الاجتهاد: صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة: اتّفقت الشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) على أنّ نوافل شهر رمضان تقام فرادى. وانّ إقامتها جماعة بدعة حدثت بعد رسول اللّه بمقياس ما أنزل اللّه به من سلطان. قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلى انفراداً والجماعة فيها بدعة..وقال العلاّمة: ولا تجوز الجماعة في هذه الصلاة عند علمائنا أجمع.( [24]) وقال في «المنتهى»: قال علماؤنا: الجماعة في نافلة شهر رمضان بدعة. ترى هذه الكلمة ـ أي إقامة النوافل في شهر رمضان بدعة ـ في عامّة الكتب الفقهية للشيعة الإمامية ولم يختلف فيها اثنان.
إنّ التهجّد في ليالي شهر رمضان سنّة مؤكّدة، ورد في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حسب ما يوافيك بيانه، والتهجّد فيها بنوافلها من أفضل المسنونات والمندوبات، وقد سنّها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ،
والهدف الذي يتوخّاه هذا المقال هو البحث في جواز إقامتها جماعة وعدمه، ويتجلّى ما هو الحقّ ضمن أُمور:
التراويح لغة واصطلاحاً
التراويح جمع ترويحة، وهي مأخوذة من الراحة بمعنى زوال المشقة والتعب، والترويحة في الأصل اسم للجلسة مطلقة، وسمّيت الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالترويحة، لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات، وهي المرّة الواحدة من الراحة، مثل تسليمة من السلام.( [3])
قيام ليالي رمضان بالتطوع سنّة مؤكّدة
إنّ قيام ليالي شهر رمضان سنّة مؤكدة ( [4]) حثَّ عليه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه.
1. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لرمضان من قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه.( [5])
2. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه.( [6])
3. أخرج الشيخ الطوسي باسناده عن أبي الورد، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «خطب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس انّه قد أظلّكم شهر، فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر رمضان، فرض اللّه صيامَه، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة، كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر، كأجر من أدّى فريضة من فرائض اللّه عزّ وجلّ، ومن أدّى فيه فريضة من فرائض اللّه عزّ وجلّ كان كمن أدّى سبعين فريضة من فرائض اللّه فيما سواه من الشهور… ».( [7])
4. أخرج الشيخ عن يونس بن عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى قال: كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) فسأل هل يزاد في شهر رمضان في صلاة النوافل؟ فقال: «نعم، قد كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي بعد العتمة في مصلاّه فيكثر».( [8])
5. أخرج الشيخ عن علي بن أبي حمزة ، قال: دخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال له أبو بصير: ما تقول في الصلاة في رمضان؟ فقال له: «إنّ لرمضان لحرمة وحقاً لا يشبهه شيء من الشهور، صلّ ما استطعت في رمضان تطوعاً بالليل والنهار، وإن استطعت في كلّ يوم وليلة ألف ركعة فصلّ انّ علياً (عليه السلام) كان في آخر عمره يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة ، فصلّ يا أبا محمد زيادة في رمضان» فقال: كم جعلت فداك؟ فقال: «في عشرين ليلة تمضي في كلّ ليلة عشرين ركعة، ثماني ركعات قبل العتمة واثنتي عشرة بعدها سوى ما كنت تصلي قبل ذلك، فإذا دخل العشر الأواخر فصلّ ثلاثين ركعة كلّ ليلة، ثمان قبل العتمة واثنتين وعشرين بعد العتمة سوى ما كنت تفعل قبل ذلك».( [9])
خير صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة
أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: إنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة، وانّ للمرء أن يجعل للبيت نصيباً من الصلاة.
1. أخرج مسلم عن ابن عمر، عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».( [10])
2. وأخرج أيضاً عنه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».( [11])
3. وأخرج أيضاً عن جابر قال، قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فانّ اللّه جاعل في بيته من صلاته خيراً».( [12])
4. أخرج مسلم عن أبي موسى، عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مثل البيت الذي يذكر اللّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللّه فيه مثل الحي والميت».( [13])
5. أخرج مسلم عن زيد بن ثابت، قال: احتجر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حُجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول اللّه يصلّي فيها قال: فتتبع إليه رجال و جاءوا يصلون بصلاته، قال: ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مغضباً، فقال لهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : مازال بكم صنيعكم حتى ظننت انّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فانّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة.( [14])
6. أخرج أبو داود عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد حجرة ، فكان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج من الليل فيصلّي فيها، قال: فصلّوا معه بصلاته ـ يعني رجالاً ـ و كانوا يأتونه كلّ ليلة، حتّى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم و حصّبوا بابه، قال: فخرج إليهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مغضباً، فقال: أيّها الناس، مازال بكم صنيعكم حتّى ظننت أن ستكب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فانّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة.( [15])
7. أخرج النسائي عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً.( [16]) وقد شبّه النبي البيت الذي لا يصلّى فيه بالقبر الذي لا يتعبّد فيه.
8. أخرج النسائي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جدّه قال: صلّى رسول اللّه صلاة المغرب في مسجد بني الأشهل، فلمّـا صلّى قام ناس يتنفّلون فقال النبي : عليكم بهذه الصلاة في البيوت.( [17]) وعلى ضوء هذا الإيصاء من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والسنّة التي أوصى بها غير مرة، تكون إقامة صلاة التراويح في شهر رمضان في المساجد مطلقاً ـ سواء أُقيمت جماعة أو فرادى ـ على خلاف السنّة وعلى خلاف إيصائه(صلى الله عليه وآله وسلم) غير مرّة، إذ تُمسي بيوت المسلمين بذلك كالقبور حيث لا يصلّى فيها ولا يتعبّد.
ولا أدري لماذا تركت هذه السنّة عبْـر القرون مع إصرار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على إقامة النوافل في البيوت؟!
والعجب من ابن حزم،فبينما هو يعترف بأفضلية كلّ تطوع في البيوت إذ يستثني منه ما صُلّي جماعة في المسجد، حيث يقول: «مسألة» وصلاة التطوّع في الجماعة أفضل منها منفرداً، وكلّ تطوع فهو في البيوت أفضل منه في المساجد إلاّ ما صُلّي منه جماعة في المسجد فهو أفضل.( [18])
ولا يخفى على القارئ الكريم انّ ما استثناه ابن حزم اجتهاد في مقابل النصّ، فكلام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مطلق يعمّ حالتي الفرادى والجماعة، وقد مرّ في رواية سعد بن إسحاق أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل فلما صلّى، قام ناس يتنفّلون، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : «عليكم بهذه الصلاة في البيوت».
فلو كان التنفّل مع الجماعة في المسجد أفضل من التنفّل في البيوت، لأرشدهم النبي إلى ما هو الأفضل مع أنّه قال بضرس قاطع: «عليكم بهذه الصلاة في البيوت» أي اتركوا التنفّل في المسجد مطلقاً فرادى وجماعة وعليكم بها في البيـوت.
لقد نقل المعلّق على «المحلّـى» تعليقاً في المقام، يدعم ما ذكرنا، قال ما هذا نصه:
«قال ابن حزم ما كان (عليه السلام) ليدع الأفضل، وهذا في هذه الوجهة، ثمّ قال: هنا الجماعة أفضل للمتطوع ، وقد علم كلّ عالم انّ عامة تنفّل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان منفرداً فعلى ما أصّل ابن حزم، كيف كان يَدَع الأفضل، فعلمنا انّ صلاة الجماعة تفضل بخمسة وعشرين درجة إذا كانت فريضة لا تطوعاً» و هو نقد وجيه، وهو الحق.
9. أخرج ابن ماجة عن عبد اللّه بن سعد قال: سألت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيّما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه إلى المسجد؟! فلأن أُصلّي في بيتي أحبّ إليَّ من أن أُصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة.( [19])
قال المعلّق في الزوائد: اسناده صحيح ورجاله ثقات.
10. أخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: «إذا قضى أحدكم صلاته فليجعل لبيته نصيباً، فانّ اللّه جاعل في بيته مـن صلاته خيراً».( [20])
ولا ينافي ما ذكرنا ما رواه الترمذي مرسلاً عن حذيفة انّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى المغرب، فمازال يصلّي في المسجد حتى صلّى العشاء الآخرة.( [21]) وذلك لأنّ الحديث محمول على وجود عذر خاص للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للتنفّل في المسجد بعد المغرب، وقد اتّفق للنبي التنفّل في المسجد في بعض الليالي، و كان كلّها استثناءً من القاعدة لأجل عذر خاص، كضيق في البيت أو غير ذلك.
فخرجنا بالنتيجة التالية: إنّ التنفّل في المساجد حتّى إقامة نوافل شهر رمضان فيها جماعة أو فرادى على خلاف السنّة النبوية، فعلى المسلمين إقامتها في البيوت لا في المساجد.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم إقامة نوافل شهر رمضان جماعة والتي يطلق عليها صلاة التراويح فنقول:
صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة
اتّفقت الشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) على أنّ نوافل شهر رمضان تقام فرادى. وانّ إقامتها جماعة بدعة حدثت بعد رسول اللّه بمقياس ما أنزل اللّه به من سلطان.( [22])
قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلى انفراداً والجماعة فيها بدعة.( [23])
وقال العلاّمة: ولا تجوز الجماعة في هذه الصلاة عند علمائنا أجمع.( [24]) وقال في «المنتهى»: قال علماؤنا: الجماعة في نافلة شهر رمضان بدعة.( [25])
ترى هذه الكلمة ـ أي إقامة النوافل في شهر رمضان بدعة ـ في عامّة الكتب الفقهية للشيعة الإمامية ولم يختلف فيها اثنان.
وقد تضافرت الأحاديث عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على أنّها بدعة محدثة حدثت بعد الرسول، ونذكر بعض ما أُثر عنهم:
1. روى الشيخ الطوسي في التهذيب عن عمّار، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) ، قال: سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد؟ قال: «لمّا قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي(عليهما السلام) أن ينادي في الناس: «لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة»، فنادى في الناس الحسن بن علي(عليهما السلام) بما أمره به أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلمّـا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا: واعمراه، واعمراه، فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين: الناس يصيحون: واعمراه، واعمراه، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : قل لهم صلّوا».
قال الشيخ الطوسي: إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) لما أنكر، أنكر الاجتماع ولم ينكر نفس الصلاة، فلمّا رأى أنّ الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس، أجاز وأمرهم بالصلاة على عادتهم.( [26])
2. أخرج الكليني عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل سألوا أبا جعفر الباقر(عليه السلام) وأبا عبد اللّه الصادق(عليه السلام) عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا: «إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال،
فقام(صلى الله عليه وآله وسلم) في اليوم الرابع على منبره، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى، فإنّ تلك معصية ألا فانّ كل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. ثمّ نزل وهو يقول: قليل في سنّة، خير من كثير في بدعة».( [27])
وأخرجه الشيخ في التهذيب.( [28])
3. أخرج الكليني عن عبيد بن زرارة، عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة، صلّى بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم، ثمّ يخرج أيضاً فيجيئون فيقومون خلفه، فيدعهم ويدخل مراراً».( [29])
وحصيلة هذه الروايات: انّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاهم بتركهم ودخوله البيت مرّة بعد أُخرى، غير انّ القوم لأجل رغبتهم في التنفّل جماعة وراء النبي، حال بينهم و بين ما يصبوا إليه النبي من تركهم ودخول البيت،
فلمّا رأى أنّهم يصرّون على ذلك قام في اليوم الرابع على منبره فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: «أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى، فانّ تلك معصية ألا فانّ كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار». ثمّ نزل وهو يقول:« قليل في سنّة خير من كثير في بدعة».( [30])
صلاة التراويح جماعة عند أهل السنّة
المشهور عند أهل السنّة هو جواز إقامة صلاة التراويح جماعة وعليه عملهم عبر القرون إلاّ أنّهم اختلفوا فيما هو الأفضل من الجماعة والانفراد:
قال الشافعي: صلاة المنفرد أحبّ إليّ منه.( [31])
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين:
فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامّة أصحابه: صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال.
والقول الثاني منهم من قال بظاهر كلام الشافعي وانّ صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة بشرطين:
أحدهما: أن لا تختل الجماعة بتأخّره عن المسجد.
والثاني: أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفرداً و يفرد أكثر ممّا يفرد إمامه.( [32])
قال النووي: اتّفق العلماء على استحبابها واختلفوا في أنّ الأفضل صلاتها في بيته منفرداً أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة واستمر عمل المسلمين عليه، لأنّه من الشعائر الظاهرة وأشبه بصلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إنّ صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «أفضل الصلاة، صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة» متّفق عليه. ( [33])
وقال الشوكاني: قالت العترة إنّ التجميع فيها بدعة.( [34])
وقد فصّل عبد الرحمن الجزيري في كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة» الأقوال على النحو التالي:
قالت المالكية: الجماعة في صلاة التراويح مستحبة أمّا باقي النوافل، فانّ صلاتها جماعة تارة يكون مكروهاً، وتارة يكون جائزاً، فيكون مكروهاً إذا صلّيت بالمسجد، وصلّيت بجماعة كثيرين، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه، وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة، ووقعت في المنزل ونحوه في الأمكنة التي لا يتردد عليها الناس.
وقال الحنفية: تكون الجماعة سنّة كفاية في صلاة التراويح والجنازة، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقاً والوتر في غير رمضان، وإنّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاث. أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مصححان، أحدهما: انّها مستحبة فيه، وثانيهما: انّها غير مستحبة ولكنّها جائزة، وهذا القول أرجح.
وقالت الشافعية: أمّا الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف و صلاة التراويح ووتر رمضان فهي مندوبة. وقالت الحنابلة: أمّا النوافل فمنها ما تسنُّ فيه الجماعة وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجد ورواتب الصلاة المفروضة.( [35])
هذه هي أقوال أهل السنّة وآراؤهم.
صلاة التراويح جماعة في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
سيوافيك في الفصل التالي انّ ظاهر الروايات وكلام الخليفة عمر بن الخطاب وما حوله من كلمات الشرّاح يدلّ على انّ إقامة نوافل رمضان جماعة تستمد مشروعيتها من عمل الخليفة لا من عمل النبي، لكن هناك من يقول بأنّ إقامتها جماعة تستمدّ مشروعيتها من إقامة المسلمين لها وراء النبي في بعض ليالي شهر رمضان وإن كان لا يتجاوز عن ليلة أو ثلاث ليال.
أقول: إنّ النصوص الدالّة على ذلك مختلفة وفيها شذوذ نشير إليها تباعاً.
1. إقامة صلاة التراويح ليلة واحدة
أخرج مسلم عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول اللّه حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلّون بصلاته، قال: ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال: فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مغضباً، فقال لهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : مازال بكم صنيعكم حتّى ظننت انّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فانّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة.( [36])
تفسير لغات الحديث
1. الحُجيرة ـ بضم الحاء ـ تصغير حُجرة، عَطف الحصير على الخصفة يعرب عن شك الراوي في تعيّن واحد منهم، ومعنى الرواية احتجر حجرة أي حوّط موضعاً من المسجد بحصير أو نحوه ليستره ليصلّي فيه ولا يمرّ بين يديه مارّ ولا يتهوش بغيره ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه.
2. «فتتبع إليه رجال» أي طلبوا موضعه.
3. «حصبوا الباب» أي رموه بالحصاء و هي الحصاء الصغار تذكيراً له وظنوا انّه نسي.
فلو صحّ الحديث لدلّ على أنّ المسلمين أقاموا نوافل شهر رمضان جماعة مع الرسول مرة واحدة من دون إذن أو استئذان، فلما جاءوا ليلة أُخرى فحضروا وأبطأ رسول اللّه عنهم فلم يخرج إليهم، رفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللّه مغضباً، وقال ما قال.
فعلى ضوء هذا الحديث لم تثبت مشروعية الجماعة بفعل الرسول، لأنّ القوم اقتدوا به من دون أن يستفسروا و يستبينوا حكمه، وأمّا الليلة الثانية فلم يقم الجماعة أبداً بل ظهرت ملامح الغضب على وجهه لما صدر عنهم من موقف مشين بالنسبة إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أوّلاً، وإصرارهم على إقامة النوافل جماعة ثانياً بالرغم من عدم استبانتهم حكمها.
2. إقامة صلاة التراويح ليلتين
وهناك روايات أُخرى تخالف الرواية الأُولى، وتذهب إلى أنها أُقيمت جماعةً في ليلتين.
أخرج البخاري عن عروة بن الزبير، عن عائشة أُمّ المؤمنين انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى ذات ليلة في المسجد وصلّى بصلاته ناس، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا أصبح، قال: قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان.( [37])
وأخرجه مسلم أيضاً في صحيحه.( [38])
3. إقامة صلاة التراويح ثلاث ليال
أخرج البخاري عن عروة انّ عائشة أخبرته انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد وصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدّثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلّى وصلّوا معه، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلّى وصلّوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتّى خرج لصلاة الصبح، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال: «أمّا بعد فانّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفّي رسول اللّه والأمر على ذلك.( [39])
وأخرجه مسلم في صحيحه.( [40])
أخرج البيهقي عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثمّ لم يقم بنا في الثالثة ، وقام بنا في الخامسة، حتّى ذهب شطر الليل، فقلنا: يا رسول اللّه لو نفلنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال : إنّه من قام مع الإمام حتّى ينصرف كتب له القيام ليلة، ثمّ لم يقم بنا حتّى بقي ثلاث من الشهر فصلّى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتّى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور.( [41])
وعلى هذه الرواية خرج في الليلة الرابعة(أو الثالثة والعشرين على قول بعضهم)( [42])والعشرين و السادسة والعشرين والثامنة والعشرين.
هذه عمدة ما روي في المقام.
والأخذ بمضمون هذه الروايات مشكل لوجوه عديدة:
1. الاختلاف في عدد الليالي و تواليها ومواقعها
إنّ بين هذه الروايات تعارضاً واختلافاً في أُمور ثلاثة:
الأوّل: وجود التعارض بين هذه الروايات في مقدار الليالي التي أقام فيها النبي النوافلَ جماعة، فانّ كلّ واحدة منها بصدد بيان ذلك، فهل أقامها النبي ليلة واحدة كما هو مضمون الرواية الأُولى؟ أو ليلتين أو ثلاث ليال، كما هو مضمون الطائفتين الأخيرتين؟ وهذا يعرب عن أنّ الرواة لم يضبطوا الواقع بشكل دقيق.
الثاني: الاختلاف في توالي الليالي وعدمه، فصريح رواية البخاري:«انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يُصلّي بصلاته ناس ثمّ صلّى من القابلة» انّ الليالي كانت متوالية، وصريح رواية أبي ذر انّها كانت غير متوالية، فقد صلّى معهم في الليلة الرابعة والعشرين، والسادسة والعشرين، والثامنة والعشرين.
الثالث: الاختلاف في مواضع الليالي، فالمتبادر من أغلبها أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى بهم في أوائل الشهر، وصريح رواية أبي ذر انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى بهم في العشر الأُخر.
ومع هذا الاختلاف كيف نؤمن بصحّة ما فيها من المضامين؟!
2. عدم إناطة التشريع برغبة الناس
إنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» يعرب عن أنّ التشريع تابع لإقبال الناس وإدبارهم، ولا أقلّ لإقبالهم، ومعنى هذا أنه لو أبدى الناس رغبةً في عمل ما، فرتما يُفرض عليهم، مع أن الملاك في فرض شيء، هو وجود مصلحة ملزمة فيه، سواء أكان هناك رغبة من الناس أم لا، فتشريعه سبحانه ليس تابعاً لرغبة الناس أو إعراضهم وإنّما يتبع الملاكات الواقعية، فالمصلحة الملزمة تستتبع تشريعها، وعدمها عدمه، ولمّا وقف شراح الصحيحين على هذا الإشكال مالوا يميناً ويساراً لحلّه.
قال ابن حجر في شرح جملة: «إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم» انّ ظاهر هذا الحديث انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) توقع ترتّب افتراض الصلاة في الليل جماعة على وجود المواظبة عليها ـ ثمّ قال: ـ و في ذلك إشكال.
إنّ ابن حجر وإن أحجم عن بيان مقصوده من الإشكال ولكن يمكن أن يكون إشارة إلى أمرين:
1. انّ الأحكام تابعة للملاكات الواقعية لا لرغبة الناس فيها ولا عنها.
2. انّ في الشريعة المقدسة أُموراً واظب عليها النبي والمسلمون كالمضمضة والاستنشاق، ولم تفرض عليهم، كما أنّ هناك أحكاماً رغب عنها كثير من المسلمين حتى في زمن النبي فضلاً عما بعده ومع ذلك بقيت على ما كانت عليه، ومثال ذلك حكم الجهاد الذي تقاعس عنه بعض المسلمين حتّى واجهوا تقريعه سبحانه وتبكيته حيث قال: ( يا أيها الذينَ آمنوا ما لَكُمْ إذا قيلَ لكُم انفِرُوا في سَبيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرضِ أرَضِيتُم بالحياةِ الدُّنيا مِنَ الآخرةِ ) .( [43])
إنّ بعض أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) كالإمام الباقر والصادق(عليهما السلام) نقلا كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه الذين كانوا مصرّين على إقامة نوافلهم جماعةً مع الرسول، وليس فيه أيّ إشارة إلى هذا التعليل، فقالا:
«إنّ رسول اللّه حمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس انّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل…» .( [44]) ترى أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب هذا النقل علل عدم حضوره لإقامة النوافل جماعة بأنّه أمر غير مشروع لا انّه خشي أن يُكتب عليهم.
3. مخالفة التعليل لنداء المعراج
أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن أنس بن مالك قال: فرضت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة أُسري به الصلوات خمسين، ثمّ نقصت حتّى جعلت خمساً ثمّ نودي يا محمد انّه لا يبدّل القول لدي وإنّ لك بهذه الخمس خمسين.( [45])
قال العسقلاني: وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الاسراء انّ اللّه تعالى قال: هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدل القول لديّ ، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟!( [46])
ثمّ ذكر الشارحان العسقلاني والقسطلاني توجيهات وتمحلات لا تغني ولا تسمن من جوع، وقد حكى القسطلاني في إرشاد الساري عن صاحب شرح التقريب تلك التمحلات وانّه قال: ومع هذا فانّ المسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء عن ذلك.( [47])
4. رغبة الصحابة لا تكون ملاكاً للتشريع في حقّ الأجيال
لو افترضنا انّ الصحابة أظهرت اهتماماً بصلاة التراويح بإقامتها جماعة، أفيكون ذلك ملاكاً للفرض على غيرهم، في وقت لم تكن فيه نسبة الحاضرين إلى الغائبين إلاّ شيئاً لا يذكر؟! فانّ مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومذاك كان مكاناً محدوداً لا يسع إلاّ لِما يقارب ستة آلاف شخص أو أقل، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة: كان مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) 35 متراً في 30 متراً ثمّ زاده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعله 57 متراً في 50 متراً.( [48]) أفيصحّ جعل اهتمامهم كاشفاً عن اهتمام جميع الناس بها عبْر العصور إلى يوم القيامة.
5. القدر المتيقّن من فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
لو افترضنا صحّة مضامين هذه الروايات، فإن الظاهر من روايات الصحيحين انّ النبي خرج في جوف الليل فصلّى في المسجد وهو كناية عن انّه صلّى في المسجد، النوافل الليلية، وهي لا تتجاوز ثماني ركعات، فسواء أقلنا انّه خرج ليلة واحدة أو ليلتين أو ثلاث أو أربع فقد خرج في جوف الليل لإقامة النوافل الليلية فاقتدى به من اقتدى من الصحابة، فعندئذ يكون الثابت من فعل النبي هو هذا المقدار وأين هذا من إقامة صلاة التراويح في عامة شهر رمضان في كلّ ليلة عشرين ركعة، ترويحة بعد أربع ركعات فتكون ستمائة ركعة إذا كان الشهر تاماً.
فلو قلنا بأنّ التشريع ثبت بفعل النبي فإنّما ثبت هذا المقدار القليل فما الدليل على الأكثر منه؟ يقول عبد الرحمن الجزيري في كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة»:
روى الشيخان أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج في جوف الليل ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين، وصلّى في المسجد، وصلّى الناس بصلاته فيها، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل.
وقال: ومن هذا يتبين انّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سنّ لهم التراويح والجماعة فيها ولكن لم يصلّ بينهم عشرين ركعة كما جرى عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن.( [49])
وممّن التفت إلى هذا الإشكال، القسطلاني، قال:
1. انّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.
2. ولا كانت في زمن الصديق. 3. ولا أوّل الليل.
4. ولا كلّ ليلة.
5. ولا هذا العدد.
ثمّ التجأ في إثبات مشروعيتها إلى اجتهاد الخليفة، وسيوافيك الكلام فيه.
وقال العيني: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنّها لهم ولا كانت في زمن أبي بكر، ثم إنه اعتمد في شرعيته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار النبي الناس يصلّون خلفه ليلتين.( [50])
وقال الشاطبي: وممّن نبّه بذلك من السلف الصالح، أبو أُمامة الباهلي قال: أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم، إنّما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فانّ أناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعاً لم يكتبها اللّه عليهم ابتغوا بها رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها فعاتبهم اللّه بتركها فقال: ( ورهبانية ابتدعوها ) .( [51]) فلم يبق هنا مبرر لأزيد ممّا ثبت من عمل النبي إلاّ عمل الخليفة وسوف نتكلم فيه.
6. صلاة التراويح بين اللغوية وعدم التشريع
إنّ التشريع الإلهي مصون من اللغو، فالمشرِّع هو اللّه سبحانه، وفعله منزّه عن اللغو والعبث، فعندئذ تتوجه الأسئلة التالية إلى مشروعية نوافل رمضان جماعة في عصر الرسول:
1. إنّ إقامتها جماعة في عصر الرسول لم تخل عن صورتين:
كانت إقامتها كذلك أمراً مشروعاً وسنّ سبحانه لنبيّه أن يقيمها جماعة.
لم تكن مشروعة وكانت الجماعة مختصة بالفرائض .
فلو كانت مشروعة، فلماذا أهمل النبي تلك السنّة في حياته بل كان عليه أن يجسِّد مشروعيتها حيناً بعد حين على وجه لا يخشى عليها الافتراض مع أنّه لم يفعل كذلك طيلة عمره، بل خرج مغضباً ورادعاً عن هذا الأمر؟! وهذا يعرب عن كون الواقع هو الأمر الثاني، و انّ إقامة النوافل مطلقاً، أو نوافل شهر رمضان جماعة، كان أمراً غير مشروع، ولذلك صارت متروكة في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصر الخليفة الأوّل وسنين في خلافة الثاني، ثمّ بدا له ما بدا.
2. إذا كانت إقامة صلاة التراويح جماعة، أمراً مشروعاً في الشريعة الإسلامية، فطبع الحال يقتضي أن تكون محددة من جانب الوقت، وأنّه هل تصلّى في أوائل الليل أو أواسطه أو أواخره، كما يجب أن تحدد من حيث عدد الركعات، حتّى لا يكون المصلّون على غمّة من الأمر.
فإذا كان النبي قد صلّى ثماني ركعات في المسجد، وأتمها في بيته، فلماذا لم يحدّد الركعات، ويبقى الأمر مكتوماً حتّى حدّده عمر بن الخطاب بعشرين ركعة من دون أن ينسبه إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكيف يحتجّ بفعله؟ فإنّ فعل الصحابة وقولهم ما لم يسندهما إلى المعصوم ليسا بحجّة إلاّ على نفسه.
3. كيف يتدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة، فقد أدخل فيها ما ليس منها، ليتساوى ـ في رأيه ـ أهل المدينة وأهل مكة في الفضيلة والثواب، فإنّ فتح هذا الباب لعمر بن عبد العزيز وأقرانه، يجعل الشريعة المقدسة شرعة لكلّ وارد، وألعوبة بيد الحكام يحكمون فيها بآرائهم.
4. ثمّ إنّ عمر بن عبد العزيز جعل عدد ركعاتها (36) ركعة، بحجّة أنّ أهل مكة يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة، فرأى أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات.
فلو صحّ هذا (يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات)، يجب أن يجعل عدد ركعاتها أربعين ركعة، لأنّ أهل مكة كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة، ومن المعلوم أنّهم كانوا ـ حسب هذا التعبير ـ يطوفون بعد عشرين ركعة طوافاً آخر، فيبلغ عد مرات طوافهم خمسة ، فلو أقيم مكان كلّ طواف أربع ركعات، لصارت الزيادة مع الأصل أربعين ركعة، عشرون ركعة بدل الطواف مضافة إلى عشرين ركعة مسنونة بالأصل.
نعم على ما نقله ابن قدامة من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة، يبلغ عدد مرات الطواف أربعة، فيصير عدد الركعات ستاً وثلاثين.
7. الاختلاف الكبير في عدد ركعات صلاة التراويح
اختلف الفقهاء في عدد ركعات صلاة التراويح ، فقال الخرقي في مختصره: وقيام شهر رمضان عشرون ركعة، يعني صلاة التراويح.
وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: والمختار عند الإمام أحمد عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، و أبو حنيفة، والشافعي. وقال مالك: ستة وثلاثون، وزعم أنّه الأمر القديم، وتعلّق بفعل أهل المدينة.( [52])
وقد اعتمد من جعله عشرين ركعة على فعل الخليفة عمر، في حين اعتمد من جعله ستّاً وثلاثين ركعة على فعل عمر بن عبد العزيز.
قال عبد الرحمان الجزيري في «الفقه على المذاهب الأربعة»: إنّ عددها ليس مقصوراً على الثماني ركعات التي صلاها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بهم، بدليل أنّها يكملونها في بيوتهم، وقد بيّن فعل عمر، أنّ عددها عشرون، حيث إنّه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة على ذلك.
نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز، فجُعلت ستاً وثلاثين ركعة، وكان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرة، فرأي عمر بن عبد العزيز أن يُصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات.( [53])
وربما يظن القارئ أنّ الاختلاف ينحصر بهذين القولين، ولكن الاختلاف في عدد ركعاتها أوسع من ذلك بكثير إلى حدّ قلّ نظيره في أبواب العبادات.
فمن قائل: إنّ عدد ركعاتها 13 ركعة، إلى آخر: أنّها 20 ركعة، إلى ثالث: أنّها 24 ركعة، إلى رابع: أنّها 28 ركعة، إلى خامس: أنّها 36 ركعة، إلى سادس: أنّها 38 ركعة، إلى سابع: أنّها 39 ركعة، إلى ثامن: أنّها 41 ركعة، إلى تاسع: أنّها 47 ركعة، وهلمّ جرّاً.( [54])
إنّ العبادة الجماعية كصلاة التراويح ، التي تقيمها الأُمّة الإسلامية في رمضان كلّ سنة، ينبغي أن تكون مبيّنة الحدود على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، محددة من جانب الركعات وغيرها من الجهات، لكن تسرّب الفوضى إليها من وجوه شتّى، يكشف عن عدم وجود نص من الرسول في الموضوع، أو وجود رغبة منه في إقامة الأُمّة لها بعد رحيله، فانّ السنّة المؤكدة، أو السنّة المرغوبة فيها تكون بعيدة عن الغمّة.
صلاة التراويح جماعة في كلام عمر
لم تنعقد الجماعة لنوافل شهر رمضان في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصر الخليفة الأوّل وسنين من عصر الخليفة الثاني، بل كان المسلمون يصلّون نوافل شهر رمضان في البيوت والمساجد فرادى .
نعم بدا للخليفة الثاني جمع المصلّين المتفرقين في المسجد على إمام واحد.
ويدلّ على ما ذكرنا ما أخرجه الشيخان في هذا المضمار.
أخرج البخاري عن أبي هريرة انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قام شهر رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه، قال: ابن شهاب: فتوفّي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر.( [55]) وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه.( [56])
قوله: «فتوفّي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر».
فقد فسّـره الشرّاح بقولهم: أي على ترك الجماعة في التراويح، ولم يكن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع الناس على القيام.( [57]).
وقال بدر الدين العيني: والناس على ذلك (أي على ترك الجماعة) ثم قال: فإن قلت: روى ابن وهب عن أبي هريرة: خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: «ما هذا» فقيل: ناس يصلّـي بهم أُبيّ بن كعب، فقال: «أصابوا ونِعمَ ما صنعوا»، ذكره ابن عبد البر. ثم أجاب بقوله، قلت: فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أنّ عمر ـ رضي اللّه عنه ـ هو الذي جمع الناس على أُبيّ بن كعب ـ رضي اللّه عنه ـ.( [58])
وقال القسطلاني: والأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، إلى آخر ما ذكره.( [59])
وقال النووي: في شرح قوله«فتوفّي رسول اللّه والأمر على ذلك» معناه: استمر الأمر هذه المدة على أنّ كلّ واحد يقوم رمضان في بيته منفرداً حتّى انقضى صدر من خلافة عمر ثمّ جمعهم عمر على أُبي بن كعب فصلّى بهم جماعة، واستمر العمل على فعلها جماعة.( [60])
وأخرج أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد القاري انّه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلّـي الرجل لنفسه ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ( [61])، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوّله.( [62])
قوله: «نِعمَ البدعة»:
إنّ الظاهر من قوله: «نِعمَ البدعة هذه» أنّها من سُنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.
قال القسطلاني: سمّاها (عمر) بدعة، لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنّ لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصديق، ولا أوّل الليل ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد ـ إلى أن قال: ـ وقيام رمضان ليس بدعة، لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر»، وإذا اجتمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة.
وقال العيني: وإنّما دعاها بدعة، لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر ـرضي اللّه عنهـ ولا رغب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها.( [63])
وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة، نذكر منهم:
1. قـال ابن سعد في ترجمـة عمـر: هو أوّل من سنّ قيـام شهر رمضان بالتراويح، وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة.( [64])
2. وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر: وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه.( [65])
قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23هـ: وهو أوّل من نهى عن بيع أُمهات الأولاد …وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّـي بهم التراويح.( [66])
إذا كان المفروض أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنّ الجماعة فيها، وإنّما سنَّها عمر، فهل يكفي تسنين الخليفة في مشروعيتها؟ مع أنّه ليس لإنسان ـ حتى الرسول ـ حقّ التسنين والتشريع، وإنّما هو (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغ عن اللّه سبحانه.
إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبي الأكرم وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الموحى إليه وبموته انقطع الوحي وسدّ باب التشريع والتسنين، فليس للأُمة إلاّ الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة، ولا يحقّ لها التشريع والتسنين، ومن رأى أنّ لغير اللّه سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.
قال ابن الأثير في نهايته، قال: ومن هذا النوع قول عمر : نِعمَ البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنّها لهم وإنّما صلاّها ليالي ثم تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمعَ الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر وإنّما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سمّاها بدعة وهي في الحقيقة سنّة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»، وقوله: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر».( [67])
وكلامه وكلام كلّ من برّر كون الجماعة سنّة، دالّ على أنّ للخلفاء حقّ التشريع والتسنين، أو للخليفتين فقط.
التشريع مختص باللّه سبحانه
إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنّ الاجتماع، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة، ومعناه أنّ له حقّ التسنين والتشريع، وهذا يضاد إجمـاع الأُمّة، إذ لا حـقّ لإنسان أن يتـدخّل في أمـر الشريعة بعـد إكمالهـا، لقوله تعـالى: ( اليَوْمَأَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) ( [68]) وكلامه يصادم الكتاب والسنّة، فانّ التشريع حقّ اللّه سبحانه لم يفوّضه لأحد والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلّغ عنه.
أضف إلى ذلك: أنّه لو أُعطي للخليفة الضوء الأخضر في مجال التشريع والتسنين، فلم لا يعطى مثل ذلك الضوء لسائر الصحابة مع كون بعضهم أقرأ منه كأُبي بن كعب، وأفرض كزيد بن ثابت، وأعلم كعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ؟!
وإذا كان الأمر كذلك، وحصل الجميع على ذلك الضوء، لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمرَ الدين، ويكون الدين أُلعوبة بأيدي غير المعصومين.
وأمّا التمسّك بالحديثين، فلو صحّ سندهما فإنّهما لا يهدفان إلى أنّ لهما حقّ التشريع،بل يفيدان لزوم الاقتداء بهما لأجل أنّهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لا أنّ لهما حقّ التسنين.
نعم يظهر ممّا رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد أنّ للخلفاء حقّ التسنين، قال: قال حاجب بن خليفة: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا أنّ ما سنّ رسول اللّه وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه.( [69])
وعلى كل تقدير، فنحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي، وفي ذلك يقول الشوكاني: والحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجة، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لنا إلاّ رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة، فمن قال إنّه تقوم الحجّة في دين اللّه بغيرهما، فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت، وأثبت شرعاً لم يأمر به اللّه.( [70])
استنباط مشروعيتها من تقرير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره: إنّ عمر استنبط مشروعيتها من تقرير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن صلّـى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنّما كرهه خشية أن يفرض عليهم. فلمّا مات النبيّ حصل الأمن من ذلك ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين.( [71])
يلاحظ عليه: أنّه لو كانت صلاة التراويح أمراً مشروعاً ومما سنّها اللّه سبحانه فلماذا كرهه النبي؟! ولو كانت الكراهة لأجل الخشية من الفرض، يكفي في دفعها، أقامتها حيناً بعد حين، فدخوله البيت وعدم حضوره في المسجد، طيلة عمره دالّ على أنّها لم تكن مشروعة، إذ لو كانت مسنونة لما تركها النبي بتاتاً، ونحن نعرف انّ التشريع المجرّد عن التطبيق على الصعيد العملي لغو لا يصدر من اللّه سبحانه.
روى أبو يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر، قال: التراويح سنّة مؤكّدة، ولم يتخرص عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعاً ولم يأمر به إلاّ عن أصل لديه وعهد من رسول اللّه. ولقد سنّ عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار وما رد عليه واحد منهم بل وافقوه وأمروا بذلك.( [72])
لقد برر أبو يوسف عمل الخليفة بالوجوه التالية، التي نناقشها تباعاً:
1. أصل لديه ، 2. عهد من رسول اللّه، 3. لم يعترض عليه أحد من الصحابة.
يلاحظ على الأوّل ماذا يريد من الأصل الموجود لدى الخليفة، وهل كان هذا الأصل يختص بالخليفة أو يعمّ غيره؟
وعلى الثاني ما هو العهد الذي كان عهده إليه رسول اللّه سوى انّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) امتنع من إقامتها جماعة وأمر بإقامتها في البيوت؟
وعلى الثالث أنّ الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) اعترض عليه ووصفها بالبدعة ولم تكن له يومذاك آذان صاغية، كما أن روايات سائر أئمة أهل البيت تكشف عن مخالفتهم لهذه البدعة.
وختاماً نقول: إنّ ما ثبت عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتجاوز عن انّه صلّى صلاة الليل ليلة أو ليلتين إلى أربع ليالي جماعة ثمّ دخل بيته ولم يخرج، فلو قلنا بأنّ عمل النبي هذا في هذه الظروف المحدقة بالإبهام حجّة، وغضضنا النظر عمّا حوله من ردود من النبي على إقامتها جماعة، فلا يصحّ لنا إلاّ هذا المقدار(ثماني ركعات) بشرط أن تكون الصلاة صلاة الليل لا مطلق النوافل.
خاتمة المطاف وفيها أُمور:
إقامة صلاة التراويح جماعة غفلة عن حكمة اللّه
لو كانت إقامة التراويح جماعة، سنّة مؤكدة، كان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوصي بإقامتها بعد رحيله، لارتفاع خوف الفرض على المسلمين برحيله. ومع ذلك لم ينبس (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك ببنت شفة، بل دخل بيته مغضباً، ولم يُقمها جماعة إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاث، كلّها على مضاضة.
وذلك يشير إلى أنّ الحكمة تكمن في إقامتها فرادى في البيوت لا في المساجد، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرف بمصالح ذلك العمل، الذي يُعطي للبيوت حظاً من البركة.
إنّ لتشريعات الإسلام وشعائره أسراراً وحكماً تدركها العقول تارة، و تخفى عليها تارة أُخرى، تغيب عن أذهان بعضهم آونة، وتنكشف لآخرين آونة أُخرى، تُجهل في مقطع زمني معيّن، وتُعلم في مقطع آخر.
وممّا لا شكّ فيه أنّ من وراء سنّة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) (الذي لا ينطق عن الهوى) في عدم إقامة صلاة التراويح جماعة، حكمةً سامية، قد تتجلى في الآثار الإيجابية التي تترتّب على إقامتها في البيوت فرادى، حيث يقف المصلّي بين يدي ربّه عزّ وجلّ خاشعاً خائفاً راجياً، يبثّه همومه وأحزانه، ويستمطر رحمته وعفوه وغفرانه، ينقطع إليه تعالى بكلّه لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا تكدّر موقفه شائبة من شوائب العجب والتباهي والرياء.
ثمّ إنّ إقامتها في البيوت يشيع عليها جواً من الإيمان والطهر والبركة والصفاء، حيث لا يخلو البيت من ذكر وتسبيح وصلوات. ولا ريب أنّ من يقطن في البيت (من زوجة وأولاد وغيرهم) سوف يعيش في رحاب هذه الأجواء، ويتنسَّم أريجها الفوّاح، وذلك لعمري من العوامل التربوية المهمة في الأخذ بأيديهم إلى حيث الهدى والصلاح والاستقامة والسلوك القويم.
يقول السيد شرف الدين: إنّ فائدة إقامتها في البيت فرادى، وهي إنّ المصلّي حين يؤديها ينفرد بربه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحّاً عليه، متوسّلاً بسعة رحمته إليه، راجياً لاجئاً، راهباً راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأً من اللّه تعالى إلاّ إليه، ولا منجي منه إلاّ به.
لهذا ترك اللّه السنن حرة من قيد الجماعة ليتزوّدوا فيها من الانفراد باللّه ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقلّ منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فإنّها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر. إمّا ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع، ويقلّل من جدواه.
أضف إلى هذا أنّ إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من البركة والشرف بالصلاة فيها، ويمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها والنشاط لها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأُمهات والأجداد والجدّات، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدّاً يرسخها في عقولهم وقلوبهم، وقد سأل عبد اللّه بن مسعود رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أيّما أفضل، الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) «ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلأن أُصلّـي في بيتي أحب إليّ من أن أُصلّـي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة» رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري.
وعن زيد بن ثابت أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «صلّوا أيّها الناس في بيوتكم فانّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة» رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه.( [73])
وحصيلة الكلام: قد روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: «فصلّوا أيّها الناس في بيوتكم فانّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة».( [74])
وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأداء النوافل في البيوت ابتعاداً عن الرياء والسمعة مطلقاً وليس مقيّداً بزمانه، وهذا يدلّ على مرجوحيّة أداء النوافل في المساجد.
فلو كانت الجماعة مشروعة في النوافل لكان الإتيان بها في المساجد جماعة أفضل من الإتيان بها في البيوت، إلاّ أنَّ تصريح النبي بأنّ الإتيان بها في البيوت أفضل كما في الحديث، فهذا ممّا يلوّح ـ على الأقلّ ـ بعدم مشروعيّة الجماعة فيها.
تقديم المصلحة على النصّ
إنّ عمل الخليفة لم يكن إلاّ من قبيل تقديم المصلحة ـ حسب تشخيصه ـ على النص وليس هذا المورد وحيداً في حياته بل له نظائر في عهده نظير:
1. تنفيذ الطلاق ثلاثاً بعد ما كان في عهد الرسول وبعده وسنين من عهده طلاقاً واحداً.
2. تحريم متعة الحجّ وقد تمتع الصحابة في عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) .
3. تحريم متعة النساء.
يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّـر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته.( [75])
إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانت تنبذ النص وتعمل بالرأي، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ونظائرها من هذا القبيل.
تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة بدعة
قد سمعت من أنّ الخليفة سمّى عمله بدعة حسنة، أو سمّى اجتماع الناس على إمامة أُبيّ بن كعب، بدعة حسنة، فإذا كانت البدعة عبارة عن التدخل في أمر الشريعة، فليس له إلاّ قسم واحد لا يثنّى ولا يكرر.
إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين:
الأُولى: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة، فعندئد يكون عمل الخليفة إحياءً لسنّة متروكة، سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصحّ قوله: «نعمت البدعة هذه» إذ ليس عمله تدخّلاً في الشريعة .
الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.
بين السنة والبدعة
البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرمات، لأنّ المبتدع ينازع سلطان اللّه تبارك و تعالى في مجالي العقيدة والشريعة ويتدخّل في دينه فيزيد فيه وينقص منه افتراء على اللّه سبحانه.
فإذا دار أمر العبادة بين كونها سنّة أو بدعة فاللازم تركها، لأنّ روح العبادة هو قصد التقرّب بإتيانها ولا يتمشّى قصد القربة بصلاة يحتمل كونها بدعة.
نحن نفترض أنّ ما سردناه من الأدلّة على عدم مشروعية التراويح جماعة، لم يفد اليقين بأنّ صلاة التراويح بدعة لكنّها تورث الشك في مشروعيتها، ومجرّد الشكّ فيها كاف في إلزام العقل بتركها، إذ لا يجوز التعبّد بعمل مشكوك.
فاللازم على المسلم المحتاط إقامة نوافل شهر رمضان بين الأهل والعيال في البيوت فرادى عسى أن يقيض اللّه رجالاً متحررين عن قيد التقليد، يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة من جديد، وذلك ببناء نهضة علمية وثّابة تعالج الخلافات الفقهية من جذورها، انّه خير مأمول وخير مجيب.
الهوامش
[1] -المائدة: 3 .
[2] -آل عمران: 103 .
[3] -لسان العرب:2، مادة روح.
[4] -سنّة مؤكّدة عند الإمامية وثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية.
[5] -صحيح البخاري:3/44، باب فضل من قام رمضان ; صحيح مسلم:2/176، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
[6] -صحيح مسلم:2/177، الباب نفسه.
[7] -التهذيب:3/57، باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه زيادة على النوافل.
[8] -التهذيب:3/60، باب فضل شهر رمضان، الحديث 8.
[9] -التهذيب:3/64، باب فضل شهر رمضان، الحديث 18.
[10] -صحيح مسلم:2/187ـ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
[11] -صحيح مسلم:2/187ـ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
[12] -صحيح مسلم:2/187ـ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
[13] -صحيح مسلم:2/187ـ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
[14] -صحيح مسلم:2/187ـ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
[15] -سنن أبي داود:2/69، حديث 1447.
[16] -سنن النسائي:3/197،باب قيام الليل وتطوع النهار.
[17] -سنن النسائي:3/198، باب قيام الليل و تطوع النهار; وأخرجه أحمد في المسند:5/427 و 428.
[18] -المحلّى:3/ 38.
[19] -سنن ابن ماجة:1/439 برقم 1378.
[20] -سنن ابن ماجة:1/438 برقم 1376.
[21] -سنن الترمذي:2/500 ذيل حديث604، وأخرجه أحمد في المسند:5/414
[22] -ذكر ذلك المقياس ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:4/240، وسوف يوافيك نصه.
[23] -الخلاف: كتاب الصلاة، المسألة 268.
[24] -التذكرة:2/ 282.
[25] -المنتهى:6/ 142.
[26] -التهذيب:3، باب فضل شهر رمضان، الحديث 30.
[27] – الكافي:4/ 154.
[28] -التهذيب:3/69باب في فضل شهر رمضان، الحديث 29.
[29] – الكافي:4/ 154.
[30] -الفقيه:1/87، كتاب الصوم.
[31] -المجموع:4/ 5.
[32] -الخلاف:1/528، المسألة268 من كتاب الصلاة.
[33] -شرح صحيح مسلم للنووي:6/ 286.
[34] -نيل الأوطار:3/ 50.
[35] – الفقه على المذاهب الأربعة:407، كتاب الصلاة.
[36] – صحيح مسلم:2/188، باب استحباب صلاة النافلة في بيته و جوازها في المسجد.
[37] -صحيح البخاري:2/49 باب تحريض النبي على صلاة الليل .
[38] -صحيح مسلم:2/177 باب الترغيب في قيام رمضان.
[39] -صحيح البخاري:3/45، باب فضل من قام رمضان.
[40] -صحيح مسلم:2/177، باب الترغيب في قيام رمضان.
[41] -سنن البيهقي:2/494، باب من زعم انّها بالجماعة أفضل; ونقله الشوكاني في نيل الأوطار:3/50، وقال: رواه الخمسة وصححه الترمذي.
[42] -الفقه على المذاهب الأربعة:1/ 251.
[43] -التوبة: 38.
[44] -الفقيه:1/87، كتاب الصوم
[45] -صحيح البخاري:1/75، باب كيف فرضت الصلوات في الاسراء; سنن الترمذي:1/417، باب كم فرض اللّه على عباده من الصلوات، الحديث 213، واللفظ للترمذي.
[46] -فتح الباري:3/ 10.
[47] -ارشاد الساري:3/ 428.
[48] -الفقه على المذاهب الخمسة:2850
[49] -الفقه على المذاهب الأربعة:1/ 251.
[50] -عمدة القارئ:11/ 126.
[51] -الاعتصام:2/ 291.
[52] -المغني:2/137ـ 138.
[53] -الفقه على المذاهب الأربعة:1/251، كتاب الصلاة، مبحث صلاة التراويح.
[54] -فتح الباري:4/204، إرشاد الساري:3/426، عمدة القاري:11/ 126. وقد تكلّفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتّتة.
[55] -صحيح البخاري:3/44، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم
[56] -صحيح مسلم:2/176، باب الترغيب في قيام رمضان.
[57] – فتح الباري: 4/ 203.
[58] -عمدة القاري في شرح صحيح البخاري: 6/125، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.
[59] -إرشاد الساري: 3/ 425.
[60] -شرح صحيح مسلم للنووي:6/ 287.
[61] -الرهط بين الثلاثة إلى العشرة.
[62] -صحيح البخاري:3/44، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم
[63] -عمدة القاري: 6/126 ـ وقد سقط لفظة « لا » من قوله و « رغب » كما أنّ كلمة « بقوله » بعد هذه الجملة في النسخة مصحّف « قوله » فلاحظ.
[64] -الطبقات الكبرى: 3/ 281.
[65] -الاستيعاب: 3/1145 برقم 1878.
[66] -روضة المناظر كما في النص والاجتهاد: 150.
[67] -النهاية: 1/ 79.
[68] -المائدة:3
[69] -تاريخ المذاهب الإسلامية. كما في بحوث مع أهل السنّة: 235.
[70] -المصدر نفسه.
[71] – فتح الباري: 4/ 204.
[72] -الموسوعة الفقهية الكويتية:13827 نقلاً عن فتح القدير:1/ 333.
[73] -النص والاجتهاد:151ـ 152.
[74] – سنن النسائي:3/161
[75] – فجر الإسلام : 238، نشر دار الكتاب.
المصدر: موقع سماحة المرجع الديني آية الله الشيخ جعفر السبحاني على النت