الاجتهاد: يعدّ علم فلسفة الفقه من العلوم المقترحة الجديدة في أوساط المعاهد الدينية والحوزات العلميّة، ولا يعود تاريخ طرحه بشكل جادّ في هذه الأوساط إلى أكثر من عقدين ونصف من الزمان. وقد ثارت حول هذا العلم وهويّته وأبعاده وعلاقته بسائر العلوم الدينية، لاسيما الفقه وأصوله، جدالات تشبه ـ إلى حدّ ما وإن بدرجة أخفّ ـ تلك التي ثارت حول أطروحة علم الكلام الجديد التي برزت بقوّة منذ ربع قرن تقريباً.
ويعود بعض الجدل في الموقف من هذا العلم المقتَرَح إلى مفهوم هذا العلم ودوره وطبيعة المهمّة الموكلة إليه، ففيما يلاحظ في بعض الأوساط وضوحٌ في الرؤية إزاءه وتحديدٌ لمساحته ودائرته ودوره، نجد في أوساط أخرى شعوراً بأنّ هذا العلم ليس سوى محاولة لجمع بعض الموضوعات الضرورية المعاصرة التي لم يعالجها البحث الاجتهادي السائد، مما يحوّله إلى مجرّد ملتقى لموضوعات عشوائية لا يربط بينها سوى الحاجة المعاصرة إلى بحثها والاعتقاد بأنّ الفقه والأصول بوضعهما الحالي إما لا يستوعبان هذه الموضوعات أو لا يقدران على معالجتها بالذهنية التي يملكها هذان العلمان.
سوف نحاول في هذه الوريقات المتواضعة أن نتعرّف ـ باختصار ـ على هذا العلم، ونحدّد هويّته، وندرس ضرورته وجدوائيته، ونرصد ملفاته وموضوعاته، ونتخذ موقفاً منه وسط جدل الردّ والتأييد الذي حظي به هذا العلم. لكنّنا لن نخوض في تفاصيل هذه البحوث المتصلة بفلسفةِ الفقه وفهمها وتعريفها والتعريف بها، بل سنكتفي بجولة عابرة؛ لأنّ التفاصيل تحتاج إلى بحوث مطوّلة لا يسعها المقام.
لكن قبل ذلك كلّه، يجب أن نشير إلى تراجع حضور هذا العلم في المحافل العلمية في السنوات العشرة الأخيرة، ورغم أنّ بعض الجامعات الدينية قد تبنّته مادةً درسيّة إلا أنّ الجدل حوله قد تراجع، وإن كانت موضوعاته تُدرس بشكل منفصل بصرف النظر عن هويّتها والتئامها داخل علمٍ مستقل باسم فلسفة الفقه.
ونشير أيضاً إلى أنّه جرت محاولات محدودة كذلك للحديث عن فلسفة أصول الفقه، وعقدت بعض المؤتمرات والندوات في هذا الإطار في المعاهد الدينية الكبرى، لكنّها لم تحظَ بأيّ تحويل من سياق طرح عنوان إلى سياق مشروع، فضلاً عن تأسيس علم.
نعم قدّمت مجموعة من الدراسات الجادّة تحت هذا العنوان، تختلف فيما بينها في نوعيّة موضوعاتها قرباً وبعداً، مثل فلسفة أصول الفقه للشيخ صادق لاريجاني، وفلسفة أصول الفقه للأستاذ حسن معلّمي، ودراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد للشيخ علي حبّ الله، وكذلك بعض المساهمات التي قدّمها الشيخ مهدي الهادوي الطهراني وغيره.
هذا، ولكي نتعرّف على فلسفة الفقه، لابدّ من بعض المعلومات المقدّمية المتصلة بفلسفة العلم أو الفلسفات المضافة ونحوها.
1ـ فلسفة الفقه، معالم التعريف والهويّة
من الضروري أن نحدّد لعلم فلسفة الفقه تعريفاً واضحاً؛ لأنّ مباحث التعريف المتصلة بالعلوم تغدو ضروريةً في حالتين:
الأولى: عندما يقع تداخل مخلّ بين العلوم يوجب استخدام مناهج علم ما في موضوعات علمٍ آخر دخلت فيه يختلف عنه في المنهج، فلتفادي الاضطراب الناشئ عن هذا النوع من التداخل يشتغل العلماء على وضع تعاريف محدّدة.
الثانية: عندما يكون علمٌ ما في طور الولادة والنموّ، حيث يغدو وضع تعريف له ضرورياً؛ نظراً للحاجة إلى التعرّف عليه وضبط قواعد العمل في موضوعاته ومسائله، وتمييزه عن غيره بما يفرض وجوده وعدم قيام غيره مكانه، ومن ضمن ذلك تحديد مقدار ضرورة هذا العلم وعدم وفاء غيره بدوره.
وإذا لاحظنا علم فلسفة الفقه سنجد هاتين الحالتين موجودتين فيه؛ فهو من جهة علمٌ حديث الظهور، أو بتعبير أدقّ: مشروع علم، ومقترح علم. ومعالمه وهويته وامتيازه عن غيره ومديات ضرورته وحاجته ماتزال محلّ نقاش، كما أنّ بعض موضوعاته ـ كما سوف نرى ـ متداخلة أو يحتمل فيها التداخل مع علومٍ أخرى، الأمر الذي يستدعي تعريفاً جلياً وواضحاً حوله.
ولا نقصد بالتعريف ما يفعله الجدل العلمي المدرسي أحياناً في قضايا التعريف من الصراع على تحديد نوعيّة الجملة التي نختارها للتعريف من حيث جامعيّتها ومانعيتها كما فعل علماء أصول الفقه المتأخّرون، فهذا في تقديري مما لا فائدة تذكر فيه، وإنما نريد أن نبيّن ـ بأيّ طريقة ـ صورةً واضحة عن هذا العلم بعيداً عن الصراع اللفظي في هذا القيد أو ذاك.
1ـ 1ـ الفلسفة بين الإطلاق والإضافة
وأوّل قضيّة تواجه الباحث في مجال فلسفة الفقه هي الأسرة العلمية التي ينتمي إليها هذا العلم، والحقل المعرفي الذي ينضوي هذا العلم ضمنه، إنّه الفلسفة المضافة.
فالفلسفة تنقسم ـ بتعبيرٍ من التعابير ـ إلى قسمين:
1ـ الفلسفة المطلقة، وهي تلك التي تبحث في الوجود وقضاياه كالفلسفة الإسلاميّة المعروفة، ويصحّ أن نعبّر عنها بالفلسفة دون أيّ تقييد أو إضافة.
2ـ الفلسفة المضافة: وتطلق على كلّ فلسفة تضاف إلى حقلٍ ما، وهذه الإضافة لها معنيان:
الأول: الإضافة إلى أمرٍ واقعي، كفلسفة النفس، من حيث البحث فيها عن حقيقة النفس وتجرّدها وغير ذلك([1])، وبهذا المعنى يمكن جعل الفلسفة المطلقة مضافةً من حيث إمكانيّة نسبتها إلى الوجود بقول مطلق.
ومن هذا النوع استخدام الفلسفة مضافةً إلى فيلسوف أو إلى مدرسة أو إلى مكان أو إلى زمان، مثل: فلسفة أرسطو، وفلسفة التنوير، وفلسفة القرون الوسطى، وفلسفة المشرق، فإنّ الإضافة هنا إلى أمرٍ وجودي، لكنّه غالباً من إضافة الشيء إلى الفاعل.
الثاني: الإضافة إلى أمرٍ معرفي علمي، كأن نأخذ علماً من العلوم ثم نضيف إليه الفلسفة، ويكون معنى ذلك هو البحث عن فلسفته، كفلسفة الأخلاق، وفلسفة اللغة، وفلسفة الفيزياء، وهكذا..
بل يمكن أن نجمع العلوم كلّها وندرس فلسفتها بوصفها ظاهرة معرفية عامة لا تخصّ علماً من العلوم، وهذا ما ينتج علم فلسفة العلم الذي شهد رواجاً عظيماً في القرن العشرين.
وفي سياق النوع الثاني من الفلسفة المضافة، نلاحظ أنّ الظروف التي ولدت فيها الفلسفة المضافة هي ظروف المدارس الفلسفية الغربية التي اهتمّت بمجال المعرفيات (ايبستمولوجي)، فقد فكّك الغرب ـ مع عمانوئيل كانط وغيره ـ بين الشيء في مداركنا والشيء في نفسه، واشتغلوا على صورة الأشياء في ذهن العالِم أكثر من واقع الأشياء في الخارج، فنما علم المعرفة نموّاً كبيراً.
ومن المعلوم أنّ علم المعرفة أخذ شكلين من الظهور في الدراسات الايبستمولوجية الحديثة، هما:
1 ـ علم المعرفة الأوّلي، وهو الذي يبحث حول الإدراك البشري وأسراره، وكيفيّة تولّد المعرفة عند الإنسان، وكيف تتنامى وتتكاثر، وما مدى صدقيّة المعرفة أو قيمتها؟ وهل المرجعيات المعرفية هي الحسّ أو العقل أو الحضور والوجدان أو مركّب منها أو شيء آخر؟
وهذا ما تناوله الفلاسفة المسلمون في القرن العشرين في دراساتهم المعرفية، مثل السيد محمد باقر الصدر والعلامة الطباطبائي والشيخ مرتضى المطهري و..
2 ـ علم المعرفة الثانوي، وهو الذي يرصد ما حصل من العلوم البشريّة، ويحلّل هذه العلوم تحليلاً خارجياً، أي إنه يحاول أن يدرس الظاهرة العلمية الإنسانية من الخارج لا بوصفه جزءاً منها، ويحدّد شبكة العلاقات فيها، ونظامها وتفاعلاتها وأمثال ذلك بوصفها أمراً واقعاً.
ومن هذا النوع الثاني ظهر الاتجاه التاريخي في دراسة العلوم، وولدت فلسفة العلم العامّة (كلّ العلم) والخاصّة (علمٌ ما بعينه).
وبهذا شهد علم المعرفة ـ بنوعيه ـ ازدهاراً كبيراً في القرون الأخيرة، فيما غلب على الفلسفة الإسلامية ما قبل الحكماء الثلاثة المتأخّرين (الصدر، الطباطبائي، والمطهري) الطابع الوجودي، أي فلسفة الوجود التي تحاول دراسة الوجود نفسه، وإن أطلّت على الذهن والمعرفة في بعض مباحثها مثل بحث الوجود الذهني وبحث حقيقة العلم ومسألة اتحاد العقل والعاقل والمعقول وغير ذلك.
وعلى هذا الأساس، يمكن تصنيف العلوم إلى قسمين:
القسم الأول: العلوم ذات الدرجة الأولى، وهي التي تعالج أمراً واقعياً، إما عاماً كالفلسفة العقليّة العامّة أو خاصّاً كفلسفة الروح أو فلسفة الذهن أو نحو ذلك.
ولا فرق في هذه العلوم بين الطبيعيات والرياضيات والإنسانيات والإلهيّات وغيرها، وتدخل فيها علوم المعرفة بشكلها الأوّل والتي تعالج ظاهرة الإدراك عند الإنسان، فهذا القسم موضوعه الواقع.
القسم الثاني: العلوم ذات الدرجة الثانية، وهي التي تعالج العلم نفسه، لا أنها تعالج ظاهرة واقعية خارجية، فهي تعالج العلم بالواقع، ولهذا كانت ثانويّةً.
وهذه العلوم هي التي نسمّيها بفلسفة العلم أو فلسفة العلوم، وهذا القسم موضوعه العلم نفسه، وإن كان موضوعه واقعيّاً من حيث واقعيّة ظاهرة العلم نفسها.
وهذا التقسيم مقبولٌ، وإن أمكن من وجهة نظري إرجاع الثاني إلى الأول إذا فسّرنا الواقع في الأوّل بأنّه الواقع الأعم من الخارجي والذهني والنفس الأمري، كما أشرنا آنفاً.
2ـ 1ـ ما هي فلسفة العلم؟
يعدّ تعريف فلسفة العلم في حدّ نفسه موضوعاً إشكاليّاً يوجد خلافٌ حوله، ويمكن في هذا الصدد الحديث عن تعريفات ثلاثة هي:
التعريف الأول: إنّ فلسفة العلم هي تلك التأمّلات النظرية والتحليلية التي يمكن فهم نظريات هذا العلم في ضوئها وكشفها بشكل أعمق وأبين([2]).
هذا التعريف قد يواجه مشاكل:
أولاً: إنّ نظريةً ما عندما تبحث في علمها الخاصّ بها فإنّ ذلك يحقّق تفسيرها وتحليلها وفهمها، فما معنى أن تأتي فلسفة هذا العلم لتكون مساهمةً في تفسيرها وشرحها وتبيينها؟
وقد أجاب أنصار هذا التعريف بأنّ البحث عن نظريّةٍ ما في داخل علمها الخاصّ يبقي الإنسان أسيراً لدراسة هذه النظرية ضمن حدود هذا العلم، فيما البحث عن النظرية نفسها من خارج إطار هذا العلم يعطي الإنسان حريّة البحث والنقد والتحليل.
ولعلّ هذا الدفاع عن هذا التعريف يكون صحيحاً عندما يكون المجال مجال الدراسات الإنسانية والدينية؛ لأنّ الباحث قد ينزع نزعةً تأويلية أو دفاعية أو جدلية، فيأتي فيلسوف العلم ليقرأ الأمور من الخارج بنظرة تأملية فلسفيّة.
ثانياً: إنّه لا يبيّن المنهج الخارجي المعتمد، بل تندرج فيه حتى البحوث الداخلية بل مطلق الدراسات حول أيّ قضيّةٍ من القضايا.
التعريف الثاني: إنّ فلسفة العلم هي العلم الذي يقوم بدراسة الخلفيّات المعرفية والمصادرات القَبْلية التي ينبني عليها هذا العلم، فيقوم بتحليلها ومقارنتها واكتشافها.
وقيمة فلسفة العلم حينئذٍ تكمن في أنّ أغلب علماء ذلك العلم لا يلتفتون إلى الأصول القبلية التي بُنيت نظريّاتهم عليها، فيأتي فيلسوف العلم ليشرحها ويحلّلها.
التعريف الثالث: إنّ دراسة العلم من الخارج لها شكلان:
الشكل الأول: الدراسة ذات المنهج التاريخي، وهي التي تحاول تناول هذا العلم بطريقة توصيفية تحليلية، فترصد تاريخه وتطوّره وعلاقاته بسائر العلوم وعناصر قوّته ومبرّراتها الموضوعية وكذلك عناصر الضعف وغير ذلك. وهذا هو المنهج الوصفي في الدراسة الخارجيّة.
الشكل الثاني: الدراسة ذات المنهج المعياري المنطقي، ويقصد بها أن لا يكون التوصيف هو محطّ نظر الباحث، وإنما غرضه الكشف عن منهج هذا العلم وأساسيّاته، ومعايير التشريح العلمي فيه للأمور.
وفي هذه الحال، فإنّه يحقّ لهذا النوع من الدراسة أن يقوّم حال هذا العلم، فيحكم بوجود خلل منهجي فيه أو وجود خلفيّات معرفية غير مبرهنة أو تحوي مشاكل وهكذا.
وعليه، ففلسفة العلم تعني البحث الخارجي حول العلم وفقاً للمنهج المعياري والمنطقي لا المنهج التاريخي الوصفي، وإن كان المنهج الوصفي يشكّل مقدّمةً لازمة وضرورية للحكم على هذا العلم أيضاً.
ويبدو من المقارنة، أنّ التعريف الأوّل يميل إلى المنهج الوصفي التحليلي؛ لأنه يسلّط الضوء على جانب تجلية الموضوعات المبحوثة في هذا العلم، أكثر من تركيزه على الجانب المعياري الذي يسمح بالحكم على العلم سلباً أو إيجاباً.
أما التعريف الثاني فهو أقرب إلى الجانب المعياري، فيمكن أن يستوعبه التعريف الثالث.
وبذلك قد نحصل على تعريف جامع بين النزعة الوصفية والتاريخية والمنهج المعياري الحكمي، فنعرّف فلسفة العلم بأنها النظر إلى العلم وهويّته وحركته ومنهجه وأصوله ومصادراته من زاوية خارجية تفترضه ظاهرة إنسانية قائمة، بما يحقّق فهم العلم وتقويمه معاً.
3ـ 1ـ تعريف فلسفة الفقه
وفقاً لما تقدّم يمكن تقديم أكثر من تعريف لفلسفة الفقه، وقد قدّمت الكثير من التعريفات التي لا حاجة للتعرّض إلى الكثير منها، لاسيما بعدما سنطّلع عليه من موقفنا من تحديد بعض مسائل علم فلسفة الفقه، فمثلاً تعريف بعضهم لفلسفة الفقه بأنّها النظر العقلي في الفقه، تعريفٌ ضعيف؛ فما معنى النظر العقلي في الفقه؟ وهل نقد الفقه من فلسفة الفقه؟ وهل الدفاع عن الأحكام الفقهيّة عقلياً هو من فلسفة الفقه؟ وهل البحوث العقليّة في علم الكلام والأصول العقلية المؤثّرة في الفقه والمتصلة به هي من فلسفة الفقه؟!
وهكذا الحال في تعريف بعضهم بأنّه العلم الباحث في كليّة الفقه وعموميّته، فإنّ هذا الأمر مسألة من المسائل، وليس علماً من العلوم.
وكذلك تعريف بعضهم بأنّه العلم الباحث في المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة للفقه، فإنّ الكثير من البحوث الفلسفيّة والكلاميّة والحديثية والرجاليّة والأصولية هي من مبادئ الفقه، فيلزم إدخالها في فلسفة الفقه! بل يلزم إدخال العلوم التي تشكّل مبادئ لعلوم أخرى في فلسفة تلك العلوم، وهذا غريب حقّاً.
لهذا سنكتفي ببعض التعريفات البارزة، والتي لها شهرتها، حتى لا نطيل في هذا المجال، وهي:
التعريف الأوّل: فلسفة الفقه، هي ذلك العلم الذي يدرس الفقه (ويجيب عن سؤال: ما هو الفقه) بوصفه ظاهرة تاريخية اجتماعية دراسة خارج دينية لا تقوم على أيّ معتقد إيماني مسبق([3]).
يحاول هذا التعريف أن يعطي لفلسفة الفقه مجال الجواب عن السؤال التالي: ما هو هذا العلم في المناخ التاريخي والاجتماعي؟ فهو يبحث عن هويّة علم الفقه، لكن لا بوصفه صوراً ذهنية يراد دراستها بطريقة فلسفة الوجود، وإنما باعتباره ظاهرة تاريخية إنسانية، والنقطة الأهم أنّ هذا التعريف يفرض الخروج من كلّ أشكال الاشتغال الفقهي الداخل ـ ديني، ففيلسوف الفقه عنده ليس فقيهاً معتقداً بأصول الاجتهاد، وإنما هو رجل محايد يرصد الظاهرة دون أن يعتقد بها.
ومردّ هذه الفكرة إلى أنّ الوصول إلى الحقيقة يحتاج أحياناً لترك الاعتقاد بها أو بما يتصل بها؛ لأنّ هذا الاعتقاد قد يشكّل حاجباً أمام رؤيتها على ما هي عليه، فالذي يعتقد بالقرآن الكريم قد لا يرى تناقضاته لو كانت فيه، بينما الذي لا يؤمن به كتاباً من عند الله قد يرى فيه ما لا يراه المعتقد، والعكس هو الصحيح؛ لهذا نحن بحاجة إلى القراءة الخارجية هذه لتكون على أساس غير إيماني.
ويبدو من بعض العلماء أنه يتحفّظ على قيد «عدم وجود بُعد إيماني مسبق»؛ حيث يرى أنّ العلم الذي ليست له خلفيّات مسبقة هو الفلسفة الأولى فقط، وأما غيره فلا يخلو علمٌ من سياق معرفي يقوم عليه، فلماذا يراد لعلم فلسفة الفقه أن يتحرّر من السياق المعرفي العقدي الذي يقوم عليه؟!.
وقد يحاول أنصار هذا التعريف الجواب هنا بأنّنا عندما نأخذ قيدنا هذا فنحن لا نريد رفض البُعد العقدي المسبق ليكون الرفض قيداً في هويّة فلسفة العلم، وإنما نقصد من التعريف عدم أخذ قيد البُعد العقدي المسبق في هويّة علم فلسفة الفقه، وكأننا نقول: هو العلم الذي يبحث في كذا وكذا بلا قيد السياق الإيماني المسبق، وبذلك يرتفع الإشكال المشار إليه، وينفتح علم فلسفة الفقه على سياقين: إيماني وغير إيماني.
التعريف الثاني: فلسفة الفقه هو العلم الذي يبحث عن الأصول والمصادرات التي يقوم عليها هذا العلم ولا تبحث فيه([4]).
ينطلق هذا التعريف من الفكرة القائلة بأنّ لكلّ علم مصادراته وبنياته التحتية التي تبحث في علم آخر سابقٍ عليه، حتى نصل إلى علم الفلسفة الأولى، فنحن في علم الفقه مثلاً ندرس ونبرهن وفقاً لأساسيّات الاستدلال المنطقي، ومع ذلك لا نبحث قضايا المنطق داخل الفقه؛ لأنّ العلوم مرتبة بطريقة توكل المهمّات إليها جميعاً بطريقة موزعة توزيعاً تراتبياً.
وإذا طبّقنا هذه الفكرة على علم فلسفة الفقه، سنجد أنه يعتقد بأنّ الأصول والمصادرات التي بني الفقه عليها أو الاجتهاد الشرعي عموماً، لم تعالج في هذه العلوم الشرعية مما يضطرّنا لمعالجتها في مرحلة مسبقة هي مرحلة فلسفة العلم.
ووفقاً لهذا التعريف ستكون لفلسفة العلم القدرة النقدية والمعيارية؛ لأنها قد تساعدنا على الكشف عن نقاط ضعف أو قوّة في الأساسيات التي يقوم الفقه عليها.
التعريف الثالث: فلسفة الفقه هو العلم الباحث في المناهج التي تستخدم في البحث الفقهي، فنحن في هذا العلم لا نبحث في هويّته التاريخية، كما لا نبحث خاصّة في مصادراته القبلية، وإنما نبحث في كلّ عناصر المنهج المستخدم، من حيث كونه عقلياً أو نقلياً، وما هي مصادراته؟ ومن حيث كونه عرفياً أو فلسفياً أو غير ذلك، فكلّ الدراسات التي تتصل بالمنهج تكون هي المعبّر عن فلسفة الفقه.
التعريف الرابع: ومن الممكن أن يقدّم لفلسفة الفقه تعريف يجمع هذه التعريفات الثلاثة، فيكون هو كلّ دراسة خارج فقهية تعمل على رصد علم الفقه رصداً توصيفياً وتحليلياً ومعيارياً لهويته ومساراته ومصادراته ومناهجه ومساحاته وعلاقاته، بعقليّة فلسفية غير متقيّدة بالضرورة بالإطار الاعتقادي.
2ـ موضوع فلسفة الفقه
إنّ موضوع هذا العلم هو الفقه نفسه؛ لأنّ موضوع كلّ فلسفة مضافة إلى علم هو ذلك العلم نفسه الذي أضيفت إليه، غاية الأمر أنّ جهة البحث فيه وفي قضاياه تكون من زاوية خارجية.
فما يميّز فلسفة الفقه عن غير الفقه من العلوم هو أنّ موضوعها الفقه وليس كذلك موضوع علم الفيزياء أو الطبّ أو التأريخ، أما ما يميّز فلسفة الفقه عن علم الفقه نفسه فهو أنّ علم الفقه يدرس قضاياه من زاوية داخلية فيما فلسفة الفقه تدرس علم الفقه بنفسه وقضاياه من زاوية خارجيّة.
لكن من الضروري أن نعرف هنا أنّ الفقه الذي يقع موضوعاً لعلم فلسفة الفقه هو:
أولاً: العلم الذي يبحث في الشريعة، وليس الشريعة نفسها، فنحن لا ندرس في فلسفة الفقه الشريعةَ الإسلامية التي جاء بها رسول الله|، وإنما الذي يدرسها هو علم الفقه أو غيره، محاولاً اكتشافها أو رصد أسرارها وخفاياها.
ومن ثمّ، ففلسفة الفقه ترصد الفقه بوصفه مجموعةً متراكمةً من الجهود البشرية التفسيرية التي عملت خلال قرون على اكتشاف الشريعة وفهمها وتحليلها وقراءتها من زوايا متعدّدة.
وهذا يعني أنّ موضوع فلسفة الفقه ليس هو الفقه الصحيح، بل مجموعة الدراسات الفقهيّة التي تحتوي الصواب والخطأ معاً، ولا ينحاز علم فلسفة الفقه ـ من حيث منطلقات البحث ـ للصواب أو للخطأ في تلك النظريّات الفقهيّة، بل يرصدها على معيارٍ واحد، وإن أمكن ـ كما سيأتي ـ أن يكون له دورٌ لاحق مساعد في التصويب والتخطئة.
وحتى لو تناولت فلسفة الفقه الرؤية الصحيحة للفقه من وجهة نظر فيلسوف الفقه نفسه، فإنها لا تأخذها من زاوية الصحّة أو بوصف الصحّة، بل تأخذها بوصفها جهوداً بشرية علميّة.
وبهذا التمييز بين الفقه والتشريع يمكن أن نعلّق بالنقد على من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي تحت عنوان تاريخ التشريع، فإن قصد بالتشريع المعنى المصدري لما صحّ له أن يأخذ القرون اللاحقة، أما إذا قصد المعنى المفعولي، أي تاريخ التشريعات الإسلامية في تعاطي الفقهاء معها مثلاً كان كلامه صحيحاً، فالتمييز بين الشريعة بوصفها فعل المشرّع وبين الفقه بوصفه عملاً فهمياً كما تستدعيه الدلالة اللغوي (الفقه: التأمل العميق، الفهم) ضروريٌّ بالنسبة لفيلسوف الفقه.
ثانياً: ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى القول بأنّ فلسفة الفقه لا تتناول الفقه غير الاستدلالي، مثل فقه الرسائل العمليّة؛ لأنه نتيجة الفقه وليس الفقه نفسه، وبنى هذا الباحث على ذلك أنّ فلسفة الفقه تساوي فلسفة الاستنباط([5]).
إلا أنّ هذا الفهم لا يبدو صحيحاً؛ لأنّ فلسفة الفقه تتناول كل جهدٍ أوّلي يتصل بالفقه نفسه، سواء كان شرحاً أم استدلالاً أم صياغةً قانونية للقضايا الفقهية؛ فإنّ الصياغات القانونية (الفتاوى) ليست أمراً هامشياً بالنسبة إلى الفقه، بل تلعب دوراً جوهرياً في تكوينه وتطوّره، فبيانها القانوني ومنهجتها وتبويبها وغير ذلك يمكن لفيلسوف الفقه أن يدرسه من خلال تحليل مصادراته وخلفيّاته وغير ذلك.
ولا موجب لحصر الفقه بالاستدلال إلا أن يكون فهمنا لفلسفة الفقه أنها العلم الذي يريد الكشف عن أحد مقدّمات الاجتهاد، فكأنها تكون علماً مقدّمياً للاستدلال فترتبط به، إلا أنّ هذا الكلام وإن كان صحيحاً كما سيأتي، لكنه ليس مطرداً في كلّ وظائف فلسفة الفقه بالضرورة.
ثالثاً: يغلب على دراسات فلسفة العلوم الطبيعية وأمثالها أن تعالج هذا العلم في وضعه الحاضر، ولا تدرس كثيراً مساراته التاريخية وتطوّراته، وإذا أريد لهذا النمط في ممارسة فلسفة العلم أن يطبّق في مجال الفقه الإسلامي عنى ذلك أن نتجاوز السيرورة والصيرورة التاريخية لهذا العلم، وننظر فقط في واقعه الراهن، لنرصد خلفياته ومنهاجياته وخفاياه.
لكنّ الصحيح أنه لا يمكن ممارسة هذه القطيعة مع الفقه؛ لأنّ العلوم الطبيعيّة شهدت هذه القطيعة مع تطوّرها وتقدّم تقنياتها ومعاييرها، مضافاً لاتساع مساحة الوضوح فيها، الأمر الذي جعل الحقب التاريخية الماضية بمثابة أمر منفصل عن واقعها، بحيث صار درسها درساً تاريخياً محضاً، لا معنى لإقحامه في رصد هوية هذا العلم اليوم على ما يقال.
أما في بعض العلوم الإنسانية الأخرى، فمن الصعب توفّر هذه المعطيات، مثل علم التاريخ والفلسفة إلى حدّ معين وعلم الفقه والأصول والأديان عموماً، فإنّ الهوية التاريخية ومنطق الصيرورة هما الحاكمان على معطيات هذه العلوم إلى يومنا هذا.
فلو أخذنا الفقه أنموذجاً لوجدنا كم لمقولاتٍ مثل الإجماع والشهرة والسلف والمتقدّمين وعصر النصّ والسيرة المتشرعية وعمل أهل المدينة ونحو ذلك.. كم لها من دور متواصل في صياغة وعي الفقه المعاصر بقضايا الشريعة، فهناك حلقة وصل ما تزال قائمة باستحكام بالتراث الفقهي والروائي، ونحن وإن أمكننا رصد حقبةٍ ما كالفترة المعاصرة، إلا أنه لا يمكننا أن نحذف على الإطلاق من موضوع علم فلسفة الفقه كلّ مرحلة أخرى، فالفقه ـ من جهةٍ ما ـ علمٌ تاريخي بامتياز، كيف والنصّ الديني الذي يدرسه الفقيه هو كيانٌ تاريخي بامتياز.
وعليه، فموضوع فلسفة الفقه هو الفقه بوصفه فهوماً بشرية ولو مختلفة فيما بينها ـ أعم من الاستدلالية وغيرها ـ في مساره المتصل منذ نزول الوحي وإلى يومنا هذا.
3 ـ ضرورة فلسفة الفقه، أو خدمات فلسفة الفقه للفقه نفسه
يذهب الفريق المناصر لتكوين فلسفة الفقه إلى اعتباره علماً ضرورياً تحتاج إليه المحافل العلمية والمؤسّسة الدينية، بل بلغ به بعضٌ حدّ كونه شرطاً من شروط الاجتهاد، فكما أنّ بعض العلوم تقع في مقدّمات الاجتهاد كالمنطق والأصول والنحو والبيان والتاريخ والحديث والرجال وغير ذلك، من الضروري إضافة علم جديد يشكّل شرطاً إضافياً، وهو علم فلسفة الفقه، فكأنّ هناك حلقةً مفقودة في سلسلة مقدّمات الاجتهاد جاء علم فلسفة الفقه ليسدّها.
من هنا، فأهميّة فلسفة الفقه أنها تلعب نفس دور مقدّمات الاجتهاد، فهذه المقدّمات تشكّل ضماناً نسبياً لعدم وقوع الفقيه في الخطأ أثناء ممارسة العملية الاجتهادية، فكلّما ازدادت معرفة الفقيه باللغة كان فهمه للنصوص أقرب ـ نظرياً ـ إلى الصحّة والصواب، وهكذا.. وهذا ما يقوم به علم فلسفة الفقه أيضاً، لكن كيف؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال يستدعي أن نعرف أنّ العملية الاجتهادية، كأيّ عملية فكريّة بشريّة تصدر من شخص غير معصوم، محكومة لخلفيّات وبُنيات تحتية وتحيّزات ذاتيّة غير ملاحظة بالوجدان الشعوري، وإنما تسري في النفس بطريقة سيّالة خفيّة قد لا ينتبه إليها الإنسان نفسه، وهذه الخلفيّات والذهنيات والمصادرات والسياقات والمناخات الحافّة بعملية الفهم، قد تكون أحياناً وليدة نظريّات فكرية جاءت للباحث من اجتهادات أخرى، وهو لا يشعر كيف تركت تلك تأثيرها عليه، وقد تكون ناتجةً عن سياق تربوي جمعي أفرزته الأوضاع الاجتماعية والسياسية والطبقية المحيطة بالباحث كذلك.
ولا تبدو للباحث ـ للوهلة الأولى ـ أشياء من هذا النوع، لكنّ فيلسوف العلم يحاول الكشف عنها واستجلاءها والقيام بتجسير ما بين العلم وبينها، وهنا إذا تمّ تسليط الضوء عليها ودُرست بشكلٍ واعٍ، فإما أن تتعمّق وتتضح صحّتها أكثر فأكثر، فيزداد وعينا واقتناعنا بالنتيجة التي كنّا توصّلنا إليها من قبل، وإما ينكشف أنّها لم تكن قائمةً على أيّ مستند مدروس، وإنما نفذت إلى لاوعينا بطريقة خفيّة، وهذا ما يستدعي بعد ذلك تحييدها، وقد يؤدّي تحييدُها إلى زعزعة استقرار غير رؤية من الرؤى الموجودة في العلم نفسه؛ نظراً للتواشج الوثيق بين الاثنين.
وسأحاول هنا ـ لاستجلاء الصورة ـ أن أطبّق هذا المفهوم على بعض الأمثلة المتصلة بعمل الفقيه:
المثال الأوّل: عندما ننظر في فقه السيد الخوئي، نجد فقهاً لا يعتقد بالدولة ومشروعها أو ببناء نظام سياسي عام، بينما نجد فقه السيد الخميني على العكس من ذلك تماماً.
لنأتِ الآن إلى مسألة فقهيّة، وننظر كيف واجهها هذان الفقيهان، ألا وهي مسألة الخمس في أرباح المكاسب، فعندما واجه السيد الخوئي إشكاليّة عدم وجود الخمس ما قبل عصر الصادقَين عليهما السلام، أجاب بأنّ الخمس ضريبة شخصيّة وملك شخصي للإمام وأقربائه، فلم يكن مناسباً أن يجبيها من الناس على خلاف الزكاة، لقد انساق السيد الخوئي في تحليله لتوليد نظرية تفسيرية لظاهرة تاريخية تشريعية من مناخ السياق العام لذهنيته، فيما نجد السيد الخميني يذهب في تفسيره الخمس عموماً إلى أنه ضريبة دولة لسدّ قسط من حاجاتها وميزانيتها، ناسفاً التفسير الشخصي، وأنّ الملكية ملك المنصب لا الشخص.
لو تأمل شخصٌ من بعيد في هذين الفهمين، ربما يمكنه أن يقول بأنّ الذهنية السياسية وعدمها ساقت كلّ فقيه ليرى زاويةً في المشهد، فلم يجد السيد الخوئي غضاضة في جعل عشرين بالمائة من فائض أموال المسلمين لشخصٍ وأسرته، بينما العقليّة السياسيّة والإدارية للسيد الخميني رأت في هذا الرقم مؤشراً على وجود شيء يتصل بإدارة المجتمع عامّة.
المثال الثاني: كان الفقه الإمامي سابقاً متشدّداً في قضية الثابت والمتغيّر، ويتمسّك بالإطلاقات الزمكانية للنصوص، وقلّما كنّا نجد عند الفقيه الإمامي حديثاً عن حكم صدر لخاصية زمانية (أحكام ولائية أو تاريخية)، لكن لنرصد الفقه في نصف القرن الأخير، ولنتطلّع إلى حجم تنامي الفهوم التاريخية عند الفقهاء وكيف صاروا يفسّرون الكثير من النصوص بأنها ذات طابع تاريخي.
وكمثال على ذلك قضايا رؤية الهلال، والحث على التناسل، وأصناف الزكاة وأنصبتها، والسبق والرماية، والاحتكار، وصنع التماثيل، والنهي عن لبس السواد، ومقادير الديات، وزكاة النقدين، ومسألة الرقّ وأنّه من المعاملة بالمثل، وخمس أرباح المكاسب و.. وظهرت فكرة الحكم الولائي عن المعصوم مع السيد الصدر وغيره، أو ما سمّاه الشيخ المنتظري بالأحكام الموسميّة، وما يسمّيه الشيخ شمس الدين بالأحكام التدبيرية، وغير ذلك مما فصّلناه في محلّه([6]).
إنّ المطالع للفقه من الخارج يجد هذا التغيّر، وقد يستطيع التنبؤ بأنّ خوض الفقيه الشيعي حالة المتغيّرات السياسية والاجتماعية في القرن العشرين بعد عزلة طويلة، ترك أثراً على طبيعة فهمه للنصوص، فصار يرى فيها ما لم يكن يره من قبل، وصار يعي بوجدانه العفوي الناتج عن الخبرة الحياتية أنّ فترة 300 سنة تقريباً لا يمكن أن لا تمرّ فيها متغيّرات تستدعي أحكاماً مرحلية، أو صار يعي أكثر فأكثر طبيعة الصيرورة في الحياة السياسية والاجتماعية.
إنّ هذا الوعي جعله يطالع النصوص من زاوية مختلفة ويرصد عناصر فيها تنسجم تلقائياً مع هذا الوعي الجديد.
ووفقاً لما تقدّم، يمكننا رصد ضرورة فلسفة الفقه وأهمية هذا العلم من خلال النقاط التالية:
أولاً: الكشف عن المنطلقات والمؤثرات الخفيّة في العملية الاجتهادية وتحليلها ورصدها ودراسة مدى صحّتها وخطئها، وهذا ما يؤثر على تقوية أسس الاجتهاد تارةً أو على الإطاحة ببعض ما كان يتوهّم أساساً صحيحاً أخرى. وهذه النتيجة لها دورها المعياري أيضاً؛ لأنها تفسح المجال لممارسة عملية نقديّة للفقه من الخارج.
ثانياً: ترصد فلسفة الفقه ـ في سياق الدراسة الخارجية التي تمارسها ـ مديات نجاح الفقه في نطاق نشاطه؛ فهذا العلم يدلّنا على أهداف الفقه وغاياته، فعندما نقول بأنّ للأحكام مصالحها الواقعية أو نتحدّث عن أنّ التطبيق الفقهي سوف يفضي بطبعه إلى تأثيرات إيجابية على الحياة الإنسانية، فإنّ فيلسوف الفقه يمكنه أن يمارس هنا رصداً ميدانياً لواقع الفقه في الحياة ويحلّل مديات صدق هذه الدعوى بدرجة تطبيق الشريعة هنا أو هناك.
فقد يلاحظ من نظرته الخارجية هذه أنّ التطبيق الفقهي أدّى إلى تراجع القيم فيما كان المفترض تقدّمها، أو أدّى إلى مشاكل هنا أو هناك، أو أدّى إلى منجزات مهمّة.
إنّ هذه النظرة المتحرّرة من سياقات الأدلجة تعطي الفقه مجال الاختبار، فعلم الفقه يمكن اختباره بدرجةٍ ما من زاوية التطبيق، وهذا الاختبار يمكن أن يعطي صورةً واقعية عن هذا الفقه، وهذه الصورة قد تساعد بدورها على إعادة النظر في العمليّة الاجتهادية من منطلق وعي جديد للظواهر، كأن تعطيني الصورة الواقعية هذه فهماً لحيثية التناقض الموجودة في اجتهادات الفقيه،
مثلاً عندما يفتي الفقيه بحرمة الفائدة البنكية مع البنك الذي يملكه مسلمون، ويجيز ذلك مع غير المسلم انطلاقاً من موقف فقهي، إنّ هذه النتيجة قد تكون منسجمةً مع الأدلّة الاجتهادية لكنها عندما تُطبّق، ثم ترصد نتائج تطبيقها، فقد تعطي فيلسوف الفقه صورةً مختلفة، حيث سيجد أنّ هذه الفتوى أدّت إلى نقض أغراض فقهيّة وعكست مردودات سلبية، حيث أقدَم أصحاب الأموال المسلمين ـ مثلاً ـ على إيداع أموالهم في البنوك غير المسلمة انسياقاً مع مصالحهم حيث لا يرونها مخالفةً للشرع، وهو ما أدّى إلى تراجع البنوك المسلمة لصالح بنوك غير المسلمين، الأمر الذي عندما يكتشفه فيلسوف الفقه ـ
وهذا مجرّد مثال بسيط ـ قد يساعد فيه الفقيه على إعادة النظر في فتواه، وقد يفضي ذلك إلى إصدار فتوى جديدة ولو بالعنوان الثانوي أو تقييد الفتوى الأولى أو تجديد النظر في الفتوى السابقة من حيث الفهم التاريخي لأدلّتها.
وهكذا الحال في الأمثلة الأخرى، كالتخريجات الفقهية للبنوك المسلمة ومسألة تبعية الأحكام للعناوين وما يتولّد عنها من فقه الحيل وتأثيراته على إعطاء الشريعة طابعاً صورياً لا غرضياً مقصديّاً.
إنّ فيلسوف الفقه يمكنه ـ بمطالعته الفقهَ من الخارج ـ أن يرصد جدوائية الأحكام وآثارها السلبية والإيجابية بما يساعد العملية الفقهيّة نفسها، ويكوّن وعياً عقلانيّاً ميدانيّاً بها.
ثالثاً: إنّ النظرة الخارجيّة للفقه تساعد على رصد شبكة علاقاته بالعلوم الأخرى والتأثيرات المتبادلة بينه وبين هذه العلوم، حيث سيزوّدنا فيلسوف الفقه بنظرة واعية للعلوم التي تتأثر بالفقه، وبتلك التي تؤثر فيه عن قرب أو عن بُعد، لاسيما في ظلّ التطوّر العلمي الكبير في الطبيعيّات والإنسانيات.
وكما رصد العلماء من قبل تأثير علم الأصول والمنطق واللغة على الفقه، صار يمكن اليوم اكتشاف تأثيرات أوسع نطاقاً لعلومٍ أخرى على الفقه بما يبدو أنه لا علاقة بينها وبين الفقه نفسه.
وهذه العملية كلّها تساعد على كشف مبادئ علم الفقه بطريقة متجدّدة على الدوام، وتعمّق فهمنا لطبيعة المنهج الفقهي.
4ـ فلسفة الفقه، إطلالة موجزة على النشأة والتاريخ
لا تعرف الأوساط العلميّة قبل ربع قرن تقريباً هذه التسمية الجديدة لعلمٍ مقترح، فلم نجد في كتب العلماء في مجال الشرعيّات والفلسفات تسميةً من هذا النوع.
إلا أنّ واقع النشاط الفلسفي هذا يمكن افتراض وجوده تاريخياً بصورة متقطّعة، وأكبر مثال يمكنني رصده هنا هو التجربة الإخبارية، فمن يطالع تلك التجربة يمكنه أن يشاهد فيها ممارسة الإخباريين في نقدهم على الأصوليين وعياً فلسفياً بهذا المعنى، فقد اعتبر الإخباريون أنّ نظريات الإجماع ومشروع البحث في أصول الفقه والدراية والتقسيم الرباعي للحديث و.. من تأثيرات المناخ السنّي على علماء الشيعة، لاسيما منهم العلامة الحلّي (725هـ)، لقد درسوا التجربة من الخارج ورأوها إفرازاً لتأثيرات الأكثرية في الأقلّية واستنساخاً لتجربة بعيدة عن السياق المعرفي للاجتهاد الإمامي، مما سمح لهم بتخطئة الأصوليين فيما فعلوه.
وتعدّ جهود الأمين الاسترآبادي مميّزةً في ممارسة نقد خارجي وداخلي معاً على التجربة الأصوليّة.
وإذا دخلنا مجال القرن العشرين، فنحن نجد نماذج وافرة من الاشتغال بذهنية فيلسوف الفقه من قبل فقهاء أو باحثين، وهذه الممارسات ظلّت جزءاً من البحث الفقهي تارةً، وسياقاً مفاهيمياً عاماً يدرس الفقه من زاوية نقدية أو تحليلية أخرى، ولم تسمح هذه التجارب المتراكمة بولادة علم مستقل تحت هذا الاسم.
ومن أشهر المساهمات في هذه المجال ما صدر عن شخصيّتين كبيرتين في المجال الفكري الديني، وهما: الشيخ مرتضى مطهري والسيد محمد باقر الصدر:
أما مطهري، فقد ميّز بصراحة بين الفقيه الذي يعيش في غرفته وذاك الذي يعيش في واقع الحياة ومتغيّراتها، معتبراً أنّ الرؤية الكونية والمناخ المحيط يلعب دوراً في وعي الفقيه. وقد مثّل المطهري لذلك بالفقيه الذي يعيش في مكّة حيث المياه القليلة آنذاك، وذاك الذي يعيش في طهران حيث وفرة المياه.
إنّ مطهري يميّز بين هذين الفقيهين، معتبراً أنّ هذا المناخ المحيط بهما سوف يؤثر على فهمهما لنصوص الطهارة والنجاسة، بل قد تحدّث مطهري عن فقه عربي وعجمي وقروي ومدني وغير ذلك([7]).
وأما الصدر، فقد تحدّث بصراحة كبيرة عن العامل الذاتي في الاجتهاد، وأنّ هذا العامل قد يؤثر على الفقيه فيجرّه إلى مكان غير صحيح، بل يرى الصدر أنّ فقه النظرية الذي اقترحه يحتاج إلى قدر من الذاتية ـ وهي الذاتية الاختيارية الاستنسابية ـ نظراً لخصوصيات يحتاجها عمله أشار إليها الصدر هناك([8]).
إنّ هذين النصّين وأمثالهما مؤشران بالغان في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين على انعطافة نحو ذهنية فلسفة الفقه، لكن مع ذلك لم تظهر هذه التسمية إلا في تسعينيات القرن العشرين، رغم وجود بذور الذهنية قبل ذلك.
وما أعتقد أنّه سبب ظهور التسمية ودخول هذا العلم حيّز الجدل، هو أطروحة القبض والبسط (نظرية تكامل المعرفة الدينية) التي أطلقها الدكتور عبدالكريم سروش في نهايات الثمانينيات من القرن الماضي؛ لأنّ تلك الأطروحة تمثل السياق المعرفي لولادة الفلسفات المضافة.
ورغم تأثير أطروحة سروش، إلا أنّ أهم المنظّرين ـ سلبياً أو إيجابياً ـ تمثل في محمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان، وعلي عابدي شاهرودي، وصادق لاريجاني، وناصر كاتوزيان، ومصطفى محقق داماد، ومهدي مهريزي وغيرهم، إلى جانب صفّ آخر أفاض في دراسة الموضوع، مثل: أحمد مبلّغي، وعبدالحسين خسروبناه، وهاشم الهاشمي، ومحمد مصطفوي، ورسول نادري، وعلي أكبر رشاد، ومحسن الموسوي الجرجاني، ومهدي الهادوي الطهراني، وأبو القاسم علي دوست، وجابر توحيدي أقدم، وعبد الرحيم سليماني بهبهاني، وجعفر السبحاني، وأحمد بهشتي و..
إنّ ولادة هذا المصطلح والمقترح لتشكيل علم يعود أقدم نصّ فيه ـ كما يرى بعض الباحثين([9]) ـ للشيخ محمد مجتهد شبستري، في حوار أجرته معه مجلّة نقد ونظر الفارسية في أكتوبر عام 1994([10])، وقد قدّم بعدها الشيخ صادق لاريجاني دعوةً صريحة لتدوين فلسفة أصول الفقه أيضاً.
نعم، تعبير فلسفة الفقه استخدمه أحد العلماء المغاربة في أحد النصوص العابرة، وهو محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي في كتابه «الفكر السامي في تأريخ الفقه الإسلامي». حيث يعدّ ـ حسب رأي البعض([11]) ـ أوّل من استخدم هذا التعبير عن طريق العرض.
وقد وجدت استخدام هذا التعبير مع الدكتور محمد عبدالمنعم القيعي في مقال له تحت هذا العنوان في مجلّة منبر الإسلام لشهر صفر من عام 1404هـ.
وبعد ثوران الجدل في التسعينيات حول هذا العلم في الأوساط الإيرانية، قامت مجلّة الفكر الإسلامي التي تصدر عن مجمع الفكر الإسلامي في قم، بترجمة مقال لمهدي مهريزي حول فلسفة الفقه، حمل عنوان: «إطلالة على فلسفة الفقه»، وذلك في عددها المزدوج 18 ـ 19، عام 1997م، لكنّ الانتقال الأساسي للمشهد كان عبر ما قام به الشيخ الدكتور عبدالجبار الرفاعي في عامي 1999 ـ 2000م، بما يمكن عدّه أوسع ترجمة للمشهد الفكري حول الموضوع بشكل موسّع إلى اللغة العربية، وذلك في عددين منفصلين في مجلّته «قضايا إسلامية معاصرة»، وهما العدد السابع والعدد الثالث عشر، وكان أصدر عام 1998م، الطبعة الأولى من الكتاب الخامس من سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، تحت عنوان (فلسفة الفقه)، للشيخ مهدي مهريزي، وترجمه خالد توفيق.
وبعد ذلك، تتالت المقالات والدراسات والمنتديات والملتقيات والرسائل الجامعية والحوزوية حول الموضوع، إلا أنه في العقد الأخير أي منذ حدود عام 2004م تقريباً شهدنا تراجعاً ملحوظاً في دراسة هذا الموضوع وهذا العلم، وبهذا يمكن اعتبار العقد الفاصل بين 1993 ـ 2003م هو العقد الذهبي لهذا العلم، قبل بدايات تراجعه.
لكنّ تراجعه لا يعني تراجع موضوعاته، بل ظلّت أبحاثه التي سنشير إليها لاحقاً قائمة تكتب فيها المساهمات الفكرية ويدور جدل حولها هنا وهناك، لكن بلورة علم مستقل له روّاده ومهتمّوه وقضاياه وهويته الخاصّة لم يحظ بكثير اهتمام بعد ذلك.
5 ـ امتيازات فلسفة الفقه، معالم الفصل بينها وبين العلوم الدينيّة
إنّ دراسة خصائص وامتيازات فلسفة الفقه تظلّ بالنسبة إلينا مسألة ضرورية لسببٍ بسيط، وهوأنّ علم فلسفة الفقه الحديث الولادة يمكن أن يتداخل مع علوم دينية أخرى، بحيث يبدو وكأنه علمٌ تجميعي لا تعدو مسائله لو حلّلناها عن أن ترجع إلى علوم دينية أخرى قائمة، والعلوم التي يتصوّر تداخلها مع هذا العلم هي علم أصول الفقه وعلم الكلام وعلم تاريخ العلوم، بل حتى علم الفقه نفسه.
من هنا، يمكن التمييز بين علم فلسفة الفقه وهذه العلوم بما يلي:
أولاً: إنّ الغرض من فلسفة الفقه هو تفسير ظاهرة الاستنباط وتحليلها لا الاستنباط نفسه([12])، فالفقيه يسعى في أبحاثه الفقهيّة للاستنباط والخروج بالحكم الشرعي، والأصولي يهدف إلى التوصّل إلى القواعد التي تعمل على استنباط الحكم الشرعي، أما فيلسوف الفقه فهو لا يهدف الاستنباط مباشرةً ولا قوننة عملية الاستنباط، وإنما يسعى لدراسة جهود الفقيه والأصولي في إنجاز مهمّة الاستنباط نفسها وفهمها فهماً عقلانياً متشابكاً.
وهكذا الحال في علم الكلام، فالمتكلّم غرضه الكشف عن الاعتقادات الدينية التي قد تترك أثراً قوياً في الفقه وأصوله، كبحثه في النبوة والإمامة والعصمة المتصلة بحجيّة القرآن والسنّة، لكنّه لا يحاول دراسة الظاهرة الاجتهادية نفسها ومكوّناتها، أو تحليل علم الفقه وهويّته ومساحته وغير ذلك.
أما علم تاريخ الفقه والأصول، فهو من أكثر العلوم شبهاً بفلسفة علم الفقه؛ لأنّ غرض المؤرّخ هو دراسة العلم من الخارج وتحليل تطوّراته ومساراته، ولا تقف مهمّة المؤرّخ عند سرد الأحداث، وإنما يقوم بعملية تحليل في أحيان كثيرة، فما الفرق بينهما إذاً؟ لاسيما وأنّ المؤرّخ لا يقف نشاطه عند حدود الأزمنة السابقة، بل يتعدّاها إلى زمانه الحاضر أيضاً.
أعتقد أنّ فيلسوف الفقه مضطرّ ـ في جزءٍ ليس بالقليل من عمله ـ إلى ممارسة نشاط مؤرّخ العلم، لكنّ مهمّته لا تنحصر بالعمل التاريخي، وذلك أنه إذا بُني على أنّ فلسفة الفقه علم توصيفي محض اقترب كثيراً من البحث التاريخي، أما إذا اعتُبر علماً معيارياً بحيث يكون هناك ضمن أنشطته أحكام تتعلّق بالعملية الاجتهادية سلباً أو إيجاباً، فإنه سوف يبتعد في غرضه عن المؤرّخ؛ إذ ليس من غرض المؤرّخ إصدار مثل هذه الأحكام ولا يعنيه أمرها.
بل بصرف النظر عن ذلك، نجد أنّ فلسفة الفقه تتناول موضوعات قد يبدو البحث التاريخي مجرّد مساعد فيها، مثل البحث عن شبكة العلاقة بين علم الفقه ومجموعة العلوم الدينية والإنسانية، أو مثل البحث عن لغة الفقه وتحليلها، أو دراسة منشأ الإلزام بالأحكام الفقهيّة، أو البحث في نطاق الفقه ودائرته، فإنّ بعض زوايا هذا الموضوع الأخير فلسفي وليس داخلياً نصياً، وكذلك البحث في غايات الفقه وأغراضه.
إنّ مثل هذه الموضوعات لا يمكن اعتبارها تاريخيةً وإن استفيد من البحث التاريخي فيها.
ثانياً: إنّ ذهنية البحث ومنهاجيّاته في فلسفة الفقه هي ذهنية خارجية غير مقيّدة بالضرورة بالأصول الدينية، على خلاف نشاط الأصولي والمتكلّم والفقيه.
ففيلسوف الفقه عندما يدرس ظاهرة دائرة الفقه ومساحاته فهو يرصد واقع الفقه، وقد يرى أنه ـ مثلاً ـ لا يغطّي بعض الوقائع الحادثة، وأنّ الفقهاء هم الذين أضافوا على النصوص حمولات لتؤمّن تغطية الواقعة النازلة، وإلا فليس في نصوص الفقه الأولى كلامٌ عن ظواهر التلقيح الصناعي والنموّ السكاني وقضايا البيئة وقوانين الملاحة البرية والبحرية والجوية وشكل السلطة السياسية وغير ذلك.
إنّه يرصد الفقه رصداً استقرائياً، بينما قد ينطلق المتكلّم أو الأصولي أو الفقيه هنا من نصوص دينية يلتزم بها عقدياً تبيّن أنّ الشريعة شاملة لكل وقائع الحياة وأن ما من شيء إلا وهو موجود في الكتاب والسنّة..
إن الفقيه والأصولي هنا ينطلقان من نصوص عليا ذات طابع أيديولوجي، أمّا فيلسوف الفقه فمنهاجه في البحث وطريقته في المعالجة لا تكون محكومةً لمثل هذه الأطر الفكرية والعقدية، أو الأصول الموضوعة بالضرورة.
انطلاقاً من هذه الامتيازات، سيظهر لنا كيف أنّ بعض البحوث التي عُدّت من فلسفة الفقه لا علاقة لها بها، بل هي من شؤون علم الكلام أو الأصول أو غيرهما من العلوم.
ثالثاً: إنّ فلسفة الفقه تبحث ـ فيما تبحث ـ في غايات الفقه وأغراضه وأهدافه، فكيف نميّز بينها وبين علم مقاصد الشريعة؟
أدخل بعضهم علم مقاصد الشريعة في فلسفة الفقه، فيما فصلهما بعض آخر([13])، وسبب الإدخال أنّ فلسفة الفقه تبحث في المحور عينه الذي يبحثه المقاصديّون، كما تبحث في موضوعات أخر، مما يعني أنّ علم المقاصد ينبغي إدراجه اليوم في فلسفة الفقه.
لكنّ الصحيح فيما يبدو لي أنّ المقاصد ـ لو سمّي علماً ـ لا يعتبر جزءاً من البحث الفلسفي في الفقه بالمعنى الذي يعالجه فيلسوف الفقه؛ فالمقاصدي أصوليٌّ مجتهد يهدف إلى اكتشاف أهداف الشريعة وغاياتها ومقاصدها بالاعتماد على الأدلّة والحجج الكاشفة من وجهة نظره عن هذه الأهداف، ليحوّل نظريّته هذه إلى وسيلة للاجتهاد في التفاصيل أو في فقه النوازل، ليفهم الشريعة داخلياً بطريقة أصحّ من وجهة نظره.
أما فيلسوف الفقه، فهو لا يريد استنباط الأحكام الشرعية برصده أهداف الفقه، بل هو يرصد الفقه ويحلّل قدرته من حيث مكوّناته ومنطلقاته على إدارة الحياة بشكل تام في تمام مجالاتها ومساحاتها..
وبعبارة أخرى: المقاصدي يدرس مقاصد الشريعة وفقاً لعمليّة اجتهاد في الشريعة نفسها، أما فيلسوف الفقه فيدرس أهداف الفقه وعلاقتها بالفقه نفسه أو يدرس الفقه بوصفه جهوداً بشرية ويرصد الأهداف التي ينبغي توخّيها من ورائه، فجهة البحث بينهما مختلفة كاختلاف الغرض، بل كاختلاف المادّة والأصول. ففيلسوف الفقه يدرس أهداف الفقه بوصفه علماً تاريخيّاً إنسانيّاً، بينما المقاصدي يدرس أهداف الفقه بوصفه باحثاً عن عقيدة الشريعة الإلهيّة نفسها في أهدافها وتحديدها بذاتها لأغراضها العليا.
إنّ فلسفة الفقه علمٌ يستعين بعلوم كثيرة قد تكون عُدداً له، مثل علم: اُصول الفقه، الفقه، التاريخ، فلسفة الدين، علم اجتماع الدين والفقه، علم نفس الدين، والتفسير، الحديث، علم المقاصد، علم الكلام، علم اللسانيات والهرمنوطيقا، فلسفة المعرفة، لكنه يختلف عنها تارةً من حيث الموضوع، وأخرى من حيث المنهج، وثالثة من حيث الأهداف والأغراض وجهات المعالجة والرصد.
وأشير أخيراً إلى أنّ وجهة النظر التي ترى أنّ علم أصول الفقه كلّه هو جزء من علم فلسفة الفقه، ومن ثمّ فالتراث الإسلامي قد فتح باب البحث في فلسفة الفقه منذ قديم الأيّام، غايته لم يستوعب تمام الموضوعات، وكلّ ما في الأمر أنّ العلماء اليوم التفتوا إلى بعض الموضوعات الجديدة لأصول الفقه لا أكثر.. إنّ وجهة النظر هذه يبدو لي أنّها انطلقت من طبيعة خدمة فلسفة الفقه للاجتهاد، فظنّت أنّ كلّ علم يخدم الاجتهاد الشرعي فهو داخل في أصول الفقه، مع أنّ هذا الأمر غير صحيح، فدراسة علوم الرجال والحديث والتاريخ وغيرها الكثير تساهم أيضاً في خدمة علم الفقه، لكنّ هذه العلوم لا تندرج في أصول الفقه كما هو واضح؛ فليس عنوان خدمة الفقه هو العنوان الوحيد المكوّن لهويّة أصول الفقه.
6 ـ مسائل فلسفة الفقه
ونتيجةً للارتباك الحاصل في الصورة المحمولة عن هذا العلم، حصل ارتباك في تعداد مسائله وموضوعاته، وسوف نذكر أبرز ما جُعل من موضوعات هذا العلم كما يلي:
1 ـ أهداف الفقه وغاياته، وهذا الموضوع يمكن إدراجه في قضايا هذا العلم بالطريقة التي ميّزنا من خلالها فيما تقدّم بين المقاصد وفلسفة الفقه.
2 ـ هويّة علم الفقه، بمعنى دراسة هذا العلم، هل هو علم دنيوي أو أخروي أو هما معاً؟ وهل هو علم نصّي أو عقلي؟ وكذلك دراسة كلّ ما يتصل بهذا العلم من مبادئ تصوّرية كتعريفه وموضوعه وغاياته ومنهجه وغير ذلك، فإنّ هذه الأبحاث كان يضعها العلماء في مقدّمات العلوم، وهي تصلح اليوم لأن تكون في فلسفة كلّ علم، فإنّ وضعها في المقدّمات يشي بعدم كونها من مسائل ذلك العلم، وهو الصحيح، فلابدّ أن يكون لها موضع آخر في علم آخر، وليس إلا فلسفة ذلك العلم.
3 ـ مجال الفقه وحدوده، وهنا يبحث عن المديات التي يستوعبها الفقه من الفردية إلى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومديات قدرته على إدارة الحياة، هذا على مستوى الحدود الموضوعيّة، كذلك يمكن البحث على مستوى الحدود الزمانيّة من حيث قدرة الفقه على ممارسة شمول زماني لأحكامه، ودراسة هذا الموضوع دراسةً فلسفية بما يُعرف بإمكان التأبيد في القانون أو استحالته.
وفي سياق التعرّف على هويّة الفقه وحدوده، يأتي موضوع هام من موضوعات فلسفة الفقه، وهو تحديد أنّ الفقه يقدّم أحكاماً وتوجيهات أو نُظماً وشبكات قانونيّة شاملة، فهذا ما يهمّ فيلسوف الفقه معرفته.
4 ـ تأثير العوامل الخارجية الخفيّة على الفقه وعلى جهود الفقيه على المستوى الفكري والاجتماعي والسياسي والطبقي والعاطفي، ودراسة المؤثرات الذاتية التي تحرّك عجلة الاجتهاد وتوجّهها من حيث قد لا يشعر الفقيه بها.
ومن هذا النوع دراسة تأثير تطوّرات الزمان والمكان على الفقه، كتطوّر المعلوماتية والتقانة والتكنولوجيا والإمكانات الحديثة التي قدّمتها العلوم، وحجم الارتدادات التي أحدثتها في الفقه وردّة فعل الفقه تجاهها، وعناصر التوافق والتعارض الذي حصل بينها وبين الفقه، وكذلك دراسة مناهج التربية والتعليم في المعاهد الدينية ودرجة تأثيرها على نموّ الفقه أو شلله.
ومن هذا النوع أيضاً دراسة العناصر المؤثرة في اختلاف الفقهاء فيما بينهم واتفاقهم على أمرٍ ما، فإنّ تحليل ظواهر الاختلاف والاتفاق وتكوّن الشهرات والإجماعات والعادات والسير والارتكازات، وما يعاكسها أيضاً، يمكن أن يرشدنات بقوّة إلى الكثير من المعلومات عن العناصر الداخليّة والخارجيّة المؤثرة في الاستنتاجات الفقهيّة.
5 ـ مكانة الفقه ورصد شبكة العلاقة المعرفية بينه وبين سائر العلوم الدينية والإنسانية وغيرها، ومديات تأثيرها في الفقه وتأثير الفقه فيها، وتحليل هذه التأثيرات المتبادلة واكتشاف قوانينها ووضع نظمها بطريقة فلسفيّة.
وعلى سبيل المثال البسيط، دور العلوم الحديثة في تحديد المفاهيم والمصاديق (وموضوعات الأحكام) بما يعمّق العمليّة الاجتهادية ويضعها أمام رؤى أعمق وأدقّ.
6 ـ لغة الفقه، ودراسة صلتها بلغة الدين، وهل هي لغة عرفية أو لغة رمزيّة أو لغة أخرى؟ وهل لغة الفقه هي لغة واجبات أو حقوق؟ وهل أنّ قربها وابتعادها عن اللغة الأخلاقيّة صحيح أو غير صحيح؟
7 ـ منشأ الإلزام، وهل هو الولاية، أو العقيدة، أو حقّ الطاعة، أو المصلحة العامّة، أو الحقوق العامّة أو غير ذلك.
8 ـ قوّة الفقه وضعفه، حيث يتمّ رصد عناصر القوّة في الفقه أو ضعفه تارةً من خلال اختباره الميداني على أرض الواقع وعجزه أو نجاحه في تحقيق أغراضه المنشودة، وأخرى من خلال مقارنته بالنظم القانونية الأخرى، الدينية منها والوضعية، فيوضع الفقه في مكانه وسط نظم القانون العالمية.
ومن أبرز أمثلة هذا الموضوع دراسة مسألة التعبّديّة في الفقه ونظام الحجيّة وبراءة الذمّة وتناقضات هذا النظام مع إمكان الإدارة العقلانيّة للمجتمع، فالإدارة العقلانية لا يمكن أن تعرف شيئاً اسمه التعبّد مع الجهل بالملاكات والمصالح، والسير على قانون الحجية والتعذير والتنجير، فكيف يمكن إدارة اقتصاد بهدف صيرورته ناجحاً من خلال السير خلف أحكام لا تُعرف مبرّراتها ولا يفقه أحد أغراضها، وإنّما هي في علم الله؟
هذا الإشكال الذي سجّله بعض المفكّرين المعاصرين في حديثه عن تناقض الإدارة الفقهيّة مع الإدارة العقلانيّة، يمكن لفيلسوف الفقه بحثه من زاوية فلسفيّة وتحليليّة أيضاً، لتحديد الإمكانات الفلسفيّة لنجاح منظومة قانونية من هذا النوع.
هذه بعض أمثلة مسائل علم فلسفة الفقه، نكتفي بهذا المقدار.
لكن في المقابل، طُرحت جملة من الموضوعات بوصفها من قضايا هذا العلم ومسائله، لكننا لا نرى تصنيفها بهذه الطريقة صحيحاً، وسوف نذكر بعض هذه المسائل على سبيل المثال، ونبيّن مبرّرنا لاستبعادها عن فلسفة الفقه، ونحدّد في المقابل طبيعة انتماء هذه المسألة أو تلك إلى أيّ علم من العلوم:
1 ـ نظرية ملاكات الأحكام، وتعريف الملاكات والمصالح الكامنة وراء الحكم، ومديات الوصول إلى هذه الملاكات وطرائق اكتشافها، وتأثير اكتشافها على الفهم الفقهي، ومدى حجيّة معرفتها في الاجتهاد، وإلى جانب ذلك وقبله تحليل أصل نظرية تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات وغير ذلك من القضايا التي قد ترجع في جذورها إلى قضايا التحسين والتقبيح وما يتصل بفلسفة الأخلاق.
إنّ بحث التحسين والتقبيح وإن صُنّف في علم الكلام الإسلامي قديماً، إلا أنّ حقّه اليوم أن يوضع في الدراسات الفلسفية، لاسيما المرتبطة منها بنظريّة الاعتبار وفلسفة الأخلاق، ومن هنا يمكن أن نتصوّر أنّ فلسفة الفقه والقانون تتولّى مع فلسفة الأخلاق دراسة مسألة التحسين والتقبيح الذاتيين والعقليين؛ لأنّ هذا الموضوع أصل تحتي يقوم عليه الفقه والقانون وتفهم في ضوئه التشريعات، وهكذا الحال في أصل قانون تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
إلا أنّ البحث في إمكان اكتشاف الملاك وطرق كشفه ومديات توظيفه في الاجتهاد يرجع بفروعه إلى علم أصول الفقه؛ لأنّ هذه الأمور من وظائف الأصولي الذي يحدّد منهج الاجتهاد الصحيح وقواعد هذا الاجتهاد، ومسألة الملاكات قضية تترك أثرها في تحديد طبيعة المنهج، تماماً كعلم المقاصد الذي نصنّفه نظريةً أصولية لا قضيةً من قضايا فلسفة الفقه.
نعم، يمكن لفيلسوف الفقه أن يرصد المناهج من الخارج، ويقارن بينها ويرى تأثيراتها المختلفة، لكنّ بحث الملاكات بالشكل الذي يطرحه القائلون هنا بحثٌ معياري يحدّد منهج فهم النصّ وطريقة دراسته.
2ـ فقه النظريات والنظم، وهذا البحث يلحقه عين ما قلناه قبل قليل في مسألة الملاكات، فهو بحث يفترض أن يتولاه أصول الفقه ليدرسه ويحدّد مديات صحّته وطرائقه وإشكالياته، وهل يتورّط في مشاكل اجتهادية أو لا؟ فلا فرق بينه وبين فقه المقاصد.
3ـ نظريات العصمة ومديات تأثيرها على الاجتهاد([14])، فمن الواضح أنّ النظريات الاعتقادية في قضايا النبوّة والإمامة وخصائصهما لها تأثير على عمل الفقيه في ممارساته الاجتهادية، لكنّ هذا لا يعني أن تكون هذه المسائل من فلسفة الفقه.
نعم، شرح وتحليل تشابك العلاقة بين علم الكلام والفقه هو مسألة من مسائل فلسفة الفقه، لكنّ نفس تلك النظريات التي تقع طرفاً في العلاقة هي نظريات كلامية يُعالجها علم الكلام، وهناك فرق بين بحث العلاقة بين شيئين وبين البحث في الشيئين ذاتهما.
4 ـ مسألة تاريخية القرآن الكريم أو السنّة الشريفة، حيث عُدّت من قضايا فلسفة الفقه، في حين أنّها مسألة أصولية بامتياز؛ لأنها تدرس مسألة الإطلاقات والعمومات في النصوص ونحو ذلك.
نعم، نظريّة استحالة التأبيد في القانون بوصفها نظريّة فلسفية مخارجة للنص يمكن اعتبارها موضوعاً فلسفياً هنا كما أشرنا من قبل، لكنّ قضايا التاريخية والتدبيرية في النصوص وقواعد الفهم التاريخي من هذا النصّ أو ذاك هي مسائل أصولية ولها تطبيقات فقهيّة.
5 ـ فلسفة الأحكام، ويقصد بها محاولات العلماء إيجاد أو بيان مبرّرات عقلانية للأحكام الشرعية تهدف غالباً للدفاع عن الدين، كما في فلسفة أحكام المرأة أو العبادات أو القوانين الجزائية والجنائية أو غير ذلك.
ووضع هذه في فلسفة الفقه فيه خلط بين موضوعين، فهي فلسفة للأحكام الفقهيّة بمعنى إبداء الجانب العقلاني فيها، لكنّ ذلك غير علم فلسفة الفقه الذي هو قراءة خارجيّة للفقه نفسه بوصفه علماً من العلوم البشرية، إذ هي قراءة للنتائج الفقهيّة من زاوية تقديم إقناعات فيها أو دفاع عقلاني عنها.
وإنما تصير فلسفة الأحكام ذات الصلة بنظريّة الملاكات على علاقة بفلسفة الفقه عندما توضع في سياق رصد قوّة الفقه أو ضعفه كما أشرنا فيما سبق، فإذا أردنا أن نقوّم الفقه أو نقارنه بغيره من خلال رصد قيمة معطياته وقوانينه فسوف يكون الموضوع جزءاً من فلسفة الفقه، أما أخذ كلّ بحث أو مسألة على حدة ودراسة فلسفتها الأحكاميّة أو محاولة تبريرها العقلاني بوصفها حكماً فهذا لا يرتبط برصد علم الفقه نفسه من زاوية فلسفيّة.
6 ـ الدراسات الهرمنوطيقية، حيث قد تقدَّم بوصفها شكلاً آخر لفلسفة الفقه، إذ الهرمنوطيقي يبحث في الخلفيّات المعرفية المؤثرة في فهم النص، وفلسفة الفقه تبحث في الخلفيات التي تقف وراء الفقيه في اجتهاده، فلا يوجد فرقٌ بينهما فتكون الدراسات الهرمنوطيقية من مباحث فلسفة الفقه.
لكنّ الصحيح أنّ فلسفة الفقه تنفتح على الهرمنوطيقا بنسبةٍ ما لا مطلقاً؛ لأنّ الهرمنوطيقي في رصده يلتقي ـ من زاوية ـ مع فيلسوف الفقه في إحدى مسائل فلسفة الفقه، وهي تأثير الخلفيات المعرفية على عمل الفقيه، لكنّ فلسفة الفقه تختلف عن عمل الهرمنوطيقي في سائر المسائل التي تبحث عنها فلسفة الفقه مما عرضناه من قبل، وميل بعض المشتغلين بفلسفة الفقه إلى حصر صورة هذا العلم بأنه يبحث عن الخلفيات المعرفية الكامنة وراء عمل الفقيه كما يلوح من بعض أعمال الشيخ محمد مجتهد شبستري، غير صحيح، مادمنا عثرنا على موضوعات مفيدة أخرى يمكن إدراجها في مسائل هذا العلم.
كما تختلف الهرمنوطيقا عن فلسفة الفقه في أنها لا تختصّ بالفقه، بل تشمل علوماً أخرى تدور حول النصّ أو علوماً أخرى ترتبط بالإنسانيات على الخلاف في فهم الهرمنوطيقا أساساً.
7 ـ مصادر الفقه([15])، وما هي الأصول التي يعتمدها الفقه ويرجع إليها في عملياته الاجتهادية؟
وفي تقديري فهذا هو بحث الحجج والأدلّة في أصول الفقه الإسلامي؛ لأنّ علم الأصول هو الذي يحدّد لي مصادر الاجتهاد وطرائقه، وإلا فهذا يعني إما حذف علم أصول الفقه كلياً ووضع فلسفة الفقه مكانه ويكون الصراع في التسمية، أو حذف فلسفة الفقه ومحاولة إيجاد تغيير في هويّة البحث الأصولي.
8 ـ طرائق التحقيق في الروايات والوثائق التاريخية([16])، وهذا الموضوع لا علاقة له بفلسفة الفقه، بل هو إما من شؤون علم التاريخ تارةً، أو علم أصول الفقه في زاوية حجيّة الحديث أخرى، أو علم الحديث والرجال في زاوية التطبيقات ثالثة، أو علم النسخ والوثائق والمخطوطات رابعة، فتساهل بعض العلماء في الحديث أو تشدّد علماء آخرين ليس مسألة جديدة تبحث في فلسفة الفقه، بل هي قضية لها مجالاتها المعروفة.
9ـ مناهج تفسير النصوص من حيث الجمود على الظواهر أو محاولة إلغاء حرفيات النصوص بمثل قانون الغلبة أو المثال أو غير ذلك، وصولاً إلى طرائق الفهم الصوفي والعرفاني([17]).
وقد صار من الواضح أنّ هذه الأبحاث على مستوى النصوص الدينية تبحث في علم الأصول والتفسير والحديث، وقد تدرس من بعض الزوايا في فلسفة الفقه كما مرّ، فلا نطيل.
إلى غيرها من المسائل التي أدرجها بعضهم في «فلسفة الفقه»، حتى أصبح هذا العلم أوسع العلوم الدينية بهذا الحساب.
ويبدو لي أنّ السبب في مثل هذه الطروحات الموسّعة لمسائل هذا العلم يرجع إلى أنّ الباحثين الجدد يريدون دراسة مجموعة الأبحاث الجديدة التي لاحظوا أن المتكلّم والأصوليّ والمحدّث والمفسّر لم يعالجها بدراسة مبوّبة مركّزة، فلما رأوا هجرانها ـ ولو النسبي ـ من هذه العلوم اقترحوا إدخالها في هذا العلم الجديد لتتم دراستها بروح منفتحة.
لكنّ هذه الطريقة غير صحيحة؛ لأنّ الناظم المنطقي لمسائل العلم ليس هو واقع هذا العلم أو تاريخ تدوينه الخارجي؛ لأنّ هذا المعيار غالباً ما يوجب الالتباس، حيث تدخل مسائل العلوم في بعضها بعضاً، بل المفترض رصد طبيعة المسألة مع موضوع العلم أو منهجه أو غايته لكي تدرج فيه أو تحذف منه، وقد رأينا أنّ كثيراً من هذه المسائل المقترحة تصلح أن تدخل في علم التفسير أو الأصول أو الكلام أو الفلسفة أو الحديث أو التاريخ، فلا حاجة لإقحامها مرةً أخرى في علم فلسفة الفقه، لاسيما وأنّ بعضها أعمّ من الفقه ومساحاته كما لاحظنا.
ومجرّد أن علم الأصول مثلاً لم يتلقّف هذه الموضوعات أو تلقّاها دون المستوى المطلوب، لا يعني ذلك حذفها منه لإدخالها في فلسفة الفقه، بل يعني ضرورة تطوير أصول الفقه نفسه ليستوعبها بذهنيّة منفتحة.
7 ـ فلسفة الفقه ومحاولات النقد والتزييف
من الطبيعي في ظلّ الولادة الحديثة لعلم فلسفة الفقه أن يدور نقاش حول هذا العلم ومدى جدوائيّته، بل ومخاطره وآثاره السلبية، وفي هذا السياق لابدّ لنا من عرض بعض الإشكاليات التي تواجه هذا العلم المقترح([18])؛ لنرى مديات دقّتها وصوابها.
7ـ 1ـ فلسفة الفقه بين الذهنيّة الجديدة والعلم الجديد
إنّ فلسفة الفقه لا ينبغي اعتبارها علماً من العلوم، وإنما هي ذهنيّة خاصّة وعقليّة وإطار فكري خاصّ لتحليل الفقه والتأمّل فيه، ويشهد على ذلك أنّ هذا العلم لا يتعدّى أن تكون مسائله مما لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، وقد رأينا كيف أنّ الكثير من المسائل التي حاول أنصار هذا العلم جعلها منه هي في الحقيقة منفصلة عنه وتنتمي إلى علوم أخرى كالفقه والأصول والكلام والتاريخ و..
نعم، إنّ فلسفة الفقه نمط مختلف من التفكير في الفقه، لكنّ النمط المختلف لا يعني علماً جديداً له أصوله ومنهجه وغاياته ومسائله وأبوابه وفصوله.
وهذه الإشكالية صحيحة وغير صحيحة معاً، بمعنى أنّ صحّتها تكمن في إقرارها بأنّ فلسفة الفقه تعبّر عن ذهنية مختلفة في نظرها إلى الفقه، لكنّها غير صحيحة في سلب صفة العلم عنها، وذلك أنّ العلم لا يشترط فيه كثرة مسائله وقضاياه حتى تبلغ العشرات، بل من الطبيعي لأيّ علم في مراحله الأولى أن يكون عدد مسائله قليلاً قد تراوح العشرة، فهل كان علم أصول الفقه بهذا الحجم؟ وهل كان علم الكلام بهذا الحجم أيضاً؟
إننا وإن رفضنا اندراج العديد من الموضوعات في فلسفة الفقه، لكن ما نراه باقياً يقارب العشرة ملفات في غاية الأهمية، وهوية العلم الجديد تكمن في منهجه المختلف وغاياته وموضوعاته، وهي أمور متوفّرة في علم حديث الولادة، ولو رصدنا العلوم الجديدة الحادثة في الإنسانيات والطبيعيّات لرأينا كيف أنّ بعضها لا يزيد عن حجم فلسفة الفقه شيئاً.
يضاف إلى ذلك، أنّ الدعوة إلى فتح تخصّصات في الفقه نفسه دعوة قائمة اليوم، بحيث نفصل الفقه السياسي عن الاجتماعي عن الاقتصادي عن العائلي عن التربوي عن الجزائي عن الجنائي عن القضائي إلى ما شاء الله، وهذا ما يولّد من الفقه علوماً متعدّدة واختصاصات متنوّعة، فليكن علم فلسفة الفقه شيئاً من هذا.
7ـ 2ـ فلسفة الفقه وقدرة البحث من الخارج على التغيير
ينبغي التعامل بتواضع مع علم فلسفة الفقه، فقد اندفع بعض المتحمّسين له لاعتباره فتحاً في تاريخ العلوم الشرعية، وتصوّروا أنّ على يد هذا العلم سوف تتحقّق المعجزة التي ستغيّر الفقه كلّه، مع أنّه لا يصحّ حمل هذا التوقع من علم يعدّ في جوهره خارجاً عن ذات الفقه؟ إذ من الواضح أنّ منهج الاستنباط لا يمكن تغييره بهذا النوع من الدراسات، فضلاً عن أن تتغيّر معه الفتاوى والنتائج الفقهية، فعملية التغيير تنبع من الداخل ـ الفقهي والأصولي، لا من مناخات مخارجة([19]).
ونحن نوافق على هذه الملاحظة، من حيث الدعوة إلى التواضع وترك الحماس الخيالي الزائد الذي لمسناه من بعض مناصري هذا العلم، لكننا نختلف هنا مع الباحث الكريم صاحب هذه الملاحظة في أنّه اعتبر التغيّرات الأصليّة في الفقه رهينة دائماً لتحوّلات داخل فقهيّة، مع أنّ هذا الكلام غير دقيق من الناحية المعرفية؛ إذ من المنطقي أن تترك التغيّرات الخارجية تأثيرات كبيرة في المنظومة الداخلية، من حيث إنها تكوّن أصولاً تحتية مختلفة تفضي إلى تغيّر المسارات في البناءات الفوقية.
فإذا عالجنا موضوعاً حسّاساً مثل أهداف الفقه وغاياته بمعالجة فكرية فلسفية، وتوصّلنا إلى أنّ غايته أخلاقيّة وليست تنظيمية أو تنموية أو برمجية، ألا يؤثر ذلك على فهمنا للنصوص ورصد حجم توقّعاتنا منها؟ ولو خرج فيلسوف الفقه بنظرية استحالة التأبيد في القانون ألا يخلخل هذا الأمر أساسيّات الاجتهاد الفقهي السائد؟ وإذا تحدّث الفيلسوف عن التمييز بين القانون (الاعتبار) والفلسفة (الواقع) كما فعل العلامة الطباطبائي والدكتور سروش، ألا يفضي ذلك إلى الإطاحة بموضوعات كاملة في أصول الفقه وجملة من أنماط المعالجات الفقهيّة؟
صحيحٌ أنّ فلسفة الفقه علمٌ ثانوي يأتي لاحقاً على ولادة الفقه وتكوّنه، لكنّه من شأنه أن يؤثر على منهج الفهم هنا أو هناك عبر تكوينه الذهنية الجديدة التي سوف يحملها الفقيه معه إلى النصوص. نعم لو كانت فلسفة الفقه علماً توصيفياً فقط لربما صحّ ما يقوله المستشكل هنا.
7ـ 3ـ فلسفة الفقه وعبثية البحث عن ضبط الخلفيات المعرفيّة
من أهمّ موضوعات فلسفة الفقه دراسة الخلفيّات المعرفية الكامنة والمستترة عند المجتهد في جهوده الاجتهادية، بل عدّ بعضهم هذا الملفّ هو الملفّ الوحيد الذي يتولاه هذا العلم، وهنا نقول: أليست دراسة الخلفيات المعرفيّة والعناصر الذاتية الكامنة خلف عملية الاجتهاد بهدف تقنينها جهداً عبثياً؛ لأنها أمور لا تقبل الضبط والتقنين؟
ثم هل هناك معايير علمية لضبط هذه القضايا والتأكّد منها؟ فنحن نلاحظ أننا نمارس هنا الاستنساب والمقاربة دون أن نقيم دليلاً يخضع لقواعد الاستدلال، فإذا قلت إنّ خوض الفقيه مؤخراً غمار المتغيّر السياسي دفعه لرؤية التاريخية والولائية في بعض النصوص الدينيّة، فإنّ قولنا هذا محض احتمال، ومن الصعب البرهنة عليه، ثم حتى لو برهنّا عليه فهل يمكن أن نضع للفقيه ضوابط تبعده عن الذاتية وكلّ أشكال الخلفيات القبلية والتحيّزات اللاشعوريّة؟ وأساساً ماذا نريد من وراء رصد خلفيّات الفقيه؟
هذه الملاحظة تواجه مشاكل:
أولاً: لا يمكن نزع أحد عن كلّ أشكال الخلفيات المعرفية، وليست الدعوى سلب هذه الخلفيات عنه، بقدر ما هي محاولة اكتشاف ولو بعضها؛ لتحليله من زاوية صحّته بوصفه أصلاً موضوعاً وعدم صحّته، وهذا المقدار كافٍ في تحسين جهد فيلسوف الفقه.
ثانياً: ليست دراسة هذه الأمور من نوع الدراسات الرياضية حتى تخرج بنتائج حاسمة، وإنما يكفي فيها حشد الشواهد والقرائن المنبّهة التي تدفع الإنسان للاطمئنان بالنتيجة.
بل في تقديري قد لا نحتاج في بعض الأحيان إلى الجزم بالنتائج بقدر ما نحتاج إلى لفت النظر إلى أنّ الفقيه من الممكن جداً أن يكون قد وقع في استنتاجاته تحت تأثير عناصر اجتماعية معيّنة، الأمر الذي يسمح بإصدار توجيهات لتنبيه الفقيه من هذا المنزلق، كي تكون نتائجه أكثر موضوعيةً.
ثالثاً: إنّ ما نريده من وراء رصد خلفيّات النشاط الفقهي، هو فهم الظاهرة فهماً أعمق ينفتح على تعدّد في الاحتمالات، مثلاً يتصوّر الكثيرون في الأوساط العلمية الدينية المدرسية أنّ الأفكار تأتي دائماً من أفكار. إنّ جهود فيلسوف العلم، ومنه فيلسوف الفقه، تُحدث قناعةً تدريجية أنّ الأفكار قد تولد من سياقات اجتماعية وردود أفعال تدريجية على مستوى الاجتماع الإنساني، وعندما يمارس الفقيه نفسه دراسةً فلسفية لتجربته الشخصية خلال ربع قرن مثلاً بعيون منفتحة من هذا النوع فقد يلاحظ أنّه أخطأ أو انجرف أو انحاز هنا أو هناك خضوعاً لأشكال الضغط الاجتماعي أو الفكري.. وهو يظنّ أنه كان يقوم بنشاط معرفي صرف.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الأمر، محاولة بعض المفسّرين الاشتغال على التفسير العلمي للقرآن الكريم في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ـ بل بعضهم إلى يومنا هذا ـ نتيجة ضغط العلوم الطبيعية وتطوّراتها في الغرب، واليوم بعد أن انجلت تلك الغبرة وخفّ ذلك الضغط بتنا نلاحظ درجة التأويل المفرط الذي مارسه مفسّرو ذلك العصر، ولما جاءت الحركة الإسلامية وما تلاها وجدنا ضغط العلوم الإنسانية ورأينا الفقه يتّجه لمجاراة النزعة الحقوقية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وهكذا..
إنّ هذه الملاحظات تضع الفقيه أو تفسح له المجال في أن يقرأ ذاته الفردية والجماعية بصورة متجرّدة أكثر وكفى بها فائدة. وإذا لم يقرأها هو فإنّ فلسفة الفقه تسمح للآخرين بقراءة تجربة الفقيه بحيث يلتفت من خلالها إلى مثل هذه الأمور. ونحن لا ندّعي أنّ فيلسوف الفقه يمكنه اكتشاف كلّ الخلفيات أو أنّه مصيب في كلّ ما يقول.
ولا يعني كلامنا إطلاقاً أنّ كلّ الأفكار هي وليدة عوامل حافّة بالمفكّر وليست وليدة أفكار، وإذا انزلق فلاسفة الفقه ومؤرّخوه أحياناً في التفتيش عن أسباب هامشية خارجيّة للأفكار بطريقة مضحكة كما يرى بعض العلماء الباحثين([20])، فهذا لا يعني أنّ الدراسة الخارجية فيها مزالق، فيما نحيّد الدراسة الداخلية (الفكر وليد فكر) عن أن تكون عرضة للمزالق، فكلا نوعي الدراسة هذين يحوي نقاط قوّة ومزالق، والمطلوب الترشيد وليس وضع ملاحظات ذات جهة واحدة، ولعلّ المتحفّظ هنا كان يقصد ذلك.
7ـ 4ـ فلسفة الفقه واضطراب الصورة والمفهوم
إنّ مطالعة مجمل الجهود التي بذلت حتى الآن في هذا العلم تكشف عن صورة مضطربة له عند أنصاره فضلاً عن معارضيه، فلم ينضبطوا على تعريف واحدٍ كما رأينا، كما أنّهم خلطوا كثيراً بينه وبين كلّ من الفقه والأصول ومقاصد الشريعة وعلم الكلام، ولاحظنا أيضاً أنّ بعضهم حصره في دراسة الخلفيات المعرفية وبعضهم وسّع من مسائله وقضاياه، حى أنّ بعضهم أدخل فيه علوماً بأكملها تقريباً..
إنّ هذا التشويش الواسع يمنع عن قبول هذا العلم الملتبس حتى تتضح معالمه عند أنصاره، ولا يصحّ الاندفاع نحوه قبل وضوح صورته، وقد أقرّ بعض أنصار هذا العلم([21]) بهذه المشاكل الحافّة به.
وهذه الملاحظة دقيقة؛ لأنّ هذا العلم ما يزال في سياق النشأة والتبلور، فلا يصحّ الاندفاع لتبنّي خيار علم ما قبل التأكّد منه ومن هويّته ومديات الحاجة إليه ونتائجه المترقبة وجدوائيّته ومنهجه بحيث تكون الصورة واضحة، وأعتقد أنّ مشكلة الذين أثاروا هذا العلم في الأوساط الفقهية أنهم لم يقدّموا دراسات ميدانية كثيرة لقضايا هذا العلم قبل أن يقترحوا تجميعها تحت عنوان واحد هو فلسفة الفقه.
وبعبارة ثانية: لقد اقترحوا علماً لا وجود جادّ لذهنيّته وقضاياه في المعاهد الدينية، فبدا مقترحهم غير مفهوم حتى لديهم، أما لو كانت أوساطنا قد تعرّفت على قضايا هويّة الفقه وخلفيّاته وتاريخ العلوم الدينية ومسائل النقد الخارجي وأهداف الفقه وغاياته والنظر إلى الفقه بوصفه كلّاً مجتمعاً، وغير ذلك.. لكان من الأسهل تقديم مقترح يضمّ هذه المجموعات من القضايا التي سبق أن تمّ التعرّض لها متفرّقاً من قبل، وكانت ذهنيّتها قد عيشت هنا وهناك.
لكن هذا يمكن أن نفهمه جزئياً في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، أمّا اليوم فقد نمت كثيراً الدراسات الخارج فقهية حول كلّ أو أغلب القضايا التي اقتُرح إدراجها في فلسفة الفقه، وصار يمكن أن تكون الصورة أوضح بكثير لو أريد الاستمرار في مشروع فلسفة الفقه، وتكوّنت لدى كثيرين ذهنية فيلسوف الفقه، وإذا كانت كلّ زوايا هذا العلم غير واضحة اليوم فهذا أمر طبيعي، فالمهم فهم رسالته الأم والرئيسة.
نعم، مشكلة هذا العلم أنّ المؤسّسة الدينية الرسمية لم تقبله بشكل نهائي بعدُ، بل وما تزال تأخذ منه موقفاً متحفّظاً تارة، ولا مبالياً أخرى، وهذا ما يصعّب عملية الاعتراف به وتطوّره ونموّه في مناخ الدراسات العلمية.
إننا نقترح تأسيس علم «فلسفة العلوم الدينية»، ويكون هذا العلم معنيّاً برصد الدراسات الدينية من الخارج، ويمكن داخل هذا العلم تأسيس فروع متخصّصة تعنى بالفقه والأصول والكلام والحديث والرجال والتفسير..
7ـ 5ـ فلسفة الفقه وافتقاد مبرّرات الحاجة الموضوعيّة
هل هناك حاجة حقاً لتأسيس فلسفة لكلّ علم؟ إنّ تأسيس علم من العلوم قائم على التئام مجموعة من القضايا التي يجمعها هدف واحد لكي تتخذ وضعاً مستقلاً، فهل نجد في علم فلسفة الفقه وضعاً من هذا القبيل؟
إنّ ما نراه أنّ علم الفقه لا يحتاج إلى بلورة علم يدرسه ويضعه تحت المجهر ويسمّى بفلسفة الفقه؛ لأنّ هذا العلم ينمو ويتكامل مئات السنين دون حاجة إلى مثل هذا العلم، وإذا وجدنا أنّ بعض القضايا المرتبطة بالمبادئ التصوّرية والتصديقية لهذا العلم بحاجة للبحث والدراسة فيمكن ـ حيث يكون حجمها بسيطاً ـ أن تدرس داخل علم الفقه، وفي فصل من فصوله، بلا حاجة إلى تأسيس علم تحت عنوان فلسفة الفقه.
إنّ التنامي المتصاعد لعلم الفقه على الدوام بلا تأثير من فلسفة الفقه علامة دالّة على عدم حاجة هذا العلم لفلسفة تتعلّق به، ولو احتاج الفقه إلى مثل هذا العلم لالتفت إلى ذلك أولئك المتبحّرون في الفقه عبر مئات السنين؛ لأنهم الذين يواجهون صعوبات هذا العلم، ونقاط ضعفه وقوّته. وبعبارة موجزة: إنّ التجربة الميدانية والتاريخية لعلم الفقه تؤكّد عدم ظهور حاجة لمقترح مثل فلسفة الفقه، ولا ملزم لذلك، ولو ظهرت بعض المسائل الجديدة فيمكن جعلها فصلاً في علم الفقه أو توضع في مقدّمته([22]).
وهذه الإشكالية يمكن الجواب عنها، وهي في تقديري تحمل قلقاً أكثر مما تحمل نقداً معرفياً، والسبب في ذلك:
أولاً: إنّ صاحب الإشكالية لا يمانع من وجود بعض الموضوعات المحدودة التي تظهر هنا وهناك، ويقترح جعلها ضمن فصل من الفقه نفسه أو في مقدّمة الكتب الفقهية، دون تأسيس علم جديد تحت عنوان فلسفة الفقه، ولست أدري ما الفرق بين الأمرين؟! فإذا كان عدد هذه المسائل الجديدة لا يضرّ فيه القلّة والكثرة فما الفرق بين أن نضعها داخله أو في مقدّمته وبين أن نفصلها عنه، ونضعها في علمٍ مستقلّ؟
فإنّ الوضع في المقدّمة نحوُ استقلالٍ لها، بل الأرجح فصلها عنه؛ لأنّ وضع هذه الأبحاث التي تختلف في المنهج والغاية والجهة والرتبة عن العلم نفسه يظلّ هو الأسلم من ناحية تصنيف الموضوعات وفهرسة أبواب علم من العلوم، وإلا فلماذا فصل علم أصول الفقه عن علم الفقه ولم يَبْقَ في مقدّمته أو فصلاً من فصوله؟!
ثانياً: لقد اتخذ المناقش هنا من التجربة التاريخية للفقه دليلاً على عدم قيمة علم فلسفة الفقه بحجّة أنّ الفقهاء لم يلاحظوا حاجتهم إلى هذه القضايا، ولست أدري هل هذا دليل منطقي؟ وهل كان إحساس الفقهاء هو معيار النفي والإثبات معاً؟ ولنفرض أنهم ما أحسّوا، هل هذا يجعل تجربتهم صحيحة؟ إنّ عدم إحساسهم ناتج عن رؤيتهم للفقه، وفيلسوف الفقه اليوم يقدّم رؤية جديدة للفقه لم يلتفتوا هم إليها من وجهة نظره، فأيّ مشكلة في ذلك؟
إنّ هذا أشبه بسدّ باب الاجتهاد وبعدم جواز مخالفة المشهور أو الإجماع بحجّة أنّ المتقدمين لم يقولوا بهذا القول، فلنثبت أولاً أنّ كلّ حاجة للفقه لابد وأن يشعر بها الفقهاء حتى نقول إنّ الفقه لا يحتاج لفلسفة لأنهم لم يشعروا بالحاجة إليها؟
والغريب أنّ صاحب هذا الإشكال نفسه شنّ هجمات عنيفة على أنصار مشروع «فلسفة الفقه» معتبراً أنّ الدراسات التاريخية في أقوال العلماء ومواقفهم لا قيمة لها؛ لأنّ العبرة بالحجّة والدليل([23])، فكيف صار سلوك العلماء وأحاسيسهم حجّة هنا ومستنداً منطقياً لإثبات الجدوائية وعدمها؟!
7ـ 6ـ فلسفة الفقه ومخاطر النزعات التشكيكيّة والبشريّة
الإشكاليّة هنا تقول: نحن لا نتحدّث عن جدوائية أو عدم جدوائية هذا العلم، وإنما نتحدّث عن مخاطره، فهذا العلم يبعث على القلق من ناحية إفضائه إلى النزعة التشكيكية بالمنجزات الفقهية؛ لأنهه يحاول أن يقدّم الفقه بوصفه علماً بشرياً، وهذه النظرة إلى الفقه تؤدّي بطبيعتها إلى فقدان معطياته القداسةَ والبُعد الإلهي، ويتعامل معه بوصفه مجرّد جهد بشري يخضع للأوضاع البشرية وملابساتها، وعلى المدى البعيد لن تنتج هذه الروح التي تحكم فلسفة الفقه سوى تضعضع الاستحكام الديني للعلوم الشرعية وفقدانها التأثير في النفوس، مما يجرّ ضرراً على الدين عموماً.
ويمكن القول بأنّ روح هذه الإشكالية يمكن أن تقف خلف مواقف بعض المعارضين لهذا العلم، ولكنّنا نرى ـ رغم إيماننا بأنّ النزعة البشرية المفرطة عند بعض المعاصرين قد تلحق الضرر بالمنظومة الدينية ـ أنّ تحميل هذا العلم كلّ هذه المخاطر غير صحيح، وذلك:
أولاً: إنّه لو أريد اعتبار بشريّة الفقه عنصراً هادماً للشريعة، لكان ينبغي اعتبار نظريّة التخطئة الموجودة عند الإمامية كذلك، وكان علينا أن نعتبر أن الاجتهاد الأشعري السنّي أكثر إخلاصاً للنزعة الإلهيّة في الفتاوى نتيجة أخذه بنظرية التصويب.
يضاف إلى ذلك أنّ ذهاب الاتجاه الأصولي في الاجتهاد الشرعي عند المسلمين من الشيعة والسنّة، إلى فكرة الظنّ، يشكّل هو الآخر أكبر أركان تضعيف البُعد القداسي في الأحكام الشرعيّة الظاهريّة وفق منطق الإشكاليّة الآنفة الذكر، فإذا صحّ الاعتراض على فلسفة الفقه بهذه الطريقة، لكان من المفترض أن يطالب الأصوليون والمخطّئة بمثل ذلك وتحميلهم مسؤوليّة النزعة البشرية في الاجتهاد الشرعي.
وإنما نقول ذلك نقضاً؛ للتنبيه على أنّ هذه المحاولات النقدية بهذه الطريقة لن يسلم منها حتى أكثر المخلصين لقداسة الفتاوى والأحكام الشرعيّة، إلا بعض الإخباريين على احتمال.
ثانياً: إنّ افتراض «قداسة النتائج الفقهية» مصادرة تنطلق منها مناهج الاجتهاد وفهمه، هو بنفسه خطأ منهجي واضح؛ فقداسة النتائج تخضع ـ إثباتاً أو نفياً ـ لطبيعة المصادر والمناهج والآليات التي أوصلت إلى هذه النتائج، والمفروض أنّ مثل علوم أصول الفقه وفلسفة الفقه هي التي تعيّن أو توصّف لنا طبيعة العملية الاجتهاديّة، لتحدّد في ضوء ذلك الصورة الواقعية عن هوية النتائج الفقهية وسماتها، فهذه الإشكالية تتعاطى مع الموضوع بطريقة عكسية، فبدل خضوع مقولة القداسة للمنهج، حصل العكس بطريقة غير صحيحة.
ثالثاً: إنّ الحفاظ على روحية البُعد الديني في الفتوى ـ ولا أسمّيها القداسة ـ أمرٌ يتبع عناصر كثيرة متعدّدة، والتي تقف على رأسها طبيعة التعاطي الأخلاقي مع الاجتهاد، وطبيعة تعاطي الفقهاء مع بعضهم، وطبيعة العمليّة التربوية التي يتمّ من خلالها توجيه الناس، وطبيعة النتائج الفقهية من حيث قدرتها على تقديم نتائج عملية إيجابيّة للناس، وغير ذلك، فالتغاضي عن هذه العناصر وغيرها، والتأكيد على قضايا أخرى يبدو غير منصف، بل قد يبدو إلقاءً للمسؤوليّة في رقاب الآخرين.
بل قد أشرنا من قبل إلى أنّ علم فلسفة الفقه يمكن أن يصنّف في مقدّمات الاجتهاد، ومن العلوم المرشّدة لعمل الفقيه، والتي توسّع أفقه وتضعه أمام رؤية أكثر دقة للأمور، بما يعطي المزيد من الضمانات للعملية الفقهية، فهو يقوّي جانب الوثوق بالفتاوى من هذه الناحية أيضاً.
خاتمة
كانت هذه الوريقات محاولة متواضعة للإطلالة على موضوع فلسفة الفقه، واستجلاء بعض القضايا المتصلة به، فهي عمليّة بحثية أوّليّة، تجد نفسها متحمّسة لخلق ذهنيّة هذا العلم، حتى لو لم يكن الوقت مناسباً بعدُ لتأسيس علم كامل، فحماستي تبدو أكثر لحمل عقليّة هذا العلم إلى جانب العقليّات الأخرى التي توفّرها لنا المنظومات العلميّة الدينيّة في الاجتهاد الشرعي.
وقد رأينا أنّ هذا العلم يستحقّ أن يكون له حضور، وأن تعتني به الدراسات الدينية، وتتأمّل في منهجه البحوث الاجتهاديّة، وإذا لم أكن متحمّساً كثيراً لانحياز بعض أنصار هذا العلم في تضخيمهم لدوره، فإنّني أجد نفسي مقتنعاً بأنّ هذا العلم ـ بل ومنظومة علم فلسفة العلوم الدينيّة كلّها ـ بات ضرورة أيضاً للخروج من الدوغمائيّات والصور المغلوطة، وفهم جهودنا الفكريّة بطريقة نقديّة وواعية معاً.
وربما يساعدني الحال القائم اليوم على زعم أنّ ذهنية علم فلسفة الفقه قد صارت أمراً واقعاً في أوساط واسعة في المناخ الديني، لكنّ ما نصبو إليه هو أن يدخل هذا العلم مجال البحث الجادّ؛ كي يتمّ تلقّي ذهنيّته بوعي راشد، لا بانسياق عاطفي أو إعلامي فقط، سلباً أو إيجاباً، كما يحصل في غير موقع.
نسأل الله لكلّ العاملين في مجال الدراسات الدينيّة التوفيق والنجاح في هذا السبيل.
الهوامش
(*) نشر هذا البحث في المجلّد الخامس من كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر)، للمؤلّف، وذلك عام 2015م.
([1]) انظر: عبدالحسين خسروبناه، نظرية ديده باني (فلسفة مضاف تاريخي ـ منطقي به مثابه نظرية تحوّل در علوم)، فصلية انديشه نوين ديني، العدد 10: 16، صيف 2007م؛ وصادق لاريجاني، فلسفة الفقه، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 7: 97 ـ 99.
([2]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: أحمد مبلّغي، بيش درآمدي بر فلسفة فقه، مجلة فقه، العدد 59 ـ 60: 6.
([3]) محمد مجتهد شبستري، فلسفة الفقه، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 7: 12 ـ 13.
([4]) انظر: ناصر كاتوزيان، فلسفة الفقه، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 7: 67 ـ 71، 75، 79 ـ 80.
([5]) أحمد مبلّغي، بيش درآمدي بر فلسفه فقه، مجلّة فقه، العدد: 59 ـ 60: 23.
([6]) حيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 732 ـ 743.
([7]) المطهري، مجموعه آثار (مجموعة الأعمال) 20: 181؛ وراجع: حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 117 ـ 119.
([8]) الصدر، اقتصادنا: 445 ـ 467.
([9]) عبدالجبار الرفاعي، فلسفة الفقه، إشكالية النشأة والوظيفة، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 7: 10، الهامش رقم 8.
([10]) نقد ونظر، العدد 1: 28 ـ 28.
([11]) انظر: مهدي مهريزي، إطلالة على فلسفة الفقه، مجلّة الفكر الاسلامي 18: 87 (عام 1997م).
([12]) محمد مصطفوي، فلسفة الفقه: 14 ـ 15.
([13]) راجع: عبدالجبار الرفاعي، فلسفة الفقه المواقف والاتجاهات، قضايا إسلامية معاصرة 13: 9.
([14]) انظر: مهريزي، اطلالة على فلسفة الفقه، مجلّة الفكر الإسلامي، العدد 18: 105.
([15]) انظر: مهريزي، إطلالة على فلسفة الفقه، مجلة الفكر الإسلامي، العدد 18: 92، 104 ـ 105.
([16]) المصدر نفسه: 101.
([17]) المصدر نفسه: 102 ـ 103.
([18]) يشار إلى أنّ هذه الإشكاليات لا تقدّم بالضرورة ممّن يرفض بالكلّية هذا العلم.
([19]) خالد الغفوري، فلسفة الفقه، مجلّة فقه أهل البيت^، العدد 18: 6.
([20]) انظر: خالد الغفوري، فلسفة الفقه، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 18: 7.
([21]) انظر: عبدالجبار الرفاعي، فلسفة الفقه إشكالية النشأة والوظيفة، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 7: 9ـ 10؛ وفلسفة الفقه، المواقف والاتجاهات، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 13: 8.
([22]) محسن الموسوي الجرجاني، تأملي در اقتراح فلسفة فقه، مجلّة نقد ونظر، العدد 13 ـ 14: 410ـ 412، شتاء وربيع 1998.
([23]) محسن الموسوي الجرجاني، تأملي در اقتراح فلسفه فقه، مجلّة نقد ونظر، العدد 13 ـ 14: 418.
المصدر: موقع الشيخ حيدر حب الله