريب جداً.
وقال السيد الحكيم في المصباح(38): (نعم مقتضى سيرة المتشرعة ومرتكزاتهم اجتناب عملية التدخين المعهودة بالتبغ) .
وقد يلاحظ على هذا الدليل:
1- إن هذه السيرة حادثة غير متصلة بزمن المعصوم ” عليهم السلام” فلا تكون حجة، إذ لو كانت قائمة لكثر السؤال والجواب عن تجنب التدخين، إضافة لعدم اشتهار أو معروفية التدخين بالكيفية المعهودة في عصرنا في زمن الأئمة” عليهم السلام”.
2- إن حصول الارتكاز على الإفطار عند المتشرعة إنما هو أمر حادث نشأ من فتاوى المتأخرين وأكثر المعاصرين واحتياطهم في رسائلهم العملية.
لذا رفض جملة من الفقهاء الاستدلال على هذا الحكم بالسيرة والارتكاز.
فقال السيد الحكيم في المستمسك(39): “ومثله (أي في عدم الصحة) ما قيل: من استقرار سيرة المسلمين على الاجتناب عنه.
لانقطاع السيرة المذكورة… بل لعل استقرار سيرة المسلمين على الدخول إلى الحمامات في نهار رمضان من دون أقل استشكال في ذلك دليل على جواز جذب البخار. ولا فرق في ارتكازهم بين الغليظ وغيره. فالتعدي منه إلى الدخان ــ لتناسبهما جداً غير بعيد”.
وقال السيد عبد الأعلى السبزواري في المهذب (40): “واستندوا إلى السيرة، وانه من التناول فيشمله أدلة مفطرية الأكل، ومشمول دليل مفطرية الغبار له. ويرد الأول بعدم ثبوت تقرير المعصوم له…”.
وقال الشيخ المنتظري(41): “وارتكاز حصول الإفطار به عند المتشرعة أمر حادث منشؤه فتاوى المتأخرين واحتياطاتهم في الرسائل العملية…”.
وقال السيد مصطفى الخميني(42): “أو بالسيرة القائمة عند المتشرعة في الأزمنة التي قد أدلت فيها التدخين على أنه يضر بالصوم… فلا تخلو عن مناقشة واضحة”.
الدليل الثالث: ما ذهب إليه الشيخ جعفر كاشف الغطاء (43): ــ
من أن التدخين إذا تلذذ به وقام مقام القوت ــ فقال: “ثالثها: وصول الغبار الغليظ إلى الجوف… دون الدخان، إلا لمن اعتاده، وتلذذ به، فقام مقام القوت، فانه أشد من الغبار”
وأشكل على هذا الدليل أكثر من كتب في كتاب الصوم، وانه استحسان ولا شاهد عليه وانه غير واضح، وإليك كلمات بعض الفقهاء في ذلك:
ما قاله الشيخ صاحب الجواهر(44) ــ معلقاً على كلام أستاذه كاشف الغطاء ــ: “وفي كشف الأستاذ: وانه غير مفطر إلا لمن اعتاده وتلذذ به… وفيه ما لا يخفى مما لا يرجع إلى دليل معتبر.
وقال السيد الحكيم(45): “وكونه ــ واسطة الاعتياد والتلذذ ــ يقوم مقام القوت. ويكون أشد من الغبار، غير واضح”.
وقال الشيخ المنتظري(46): “والقول بقيامه لمن اعتاده وتلذذ به مقام القوت ــ كما في الجواهر عن كشف الغطاء ــ استحسان محض لا يثبت به الحكم الشرعي”.
والأمر كما أفادوا بعدم حجية ذلك القول وانه دعوى بلا دليل .
الدليل الرابع: “قاعدة أن العرف يجد ممنوعية إدخال شيء في الجوف”
وهو ما يظهر من كلام صاحب الجواهر(47): “نعم، قد يقال بالإفطار بناءً على شمول الإطلاق للغبار باعتبار كونه أجزاءً وصلت إلى الجوف بالحلق، والمفروض عدم اعتبار الاعتياد بالمفطر، ومثله يجري في الدخان الذي هو أشد من الغبار في بعض الأحول، فالقول بكونه مفطراً خصوصاً من الأشخاص الذين يستعملون التنباك لا يخلو من قوة…”
وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): “نعم وقلنا ان الصوم عبارة عما يصل إلى الجوف مطلقاً، أو من طريق الفم ــ حتى الدخان، أو حتى الأجزاء الرمادية المختلطة مع الهواء الدخاني ـــ كان للإفطار وجه…”.
وأشكل بعض الفقهاء على ذلك الدليل منهم:
السيد الخوئي إذ قال: “دعوى انه يستفاد من النص الوارد في الغبار ان كلما يدخل جوف الإنسان من غير الهواء الذي لا بد منه ومنه الدخان يكون مفطراً، ولكنها كما ترى عرية عن كل شاهد…”
وقال السيد مصطفى الخميني(48): “نعم، لو ثبت الأصل الذي ادعي بعض العلماء من منع الشرع في الصوم من إدخال أي شيء في الجوف على الإطلاق. يصح ذلك بعد علاج معارضته مع الموثقة المتقدمة. ولكن الشأن في ثبوت هذا الأصل واستخراجه من الأدلة”.
وقال في موضع آخر(49) عن دعوى ثبوت هذا الأصل: “فهي مجرد تخيل لا واقعية له ويكفيك تجويزهم الحقنة بالجامد…”
الدليل الخامس: خبر المروزي
قد يستدل على مفطرية الدخان أيضاً بالخبر الوارد في مفطرية الغبار؛ وذلك بتقريب إلحاق الدخان بالغبار من حيث المفطرية، فإذا ثبتت مفطرية الغبار ثبت الحكم للدخان أيضاً.
وهو ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده(50) عن الصفار عن محمد بن عيسى بن عبيد عن سليمان بن حفص (جعفر) المروزي أنه قال: “سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمداً أو شم رائحة غليظة أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين فإن ذلك له مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح”(51).
ولكن أشكل على الاستدلال بإشكالات عديدة:
الإشكال الأول (سندي):
فإن راويها أما سليمان بن جعفر المروزي أو سليمان بن حفص المروزي، والأول مجهول بل لا وجود له في كتب الرجال، ولعله تصحيف من حفص لتقارب حروف (حفص) و(جعفر).
والثاني (سليمان بن حفص المروزي)، وهذا الرجل لم يرد فيه توثيق في الرجال؛ فتكون روايته ضعيفة. ولكن السيد الخوئي وثقه لوروده في كتاب كامل الزيارات(52).
ويرد عليه: إن كبرى توثيق كل رواة كامل الزيارات لم تثبت كما حقق في محله من علم الرجال(53).
وقد يقال: إن الرواية وإن كانت ضعيفة سنداً بسليمان؛ ولكنها مجبورة بعمل الأصحاب .
ويرد عليه:
صغرى: إن المشهور لم يحكموا على طبقها بلزوم القضاء والكفارة بل صرحوا بالقضاء فقط ، بل أفتى بعظهم بعدم المفطرية أساساً كما هو رأي جماعة من المتقدمين كالصدوق والمرتضى، وجمع من متأخري المتأخرين منهم صاحب الحدائق والمفاتيح كما عرفت في مقدمة البحث.
كبرى: عدم ثبوت كبرى الجابرية كما هو رأي السيد الخوئي وأكثر المعاصرين، خلافاً لمشهور ما قبل السيد محسن الحكيم.
الإشكال الثاني:
سندي أيضاً وهو الإضمار كما أشار إلى ذلك السيد صاحب المدارك(54). حيث أضمر الراوي (بقوله سمعته…) .
وأجاب السيد الخوئي عن إشكال الإضمار:
(إن الراوي للرواية ما دام هو الصفار فلا يضر الإضمار).
ويرد عليه: إن الروايات المضمرة ليست حجة إلا إذا كان المضمر على درجة كبيرة من الجلالة على وزان زرارة ومحمد بن مسلم، حيث لا يروي إلا عن الإمام” عليه السلام”، والحال إن سليمان المروزي ليس على هذا الوزان، فلا تكون مضمراته حجة.
الإشكال الثالث (سندي أيضاً):
وهو ما أشكله السيد الطباطبائي في الرياض (55) وهو دعوى القطع في الرواية فقال: “وهي ــ لقطعها، وعدم معلومية المسؤول عنه فيها ــ لا تصلح للحجية وإن حصلت معها الشهرة؛ لأنها إنما تجبر الرواية المستندة لا المقطومة.
وأورد عليه السيد الخوئي (56) قائلاً: “فإن أراد بالقطع الإضمار ولو على خلاف الاصطلاح فلا مشاحة فيه، وإن أراد المصطلح من المقطوع فلا قطع في السند بوجه كما لا يخفى”.
ويلاحظ: إن السيد الطباطبائي يريد القطع المصطلح لا الإضمار، لأنه عطف في عبارته الإضمار على القطع، وهو يقتضي المغايرة نعم جواب السيد الخوئي في عدم القطع صحيح، فإن الرواية غير مقطوعة جزماً(57).
وعليه فلا يتم الإشكال الثالث.
الإشكال الرابع (دلالي):
إن الرواية حوت فقرات لا يلتزم الفقهاء بمفطريتها كفقرة مفطرية المضمضة والاستنشاق وشم الرائحة الغليظة، فتسقط الرواية حينئذٍ عن الاعتبار، قال صاحب المدارك(58): “وثانياً باشتمالها على ما أجمع الأصحاب على خلافه من ترتب الكفارة على مجرد المضمضة والاستنشاق وشم الرائحة الغليظة”.
وأجاب السيد الخوئي في ج1 ص154: “إن اشتمال الرواية على بعض ما ثبتت فيه إرادة الاستحباب لقرينة قطعية خارجية لا يستوجب رفع اليد عن ظهور غيره في الوجوب،فالأمر بالكفارة في هذه الرواية محمول على الاستحباب فيما عدا الغبار من المضمضة ونحوها للعلم الخارجي بعدم البطلان كما ذكر أما فيه فيحمل على ظاهره من الوجوب الكاشف عن البطلان، ولا مانع من التفكيك في رواية واحدة بعد قيام القرينة”.
وقد يجاب: إن التفكيك بين فقرات هذه الرواية ليس تفكيكاً عرفياً. إذ إنها بمثابة المطلب الواحد المبين للمفطرات.
الإشكال الخامس:
إنها معارضة بموثقة(59) عمرو بن سعيد المدائني، الدالة على عدم مفطرية الغبار. فقد روى الشيخ بإسناده(60) إلى أحمد بن الحسن بن فضال عن عمرو بن سعيد عن الرضا” عليه السلام”، قال(61): “سألته عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: جائز، لا بأس به، قال وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: لا بأس” فقد صرحت الرواية بعدم البأس بالغبار .
ولكن اجيب عن هذا الاشكال: بامكان فك التعارض من خلال الجمع الدلالي بين الروايتين وذلك باحد تصويرين:
بحمل رواية المروزي على العمد ورواية ابن سعيد على الاعم من العمد وغيره.
بحمل رواية المروزي على الغبار الغليظ ورواية ابن سعيد على الغبار الخفيف .
ويرد على كلا الجمعين: بان الجمع الدلالي انما يأتي بعد تكافئ الروايتين سنداً ، والحال ان رواية المروزي لا تصلح لمعارضة رواية ابن سعيد اذ ان رواية ابن سعيد تامة سنداً بخلاف رواية المروزي كما تقدم .
اضافة الى ان الجمع الثاني جمع تبرعي لا شاهد عليه ، اذ ان كلمة (غبار) في الروايتين ظهورها واحدٌ .
والنتيجة: لم يقم دليل على مفطرية التدخين ، فالمرجع حينئذ الى الاصل وهو يقضي بعدم المفطرية ، بل يمكن إقامة الدليل على عدم المفطرية فيما لو قلنا ان الدخنة الواردة في رواية ابن سعيد والتدخين حكمهما واحد من باب تنقيح المناط فتأمل .
وعليه فمقتضى الصناعة الفقهية هو الحكم بعدم مفطرية التدخين في نهار الصوم- وقد تبنى ذلك السيد الخوئي في ابحاثه الفقهية ولكن احتاط وجوبا عند الافتاء- ولكن في مخالفة المشهور نحو مجازفة فلا اقل من الاحتياط الاستحبابي بمفطرية التدخين كما ذهب الى ذلك السيد الشهيد محمد الصدر من المعاصرين .
والحمد لله رب العالمين
الهوامش
(1) جامع المقاصد ج3 ص70 ط آل البيت ” عليهم السلام”.
(2) مستند الشيعة للشيخ أحمد النراقي ج10 ص227 ط آل البيت”عليهم السلام”.
(3) كالشيخ الطوسي في المبسوط ج1 ص271ن والعلامة الحلي في التذكرة ج1 ص257.
(4) كما في مدارك الأحكام للعاملي ج6 ص52، وكفاية الأحكام للسبزواري ص46.
(5) العروة الوثقى ج3 كتاب الصوم ص544، مع تعاليق جمع من الأعلام،ط مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.
(6) المصدر نفسه والصفحة.
(7) المصدر نفسه والصفحة.
(8) كلمة التقوى ج3 ص54، الرسالة العملية للشيخ المعاصر محمد أمين زين الدين .
(9) جامع الأحكام الشرعية ص164 ط مؤسسة المنار.
(10) مستند الشيعة للشيخ أحمد النراقي ج10 ص230 ط آل البيت.
(11) منهاج الصالحين ج1 ص64 كتاب الصوم ط 30.
(12) الفتاوى الواضحة ج1 ص613 ط دار التعارف.
(13) منهاج الصالحين ج1 ص321.
(14) منهاج الصالحين ج2 ص395.
(15) منهاج الصالحين ج1 ص397.
(16) الفتاوى المنتخبة ج2 ص88.
(17) منهج الصالحين ج2 كتاب الصوم ص20.
(18) مدارك الأحكام ج6 ص52 ط آل البيت.
(19) كفاية الأحكام للمولى محمد باقر السبزواري ج1 ص227 ط المحققة.
(20) فقه الشريعة ج1 ص483، ط دار الملاك في بيروت.
(21) كتاب الصوم أبحاث في الفقه الاستدلالي للسيد مصطفى الخميني ص387 وص363 وغيرها.
(22) المصدر نفسه ص389.
(23) مسالك الإفهام ج2، ص17.
(24) جواهر الكلام ج17، ص152، ط مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
(25) كشف الغطاء للشيخ جعفر الكبير ج4، ص32، ط مكتب الإعلام الإسلامي.
(26) كتاب الصوم ص48.
(27) مستند الشيعة ج10، ص230.
(28) الصوم في الشريعة الغراء ج1، ص155 ط مؤسسة الصادق” عليهم السلام”.
(29) كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري ص49، لجنة إحياء التراث الشيخ الأعظم .
(30) مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم ج1 ص المجلد(21) من موسوعة السيد الخوئي.
(31) كتاب الصوم ص387.
(32) ينظر: على سبيل المثال أقرب الموارد ج3 ص38 وما بعدها، ط دار الأسوة.
(33) ينظر: المصدر نفسه ج1، ص62.
(34) كتاب الصوم ص50 المجلد 12 من موسوعة كتب الشيخ الأنصاري”قدس سره”، تحقيق هيئة إحياء تراث الشيخ الأنصاري.
(35) مستند العروة الوثقى ج 1 ص159 المجلد ( 21 ) من موسوعة الخوئي “قدس سره” ط إحياء تراث السيد الخوئي.
(36) مستند الشيعة ج10 ص230 للشيخ أحمد النراقي، ط آل البيت.
(37) الصوم في الشريعة الغراء ج1 ص155. للشيخ جعفر السبحاني.
(38) مصباح المنهاج ، كتاب الصوم ص78 ط مؤسسة الحكمة.
(39) مستمسك العروة الوثقى ج8 ص261.
(40) مهذب الأحكام ج10 ص77.
(41) كتاب الصوم ص143.
(42) الصوم ص288.
(43) كشف الغطاء ج4 ص32 ط المحقق بتحقيق مكتب الإعلام الإسلامي.
(44) جواهر الكلام ج17 ص102 ط مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرسين.
(45) مستمسك العروة الوثقى ج8 ص261 السيد محسن الحكيم.
(46) كتاب الصوم ص143.
(47) جواهر الكلام ج11 ص103 ط جماعة المدرسين.
(48) كتاب الصوم ص388.
(49) المصدر نفسه ص364.
(50) وطريق الطوسي إلى الصفار تام بلا إشكال ، قال في مشيخته: “وما ذكرته في هذا الكتاب عن محمد بن الحسن الصفار فقد أخبرني به الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيد الله وأحمد بن عبدون كلهم عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه وأخبرني به أيضاً أبو الحسين، ابن أبي جيد عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار.. (وسائل الشيعة ج30 ص136 ط آل البيت.
(51) وسائل الشيعة ج1 ص70 كتاب الصوم أبواب ما يمسك عنه الصائم باب22 ح1.
(52) كامل الزيارات للشيخ الأقدم جعفر بن قولويه القمي ص379 ط المحققة بتحقيق الشيخ جواد القيومي.
(53) علماً إن السيد الخوئي قد تراجع عن كبرى توثيق كل الرجال الواردين في كامل الزيارات، فذهب للرأي الذي يقول بتوثيق الرجال الذين يروون عنه بالمباشرة وهم واحد وثلاثون شيخاً. نعم كان في بداية حياته قد تبنى عدم توثيق كل رجال كامل الزيارات حتى المباشرين كما أشار إلى ذلك في فقه الشيعة ج3 ص27، وكان في وسط حياته قد تبنى رأياً بتوثيق كل رواة كامل الزيارات سواء كانوا مباشرين أو غير مباشرين، كما أشار إلى ذلك في كتبه الفقهية كثيراً ومنه موردنا في (كتاب الصوم ج1 ص154) ط المحققة بتحقيق هيئة إحياء تراث السيد الخوئي.
(54) مدارك الأحكام ج6 ص52 للسيد محمد العاملي حيث قال: “وعلى الرواية أولاً الطعن في السند باشتماله على عدة من المجاهيل مع جهالة القائل.
(55) رياض المسائل: ج5 ص312 ط آل البيت.
(56) مستند العروة الوثقى (الخوئي) ج1 ص154.
(57) الخبر المقطوع، هو الموقف على تابع مصاحب للمعصوم. راجع المامقاني في مقباس الهداية ج1 ص320.
(58) مدارك الأحكام ج6 ص52.
(59) الرواية موثقة لوقوع احمد بن حسن بن فضال في سندها ، فهو ثقة في الحديث لكنه فطحي . كما ان عمرو بن سعيد ثقة أيضا، ولكن ادعى الشيخ الطوسي في الغيبة انه فطحي ايضا .
(60) طريق الشيخ الى احمد بن الحسن بن فضال صحيح ، وكون ابن ابي جيد في طريقه لا يضر لان الاخير من مشايخ النجاشي فنحكم بوثاقته .
(61) وسائل الشيعة ج10 ص70 أبواب ما يمسك عنه الصائم باب 22 ح2.
المصدر : كتاب الفقه الإبتلائي لفضيلة الشيخ محمد رضا الساعدي
تحميل الكتاب