خاص الاجتهاد: صدر حديثاً كتاب ” الزواج المدني: بحث في أهم الإشكاليات الفكرية والدينية والاجتماعية” لفضيلة الدكتور الشيخ محمد شقير، ضمن 122 صفحة من الحجم المتوسط، والذي يناقش فيه قضية الزواج المدني من جوانبها الفكرية والدينية والاجتماعية متجاوزاً الصبغة القانونية للمشروع ومبيناً لآثار تبنّي هكذا مشروع وانعكاساته على المجتمع والأسرة قيمياً وأخلاقياً. قراءة: تيسير نبيل
أولى الشرع الإسلامي أهمية كبرى للزواج، فجعله رباطاً مقدّساً وأفرد له مجموعة من التشريعات المنظّمة لهذه العلاقة المقدّسة. في المقابل تعلو وتيرة بعض الأصوات المجتمعية المطالبة بالزواج المدني.
وفي هذا السياق صدر حديثاً كتاب ” الزواج المدني: بحث في أهم الإشكاليات الفكرية والدينية والاجتماعية” لفضيلة الدكتور الشيخ محمد شقير، ضمن 122 صفحة من الحجم المتوسط، والذي يناقش فيه قضية الزواج المدني من جوانبها الفكرية والدينية والاجتماعية متجاوزاً الصبغة القانونية للمشروع ومبيناً لآثار تبنّي هكذا مشروع وانعكاساته على المجتمع والأسرة قيمياً وأخلاقياً.
ففي ظل التحركات الهادفة إلى إقصاء الدين عن المجتمع، وتبنّي خلفية فكرية تنتمتي إلى التوجهات الغربية، نجد أن هناك موقفاً من الدين يتجاوز التشريع، ليشكل منظومة وأيدولوجية تخرج المجتمع عن هويته وثقافته، ومنها الزواج المدني، مما يستلزم بحث وتحليل الخلفية الفكرية التي تقف وراء الزواج المدني، بالإضافة إلى عرض أهم فقرات قانون الزواج المدني والمخالفة لما جاء به التشريع (الكتاب والسنة) وصولاً إلى طرح التدعايات الاجتماعية المترتبة على هكذا قانون.
يحتوي الكتاب على ثلاثة محاور أساسية؛
المحور الأول يتناول الزواج المدني في التصور الإسلامي،
المحور الثاني علّة رفض الزواج المدني دينياً ضمن مقاربة إسلامية،
المحورالثالث ليقدّم دراسة نقدية تحليلية لأهم موجباته المفاهيمية، ومقارنة في نماذج من مواده.
*الزواج المدني في التصور الإسلامي:
قد يتبادر إلى الذهن أن الاختلاف بين الزواج الديني والمدني يعود إلى مسألة أنّ الزواج المدني لا يجريه رجل الدين، في حين يغفل الكثيرون عن أن الزواج في الإسلام لا يستلزم أن يجريه رجل الدين، وإنما ساد هذا الاعتقاد من باب العرف. إذن فالزواج الديني هو الذي يستمد مشروعيته من الدين، بخلاف الزواج المدني الذي لا يعتمد على التشريع السماوي.
نعم قد تدفع مجموعة من الأسباب إلى اللجوء إلى الزواج المدني، فتارة تكون الأسباب ذات خلفيات دينية لتحمّل الدين سوء الفهم من الأفراد والتطبيق، وتارة تكون أسباب لها علاقة بأهداف أخرى، كالسعي لتحقيق المدنية وتجاوز الطائفية من خلال تبني قانون الزواج المدني. في حين يقف طرف ثالث ليحصر الدين في المعابد فقط ويبعده عن مجالات الحياة المختلفة منها الاجتماعية.
فعندما يتجاوز الزواج المدني القانون التشريعي، لا يصبح الزواج المدني مجرد عقد يعود إلى حرية اختيار طرفي العقد، فالآثار الناجمة عن التخلي عن التشريع ستعود على المنظومة المجتمعية كاملة لتحرفها عن ثقافتها وقيمها وهنا ينتفي حق الاختيار مقابل المصلحة العامة للكيان المجتمعي.
* الزواج المدني لماذا يُرفض دينياً:
ضمن مقاربة الزواج المدني بموضوعية يتبين عدّة نقاط:
1- أنه لا تخيير بين الشرع وبين مخالفة الشرع
2- حجم الكبير للمخالفات الدينية الواردة في قانون الزواج المدني
3- عدم إمكانية فصل الدين عن القيم والمفاهيم الأخلاقية
4- الأحكام الدينية ضمانة للضوابط التي تحول دون انحراف الأسرة والمجتمع
5- الزواج المدني ليس وليدة التجربة الحديثة إنما يمكن مراجعة آثاره الاجتماعية ونتائجه الأسرية
وبالمحصلة يتبين أن إقصاء الدين عن الحياة المجتمعية لم يثمر إلا بتهاوي البنيان الأسري والقيم المجتمعية، وإن حمل المجتمع نحو المدنية لا يتم عبر خلط الأمور والمساس بقضية ذات تأثير ثقافي وأخلاقي كقضية الزواج، وإن الخلط بين الدين والطائفية لن يطهر المجتمع من مفاسد الطائفية، فالصدام بين خصوصيات الطوائف ليس بحل، وإنما يكمن الحل في تفعيل القواسم المشتركة مع حفظ خصوصيات الأديان والطوائف.
وبعد توضيح الموقف الديني من الزواج المدني، يتناول الكتاب مفصلين آخرين ضمن المحور الثاني،
الأول يتمحور حول البحث عن مشروعية الزواج المدني لإقامة الدولة المدنية وتحقيق الاندماج الوطني بين الطوائف. وهنا لا بد من عدم الخلط بين القيم الدينية والعصبيات الطائفية، فليس من العدالة تحميل الدين آفات العصبية والطائفية في حين يدعو الدين إلى التسامح والعيش المشترك والاندماج الوطني،
وهنا نذكر على سبيل المثال الوضع القائم في الجمهورية الإيرانية حيث أنها لم تستبعد الدين والتشريعات السماوية بالوقت نفسه تتمتّع الدولة بدرجة عالية من المدنية ومواكبة الحداثة كما تحفتظ بخصوصية الأديان والمعتقدات. إن المشكلة ليست في الطائفية نفسها حتى نسعى لإزالة الخصوصيات وتغيب الهويات وإنما في سوء توظيف واستغلال التنوع الطائفي وترويج ثقافة العصبية وعدم قبول الآخر.
أما المفصل الآخر فيقودنا إلى تميز حدود العلاقة بين الدين والحرية. فالدين إيمان لا ينفك عنه العمل، والحرية في فلسفة الدين تأخذ بعداً أعمق، فتحرر النفس من كل عبودية سوى عبودية الخالق، وتتقيد بمبدأ عدم الإضرار بالغير والشأن العام.
وحينما يتجاوز أثر مشروع الزّواج المدني حدود الفرد ليشمل الكيان الأسري والمجتمعي، فتنتفي حرية الأفراد ويصبح من حق المجتمع تحديد موقفه من القانون والاعتراض عليه، لأنه أصبح بمثابة القانون المجتمعي لا الفردي. من هنا يؤكد الكاتب على أن رفض الزّواج المدني لا يمثل رفضاً للحريات بل هو نوع من الممارسة الصحيحة للحرية المجتمعية، مقابل ما يهددها من قوانين وتشريعات يمتد أثرها ليطال الأسرة والمجتمع.
* تحليل أهم موجبات الزّواج المدني ومقارنة نماذج مواده:
يستند مشروع الزّواج المدني إلى عدة مفاهيم ذات ألفاظ براقة تروج وتسوق لقانون المشروع ضمن مصطلحات ينشدها الجميع ولا يختلف عليها أحد، لكن كلاٌ وفق رؤيته ومرجعيته، سواءالدينية أو العلمانية.
1-العدالة: وقد عرّفها القانون بالمساواة، في حين الاختلاف الشاسع بين المفهومين، فالمساوة لا تعني بالضرورة تحقيق العدالة بل قد تحمل ظلماً بين طياتها.
2-الطائفية والطوائف: حيث يتم إقرار قانون وطني لا طائفي للأحوال الشخصية، والذي يطمس كل خصوصية دينية، ويخلط بين الدين والطائفية.
3-التطور العلمي: وهو طرح يحمل العديد من التناقضات بين مفرداته، ويتهم الدين بالحيلولة دون التطور، فكيف يثبتون صحة دعواهم؟ بالمقابل فإن تشكيل قوانين اجتماعية وفق تطورات علمية، تخلق حالة من اللااستقرار المجتمعي، في حين ثبات متطلبات الفطرة الإنسانية، الأمر الذي يعرض البنية المجتمعية إلى أن تكون رهينة التغيرات والتجارب العلمية.
4-السيادة: وتحت مظلّة إدعاء السيادة الوطنية تبرز حالة من ازدواجية المعايير، فتجعل من قانون الزّواج المدني تحقيقاً للسيادة الوطنية، مقابل الصمت على انتهاك السيادة اللبنانية ممن يعقد زواجه طبق قوانين البلاد الأخرى. أليس في ذلك نوعاً من انتهاك السيادة؟
5-الإنسانية: حيث قدّم القانون مقترحات بالعناية بذوي الحاجات الخاصة والمعوقين. وبالحقيقة فإن مشروع القانون لم يقدّم سبقاً على الدين في هذا المجال، فالدين والتشريع أولى إهتماماً بذوي الاحتياجات، ولم يشكل عقبة في زواجهم، إذ لا فرق في الحقوق بين الأصحاء وذوي الاحتياجات.
وبالانتقال إلى مقارنات بعض مواد قانون الزّواج المدني، نلاحظ مخالفتها الصريحة للكتاب والسنة، فقد جعل التبني وعلى خلاف الشرع، مانعاً من الزواج، كما يبطل مشروع القانون تعدد الزوجات ويعتبره باطلاً بخلاف ما أجازه الشرع. أيضاً بالنسبة إلى شروط الزواج ومسائل إتمام العقد فقد اختلفت عما جاء به التشريع، حيث اشترط وجود شاهدين راشدين لاتمام عقد الزواج، في حين جعله الشرع شرطاً في الطلاق لا العقد.
أما مسألة الطلاق فقد تباينت كلياً مع الشرع حيث أجاز مشروع القانون ما يُسمى بالهجر، وهو انفصال الزوجين في المسكن والمعيشة مع بقاء الرابطة الزوجية، كما سلب القانون صلاحية الطلاق من الزوج وجعله بأمر المحكمة، كما اختلفت القوانين الخاصة بالعدّة واختزلها جميعاً في مدة ثلاثة أشهر دون تميز بين الحالات.
وهكذا يتوضح حجم مخالفات مواد قانون الزّواج المدني للتشريعات الدينية، التي لا يجوز التغاضي عنها بحجة شعارات الحرية أو المدنية، بل إن التغاضي عن هكذا مشروع يؤدي إلى الكثير من التداعيات الاجتماعية والدينية والأسرية. وهنا يجب الحذر من اتباع دعايات تجيد لغة الجذب دون التنبه إلى مضمون هكذا قوانين والآثار المترتبة عليها.
نعم هناك الكثير من المشاكل الأسرية بحاجة لحلول من كافة الأطراف المعنية، لكن ضمن الحفاظ على الشريعة، والمرتكزات الدينية، التي تستوعب التطور والتي تمتاز بغناها القيمي والأخلاقي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية تفعيل باب الاجتهاد، وإعادة النظر في فهم بعض المسائل والقضايا الأسرية للنهوض بالمجتمع ضمن مجموعة من الأطر الدينية والأخلاقية والقيمية.