الاجتهاد: النموذج المعرفى الذى يعرف الآن بالعولمة ينطلق فى الأساس من إنكار المطلق ومن الاعتقاد بنسبية القيم والأخلاق وتهميش رسالات الأديان، وهذا النموذج ينبغى مواجهته بالنموذج المعرفى الإسلامى بقيمه الأصيلة وبثوابته الراسخة وبأخلاقه المحمدية، لأن نموذج العولمة يحمل فى طياته شيوع الفوضى والدمار والفتن والهلاك، وهذا المجال من أهم مجالات التجديد فى مجالات الفكر الإسلامي.
أكد فضيلة الدكتور شوقى علام، مفتي مصر، أن قضية التجديد والتطوير فى البحوث الفقهية من أهم القضايا التى تشغل بال أهل العلم فى العالم الإسلامى فى وقتنا الحاضر، مشيرًا إلى أن هذه القضية التى برزت على أغلب منصات المؤتمرات العلمية العالمية، وتردد صداها فى أروقة البحث العلمى الأكاديمي، حتى أصبحت قضيةُ التجديد هى واجبَ الوقت، وضرورةَ الضرورات.
وأوضح علام، فى كلمته الرئيسية بالندوة الدولية حول “تطور العلوم الفقهية” المنعقدة فى سلطنة عمان، أنه بالتجديد يتسنى لنا أن نساير متطلبات العصر والواقع، وأن نحقق مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء من غير إخلال بالثوابت أو إهدار لأى معلوم من الدين بالضرورة.
وأضاف علام، أن مصطلح التجديد والاجتهاد بين كل منهما من التلازم والاطراد والارتباط ما يكاد يجعلهما وجهين لعملة واحدة، فالتجديد من لوازم الاجتهاد الصحيح؛ لأن الاجتهاد معناه بذل الفقيه وسعه فى استنباط الحكم الشرعى، ويدخل فى هذا المعنى بالضرورة فقهُ النوازلِ المعاصرة والقضايا المستحدثة التى لم يرد فيها نصٌّ شرعي، وإنما يكون ذلك بإدراك علل التشريع وأسراره التى هى مناطات الأحكام الشرعية، والتى يتوقف على معرفتها وإدراك مسالكها فى نظر المجتهد عمليةُ الإلحاق أو القياس بشكل تام.
وشدد مفتى الجمهورية على أن إدراك الواقع وفهم تطوراته ومتغيراته ركن ركين من أركان التجديد والاجتهاد، ولن تثمر أية جهود للتطوير والتجديد ثمرة حقيقية إلا بدراسة الواقع والتعمق فى علومه وفهم تفاصيله وما يطرأ على أعراف الناس وثقافاتهم من تغيير إيجابى أو سلبي.
وأشار إلى أن بعض المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية المهتمين بقضايا التجديد قد يتصور أن إدراك الواقع قاصر على مجالات النوازل والمستجدات الفقهية فقط، وحقيقة الأمر أن هناك مجالات أخرى أوسع وأرحب تتعلق بالمفاهيم والتصورات العامة الكلية للوجود والحياة والغاية التى يجب أن يتغياها الإنسان من كل معتقداته وأفعاله وتصوراته، أى ما يتعلق بالنموذج المعرفى الإسلامى الذى يواجه ثورة حداثية معرفية شرسة تهدم الثوابت وتقلب الموازين وتعبث بالمفاهيم وتغير التصورات وتتلاعب بالمصطلحات.
وأضاف علام أن هذا النموذج المعرفى الذى يعرف الآن بالعولمة ينطلق فى الأساس من إنكار المطلق ومن الاعتقاد بنسبية القيم والأخلاق وتهميش رسالات الأديان، وهذا النموذج ينبغى مواجهته بالنموذج المعرفى الإسلامى بقيمه الأصيلة وبثوابته الراسخة وبأخلاقه المحمدية، لأن نموذج العولمة يحمل فى طياته شيوع الفوضى والدمار والفتن والهلاك، وهذا المجال من أهم مجالات التجديد فى مجالات الفكر الإسلامي.
وقال فضيلة المفتي: “لا بد لكل منصفٍ متابعٍ لجهود علماء العالم الإسلامى فى مجالات التجديد والتطوير، أن يُثمن جهودَ وزارة الأوقاف والشئون الدينية بسلطنة عمان التى تعقد هذه الندوة المباركة؛ ندوة تطوير الفقه الإسلامي، برئاسة معالى الشيخ عبدالله السالمى وزير الأوقاف والشئون الدينية، الذى نحمل له وللسلطنة قيادة وحكومة وشعبًا كل تقدير وحب وود، وذلك من خلال ما تطرحه هذه الندوة المباركة من قضايا جادة مهمة تشتد حاجةُ الأمةِ إليها فى ظلِّ المتغيرات والظروف الراهنة، وقد اختارت الندوة هذا العام قضيةً معاصرةً غاية فى الحساسية والأهمية ألا وهى قضية (فقه الماء فى الشريعة الاسلامية أحكامه الشرعية آفاقه الحضارية وقضاياه المعاصرة)”.
وأضاف فضيلته أن الماء نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى، امتن الله بها على الإنسان، وجعل منه آية عظيمة ومعجزة جليلة، قال الله تعالى فيه: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) وقال جل شأنه أيضًا (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَى أَفَلَا يُؤْمِنُون).
وقد جعله الله تعالى الوسيلة العظمى فى تطهير الظاهر، والوسيلة المثلى فى تهيئة العبد للدخول على الله تعالى بإزالة النجس ورفع الحدث، فهو آلة التطهير فى الوضوء والغسل، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَى رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا). وكان صلى الله عليه وسلم يقول فى مفتتح صلاته : (اللَّهُمَّ نَقِّنِى مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاى بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ) متفق عليه.
وأشار إلى أنه نظرًا لتوقف الحياة كلها على الماء وشدة احتياج الناس إليه فى معاشهم فقد جعله الله فى الأصل من المرافق العامة الجماعية التى يشترك فيها عامة الناس، وقد أكثر الله تعالى منه على اختلاف أنواعه ومصادره حيث تشير الإحصائيات العالمية إلى أن الماء يمثل 74 بالمائة من مساحة كوكب الأرض، والأصل فى الماء أن يكون مشاعًا بين الناس لا يُحمى ولا يحتكر.
وأضاف فضيلة المفتى أن قضية الماء من القضايا التى تشغل بال العالم كله الآن، وهى قضية ذات أبعاد جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية متشعبة ومعقدة، فالموارد المائية على اختلاف أنواعها تلعب دورًا أساسيًّا فى الحياة الاقتصادية والسياسية للدول والشعوب، ويثير الاختلاف حولها كثيرًا من الأزمات والمشاكل السياسية، مشيرًا إلى أنه من أجل ذلك اهتمت القوانين الدولية الحديثة بعقد الاتفاقيات وإبرام المواثيق الدولية التى تحافظ على الحقوق المشتركة بين دول المنبع ودول المصب، بما لا يضر بمصالح الشعوب، وبما يحقق أفضل استغلال للموارد المائية فى كافة المجالات الصناعية والزراعية ومجالات الكهرباء والطاقة دون نزاع أو شقاق.
وقال فضيلته: “إن الأزمات تحدث وتنشب الحروب والصراعات بين الدول بسبب الجور والطمع والخروج عن المواثيق والمعاهدات الدولية التى وازنت بين الحقوق والواجبات بميزان الحق والعدل”، مشيرًا إلى أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وما عليها من بشر وحيوان ونبات وقدر الأقوات والأرزاق بما يكفى حاجة البشر عبر القرون والأزمان، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين}.
وفى ختام كلمته قال فضيلة المفتى إنه فى مجال المياه والطاقة المائية وهندستها فى القرآن الكريم تعددت أبحاثُ العلماء المعنيين بقضية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، ولا زالت آيات المياه تمثل مكنزًا ثريًّا لمزيد من الجهود والأبحاث التى تبرز الجوانب الحضارية لقضايا المياه من خلال تدبر آيات القرآن الكريم.