تأثیر الزمان والمكان في الاجتهاد

تأثیر الزمان والمكان في الاجتهاد من منظار الإمام الخميني “قدس سره”

الاجتهاد: إنّ الإمام الخميني “قدس سره” لم يكن هو الوحيد الذي تبنّى نظريّة تأثیر الزمان والمكان في الاجتهاد البناءة كمنهج ضروري للمدرسة الإجتهاديّة الـّتي هو أرسى قواعدها عملاً. فهناك الكثيرون ممّن نظـّر وسعى لتطبيقها في العهود التي سبقتنا..

تأثیر الزمان والمكان في الاجتهاد من منظار الإمام الخميني “قدس سره”

بقلم الشیخ محمد جواد البستاني

المقدّمة:
بعد الإنفتاح السريع والشامل، وأحياناً البشع والجشع في ماهيّـته الإستعلائیة، ذلك الـّذي شهدته اوروبا والعالم المسيحي في القرون ما بعد الثامن والتاسع الهجريين، حيث ابتدأت النهضة العلميّة والإقتصاديّة المعبّر عنها بالرنسانس، وذلك بعد جهل وخمود وتخلف دام آلاف السنین في أوساطهم، حصل تطوّر مشهود في اوروبا بشكل خاص والعالم البشري بشكل عام.

فكانت نتيجته التفـوّق والتطوّر في شتى المجالات الماديّة والدنيويّة. التفوّق والتطوّر اللذين فاقا وتغلـّبا على سرعة مسايرة الإنسان لهما في بعض المجالات.

وبما أنّ العالم الإسلامي من حيث التأثـّر والتأثير جزء من هذا الكيان البشري، فكان لِزاما على علماء المسلمين وربانيّي سفينة هدايتهم التشريعيّة والسلوكيّة والعقيديّة أن يتجاوبوا مع هـذا التطوّر، ويتحسسوا تقدّمه السبّاق. لكي لا یتأثّروا في النهاية بسلبيّاته دون أن یؤثـّروا فيه بإیجابیّاتهم. وكذا غیر متهاونين في مسؤلیاتهم، بحیث لا ینهضوا لمواجهة إنعكاساته العارمة والهدّامة. سيّما وأنّ إسلامنا العزيز غنيّ بتعاليمه وإرشاداته من جميع الجوانب.

من هـذا المنطلق لو تابعنا الخطوات والجهود الفكريّة الّتي بذلت في الوسطين الشيعيّ والسنّي بهذا الشأن، أي من أجل مسايرة علماء الدين لهذا التطوّر الفوّاق وحلّ مشاكله والإجابة على معضلاته في بعض الفتراة، لرأيناها متواضعة ودون المستوى المطلوب.

ذلك لأسباب عديدة، منها:
ـ رفض الوسط السنّي لمبدأ الإجتهاد في الأحكام الشرعيّة، وبه منعوا إستنباط الحكم لكل مسئلة مستحدثة بعد اَئمتهم الأربع، إلاّ ما شذّ منهم في العصر الأخیر.

ـ الجمود الفكري الذي أصاب جزءاً من أتباع التشيع وإن كانوا ضئیلين عدداً، فعزلوا أنفسهم عن هذا الركب وأنكروا حجّية العقل بل وحتی حجّیة ظواهر القرآن بذريعة عدم فهم الكتاب أولاً، والإكتفاء بظاهر الروايات فحسب فعرفوا بالأخباريين.

ـ السياسات الإستعماريّة الخبيثة الـّتي شيّدت ودعمت أيادي معقّدة وحاقدة وإرهابیّة في قلب العالم الاسلامي لتكفّر من سواهم، فسموا بالسلفيّة.

ـ بُعد ثلة من القيادات العلمائيّة عن إدارة شؤون اُممهم، بل ومع الأسف قناعة البعض منهم بضرورة فصل الدين عن السياسة.
و غيرها من الأسباب الـّتي لا ترتبط ببحثنا هذا.

فالخطوات والجهود المبذولة من أجل تأسيس فقه متحرّك يساير قفزات العلم التقنيّة، من دون أن يتناسى تراثه الغني كانت ضعیفة وغیر جدیرة. الأمر الذى دفع بالكثير من شباب البلاد الاسلاميّة، دع عنك أعداء الدين الاسلامي الحنيف، أن يعتقدوا ويروّجوا فكرة عدم قابليّة الإسلام حلّ مشاكل الانسان المعاصر وقیادته.

و كذا شبهة أنّ الاسلام في خصوص مقتضيات أزمنتنا وأمكنتنا الحاليّة لا رؤیة له ولا مدّعى. وإذا ما جرت مباحثات فقهيّة، أو قدّمت دراسات علميّة بهذا الشأن، فهي كانت محصورة ومحدودة ضمن نطاق الحوزات العلميّة والمعاهد الدراسيّة والمؤلـّفات التخصّصية لروّاد هذا الفن فحسب، دون أن يعيها عامة الناس أو تصل إلی أسماعهم.

فاستمرّ هذا التهاون من بعض أعلام الاُمّة وفي بعض الأحيان الجهل وفي الاُخرى عدم الإحساس بالمسؤليّة، وفي المقابل سباقاً عارماً للأعداء، حتـّى زمن إنتصار الثورة الإسلاميّة في إيران. حيث بادر فيه المسلم الواعي والمتحسس لتكوين الحكم الإسلامي المناهض، وراح يدّعي الجدارة لنفسه في تحمّل المسؤوليّة والدعوة إلي الاسلام في قبال الدعوات الاُخر.

الأمر الذي أوجب على علماء هكذا نهضة فكريّة وسياسيّة أن يتعايشوا أجواء التطوّر والتقدّم العلميين اللذَين شهدهما الواقع البشري، وراحوا يقدّموا بكل جدارة حلول معضلاته الفقهيّة المناسبة.

فكان ولله الحمد من منجزات هذه الثورة المباركة، هو فتح باب البحث والدراسة والمناقشة على مصراعيه. حتـّى وصل الأمر بعلماء الدين أن يكتبوا ويتحدّثوا عن الإسلام وما تقتضيه الظروف الزمانيّة والمكانيّة منه، ومن الاجتهاد المطلوب في هذا العصر المشهور بعصر الفضاء والتقنيّة والذرة، فيتداولوها لمعالجة مشاكل البشر المعاصر، بعد ما كانت أبحاثاً خاصّة وضيّقة يتناولها أخصائيّوا هذا الفن.

تبيين بعض المصطلحات

لذلك وبعد هذه المقدّمة، يلزم بنا الإشارة إلى بعض المصطلحات والرموز الـّتي سترد علينا خلال الدراسة وهي مرتبطة بها:

أولاً، الاجتهاد وهو الإستنباط لإحكام الدين. فهو وإن كان لغةً يعنى المبالغة في بذل الجهد، لكنّه في المصطلح العلمي والحوزوي يعني النظر فى الأدلـّة الشرعيّة من أجل تحديد وتبيين وظيفة المكلـّف العمليّة تحديداً إستدلالياً موضوعيّاً، حيث تحصل به معرفة الأحكام الفرعيّة .

ثانياً، المجتهد وهو الفقيه المستنبط لإحكام الدين. أي الخبير الذي إمتلك قدرة علمية أصبح من خلالها قادراً على إستنباط أحكام الإسلام من الكتاب والسنّة والعقل والإجماع، وذلك بالأدواة العلميّة المتاحة والمجازة له، وهى رتبة لا ينالها الّا ذو حظٍ عظيم.

ثالثاً، الفقيه المتصدّی للحكم وهو المجتهد الجامع للشرائط والذي حاز على البيعة الولائية للامّة، مضافا إلى الإذن العام الذي اكتسبه من المعصوم بالتصدّي لهذا المنصب المنيع. ولذلك عبّر عنه بالحاكم الشرعي. بل وأكثر من ذلك نضيف، كما قال العلاّمة المجدّد الشيخ المظفر (رض): (انّه هو الرئيس المطلق والوليّ النافذ الرأي والمرجع في جميع المجالات القضائيّة والولائيّة والحسبيّة دون أن تنحصر وظيفته في الفـُتيا).

رابعاً، الأحكام ومفرده الحكم. ونعني به التشريع الكلـّي الصادر من الله تعالى والسُنة الشریفة في خصوص الوقائع العامّة، وبتبعه الحكم الولائي الذي یُصدّره الحاكم في الموارد الخاصّة، من أجل تنظيم حياة الانسان المتعبّد. وهو الحكم الذی له قابلية الإنعطاف والتغيّر، إذا اقتضت الشرائط والضرورة طبعاً، لا في كل حال.

خامساً، الإمام الخميني، وهو الفقيه المجتهد والحاكم الجامع الذي استطاع بتأسيسه للحكومة الاسلاميّة المعاصرة، أن يعرض ويطبّق نظريته المتطوّرة والتي تنتج بالضرورة القول بتأثير الزمان والمكان فى الإجتهاد، وبتبعه تغيّر أحكام الشريعة نظراً لتغيّر مواضيعها، من دون التنازل عن المبادئ.

الاجتهاد في الأحكام

فمّما ميّز مدرسة الفقاهة الشيعيّة عن غيرها من المذاهب المحسوبة على الإسلام، هو تبنّيها عنصر الاجتهاد في عمليّة إستنباط الأحكام الشرعيّة، وإستخدامها الأدوات الاُصوليّة المجازة لعلاج المشاكل الفقهيّة وعصرنتها، بحسب ما يقتضيه كلّ زمان ومكان.

فاذا كان معظم المذاهب المحسوبة على مدرسة الخلفاء، قد ابتعدوا منذ البدء عن أهل البيت وتعاليمهم الراقية، واقتصروا على ما فهموه من ظواهر القرآن وما رووه عن النبيّ| من الأحكام، بحيث اضطرّوا وبعد فترات وجيزة للّجوء إلى أدوات غير حلالة للمشاكل، كالقياس والإستحسان والتأويل الذوقي والإستصلاح وماشابهها.

أو أنّ غيرهم من المسالك المحسوبة على التشيّع وأهل البيت× قد حصروا على عقولهم بالتحجّر الفكري والإنغلاق العقلي، بحيث صاروا لا يرغبون ولايستندون في إستدلالاتهم إلا ّ بما وصل إليهم من أخبار أهل البيت وتعاليمهم، وذلك تحت ذريعة عدم تمكـّن عقولنا الساذجة من فهم القرآن وإستنباط أحكامه. فمدرسة التشیّع الفقهیّة والاُصوليّة وخلافاً لغیرها، لم تعش هذا الجمود الخانق والحصار المُنهك.

و ما اضطرار ثلـّة لا يستهان بعددهم من مفكـّري أبناء الجمهور ومصلحيهم في العصور المتأخرة، إلى المطالبة بضرورة التجديد والإمعان في الأدوات الموصلة إلى فقه متحرّك وفعّال في مذاهبهم، وكذا انعزال المكتب الأخباري عن الساحة الفقهيّة وعدم استطاعته إبداء أيّ رأي ونقد يُعتنى به، الّا نتائج واضحة لهذا الواقع المحسوس خارجاً.

أمّا الفقه الشيعي الاُصولي وبسبب تمسّكه بالكتاب والسنّة معاً، وضمّه لمجموعة من العناصر العلميّة المستفادة منهما في عملية الإستنباط، وإعتقاده بالمرونة والإنعطاف المؤديين إلى معالجة متغيرات كلّ زمان ومكان، وأخذه أصالة الفقه الاسلامي وعصرنة الأحكام معاً بنظر الإعتبار وغيرها من العوامل المساعدة، فقد انتج منه مدرسة فكريّة متطوّرة وغير عاجزة عن حل مشاكل الانسان المعاصر ومتغيّراته الإجتماعيّة وما تقتضیه المتطلبات البشریّة.

شاهدنا لذلك هو الموسوعات الفقهيّة والاُصوليّة الضخمة الـّتي دوّنت ونشرت في العقود المتأخّرة، بعد ما كانت مولـّفات القدماء بسيطة وقليلة الحجم والمصداق.

فأين الشيخ الطوسي في مبسوطه واُستاذه الشيخ المفيد في مقنعته، وهما كتابان فقهيّان بارزان في عصر تأليفهما، عن جواهر الكلام للشيخ النجفي ومصباح الفقيه للمحقق الهمداني، وهما موسوعتان فقهيّتان قد اُلـّفتا بعد تسعة قرون من ذينك.

و كذا أين السيّد المرتضى علم الهُدى في كتابه الاُصولي الذريعة والشيخ حسن العاملي نجل الشهيد الثاني في كتابه المعالم، عن الشيخ الأعظم الأنصاري في مؤلّفه الضخم فرائد الاصول، والإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر فى حلقاته ومحاضراته الاُصوليّتين.

فهذا التوسع والإمتداد الحاصلان في الإنتاجات الفقهيّة والاُصوليّة لدى أتباع أهل البيت، لهما خير مؤشر على نجاح مدرستهم الفكريّة المبتنية على عنصر الإجتهاد في إستنباط الأحكام الشرعيّة، والإفتاء لأبناء كل عصر وجيل على ضوء معضلاتهم الزمانيّة والمكانيّة الخاصّة بهم.

المجتهد للأحكام

ثمّ ومن أجل أن يكون القارئ والمستمع على بيّنة ووضوح من فكرة مقالنا هذا، وهو دور الزمان وإلمكان في إصدار الأحكام والفتاوى، نشير إلى بعض خصوصيّات المجتهد الذى تسمح له الشريعة بالإجتهاد والإستنباط للاحكام.

وذلك لضرورتين:

الاُولى– لتبين زيف البعض ممن تصدّی بل وتصدّر مقام الإفتاء والإجتهاد، فصار يبدي بآرائه الساذجة والركيكة المدعومة بالجهل والعناد، والحال أنّه لم يتـّصف بالمؤهلات المشروطة لتصدّر هذا الفن.

ذلك بعد ما إستغلّ عواطف السذج من الناس الـّذين آمنوا به واحتوشوه وعملوا بإجتهاداته المزعومة. حتـّى أن البعض من الناس ولا سيّما الشباب الجامعي مع كل الأسف، أخذوا يصدّقون هؤلآء في مدّعياتهم ويتبنّون آرائهم المعاكسة لآراء الفقهاء، حتی وإن أدّت إلی ذبح الأبریاء ونهب ممتلكاتهم ورقیّة نسائهم.

الثانية– لتبيين الجهود العظیمة والمسددة الـّتي قام بها جمع من علمائنا منذ غيبة الإمام الحجّة المنتظر# وإلى يومنا هذا، من أجل تكوين فقه متحرّك وفاعل في أوساط الاُمّة، يجيب على استفساراتهم ويحلّ مشاكلهم الفقهیّة والإجتماعيّة. وما ذلك الاّ لتحلـّيهم بالشرائط اللازم توفرها في المجتهد المستنبط.

وأما هذه الخصوصيّات ومدى سعتها، فهي إجمالاً:

1) إتقان اللـُغة العربيّة وفنونها – ونقصد بذلك ما يرتبط بفهم القرآن والأحاديث الواردة عن أهل البيت فنیّاً.
مضافاً إلى أن أهم المصادر الـّتي يستفاد منها لإستنباط الأحكام الشرعيّة غير القرآن والأحاديث، كالتاریخ وسیرة أهل البیت× قد صدرت بلغة العرب، فلذا يلزم الاختصاص فیها وضبطها.

2) الخُبرویّة في علم الاُصول – وهو العلم بالقواعد الكلـّيه الـّتي يُستنبط الحكم الشرعي بالإستعانة بها من مصادره المجازة، أي من الكتاب والسنّة والعقل.

في هذا المجال نضيف ونقول، نحن نرفض مبنى الأخباريين ومن سلك مسلكهم من المنكرين لجُلّ علم الاُصول ومبانيه العقليّة والمشروعة.

حيث زعموا انّ إناطة العقل ما لا يستحقّه من القابليّات الكاشفة عن الحكم الشرعي، يستلزم بنفسه رفض الكتاب والسنّة وعدم الاتـّكال عليهما في فهم الأحكام. هذا مضافا إلى رفضنا لمعتقدهم الخاطئي بكون المُنشئ والمؤسس لعلم الاُصول هو المذاهب غير الإماميّة، ولأجلهما حاربوا هذا العلم وعلمائه في بعض الفترات وأحرقوا كتبهم وقتلوا البعض منهم.

كذلك لا نرى ضرورة في إفراط وتفريط البعض من مؤيّدي علم الاُصول، حيث أفرط بعضهم فوسّع في أبحاث هذا العلم وأدخل عليه ما ليس بضروري التعرّض إليه.

كالتوسّع الزائد في البحث عن الإجماع والمشتق وموضوع علم الاُصول وتعريفه، وذلك تحت ذريعة تفتـّح ذهن الباحث المتتبّع في هذا العلم وخفاياه. أو تفارط جمع آخر فصار يقتصّ وينبذ منه حتىّ المباحث المفيدة للعلم والمثمرة للإستدلال.

3) معرفة آيات الأحكام (القرآن) – وذلك بمعنى الإحاطة الكاملة بمفادها اللـُغوي ومعانيها المصطلحة عند العرف. وكذلك فوارق الألفاظ الحقيقيّة عن المجازيّة، والمحكم من متشابه آياته، مضافا إلى معرفة شأن نزولها وكيفيّة استدلال الأئمة× بها، ثمّ تطبیقها علی الواقع المعاصر.

4) إستیعاب روايات الأحكام (علم الحديث) – وهو كما في خصوص الآيات القرآنیّة، یعتبر ضرورياً للمجتهد في دقّة إستنباطه. ولذا قال الإمام الصادق: (أنْتُم أفقـَهُ الناسِ إذا عَرَفتُمْ مَعانِيَ كَلامِنا).

لاسيّما وانّ كلام الائمة× كأيآت القرآن فيه محكم ومتشابه، وكان يصدر تقيّة في بعض الأحيان، او أنّ هناك موارد خاصّة لم تكن كلیّة.

وكذا طالما حصل خلاف في النسخ الروائيّة الواصلة الينا، وفي تعدّد قرائة ألفاظها، مضافا إلى التقسيم المشهور في انواع الروايات من موثقة وصحيحة وحسنة وضعيفة ومرسلة ومسندة. فهذه الاُمور جميعا وغيرها، تفرض على المجتهد الإحاطة الكاملة في فنّ معرفة روايات الأحكام.

5) العلم بأحوال مسانيد الأحاديث (الرجال) – فبعد ما قطعنا بضرورة إستخراج الأحكام من عِدل القرآن، أي روايات النبي| وآل بيته الكرام، نأتي لنؤكـّد أن هذه الروايات يلزم أن تكون معتبرة في نقلها. بمعنى أن تكون سلسلة رواتها موثقون صدوقون، وغيركذوبين ولا وضّاعين.

فمعرفة أحوال هؤلاء الرواة الـّذين يتجاوز عددهم الأربعة عشر الف نفر من حيث الوثاقة وعدمها، يعتبر علما ضرورياً للمجتهد. وذلك بالرجوع إلى المصنّفات الرجاليّة والتعرّف على طبقات هولآء، بل وإبداء الرأي العلمي والتحقيقي فيهم.

6) التتبّع في المفاهيم العرفيّة السائدة في عهد النص – بمعنى أن الخطابات الشرعيّة الواصلة إلينا فى الكتاب والسنّة، قد صدرت بلسان يفهمه عرف ذلك الزمان وفي مستوى ادراكاتهم العقليّة.

فيجب على المجتهد ومن أجل استنباط الحكم الشرعي أن يتفهّم حقيقة هذه المفاهيم العرفيّة الـّتي قد تكون منسوخة في زماننا هذا، لعدم استساغة العرف البشري لها حالیاً.

7) الإمعان في فتاوى الفقهاء السلف – وذلك لكونهم رحمهم الله أقرب عهداً بزمن حضور المعصومين×. فهذا التقارب الزمني، قد يؤدّي إلى الإطمئنان بصحّة فتياهم للإحكام الشرعيّة، ووثاقة استدلالاتهم، سواء أجمعوا علی العمل بها او رفضوها.

ومن هذا الباب يستحسن بالمجتهد المتأخّر عهداً أن يتمعّن في إستنباطات الفقهاء السلف، للإستحصال على دليل مطمئن وكاشف فى فتاواه.

8) مراجعة فتاوى فقهاء العامّه – أي يلزم على المجتهد وقبل استنباطه للحكم، مراجعة فتاوى الفقهاء من غير الإماميّة.

إذ ذلك يفيدنا في عدّة مواضع:

منها، أن البعض من الأحكام الشرعيّة الصادرة من الائمة× قد وردت ناظرة إلى فتاوى فقهاء المذاهب الأخرى. أي ان الإمام× من باب التعليق علی فتاواهم أو رفضها او تأییدها، قد أصدر حكمه الشرعي.

ومنها، وجود التعارض الجليّ بين بعض رواياتنا. ففي هذا المجال ومن أجل ترجیح احد المتعارضین علی الآخر لسقمه، نضطر إلى مراجعة فتاوى العامّة والأخذ بالـّذي هو مخالف لفتواهم لا الموافق، كما هو مفاد الاخبار العلاجیة.

ومنها، لأجل التعرّف على الروايات والأحكام الصادرة من الائمة تقيّة.
وبالعكس من ذلك، التغافل عن مراجعة فتاوى فقهاء المذاهب الاُخرى يسبّب حرجا كثيرا على المجتهد في إستنباطاته.

9) التفريع علی الاُصول – أي تفريع المسائل الشرعيّة المورديّة والبسيطة من الاُصول العامّه. فكلّما كان المجتهد أقل ممارسة فى إرجاع الفروع إلى الاُصول كانت فتاواه نظريّة بحتة. و كلّما كان أكثر ممارسة فيها كان أكثر سداداً في إستنباط الأصح من الفتاوى وأقربها للواقع.

ولذلك أصحاب هذا الرأي يستندون إلى حديث مبارك عن الإمام الرضا× قال فيه: (عَليْنا إلقاء الاُصولِ وَعَلَيْكُمُ التفـْرِيعُ).

10) وأخيراً ملاحظة دور الزمان والمكان في الإفتاء، واللذَين نفتح لكل منهما فصلاً خاصاً بغية التوسّع والإحاطة بفكرة بحثنا هذا.

دور الزمان وتأثيره في الاجتهاد

إبتداء ومن أجل تقريب الفكرة، أستشهد ببعض الأمثلة الفقهيّه:

الف) لقد أفتى الفقهاء تبعاً للكتاب والسنّة بحرمة بيع الدم، ومستندهم في ذلك هو عدم وجود أي فائدة عقلائية لهذا البيع. بل في الأزمنة المنصرمة لم يكن فيه سوى المضرّة، والإضرار حرام.

ب) التشبّه بأعداء الديانة الإسلاميّة من حيث المظهر والملبس، حرام على كل مسلم ومسلمة، وعليه فتوى الفقهاء السلف. ومستمسكهم العقلائى لذلك مضافا إلى أدلّته الشرعيّة الخاصّة، هو إستقلاليّة الفرد المسلم عن غيره حتـّي في هذه الاُمور البسيطه، والـّتي توجب بنفسها عدم تمكـّن الأعداء من إنتقاص المسلمين وتسفيههم وفي النهایة استعمارهم.

ج) لعب الشطرنج من أبرز مصاديق القمار واللهو، والقمار حرام بنصّ الكتاب والسنّة وفتوى الفقهاء. والحكمة في ذلك هو أنّه یؤدّي إلی التباغض والعِراك والفساد الأخلاقى والإقتصادي وأخيرا الإجتماعي بين المتنافسين في هذه اللعبه اللهویّة.

د) لا مانع من تناول الأطعمة والأشربة إبتداءً، كشرب سائل الببسي وأكل لحم الأبقار حسب فتوى معظم الفقهاء. إذ لا دليل علی حرمتها، مضافاً إلى عدم منع العقل من ذلك. ومثلها استعمال التنباك وتدخينه.

فالمستنتج من جميع هذه الأمثلة ونظائرها كثيرة، هو أن هذه الأفعال في بعض الأزمنة السابقة كان لها حكم معين لسبب من الأسباب الشرعيّه والعقليّه.

لكن لو تصوّرنا هذه الافعال الـّتي صدر في شأنها حكم معيّن فيما سبق، قد تغيّر موضوعها في الأزمنة اللاحقة. فهل ترى يبقى الحكم على حاله الأول، بعد ما تغيّر موضوعه، أم هو أيضاً يتغيّر بتبع تغيّر موضوعه؟

وببيان آخر هل أنّ الحكم في حالات التغيّر والثبوت تابع للفعل نفسه أينما صدر وكيفما تحقّق، أو أنّه تابع لموضوعه الذي له حالات متغيّرة؟

جوابه، هو أنّ المبنى العقلائي يذهب إلى ضرورة تبنّي الحالة الاولى، إي انّ الحكم يتبع الموضوع ويتغيّر بتغيّر حالاته. وسببه هو انّ الأحكام الشرعيّة قد شرِّعت للتسهيل على العباد ولتمشيه مصالحهم وتحسين أوضاعهم العباديّة والمعيشيّه والإجتماعيّة في زمان ما ولملاكات معیّنة. إذن فلم تفرض عليهم الشريعة أحكاماً هى فوق طاقاتهم، أو منافية لمصالحهم الدنيوية في أزمنة اُخری؟

و لذلك فبيع الدم يصير حلالاً، بعد ما كان الإستخدام الوحيد في زمن التحريم منه هو شرب القساة والطواغیت له، ولأجله حرّم. أما الآن فيستفاد منه للتزريق المؤدّي لإنقاذ المرضى من الهلاك، ونحن نعلم أنّ إنقاذ المؤمن من الهلاك، یكون علی مستوی عالٍ من الوجوب فى الإسلام.

و التشبّه بأعداء الإسلام في ملبسهم ومظهرهم، ولا سیّما إذا ظهرت مؤشرات تؤمّن الضرر المحتمل الناتج من تلك الحالات المتشبّه فیها مع الأعداء، كإزالة خوف یخاطر بالمسلم المتوطّن في بلادهم، أو رفع إضطرار یلمُّ به، او تقیّة یُجبر لها، فهنا قد یتبدّل الحكم للحلیّة بتغیّر موضوعه ولا مانع منه.

كلّ ذلك مشروط بأن یعیش المسلمون ظروف العز والكرامة ولا یُفترض إستعمارهم من قِبل الأعداء ولا المخاطرة في إستقلالهم.

ولعب الشطرنج في حالات خاصّة وليس كلـّياً، یتبدّل حكمه إلی الإباحة، بعد ما تغيّر موضوع الأضرار والمفاسد الكامنة فيه وزالت، بسبب تغيّر موضوعه الأوّل.

ومقصود من يتبنّى هذا الفهم، هو أنّ الأضرار تزول فتبدّل الحكم من الحرمة إلى الإباحة، وبه یخرج الشطرنج حينئذٍ عن كونه ألة قمار ولهو.

وتناول الببسي المحلـّل يصير حراماً، لأنّ منافعه تصبّ لصالح الصهاينة وأعداء الدین الإسلامي. وتدخين التنباك كذلك يحرم لكونه ينتفع منه الإستعمار البريطاني كما في القضيّة التأریخيّة المشهورة. وأكل لحم الأبقار المحلـّل يحرم، لظهور الجرثومة القاتلة فيه.

دور المكان وتأثيره في الاجتهاد

كما ونستطيع أن نوجّه نفس الخصوصيّة إلی موضوع المكان اَيضاً. أي أنّ للأمكنة المختلفة خصائص، قد يختلف بسببها موضوع بعض الأحكام الشرعيّة.

و بمعنى أوضح فإنّ هناك بعض المناطق والأمكنة، يوجد في خصوصها خطاب شرعي معيّن بها، وهو الحكم الاوّلي الصادر من الشارع المقدّس. والحال انّ هذا الخطاب نفسه لم يوجّه بخصوص منطقة إقليميه اُخرى، حتـّى وإن كانتا مجاورتين جغرافیاً. والمؤثـّر الوحيد في هذا التغيير هو المكان لا العوامل الاُخرى.

والمناسب تفصيل ذلك ضمن أمثلة متعددة، كما بحثنا في موضوع الزمان:

أولاً، في خصوص إعمار البنايات والمنازل السكنیّة، فهو ممّا لا يشك في جوازه أحد. سواء كان هذا الإعمار اُفقياً، أي طابقاً واحدا مبنيّاً على الأرض.

أو عمودياً، أي عمارة مرتفعة ذات طوابق متعددة. فأن النوع الثاني وإن كان حديثاً في اُسلوبه وتاريخه ولاسيّما في الدول الإسلاميّة، لكنه مع ذلك لايوجد لتحريمه ومنع الناس منه دليل خاص.

لكن إذا ادّعي بأن التجربة في بناء هكذا عمارات، وإن كانت قليلة الأمد، قد أثبتت إنتشار المفاسد الإجتماعيّة واللاخُلقيّة في أوساط البعض من ساكنيها. و ذلك بسبب الإشراف الموجود في هذه العمارات الّتي هي من خصائص المجتمعات الغربيّة وغير الإسلاميّة، حيث يسمح لساكنيها بالنظر إلى ساكني الشقق الاُخرى، بل ويتمكـّنون حتی من استماع محادثاتهم أيضاً.

ففي هذه الحالة إذا تعذّرعلى أخصائيّى فنّ الإعمار والبناء، خلق أساليب وفنون اُخرى تصدّ عن إنتشار الفساد، وعن رواجه بين المستوطنين فيها، فحينئذٍ يتمكّن الفقيه من إصدار حكم التحريم بخصوص هذه المناطق فحسب. الا إذا تعذرعلى المكلـّفين إتخاذ طرق اُخرى أسهل لسكنهم وهو غیر متصوّر.

فكما نرى إنّ خصوصيّة المكان هى الـّتى اثـّرت على طريقة الإستنباط، واضطر بسببها المجتهد من إصدار فتوىً جديدة خاصّة بساكني هذه الأماكن دون غيرها، تتغاير والقاعده الأوليّة.

ثانياً، في خصوص إستخدام وسائل الإعلام الصوتيّة والمرئيّة كالراديو والتلفاز والإنترنيت وما شابهها. فكما نعلم إنّها كوِّنت لمساعده الإنسان في مسيرته العلميّة، وفتح الآفاق أمام حياته الحافلة بالتطوّر والتقنيّة.

فنقول إنّ الناس ولا سيّما الحكومات المستولية عليهم، لو ارادوا استخدام هذه الوسائل من طرقها المشروعة، لكانت مباحة بل ضروريّة لكل مكلّف فهم.

لكن بما أنّ التجربة في كثير من الحالات قد أثبتت إسائة الإنسان والحكومات وأصحاب الثروة والقدرة في إستخدام هذه الوسائل المفيدة بذرائع وهميّة، فهنا قد يضطر المجتهد وبعد مالم يحصل على مفرّ لحل معضلة الناس هذه، من تبديل حكم الإباحة إلى الإحتياط أو الحرمة، وذلك في تلك الأماكن الـّتي يُساء فيها استخدام هذه الوسائل المفيدة.

فكما نرى هي وسيلة واحدة أو قل موضوع واحد، لكن جعل لهما المجتهد حكمين مختلفين، الجواز والحرمة. والذي سبب لهما هذا التغاير الحكمي، هو اختلاف موضوعهما فى المكانين المختلفين اللذَين أثـّرا على عملية الإجتهاد أيضاً.

الإمام الخميني مجدّد نظريّة تأثير الزمان والمكان في عملية الإجتهاد وإستنباط الحكم. ونحن في الواقع حينما نصطلح عنه& بالمجدد، لا نقصد أنّ غيره من الأعلام لم يسبقوه ولم يوافقوه على هذه النظرية.

بل باعتباره دون غيره من مشاعل هداية هذه الاُمّة، إستطاع ولاوّل مرّة أن يقيم حكماً إسلامياً برعايته الميمونة وقيادته الفذة.

فمن خلال هذا الحكم السياسي الفتي، ظهرت معضلات فقهيّة جمّة تنتظر الإجابة والحل. تلك الـّتي لم يكن العلماء السابقون نوّرالله مضاجعهم متطرّقين لها ولا معالجين لحلّ فروعها.

أمّا هو وبعد تصدّيه لتأسيس الحكومة الإسلاميّة وتبنّيه لمبدء ولاية الفقيه، كان حريّاً به أن يزيل المشاكل العلميّة الـّتى تواجه هذه الحكومة الفتيّة، وتعكـّر المسير على المبدء الولائي الّذي تبنّاه. وهو ما نشاهده بالفعل والوجدان في إستنباطاته الإجتهاديّة الّتي كان قد نظّر لها حتـّى قبل تصدّيه للولاية والحكومة.

إذن فهو في الحقيقة لم يختلف عن أسلافه العلماء، كالشيخ صاحب الجواهر والمجدّد الشيرازي والزعيم البروجردي والإمام الحكيم وغيرهم من المرجعيّات المنفتحة رحمهم الله جميعا في تبنّيهم لأسس هذه النظرية. لكنه& نقـّحها وأدخل فيها ما جعل الإسلام والمسلم المعاصر قادرين على حل مشاكل البشر قدر الإمكان.

من أقوال الإمام في تبنّي النظريّة

فهنا لا بأس بذكر مجموعة من أقوال الإمام الخميني الراحل في تبنّي هذه النظريّة، والـّتي تطرّق إليها عند الإجابة على إستفسارات وردت عليه من قِبل المسؤولين المعنيين في الجمهورية الإسلاميّة.

لكنّها في واقع الحال تنبئ عن وجود إبهامات مقدّرة أو مطروحة في الساحات العلميّة، إضطر& إلى الإجابة عليها:

ألف) هناك من يتخيّل أنّ الأدوات الإجتهاديّة الّتي يستخدمها الإمام الخمينى لاستنباط الأحكام الشرعيّة، تختلف عما كان يستخدمه أسلافه الماضون رحمهم الله في هذا المجال.

إذ لم يكن للمتبنّيات الفقهيّة الجديدة الـّتى وصل إليها وعمل بها، كفكرة ولایة الفقیه وتأسیس الحكم الإسلامي في عصر الغیبة منشأ، سوى إستبداله للقواعد الفقهيّه والاُصول العمليّة الـّتى كان يتبنّاها أسلافه طيلة القرون الماضية، حسبما يتخيّله هؤلآء.

أو أنّ هناك ثلـّة من الباحثين والحوزويين، سبق وأن تفوّهوا بضرورة استبدال الأدوات العلميّه المستخدمة في الإستنباط بآليّات حديثة، تنتج فقهاً متحركاً وسيالاً في أوساط الاُمّة والعالم.

لكنّه ينفى هذين التصوّرين ويؤكـّد على العناصر المستخدمة منذ بدء الغيبة الصغرى، والـّتى كان لها الدور المشرّف فى تمييز المدرسة الفقهيّة الشيعيّة عن سائرالمدارس، وإن لم تكن بالمستوى المطلوب.وبه يظهر أنّ المبانى العلميّة الـّتى كان يستخدمها الإمام لم تختلف عن مبانى الأخرين من أصحاب الرأى الشيعى.

يقول: (إننى من المؤمنين بالفقاهة الأصيلة والاجتهاد الجواهري، ولا اُجيز التخلـّف عنه بتاتاً. فالإجتهاد بتلك الصياغة هو الأصح. لكن لا يعنى هذا عدم الحركيّة في فقه الإسلام. إذ أنّ للزمان والمكان دوراً مصيريّا فى عمليّة الإجتهاد).

وهوكما ترى صريح في ضرورة الأخذ بالمباني الإجتهاديّة المسنونة في الحوزات العلميّة، مع الأخذ بنظر الإعتبار عنصري الزمان والمكان، اللذَين لا يتمكـّن الفقيه من حلّ المشاكل الإجتماعيّة والسياسيّة المعاصرة، دون الإعتناء بهما.

ب) ثمّ في بيان آخر يزيد في توضيح معتقده هذا، وهو ما نبيّنه في نقاط:

ا) إن للإستنباط الفقهي المتناسب مع كلّ زمان ومكان، دوراً هاماً في مرحلتنا الراهنة هذه. أي بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

2) وبتبع ذلك يكون الإكتفاء بالإستدلالات النظريّة الحوزويّة، والـّتي قد لا تفي بما هو المطلوب من الحوزات ودورها الريادي في مقام العمل والتطبيق، أمراً غير معقول.

3) واذا تمكـّنا من هذين، فحينئذ نكون قد تمكـّنا من رفض النظريّة القائلة بعدم قدرة الإسلام والمسلمين على إدارة العالم وحل معضلاته الفقهيّه والإقتصاديّة والسياسيّة وغيرها.

فيقول مخاطبا أعضاء مجلس صيانة الدستور في الجمهورية الإسلاميّة: (لي وصيّة أبويّة لاعضاء مجلس الدستور، وهي أن ينظروا إلى مصلحة الحكومة (النظام) قبل كل شيء. ذلك لأنّ من المسائل الحسّاسة في عالمنا المليئى بالأحداث، دور الزمان والمكان في الإجتهاد واتـّخاذ القرارات.

فالحكومة هي الـّتي تبيّن الفلسفة العمليّة لكيفيّة مواجهة الشرك والكفر العالمي، وكذا المعضلات الداخليّة والخارجيّة. أما الأبحاث الحوزويّة، والـّتي لا تعدوا عن كونها نظريّات وآراء بحتة، فهي مضافاً إلى أنّها غير قابلة للحل، كذلك قد تجرّنا إلى ما لا مخرج منه، وبالتالي إلى نقض الدستور.

فأنتم في نفس الوقت الذي يجب عليكم فيه أن لاتسمحوا بصدور أي مخالفة شرعيّة، كذلك بالنسبة إلى هذه المعضلات العالميّة، يجب عليكم أن تجهدوا حتـّى لا سمح الله لا يتـّهم الإسلام بعدم جدارته لإدارة العالم في حل المشاكل الإقتصاديّة والعسكريّة والإجتماعيّة والسياسيّة).

ج) وأخيراً ففي بيان ثالث له يذكر المبنى العلمي لمعتقده هذا، والـّذي يبيّن من خلاله لأهل الفن والنظر، أنّ تغيّر الموضوع الناتج من تاثير الزمان والمكان، هو الـّذي يوثـّر على عمليّة الإجتهاد وإصدار الحكم، ولا سيّما بعد تصدّي رجال العلم والدين لإدارة الحكومة الإسلاميّة.

فيقول: (إنّ الزمان والمكان عنصران مؤثـّران في عمليّة الاجتهاد. فمثلاً الواقعة الـّتي كان لها حكم فيما سبق، بحسب الظاهر قد يكون لها حكم جديد إذا ما لوحظت بالمقاييس الحاكمة علی السياسة والإجتماع والإقتصاد لنظام ما.

بمعنی أنّ نفس الموضوع الاوّل والذي ليس له بحسب الظاهر فارق مع ما سبقه، يصبح موضوعاً جديداً بعد ما لوحظت فيه العلاقات الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة الحاكمة بصورة دقيقة. الأمر الذى يتطلب قهراً من المجتهد المحيط بمسائل زمانه أن يقدّم له حكماً جديدا).

ربط الفكرة بمبدأ ولايه الفقيه

هنا وقبل إنهاء الحديث، لا بأس أن نشير إلى مسئلة هي وإن كانت غير مرتبطة بصميم بحثنا، لكن الإشارة إليها لا تخلوا من فائدة.

وذلك باعتبار وجود نسبة العام والخاص من وجه فيما بينهما. أي بين نظريّة تأثير الزمان والمكان في الإجتهادات الفقهيّة والّتي هي مدار بحثنا، وبين نظريّة ولاية الفقيه كمشروع قيادي لزعامة الاُمّة الإسلاميّة.

فهما نظريّتان مستقلتان وغير مرتبطتان بصورة مباشرة. لكن يمكن إرجاع أصل بحثنا إلى مقولة تأثير الزمان والمكان في حكم المجتهد الولي فحسب، وإن لم يكن في إجتهاده غير الولائي. ولذلك عبّرنا عن وجود نسبة العموم والخصوص من وجه فيما بينهما.

وعلى أيّة حال، إذا ما كان هناك ثمّة مجازية في عبارة سابقة لنا إصطلحنا فيها عن الإمام الخميني& بكونه المجدّد لنظريّة تأثير الزمان والمكان في الإجتهاد، نرى أنفسنا غير مغالين حين نعتبره أوّل فقيه وفـّق للتنظير والتطبيق لفكرة ولاية الفقيه الـّتي آمن بها كلّ الايمان.

أي بعد ما أجهد نفسه من أجل التنظير لهذه الفكرة وتعديلها وإزالة الشكوك عنها، إستطاع وبحول من الله أن يطبّقها على مستوى الواقع الخارجى كنظريّة جديدة يُحسب لها حسابها الخاص فى المعادلات السياسيّة والنظريّات المطروحة في عالمنا المعاصر.

إذ هو عند التوفيق بين هاتين النظريتين، يذهب إلى أنّ حدود تصرّف الوليّ الفقيه الحاكم والمتصدّي، لم ينحصر بالأحكام غير الثابتة والجعولات الحكوميّة والولائيّة المسكوت عنها في الفقه.

بل حتـّى الأحكام الثابتة والمنصوص عليها من قبل الشارع أيضأ، يتمكـّن المجتهد من التغاضي عنها، إذا ما تعارضت مع المصالح العامّة للنظام الاسلامي والولائي. فطالما سمعناه فترة غزو العفالقة الصداميين على الجمهوريّة الإسلاميّة، يخاطب الشعب الإيراني المسلم ويذكـّرهم بأن الجهاد ضدّ الغزاة البعثيين، والمحافظة على الثغور الإسلاميّة، من أهم الواجبات بل هو أهم من الصلاة والصوم.

وكما أوضح ذلك في رسالة له إلى مرشد الجمهوريّة الإسلاميّة الفعلي آية الله الخامنئي بقوله: (يجب أن أعرض بخدمتكم أن الحكم الإسلامي هو جزء من ولاية رسول الله المطلقة. أي من الأحكام الإسلاميّة الاوّلية الـّتي تتقدم على جميع الأحكام الفرعيّة، حتـّى على الصلاة والصيام والحج و….. فالحكومة (الولاية الشرعية) لها شأنية الممانعة من كل شئ، عبادياً كان أو غير عبادي، إذا ما خالف جريانه مصالح الإسلام (العامة).

و بهذا البيان نكون قد وصلنا إلى نهاية بحثنا الـّذي تبيّن من خلال فقراته المتنوّعة أنّ الإمام الراحل الخميني المعظـّم، يفتح باب الزمان والمكان على مصراعيه أمام المجتهد ولا سيّما الفقيه المتولـّي لأمر الاُمّة الإسلاميّة، كي يجتهد في الأحكام حتـّى في الاُمور المسلـّمة والثابتة والمنصوص عليها من قبل الشریعة.

في الختام وكما أسلفنا فيما سبق، إنّ الإمام الخميني لم يكن هو الوحيد الذي تبنّى نظريّة تأثیر الزمان والمكان في الاجتهاد البناءة كمنهج ضروري للمدرسة الإجتهاديّة الـّتي هو أرسى قواعدها عملاً. فهناك الكثيرون ممّن نظـّر وسعى لتطبيقها في العهود التي سبقتنا.

أخص بالذكر منهم آية الله المصلح الشيخ محمّد رضا المظفـّر (م 1384 ق) وآية الله الشهيد الشیخ مرتضی المطهّري (م 1400 قمري) وآية الله العظمى الشهيدالسید محمد باقر الصدر (م 1401 قمري) وآية الله العلامة السید محمّد حسین الطباطبائي (م 1402 قمري) واُستاذنا الفقید آیة الله الشیخ محمد مهدي الآصفي (م 1436 قمري) رحمهم الله جميعاً.

فأنّ هؤلآء الأعلام يذهبون إلى ضرورة الإلتزام العملي بالقسم الاوّل من النظريّة. أي أننا شئنا أم أبينا يجب على فقهائنا المتصدّين أن يفتوا ويحكموا بما هو موافق ومساير لعنصرى الزمان والمكان. إذ هما وبعد ما قفز البشر المعاصر قفزات علميّة وتقنيّة فريدة من نوعها، صارا مؤثـّرين لا محاله فى الإجتهاد والإستنباط الفقهي.
.والحمدلله رب العالمین.

المصادر
القرآن الكريم
المكاسب/ للشيخ الأعظم الأنصاري (رض)
عقائد الإماميّة/ للشيخ المظفر (رض)
المدخل إلى علوم الإسلام/للشهيد المطهري (رض)
المعالم الجديدة /للشهيد الصدر (رض)
فلسفتنا/للشهيد الصدر (رض)
فرازهائى از اسلام (فارسي)/للعلامه الطباطبائي (رض)
كتاب البيع/للإمام الخميني (رض)
سى مقاله (فارسي)/للشيخ رضا الاستادي
الإصطلاحات / للعاملي

 

المصدر: مجلة الکوثر العدد 34-35

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky