منطقة الفراغ

منطقة الفراغ ؛ قواعد وفوائد.. آية الله الشیخ باقر الایرواني

الاجتهاد: السید الشهید الصدر: لا تدلّ منطقة الفراغ على نقصٍ في الصورة التشریعیّة أو إهمالٍ من الشریعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استیعاب الصورة وقدرة الشریعة على مواكبة العصور المخّتلفة لأن الشریعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي یعني نقصاً أو إهمالا وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثةٍ صفتها التشریعیّة الأصلیة مع إعطاء ولي الأمر صلاحیّة منحها صفة تشریعیّة ثانویّة حسب الظروف، فإحیاء الفرد للأرض مثلاً عملیّة مباحة تشریعاً بطبیعتها ولولي الأمر حقّ المنع عن ممارستها وفقاً لمقتضیات الظروف.

لا إشكال في أن النبي صلى الله علیه وآله قد أكمل الدین لقوله تعالى:- ﴿ الیوم اكملت لكم دینكم ﴾، ولكنه لم یكمل الدین بتفاصیله، وعلیه فالآیة الكريمة حینما قالت ﴿ الیوم أكملت﴾ كیف یصحّ مثل ذلك والحال أنّ التفاصیل لم تبيّّن؟!

والجواب:- إنّه لابد وأن یكون المقصود من الآیة الكريمة هو بعد جعل العترة الطاهرة أحد الثقليّن حتى یثبت لها المرجعیّة المذهبیّة والتشریعیّة، فإنه بعد أن جعلت العترة مرجعاً في التشریع لحدیث الثقليّن یصحّ بأن تقول الآیة الكريمة آنذاك ﴿ الیوم اكملت لكم دینكم ﴾، فالإكمال حصل بضّم مرجعیّة أهل البیت علیهم السلام – أعني المرجعیّة التشریعیّة -، فالعترة إذن هي مرجعٌ في التشریع، وقد بيّّن الأئمة الكثير الكثير من تفاصیل الأحكام، وعند إلقاء نظرة سریعة على وسائل الشیعة یثبت صدق ما نقول، فتفاصیل الصلاة قد سئل عنها الأئمة علیهم السلام بعد ذلك من قبل زرارة وأقرانه، فتفاصیل الصلاة ثبتت منهم علیهم السلام وكذلك تفاصیل الحج …. وهكذا.

وقدّم لنا الأئمة علیهم السلام قواعد عاّمة يمكن الاستفادة منها على مرّ الزمان، من قبیل قاعدة الاستصحاب والطهارة والحلیّة ولا ضرر ولاحرج والفراغ والتجاوز وما شابه ذلك من القواعد.

ولكن بقیت مساحة لم تملئ بالتشریع منهم علیهم السلام ومنح إكمالها للحاكم الاسلامي بحسب اقتضاء الظروف، ولكن من الطبیعي أنّ الأئمة علیهم السلام أعطونا قواعد كلّیة والحاكم الإسلامي هو الذي یطبّقها بحسب الحوادث والظروف التي تطرأ، فقد یطرأ ظرفٌ یهجم فیه العدوّ على بلاد الإسلام فمن باب قاعدة لزوم الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلميّن یصدر الحاكم الإسلامي حكماً بلزوم الدّفاع تطبیقاً لتلك الكبرى الكلّیة على المصداق الخارجي، فمثل هذه القضیّة یتركها الإمام إلى الحاكم الإسلامي، وإنما لم یصدّى لها الإمام بالمباشرةً لأجل مدخلیّة الزمان في ذلك، فالإمام أعطى الحكم الكلّي ویبقى التطبیق على الحاكم الإسلامي.

وإذا فرض أن بلاد الإسلام كان نظامها الاقتصادي يخاف علیه من الانهیار فمن باب الحكم بلزوم الحفاظ على النظام الاقتصادي الإسلامي یلزم
على الفقیه أن یفتي بلزوم دفع الضرائب بالمقدار المناسب، كأن یفرضها على الأغنیاء فقط، وقد یشمل حتى متوسطي الحال، وهكذا بما یراه مناسباً.

وهكذا لو خیف على البلاد بسبب تصدیر بعض البضائع، واخراج العملة الصعبة منها فیصدر حكماً بالمنع.
وهكذا لو فرض أنّ استيراد بضاعةٍ ما ومن دولةٍ معیّنة كان تقویةً للظالم أو ما شابه ذلك فیصدر منعاً من هذا الاستيراد مثلاً, والأمثلة من هذا القبیل كثيرة.

إن هذه مساحة تترك إلى الحاكم الإسلامي یشخّّصها بحسب الظروف، نعم الحاكم الإسلامي لا يملئها من دون دلیلٍ ومستندٍ حتى یقال بأنّه لیس بمشرّعٍ بل توجد عنده أحكام كلّیة قدّمها له الأئمة علیهم السلام وهو یقوم بتطبیق تلك الكبريات الكلیّة على الصغريات، وهذه المساحة يمكن أن یطلق علیها ب(مَنطقة الفراغ)، وإن شئت تسمیتها باسم آخر فلا مانع، والذي أظنه أنّ منطقة الفراغ بالتفسير الذي ذكرناه – والذي ینبغي أن یعدّ نقطة قوّة في التشریع الإسلامي – قضیةٌ لا يختلف فیها الفقهاء بل ینبغي أن تكون مسلّمة، فأيّ فقیهٍ یعلم بهجوم الأعداء ولا یصدر حكماً بالدّفاع عن تلك البلاد ؟!! واذا فرض أن استيراد بضاعةٍ ما كان یؤدّي الى تقویة الجهة الظالمة فینبغي أن یصدر حكماً بالمنع.

إنّ هذه قضیّة ینبغي أن تكون محلّ اتفاق الفقهاء، غایته أنّ مصطلح منطقة الفراغ لم یكن متداولا بینهم ولكنّ واقع منطقة الفراغ فهو قضیّة ینبغي أن تكون مسلّمة بینهم.

وفي هذا المجال ألفت النظر الى بعض الأمور:-

الأمر الأوّل:- ویشتمل على نكاتٍ ثلاث:

النكتة الأولى:– ذكرنا أنّ قوله تعالى:- ﴿الیوم اكملت لكم دینكم ﴾ یراد به إكمال الدین من خلال جعل العترة الطاهرة مرجعاً مذهبیّاً أو تشریعیاً،

وقد یقول قائل:- لم لا نعكس ونقول إن الآیة الكريمة تدلّ بالمطابقة على إكمال الدین من قبل النبي صلى الله علیه وآله وبالالتزام على عدم الحاجة إلى مرجعیّة العترة الطاهرة إذ الآیة بنفسها تدلّ على أنّ الدین قد كمل، فكما يحتمل أن یكون المقصود ما ذكرته يحتمل أن یكون المقصود ما أشرنا الیه، ولا أقل بأن تكون الآیة الكريمة مجملة من هذه الناحیة ؟

والجواب:– إنّ هناك قرینتيّن تدلّان على أن المقصود هو ما أبرزناه نحن، دون الاحتمال الثاني.

القرینة الأولى:- واقع الحال، فإن الدین لم یكمل بتفاصیله عند رحیل النبي الأعظم صلى الله علیه وآله، فتفاصیل الصلاة والحج وما أشبهه لم تكن ثابتة، بل لا تتسع حیاة الرسول صلى الله علیه وآله لذلك . إذن یتعيّّن أن یكون المقصود من قوله تعالى:- ﴿ الیوم أكملت لكم دینكم ﴾ – بعد الالتفات إلى ما أشرنا إلیه من واقع الحال – ما أشرنا الیه، یعني أكملت لكم دینكم بنصب أهل البیت علیهم السلام مرجعاً في مقام معرفة الأحكام الشرعیّة.

القرینة الثانیة:– حدیث الثقليّن، فإنّه مسلّم بيّن الفریقيّن بل هو متواتر عندهم، فإنه بعد أن أمر بالتمسّك بالأئمة علیهم السلام يأتي الإشكال وهو أنّه لو كمل الدین فما هي الحاجة إلى التمسّك بالأئمة علیهم السلام، فالثقل الثاني لا حاجة إلى الأمر بالتمسّك به إذ الدین قد كمل ؟

إذن لا بد – بعد أن أمرنا بالتمسّك بالثقل الثاني – وأن یكون المقصود من أن كمال الدین قد حصل بنصبهم وبالأمر بالتمسّك بالأحكام الصادرة منهم وإلا فیبقى حدیث الثقليّ منافیاً لكمال الدین، أي تقع المنافاة بيّن الآیة الكريمة التي تقول ﴿ الیوم اكملت لكم دینكم ﴾ فلا حاجة إلى الأئمة وبيّن حدیث الثقليّن الذي یقول تمسكوا بالعترة . إذن لا بد وأن یكون المقصود هو ما أشرنا إلیه.

النكتة الثانیة:- إن أهل البیت علیهم السلام لهم منصبان منصب الإمامة والمرجعیّة السیاسیّة ومنصب الإمامة والمرجعیّة المذهبیّة والتشریعیّة، وبتعبيرٍ أخر:- لهم الإمامة السیاسیة والإمامة التشریعیّة، ولكن ما هو الدال على الإمامة السیاسیة وما هو الدال على الإمامة التشریعیّة ؟

الجواب:- إنّ حدیث الغدیر یدلّ على الإمامة السیاسیّة دون الإمامة المذهبیّة والتشریعیّة، فإن الوارد فیه یتناسب مع الإمامة السیاسیة لا غير، حيت ورد فیه ( ألست أولى بكم من أنفسكم؟! ( و ) من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ) وغيرها، إنّ هذه لا تتناسب مع المرجعیّة التشریعیّة وانما تتناسب مع المرجعیّة السیاسیّة كما هو واضح. إذن حدیث الغدیر یدلّ على ثبوت المرجعیّة السیاسیة لأهل البیت علیهم السلام.

وأما حدیث الثقليّن فهو یدلّ على المرجعیة التشریعیّة حیث قال:- ( ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا (، فالمقصود هنا هو الرجوع إلیهم في مقام التشریع والحصول على الأحكام.

إذن لا یوجد حدیثٌ واحدٌ یدلّ على كلتا المرجعیّتيّن وإنما یوجد حدیثٌ یدلّ على المرجعیّة الأولى وحدیثٌ آخر على المرجعیّة الثانیة، فحدیث الغدیر یدلّ على المرجعیة السیاسیّة ونصب الأمير قائداً سیاسیاً على الامة، وحدیث الثقليّن یدلّ على المرجعیّة التشریعیّة.

النكتة الثالثة:– إنّ آیة ﴿ الیوم اكملت لكم دینكم ﴾ كما دلّت على ما أشرنا إلیه – من أن الدین قد كمل مع ضمّ العترة – فهي تدلّ على أن إكمال الدین بعد نصب الإمام أمير المؤمنيّن علیه السلام خلیفةً بعد النبي صلى الله علیه وآله اذ هو الجزء المهم والمكمّل للدین، ولكننا الآن لسنا بصدد هذا بل نحن بصدد بیان أنّ حقّ التشریع انتقل إلى الأئمة علیهم السلام ونستفید ذلك من آیة ﴿ الیوم اكملت لكم دینكم ﴾ إذ لولا ذلك لما صحّ التعبير ب ﴿ الیوم اكملت لكم دینكم ﴾ إذ لم یكمل الدین حقّاً من دون نصب الأئمة علیهم السلام مرجعاً مذهبیّاً وتشریعیّاً إذ تفاصیل الأحكام لم تُبنيّ.

الأمر الثاني:– إنّ منطقة الفراغ كما قلت ینبغي أن تكون مورد اتفاقٍ عند الكل، نعم التعبير بهذا المصطلح جاء متأخراً إلا أنّ واقع الحال هو الاتفاق على هذه القضیّة، وقد أشار السید الشهید)قده( إلى منطقة الفراغ بما نصّه:- ) ….حالات عدم وجود موقفٍ حاسمٍ للشریعة من تحريمٍ أو إيجابٍ یكون للسلطة التشریعیّة التي تمثّل الأمة أن تسنّ من القوانيّن ما تراه صالحاً على أن لا یتعارض مع الدستور وتسمى مجالات هذه القوانيّن بمنطقة الفراغ (، وقد عبّر)قده( بأنّ السلطة التشریعیة لها أن تسنّ ما تراه صالحاً ولعلّ – من جهة تعبيریّة – المناسب أن یعبر بدل ) ما تراه صالحاً (بعبارة ) بما یقتضیه العنوان الثانوي أو الحفاظ على البلاد الاسلامیة أو حیاة المسلميّن (، فإنّ كلمة ) صلاح أو المصلحة ( تشعر بالتناغم مع الاتجاه المقابل، مضافاً إلى أنّه خالٍ من الصبغة العلمیّة، بخلاف ما لو عبّرنا بما أشرت إلیه كأن یقول ) للسلطة التشریعیة أن تسنّ ما یقتضیه الحفاظ على نظام الإسلام والبلد الإسلامي ( فإنّ هذا التعبير یعطي الخلفیّة الفقهیّة لثبوت هذا الحقّ للسلطة التشریعیّة، فإنّه یدلّ على أنّ السلطة التشریعیّة تصنع ذلك من باب التطبیق للقانون الكلّي القائل ) يجب الحفاظ على نظام الإسلام والبلد الإسلامي وحیاة المسلميّ وتنظیم حیاتهم (، فهذا حكمٌ كلّيٌّ مسلّمٌ ونحن كسلطةٍ تشریعیّةٍ نشرّع ما یكون صغرى لهذا القانون العام، إنّ التعبير لو كان كما أردنا لكان مشيراً إلى الخلفیّة الفقهیّة وإلى الصبغة العلمیّة.

الأمر الثالث:- إنّ منطقة الفراغ كما أوضحنا هي نقطة قوّة وكمال في التشریع الإسلامي لا نقطة ضعف، ولكن قد یتصوّر البعض أنها نقطة ضعف باعتبار أنّ الإسلام لم يملأ تلك المساحة لعدم وجود التشریع عنده فأوكل الأمر إلى غيره من باب أنّ الغير أعرف بالتشریع المناسب، فهي بهذا الاعتبار تكون نقطة ضعفٍ لا نقطة قوّة.

ونحن نقول:- كلّا، فإنّ الإسلام جعل هذه المساحة من دون تكلیفٍ لأجل أن یتسایر مع جمیع الأزمان، فإن المناسب لكلّ فترة زمنیّة شيءٌ معيّّن فیترك تحدید ذلك الشيء المعيّّن للحاكم الإسلامي، فمثلا فتح أو غلق باب الاستيراد من دولةٍ معیّنة، فقد یكون من المناسب في فترةٍ فتح باب الاستيراد فیما إذا كان لیس مضعفاً للدولة الإسلامیّة ولا نظامها الاقتصادي، وقد یكون من المناسب في فترةٍ أخرى غلق باب الاستيراد … وهكذا.
إذن الإسلام قد ترك ذلك لأجل أن یتسایر مع الزمن.

ونلفت النظر إلى أن الإسلام حینما ترك الأمر للحاكم فهو لم یتركه بشكلٍ مطلق العنان بل حدّد له قواعد وضوابط معیّنة وقال ) إن تحقّقت صغرى هذه الكبرى فاحكم بما هو المناسب لهذه الكبرى (، فأعطاه مثلا كبرى لزوم المحافظة على الاقتصاد الإسلامي وأنت أیها الحاكم تلاحظ الفترة الزمنیّة، فالاستيراد إذا كان في صالح النظام الإسلامي فاحكم بجوازه وإلّا فلا.

إذن التشریع في الحقیقة هو من الإسلام وهذه قضیة ینبغي ان تكون واضحة، وقد أشار الیها السید الشهید)قده( بما نصّه:- ) ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقصٍ في الصورة التشریعیّة أو إهمالٍ من الشریعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استیعاب الصورة وقدرة الشریعة على مواكبة العصور المخّتلفة لأن الشریعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي یعني نقصاً أو إهمالا وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثةٍ صفتها التشریعیّة الأصلیة مع إعطاء ولي الأمر صلاحیّة منحها صفة تشریعیّة ثانویّة حسب الظروف، فإحیاء الفرد للأرض مثلاً عملیّة مباحة تشریعاً بطبیعتها ولولي الأمر حقّ المنع عن ممارستها وفقاً لمقتضیات الظروف (.

الأمر الرابع:- هل دائرة الفراغ تختصّ بالمباحات أو تعمّ دائرة الواجبات والمحرّمات أیضا ؟
والجواب:- إ ن الصورة الغالبة هي في دائرة المباحات، فالفقیه یغيّر الحكم في دائرة المباح، فمثلاً یغيرها من المباح إلى الوجوب أو إلى الحرمة، كما في مثال الاستيراد فإنّ حكمه هو الاباحة وللحاكم الإسلامي تغیير ذلك إلى الحرمة إذا كان یضعف الد ولة الإسلامیة وقد یوجب ذلك إذا فرض توقّفت حیاة المسلميّن على ذلك، وهكذا في مثال اشغال الأرض بالزرع أو السكن.

إذن منطقة الفراغ تكون في دائرة المباحات أمّا في دائرة الواجبات والمحرّمات فلا باعتبار أنّ الواجب ثابتٌ لا یتغيّر عمّا هو علیه وكذلك الحرام بخلاف المباح الذي یقبل التغيّر . إذن دائرة الفراغ تكون في دائرة المباحات، وعلى ذلك بنى السید الشهید)قده( حیث قال:- ) وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحیات ولي الأمر … كلّ فعل مباحٍ تشریعاً بطبیعته، فأي نشاط وعمل لم یرد نصّ تشریعي یدلّ على حرمته أو وجوبه یسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانویّة بالمنع عنه أو الأمر به، فاذا منع الإمام عن فعل مباحٍ بطبیعته أصبح حراماً، وإذا أمر به أصبح واجباً .

وأما الأفعال التي ثبت تشریعاً تحريمها بشكلٍ عام كالربا مثلاً فلیس من حقّ ولي الأمر الأمر به، كما أنّ الفعل الذي حكمت الشریعة بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته لا يمكن لولي الأمر المنع عنه لأنّ طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامّة، فألوان النشاط المباح بطبیعتها في الحیاة الاقتصادیة هي التي تشكّل منطقة الفراغ ( .

إذن منطقة الفراغ تكون في دائرة المباحات كما قال)قده(.

وألفت النظر إلى بعض الأمثلة المفیدة:-
منها:- الأحكام الولائیّة التي تصدر من ولي الأمر، من قبیل فرض بعض الضرائب كالخمس فإنه حكمٌ ولائي – بناءً على ذلك – ففي مثل هذه الحالة یكون أیضاً من هذا القبیل، فالدفع شيء مباحٌ ولكن أُلزِم به لضرورة زمنیّة باعتبار حاجة مذهب التشیّع إلى ذلك من باب الحكم الولائي إذ هو مصداقٌ من مصادیق ذلك.

وبالمناسبة أنبه إلى شيء:- فإن البعض قد یعترض بأنّ روايات الخمس هي ناظرة إلى الحكم الولائي، فالإمام الكاظم أو الرضا علیهما السلام الذي صدر عنه وجوب الخمس فصدوره هو من باب الحكم الولائي ویترتّب على ذلك أنه بوفاته علیه السلام ینتهي أمد هذا الحكم إذ لم یكن هذا الحكم حكماً شرعیّاً إلهیاً وإنّما هو حكمٌ ولائيّ كما قلنا فینتهي بانتهاء ولایته.

وقد أجیب عن هذه المسألة في الفقه بوجود رواياتٍ تدلّ على ذمّ وطعن مانع الخمس، ولكن بقطع النظر عن هذا نقول:- لو سلّمنا بأنّه حكمٌ ولائيّ فالفقیه یتمكّن من ذلك أیضاً بالحكم الولائي المعطى له، فلو فرضنا عدم وجوب الخمس للزم تعطیل طلب العلوم الدینیّة وبالتالي إمحاء التشیّع أصلا، فإنّ بقاء المرجعیّة والتشیع بالخمس كما هو واقع الحال، وقد اعترف بذلك حتى أعدائنا.

إذن يمكن فرض الخمس ولو بعنوان توقّف المذهب على ذلك . فإذن ما ذكره المعترض من أنّ روايات الخمس ناظرة إلى حكمٍ ولائيّ ولا يحقّ لكم أخذ الخمس حتى لو سلّمناه فهو لا ینفعه لما بیّناه.
ونعود إلى صلب الموضوع فنقول:- إنّ السید الشهید)قده( یقول إنّ منطقة الفراغ تجري في دائرة المباحات فقط.

ولكن نحن نقول:- لا مانع من امتداد دائرة منطقة الفراغ إلى الواجبات والمحرّمات أیضا:-

أمّا في دائرة الواجبات:- فمثال ذلك الحجّ فإنه لو فرض أنّ الحجّ في سنةٍ من السنيّ استوجب مذلّةً ومهانةً على اتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام أو فرض وجود وباءٍ معيٍّّن بحیث ینتقل إلى بلدنا بالكامل بسبب الحجاج بشكلٍ قرّر الأطباء بأنّ اصابة الغير به احتمالٌ قويّ جداً فللحاكم الإسلامي أن يمنع من الذهاب للحجّ في هذه السنة لأنّا نعلم بأن الإسلام لا یرید أن یصیب كلّ البلاد بالوباء، أو أنّ أتباع مدرسة أهل البیت تصیبهم المذلّة والإهانة فانّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنيّن.

وأمّا في دائرة المحرّمات:- كما لو فرض وقوع حربٍ بیننا وبيّن عدونا – كما هي الآن بالفعل – والانتصار یتوقّف على هدم بیوت جماعة من الأبرياء قد تحصّن بها العدوّ واتخذها ذریعةً له فللحاكم أن يأمر بهدمها وإن كان هدمها حراماً بالعنوان الأوّلي ولكنه أصبح واجباً بالعنوان الثانوي.
إذن منطقة الفراغ امتدت إلى دائرة الواجبات والمحرّمات.

وأنا احتمل أنّ السید الشهید)قده( – وان كانت عبارته مطلقة – یسلّم بما ذكرناه ویقبله ولكنه یقصد من المحرّمات تلك المحرّمات التي عرفنا من الخارج أنها لا تقبل ذلك كالربا.

إذن هو ناظرٌ إلى هذا المعنى لا غير، ولكنا نقول إنّه حتى في مثل الربا يجري فیه ما قلناه، فاذا توقّف حفظ بلاد الإسلام على القروض الربویّة فیمكن أن نلتزم بجوازه، بل حتى في الحالات الفردیّة، فلو فرض أن شخّصاً اضطر إلى المأكل والمشرب ولا طریق آخر له إلّا الربا فنلتزم بجوازه حینئذٍ أیضاً.

الأمر الخامس:– ما هو الدلیل على أن الحاكم الإسلامي له هذا الحقّ في منطقة الفراغ ؟ ففي الشيء المباح مثلاً يحكم بأ نّه واجبٌ أو حرامٌ تبعاً لاختلاف المورد، فمثلا في مسألة التنباك يحكم بالتحريم، وفي مسألة هجوم العدوّ يحكم بالوجوب وهكذا، فما هو الدلیل على ذلك؟

أجاب السید الشهید)قده( عن ذلك:- بأنّ المستند هو قوله تعالى ﴿ يا أیها الذین آمنوا أطیعوا الله وأطیعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾، ولم یذكر تقریبا لذلك، ولعلّ وجه الدلالة هو أن إثبات هذا الوصف – وهو ) أولي الأمر ( – للحاكم الإسلامي لابد وأن یكون المقصود منه ما إذا كان الشيء مباحاً وأراد أن يحكم بوجوبه أو بحرمته لمصلحةٍ تقتضیها الفترة الزمنیّة، فیحكم بلزوم الدفاع مثلاً أو يحكم بحرمة التنباك، فهو من أولي الأمر في هذه المساحة فتجب إطاعته، أمّا المساحة المرسومة والمبيّّن حكمها من قبل الله عزّ وجلّ فهو لیس من أولي الأمر لأنّ ذلك من مورد إطاعة الله عزّوجلّ.

إذن لابدّ وأن نفترض الإطاعة لأولي الأمر في الآیة الكريمة في مساحة المباحات، فالحكم إذا بیّنه الله عزّ وجلّ فهو إطاعة لله تعالى.

إذن لابد وأن نفترض أنّ الحكم الذي يحكم به الحاكم الإسلامي – كتحريم التنباك – لم یصدر من الله تعالى بأن لم تدلّ علیه آیة أو روایة ولا یصدق علیه أنّه إطاعة لله أو الرسول فیكون إطاعةً لأولي الأمر . هذا ما قد یقرّب به دلالة الآیة الكريمة، وهو بیانٌ ظریفٌ ووجیه.

ولكنّي أقول:- هذا مبنيّ على تعمیم عنوان أولي الأمر لغير الأئمة علیهم السلام، أمّا إذا اقتصرنا في هذا العنوان على الأئمة علیهم السلام وقد یؤكده إطلاق الأمر بالإطاعة حیث یدلّ على العصمة ویكون مختصاً بهم علیهم السلام، فعلى هذا الأساس الاستفادة منه في حقّ الحاكم الإسلامي شيءٌ مشكل بعد احتمال كون عنوان أولي الأمر مختصّاً بهم علیهم السلام، خصوصاً على ما ذكرناه في باب الإطلاق من أن شرط انعقاده هو أن یكون مستهجناً عرفاً إذا أرید به المقیّد واقعاً، وهنا لو ظهر المتكلّم وقال إنّ المقصود من أولي الأمر هو الأئمة علیهم السلام فلا یستهجن منه ذلك ولا یقال له لِمَ لمَْ تقیّد إذ أنّ البعض یصدق علیه عنوان أولي الأمر؟ كّلا لا یستهجن منه ذلك.

وعلى أيّ حال إنّ هذا الأمر مبنيٌّ على هذه القضیّة، وكان من المناسب له)قده( أن یشير إلى ذلك أن عنوان أولي الأمر یشمل كلّ أحد غایته نقول- انتصاراً له – إنّه خرج منه الحاكم الظالم، أمّا غير الظالم فالعنوان شامل له . إذن هذا البیان مشكلٌ.

والأجدر أن یقال:- إنّه بعدما كانت وضیفة الحاكم الإسلامي هي الحفاظ على بلاد الإسلام من كلّ الزوايا كالاقتصادیة والاجتماعیة والتعلیمیّة وما أشبه ذلك، بل لو لم یكن هناك حاكمٌ إسلاميّ لوصلت النوبة إلى عدول المؤمنيّ الواعيّ والمثقفيّ إذ لا يحتمل أن تترك البلاد الإسلامیة بلا ولٍيّ للأمر وتكون فوضى .

إذن لابدّ من شخّصٍ یدّبر الأمور والناس یسيرون خلفه، وإذا سلّمنا بأن هذا المتصدّي يجب علیه أن يحافظ على البلاد الإسلامیة، فبالدلالة الالتزامیة تجب متابعته وإلا یلزم اللغویة، فمثلاً أنه يحرم الاستيراد من دولة كذا وأنتم لیس علیكم المتابعة ؟! إنه لغوٌ وعبثٌ .

إذن القضیة واضحة ولا تحتاج إلى آیةٍ أو روایة.

وبعبارة أخرى:- بعد أنّ فرضنا وجود حاكمٍ تلزمه المحافظة على البلاد الإسلامیة وتلزمه مراعاه العناوین الثانویّة ویلزمه أن يملأ منطقة الفراغ بالشكل المناسب، فاذا سلّمنا بهذا كلّه فیلزم علینا أن نسير وراءه ونطیعه، فالدولة إذا كان یلزمها تهیئة الكهرباء للناس فبالدلالة الالتزامیة یلزم علینا أن نسدّد أجور الكهرباء – بالمقدار الوجیه والمناسب – ولا يحقّ لنا التذرّع بذریعة مجهول المالك وما أشبه ذلك، فصحیحٌ أنّ الماء مباحٌ ولكن الدولة تهيء لك ذلك وتوصله إلى بیتك، وعلیه إذا كان البناء على عدم إعطاء الجمیع للأجور فسوف يحرم الجمیع من نعمة الماء .

إذن بعد فرض وجوب المحافظة علیه یلزم علینا الإطاعة.

الأمر السادس:- ما هو الفرق بيّ منطقة الفراغ وبيّ مقاصد الشریعة والمصالح المرسلة ؟ ففي منطقة الفراغ تشرّعون أحكاماً بعنوان منطقة الفراغ، وصاحب مقاصد الشریعة یصدر أحكاماً على أنها من مقاصد الشریعة، فأحرّم كلّ وسیلة نتیجتها نتیجة الربا من باب أن لا تجتمع الأموال في جهةٍ معینة.
والجواب:- في منطقة الفراغ یكون الحكم جزمیاً، فیفترض وجود كبرى كلّیة جزمیّة، فمثلا ) یلزم المحافظة على حیاة المسلميّن في شتّى المجالات ( فهذه كبرى جزمیّة، والصغرى جزمیّة أیضاً فمثلاً ) نحتاج إلى ثلّة یدرّسون الطب والهندسة وما شاكل ذلك( فهذه قضیّة جزمیة أیضاً، وإذا كانت الكبرى جزمیّة والصغرى كذلك فالنتیجة جزمیّة بلا إشكال، فیحكم بوجوب دراسة الطب والهندسة وما أشبه ذلك، ولم نتبع الظن في ذلك أبداً.

وهذا بخلافه في مقصد الشریعة فإنه لا یوجد شيءٌ جزميّ إذ كیف تعرف مقصد الشریعة – بنحو الجزم – في الربا وهو أن لا تجتمع الأموال في جهة معیّنة ؟! فأقصى ما هناك هو الظن، فعلل الأحكام وملاكاتها مجهولةٌ عندنا، فالعلّة لا یطلع علیها العقل، ولو اطلع فقد یغفل عن عدم المانع أو الشرط، وحینئذٍ لا يمكن أن يجزم بمقاصد الشریعة وملاكاتها . نعم لو حصل جزمٌ في موردٍ من الموارد لسلّمنا بذلك، ولكن العادة هي عدم حصول الجزم.

إذن الفارق بيّ منطقة الفراغ وما ذكر واضح.

الأمر السابع:- هناك تساؤلٌ أو إشكالٌ وهو أنّه كیف نربط بيّ الثابت والمتغيّر فإن أحكام الشریعة ثابتة وباقیة إلى یوم القیامة، ففي الروایة عن الإمام الباقر علیه السلام:- ) قال جدّي رسول الله صلى الله علیه وآله:- أیها الناس حلالي حلال إلى یوم القیامة، وحرامي حرام إلى یوم القیامة، ألا وقد بینهما الله عزّ وجلّ في الكتاب، وبینتهما لكم في سنّتي وسيرتي ( ، وعن زرارة:- ) سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الحلال والحرام، فقال حلال محمد حلال أبدا الى یوم القیامة لا یكون غيره ولا يجيء غيره ( ، وعن الإمام الباقر علیه السلام:- ) إنّ الله تبارك وتعالى لم یدع شیئا تحتاج إلیه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبیّنه لرسوله، وجعل لكلّ شيءٍ حدّاً، وجعل علیه دلیلاً یدلّ علیه، وجعل على من تعدّى الحدّ حداً (.

إذن أحكام الشریعة ثابتة إلى یوم القیامة والحیاة – كما نعرف – في تجدّد وتغيّر فكیف تكون الأحكام الثابتة مسایرة للزمن ؟ نعم هي نافعة في الفترة التي جاءت فیها – كزمن النبي صلى الله علیه وآله مثلاً – فالحیاة كانت بدائیة أمّا الآن فالحیاة قد تغيرت تغيراً كاملاً من شتّى الجوانب فكیف یلتئم هذا الثابت مع هذا المتغير؟ إنّ المناسب لتغيّر المتغيّر أن یكون الحكم متغيّراً أیضاً، أمّا أن یكون ثابتاً وما یرتبط به متغيّراً فهو شيءٌ غير ممكن؟

وفي مقام الجواب نقول:- إنّ أحكام الإسلام على أنحاء مختلفة:-

النحو الأوّل:– لا یقبل التغيّر إلى الأبد مثل وجوب الصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن النكر والخمس والزكاة وحرمة الزنا والقتل والظلم وما شاكل ذلك، إنّ هذه أحكام مستمرة إلى الأبد ولا يمكن لقائلٍ أن یقول إنّ الحیاة قد تطورت فكیف تستمر هذه الأحكام ؟

فإنّ الجواب واضحٌ لأنّ الحاجة إلى هذه الأحكام حاجة غریزیة فطریة، فالإنسان دائماً يحتاج إلى الارتباط بالله عزّ وجلّ من خلال الصلاة أو الصوم أو من خلال غير ذلك، فالظلم والسرقة وقتل البريء دائماً هو مبغوضٌ ولا يختلف باختلاف الزمان وهذا نظير الطعام والشراب والنوم فإنّه لا يمكن أن یستغنى عنها فإنّ الطعام حاجة غریزیة من الداخل فلا يمكن أن یعیش الإنسان من دون الطعام والنوم، وهنا أیضاً لا يمكن أن ترتبط حیاة الانسان ویكون إنساناً مستقیماً ومعتدلاً إلا من خلال الطقوس المعیّنة، ولا معنى لأن یقول قائل نحن الآن نعرف الله عزّ وجلّ لا من خلال هذه الأمور ففي الزمان الأوّل كانوا يحتاج ون إلى الارتباط والآن لا نحتاج إلى الارتباط من خلال هذه الطقوس لأننا أصبحنا نتصل بالله عزّ وجلّ من خلال معرفتنا بعظمته وقدرته في السماء والأرض والمخّلوقات التي خلقها والدقّة الموجودة في الكون.

وجوابه واضح:- وهو أنّ مجرّد هذا لا يجعل ارتباطاً بيّ العبد وبيّ مولاه، فإنه من خلال الصلاة یشعر المؤمن بالارتباط ومن خلال الصوم والحج یشعر بالارتباط . إذن الذي يحصل به الارتباط هي هذه الطقوس وهي كما قلنا تمثّل حاجة غریزیة كالطعام والشراب والنوم.

النحو الثاني:– أحكام قابلة للتغير بتغيّر الزمان، والارتباط بيّ المتغيّر والثابت يحصل من خلال هذا، وإلّا فالأول كما قلنا فیه حاجة مستمرة إلى یوم القیامة، أمّا القسم الثاني ففیه أحكام قابلة للتغير باختلاف الزمان لكن من حیث المصداق لا من حیث أصل الحكم كما مثلنا سابقاً بالآیة الكريمة ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ﴾ فمصداق ) من قوّة ( في ذلك الزمان شيء وفي هذا الزمان شيء آخر ولا یقول علیكم الاقتصار على السهم والقوس والفرس والرمح والسیف، كلّا بل نلاحظ الزمان الذي نحن فیه فإن كان زمان الطائرات فنعدّ الطائرات .. وهكذا، فالحكم ثابتٌ – وهو ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ﴾ – ولكن مصداق القوّة قد تغيّر، وبذلك تمكن الإسلام أنّ یربط بيّ الثابت والمتغيّر، فهو قد أشبع الحاجة من خلال التغير بالمصداق.

ومن هذا القبیل ﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾، فالزوجة تحتاج الآن إلى شقة سكن مثلاً، فالحكم ثابت إلى یوم القیامة ولكن التغيّر في مصداقه باختلاف الزمان والحیاة.

ومن هذا القبیل قوله تعالى:- ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكيّ والعامليّ علیها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارميّ وفي سبیل الله فریضة من الله والله علیم حكیم ﴾] 1 [، وموضع الشاهد هو قوله تعالى ﴿ وفي سبیل الله ﴾ فإن عنوان في سبیل الله وهكذا عنوان ) الفقراء ( یتغير مصداقة بتغيّر الزمان، فإنّ سبیل الله سابقاً كان هو تعلیم الأطفال مثلاً أو بناء جسرٍ أو ما شاكل ذلك أمّا في زماننا فهو كفتح قناة فضائیة نعلّم فیها أحكام وتعالیم أهل البیت علیهم السلام، والفقير في ذلك الزمان كان هو الذي لا يملك قوت سنته وهو مقدارٌ معيّّ من المال أمّا هذا الزمان فإذا كان لا يملك بیتاً ولا سیارة ولا تلفزیوناً ولا غير ذلك فهو بَعدُ فقير، فهذا الحكم ثابت والتغير هو من حیث المصداق، فبسبب التغير من حیث المصداق حینئذٍ يحصل بذلك الارتباط.

بل لعلّ بعض النصوص الشرعیّة تؤكد على مسألة الزمان وأنه ینبغي أن تلاحظوا تغير الزمان، كالكلمة الذهبیة لمولانا أمير المؤمنيّ علیه السلام حیث یقول:- ) لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم (] 2 .]

النحو الثالث:– منطقة الفراغ – ك ما أشرنا إلیها كما سبق – فإنّ الإسلام وإن شرّع بعض الأحكام ولكن هذه الأحكام أیضاً جوّز أن تتغير بتغيّر الزمان، ولكن التغير لیس في أصل الحكم وإنما التغير أیضاً في المصداق، من قبیل ما لو فرض أنّ نظام الحیاة توقف في زماننا على فرض التجنید الاجباري وقانون التأشيرة والجنسیّة وجواز السفر فیمكن للحاكم الإسلامي أن یفرض بعض الأمور من باب حفظ نظام الحیاة، وهذا حكم ثابتٌ إلى یوم القیامة ولكن مصداق الحفظ يختلف باختلاف الزمان، وهذا ما نعبّر عنه بمنطقة الفراغ باعتبار أنّ الحاكم الإسلامي یشخّّص أنّه متى هناك حاجة إلى فرض هذا القانون لحفظ نظام الحیاة أو ذلك القانون لحفظ نظام الحیاة فهذه منطقة فراغ للحاكم الاسلامي ويمكن من خلالها أن یواكب الإسلام تطورات الحیاة، فالإسلام لا یقول دعه یعبر الحدود ولا تمنعه، كلّا بل يأتي قانون جواز السفر فللحاكم الاسلامي أن یفرض ذلك .

وكذلك إذا كان نظام الحیاة يحتاج إلى فرض غرامة فیفرضها الحاكم الإسلامي.
إذن واكب الاسلام الحیاة ولكن الحكم مستمر وهو لزوم التحفّظ على حیاة المسلميّ وبلاد الإسلام ولكن باختلاف الزمان قد یتغيّر الحكم والحاكم الاسلامي یضع أحكاماً مختلفة.

النحو الرابع:– من جملة أحكام الإسلام القواعد العامّة، فالإسلام قدّم قواعد عامّ ة مثل قاعدة لا ضرر، ولا حرج، ورفع عن أمتي ما استكرهوا علیه، ورفع عن أمتي ما اضطروا إلیه، وما غلب الله علیه فالله أولى بالعذر، وقاعدة الحلیة، وقاعدة الطهارة، وقاعدة البراءة، فهذه قواعد نستفید منها كث يراً، فالآن تأتي الأقمشة والأدویة من خارج البلاد الإسلامیة فهل یلزم أن نغسل القماش أو لا نشرب الدواء لاحتمال أنّه متنجّس من قبلهم وهكذا الأمور الأخرى – التي لیس فیها لحوم – ؟ كلّا، بل كلّها يجري فیها أصل الطهارة أو الحلیّة.

ولا یقولن قائل:- إنّ أصل الطهارة يجري في حقّ المسلميّ ولا يجري في غير المسلميّ ؟
إذ نقول:- إنّه لا مانع من جريانه في حق غير المسلميّ، إذ لعلّ هذا الفراش الذي هو لهم لم ینجّسوه، فحینئذٍ لماذا لا يجري أصل الطهارة فإنّ أصل الطهارة لم یقیّد بالإسلام والمسلميّن.
وإذا فرضنا أنّه في موردٍ كان یلزم الحرج كما لو ذهبنا إلى مكانٍ كان لو لم أحلق لحیتي فسوف أقع في الحرج أو أُحبس فهنا يجوز لي حلق لحیتي … وما شاكل ذلك.

إذن یوجد في الإسلام هذه المرونة بقاعدة لا حرج ولا ضرر أشیاء أخرى من هذا القبیل ولا یبقى مانعاً من هذه الأمور.
نعم نلفت النظر إلى أمور:-
الأمر الأوّل:– الإسلام لا یقف أمام التطوّر والعلم بل على العكس حیث یقول:- ) وقل ربي زدني علماً ( و ) قیمة كلّ امرئٍ ما يحسنه (، نعم كُن عالماً في الذرة وغير ذلك لا أنك تصنعها وتلقیها على الناس، فالتطوّر في العلم والكمال یدعو إلیه الاسلام بقوّة لكن ضمن الإطار الإسلامي لا مع التحلّل الخلقي، فالنبت المسلمة تذهب إلى طلب العلم لیس مع التحلل الخلقي بل ضمن الأطر الإسلامیة مع المحافظة على حجابها وعفافها فإن ذلك لا مشكلة فیه وهو شيء جید.

الأمر الثاني:- الإسلام یرفض التقلید الأعمى للآخرین، فیقلدهم في حلاقة الشعر وشكل الملابس وغير ذلك لیس بصحصح، فالإسلام یقول:- )
انظر إلى ما قال ولا تنظر من قال (،وعلى منواله نحن نقول انظر إلى ما فعل ولا تنظر إلى من فعل، فلاحظ هل هذا الفعل صحیحٌ وجیّدٌ أو لا، فلو كانت عندهم نظافة فكن أنت نظیفاً فإنّ النظافة من الإيمان، وإذا كانت عندهم صفات جیّدة كأن كانوا لا یتدّخلون في شؤون الآخرین فهذه صفة جیّدة فأفعلها أنت – والإسلام قد دعا إلیها من البدایة – سواء فرض أنهم كفّار أو غير كفار استعمار أو غير استعمار كانوا غرباً أو غير غرب، فالمهمّ أن تأخذ الحَسَن من كلّ أحدٍ واترك السيء من كلّ أحدٍ، أمّا أن نصنع هذا الشيء لأجل أنّ هؤلاء صنعوا هكذا فهذا ثقافة غير جیّدة فكیف نقف أمام هذا التیار ؟ فمسألة تقلید الآخرین مسألة لابد وأن يُحذَر منها أشدّ الحذر.

الأمر الثالث:- صحیحٌ أنّ الإسلام أعطى مرونةً كثيرةً فهو أعطى لا حرج ولا ضرر وأعطى العناوین الثانویّة وغير ذلك ولكن في نفس الوقت لا يحقّ لك أن تتسامح وتتساهل وتقدّم یدك إلى المرأة وتتصافح معها فإنّ هذا تساهلٌ والإسلام یقول:- ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾، فلا يجوز أن تصافحها إلّا من وراء حاجبٍ، وهذا یدلّ على أنّك صاحب مبادئ وأنت تسير علیها .

نعم لو فرض أنّك وقعت في مأزقٍ وحرجٍ والمرأة قدّمت لك یدها فلا مشكلة حینئذٍ، ولكن نحن نقول لا تتساهل وتدّعي حصول الحرج.

الأمر الرابع:- وهو ما أشرت إلیه وااكد علیه من جدید، وهو أنّه في جمیع هذه الم وارد التي ذكرتها للأحكام الشرعیّة لا یوجد تغيّر في أصل الحكم وإنما التغير في التطبیق والمصداق، إلّا في مثل وجوب الصلاة ووجوب الصوم فهذه تبقى غير قابلة للتغير، نعم یتغيّر مكانها أمّا نفس الصلاة فلا .

أمّا مثل ) عاتب أخاك بالإحسان إلیه واردد شره بالإنعام علیه ( و ) إذا غلبت على عدوّك فأجعل العفو شكراً للقدرة علیه ( فهذا یبقى ثابت فإنّ هذه مثلٌ وقیمٌ لیست قابلة للتغيّر.
فالأوّل غير قابلٍ للتغيّر مثل حاجتنا إلى الطعام والشراب والنوم، أمّا ما عدى ذلك فهي أحكامٌ تتبدّل لكن من حیث المصداق لا من حیث نفس الحكم، وبذلك لا يحصل تضاربٌ بيّ هذه المرونة وبيّ ) حلالي حلال إلى یوم القیامة وحرامي حرام إلى یوم القیامة (.

الهوامش

[ 1 [ القرآن الكريم / التوبة، الآیة 60 .
[ 2 [ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحدید، ج 20 ، ص 267 ..

المصدر: قناة الشیخ باقر الایروانی

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky