العدالة

العدالة في عهد الإمام علي عليه السلام: سمات ومقومات .. إيمان شمس الدين

الاجتهاد: تعتبر العدالة من المقومات الأساسية بل هي عمود ومحور تحقيق التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسل لأجل تحقيقه على الأرض، وكانت أهم وسيلة لتحقيقه هو قيام العدل، والتوحيد ليس مجرد إيمان نظري بوحدانية الخالق، بل هو التزام نفسي وعقلي وسلوكي ومنهجي بالتوحيد سواء على المستوى الآني أو الاستراتيجي، كون نفي الشريك و الإقرار بالواحدية الأحدية الوحدانية لله تعالى.

 العدالة هدف استراتيجي للأنبياء والأوصياء والمصلحين، كونها مخ مسألة التوحيد، وعماد الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي على مستوى الفرد.

وهي نواة إعمار الأرض واستخراج كل مواهب وقدرات وإبداع البشر في سبيل تحقيق التكامل والسير الوجودي في تطوير القابليات والقدرات البشرية.

وهي قيمة لها بعد إلهي من جهة وبعد إنساني من جهة أخرى، إلا أنها في بعدها الإلهي معصومة على مستوى النظرية والتطبيق، وتبقى في بعدها الإنساني عرضة للخلل التطبيقي وإن عصمت على مستوى التنظير.

وعصمتها على مستوى التنظير تكمن في وجود مرجعيات معرفية نصية لها معصومة ، سواء من القرآن أو ما هو موثوق و صحيح على مستوى السند والمتن.

ومن النصوص الحديثية التي تألقت في التنظير لقيمة العدالة على المستوى السياسي الدولتي هو عهد الإمام علي ع إلى مالك الأشتر حينما عينه واليه على مصر.

السند:

العديد من العلماء يصححونه سندا، لكنه ليس صحيحا على جميع النظريات الرجالية والحديثية، وبعضهم يرى أن السند يعاني من أكثر من مشكلة أهمها عدم إمكان توثيق الحسين بن علوان الكلبي، ووفقا لهذا الرأي أن السند الذي يذكر للعهد لا يوجد ما يؤكد أنه ينقل لنا نص العهد الذي في نهج البلاغة، لأن السند لم يذكر نص العهد بينما جاء نص العهد في النهج بدون سند، وبهذا يصعب التأكد من أن تمام فقرات العهد في النهج قد نقلت بالسند الموجود خارج النهج.”انتهى إلى هنا هذا الرأي”.

إن تركيزنا على العدالة وفقا لتعدد الآراء حول السند سيكون عاما حول نهج الإمام علي عليه السلام ، ومجملا بما فيه نص العهد بناء على تصحيح البعض له، وبناء على عدم تنافي أكثر نصوصه مع منهج الإمام ع في العدالة وفق ما نقل من توثيقات تاريخية حول عهد خلافته.
و يأتي الحديث عن العدالة في سياق حقبة زمنية انتقالية بطيئة، يسير فيها الحاضر نحو تبدلات محورية في أنظمة الحكم أو في منهجها، وجل هذه التبدلات يتم رسمها وتخطيطها بإرادات وقوى تدفع باتجاه التفافات على رغبات الشعوب في التحرر وتحديد مصيرها داخليا وذاتيا دون تدخلات خارجية.

هذا فضلا عن التمييز الذي تتصاعد وتيرته تدريجيا وببطئ في الداخل وعلى أساس مذهبي، والذي ستكون مآلاته ومخرجاته كارثية إذا لم يتم معالجتها بشكل جذري وسليم.

لماذا العدالة؟

تعتبر العدالة من المقومات الأساسية بل هي عمود ومحور تحقيق التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسل لأجل تحقيقه على الأرض، وكانت أهم وسيلة لتحقيقه هو قيام العدل، والتوحيد ليس مجرد إيمان نظري بوحدانية الخالق، بل هو التزام نفسي وعقلي وسلوكي ومنهجي بالتوحيد سواء على المستوى الآني أو الاستراتيجي، كون نفي الشريك و الإقرار بالواحدية الأحدية الوحدانية لله تعالى، نظريا وعمليا له آثاره الدنيوية بل هو محور النظم في الدنيا وبوابته، فهو يحرر الإنسان نفسيا وعقليا من كل أنواع الهيمنة والسلطة والقيد التي تخرج عن دائرة الله وعدالته، وتجعل المثل الأعلى الذي هو الله المرجعية المعيارية في التقييم والنقد والتقويم، بما يصد كل أنواع النزعات السلطوية والاستبدادية وكل محاولات استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.

فالتوحيد نظرية حكوماتية إلهية تؤسس لنظام غير استبدادي، يقوم محوره على العدالة، و قلبه ينبض بالرحمة، وأداوته القانونية تطبق بالتساوي على الجميع، وتؤمن بقيمة الإنسان وكرامته.

لذلك حوربت فكرة التوحيد سواء برفضها أو بتشويهها أو بحرفها عن مسارها الدنيوية وتطبيقاتها العملية. يقول البروفسور كاتاسونوف في أحد لقاءاته : “العبودية هي فعلا، مفهوم متعدد الأبعاد. تعريف العبودية الأول، الحرفي، هو “امتلاك الإنسان”. إنسانٌ يمتلك إنسانا آخر، كملكية بموجب القانون. أما البعد الآخر لمفهوم العبودية، فهو العبودية الاجتماعية – الاقتصادية. وهي أن يستخدم شخصٌ شخصا آخر ويستحوذ على حصيلة نشاطه العملي أو الذهني, أي – الاستيلاء على ناتج عمل الغير. والبعد الثالث، هو مفهوم العبودية الأكثر عمقا، أي العبودية الروحية والفكرية. وهي عادات بشرية ما، أو قيم مادية معينة، يتم فرضها على الناس من خلال الهيمنة الإعلامية والتأثير الدعائي النفسي”.

لذلك محركات نافذية التوحيد في المجتمع ومنع كل أنواع الاستبداد والعبودية هي العدالة. ووضع منهج للعدالة معياري وسلوكي يعتبر ضابطة مرجعية تضبط أداء الطبقة الحاكمة من جهة، وتضبط مرجعية الجمهور المعيارية في نقدها وتقويمها للسلطة ورجالاتها ليحكمها المنهج لا الشخوص.

طردية العلاقة بين العدالة والكرامة:

في دعوة الأنبياء ورسالة من أرسل منهم يلحظ وبشكل دقيق التركيز على قيمة العدالة وضرورة تحققها، بل كانت الدعوة للتوحيد غالبا ما تقرن بموضوع العدالة لما لهذه القيمية من مدخلية قوية في بناء مفهوم التوحيد بناءً معرفيا في ذهنية المتلقي والقابل.

إذ أن تحقيق العدالة بكافة مصاديقها تتطلب بداية إزالة كل ما تم تحميله من فهم لهذا المصطلح، فهو يشكل المدخل السليم والحقيقي للتوحيد، وأهم ما تحققه العدالة هو رفع الحجب التي فرضتها المسلكيات البشرية نتيجة الفهم البشري المتراكم للنص الديني والذي غالبا ما انحرف عن واقع الأمر، مما أدى إلى حجب الحقيقة وتشويه المفاهيم وتغييب منظومة القيم، مما انعكس بالتالي على السلوك فتشكلت منظومة مفاهيمية بعيدة عن الحقيقة ورست على ضوئها منظومة سلوكية بعيدة عن الواقع، فحجبت الحقيقة وعلى ضوئها حجبت المعارف وألبست العدالة لباس آخر تحكمه الأهواء والاستمزاجات الشخصية.

إن تحقيق العدالة وفق واقع الأمر يعني رفع كل تلك الحجب عن العقل البشري، واستجلاءالمفاهيم وفق دلالاتها واستعمالتها وبناءاتها الصحيحة ليتجلى الأمر بحقيقته بعد ذلك في النفس، لترى الحقيقة فتستقيم الذات وفق أسس العدالة السليمة، وتنعكس عدالة الذات على تحقيق العدالة في الخارج فترتفع الحجب عن كثير من المعارف والعلوم،وتنتظم الحياة تحت عنوان القيم وجوهرها ألا وهي العدالة.

إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته الاستخلافية وفق الرؤية الالهية في الأرض ليقيم المشروع الالهي فيها.

فوفق مقولة العدالة تتحقق الحريات بما يحقق العدالة، وتكون المساواة وفق ما يحقق العدالة، وتنتظم لذلك مجموعة الحقوق والواجبات وفق مطلب تحقيق العدالة، وإذا تحققت هذه القيم في طول مطلب العدالة تحققت بذلك كل مقومات الكرامة الإنسانية وتأهلت النفس لأداء دور الخلافة على الأرض.

فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس كلما ازداد في الخارج، كلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الانسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية.

فإذا قلنا نريد أن يرتفع سقف الحريات، تكون الحريات المطلوبة هي تلك التي تحقق العدالة بحيث لا يمكن لهذه الحرية أن تحقق نقيض العدالة بالظلم أو سلب الاخرين لحقهم، فتكون الحرية المطلوبة حرية عادلة، وهكذا المساواة وموضوعة الحقوق.

ولكن هل العدالة المطلوبة هي كما يراها الإنسان وعقله؟

عقل الإنسان محدود، ولا يمكن للمحدود أن يحيط باللامحدود، قد يدرك هذا العقل حسن العدل وقبح الظلم، ويدرك أهمية العدالة في بناء الكرامة الإنسانية، ولكن ماهية العدالة وكيفها لا يمكن أن يدركه إلا بتعليم من الوحي، وهو ما سيصل له العقل إذا أدرك العدالة وأهميتها والتي يعتبر إدراكها مدخلا مهما لادراك التوحيد وعلى ضوء إدراك التوحيد من بوابة العدل، ستبنى منظومة المفاهيم والقيم وفق الرؤية الالهية التي تحقق حتما كرامة الإنسان بما يرتقي به إلى وظيفة..”إني جاعل في الأرض خليفة”.

إن السعي نحو الكمال الذي فطر عليه الإنسان هو الداعي العقلي الذي يدفعه دوما لإقامة العدل، والبحث عنه، ولكن تكمن المشكلة في فهم الكمال وآليات تحقيقه ومصاديقه، فكلما ابتعد الانسان عن السماء -إن صح التعبير- كلما ابتعد عن تحقيق العدالة المطلوبة وكلما أصبحت كرامته عرضة للانتهاك.

فرغم السعي التاريخي الحثيث للإنسان نحو تحقيق العدالة في الأرض إلا أننا ما زلنا إلى الآن لم نقم جوهرة القيم )العدالة) ولم نحققها، ولعل أبرز الأسباب في هذا القصور هو الجدل الانساني الذي ينعكس في الواقع الخارجي إلى جدليات متشابكة الأهواء والمصالح ومتناقضة القيم والغايات، وهذا الجدل أدى إلى تشويه مفهوم الكمال بعد الانحراف عن المبدأ والغاية والهدف وبالتالي انحراف آليات تحققه. لذلك كان التشديد على معرفة ” من أين وفي أين وإلى أين”، وهي معرفة ترسم خارطة طريق كاملة للإنسان في هذه الدنيا ليحقق هدف الكمال وآليات الوصول اليه.

إن القيم غاية يتطلب تحقيقها وقيامها قيام جوهرها أي العدالة، وهذه الجوهرة تتطلب أن تحقق في ذات الإنسان كي تصبح لها قيامة في الأرض” أقم العدل في نفسك يقوم العدل في أرضك”، فالله لا يغير ما في القوم إلا إذا تغير ما في أنفسهم.

فالعدالة هدف السماء لأهل الأرض لأن بها تستقيم أمور الإنسان ويهتدي إلى الطريق الذي من خلاله تتحقق كرامته لتقوم خلافته ويؤدي بها وظيفته.

العدالة في العهد : تأسيس المنهج:

عادة دراسة أي حدث تاريخي أو وثيقة تاريخية تفرض على الباحث دراسة لوازمها، كقائلها ولمن قالها ولماذا قالها وما هدفه، هذا فضلا عن الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة في تلك الوثيقة، حتى يمكن للباحث الخروج بدلالات إجمالية حول تلك الوثيقة أو الحدث.

ووثيقة كالعهد إن صح صدورها عن الإمام، تعتبر من الوثائق التاريخية السياسية والاجتماعية الهامة التي تؤسس لمقومات وسمات إجمالية للعدالة.

وتؤسس لمنهج للحكم والحكام ومن في حاشيتهم، يعتبر منهجا مدخليا ومقدميا هاما لتحقيق العدالة، وهو وسيلة صالحة في تحقيق الهدف، وتضع قيمة للحق وليس للشخوص، بحيث يكون الحق معيارا لتقييم الشخوص، وليس العكس.

وقد ركز العهد في توجيهات الإمام على عدة نواحي فرعية وأساسية كلية، الفروع فيها تصنف تحت كل عنوان كلي وفق تبعيتها له من عدمه:

1. طبقة السلطة ومنظومة الواجبات الوظيفية، ومنظومة الحقوق الخاصة بهذه الطبقة بكل مراتبها، وأسس معيارية مرجعية ضابطة للسلوك وكيفية الاختيار ومجموعة العقوبات الخاصة بالمخالفة.

2. السياسات الاجتماعية، والتنظيم الطبقي للمجتمع، ومناهج السلوك بين الحاكم والرعية و ضوابطها ومعاييرها، والعقوبات الخاصة بمخالفة الضوابط والمعايير سواء عقوبات خاصة بالرعية، أو عقوبات خاصة بالطبقة الحاكمة في حال إخلالها بواجباتها و بمنهج تحقيق العدالة في المجتمع.

3. السياسات القضائية، ومعايير الاختيار والضوابط الناظمة، وطرق الحماية والاكتفاء الذاتي، وآليات تحقيق الأمن والعدالة، وعقوبات المخالفة للحاكم والقضاة.

4. السياسات المالية، والنظم الاقتصادية التي تحقق العدالة، وآليات صرف المال من بيت مال المسلمين بما يحقق الاكتفاء والكفاية والرفاه الاجتماعي لكل طبقاته وأفراده، وكيفية حماية المال من الهدر والفساد.

المنهج السياسي في بناء الدولة العادلة:

الوثيقة صادرة من حاكم للدولة الإسلامية هو الإمام علي ع، لمن اختاره كوالي على أحد الأمصار التابعة للدولة، وهنا عدة أبعاد أهمها:

1. الشخصية التي تم اختيارها للحكم هي شخصية مالك الأشتر وهي من الشخصيات التي نقل لنا التاريخ عنها ثباتها وصلابتها في الحق و تطبيق شرع الله، ونزاهتها و مستوى أخلاقياتها العالي الذي عكسته أحداث تاريخية موثقة حول هذه الشخصية، إذا هو شخصية كفوءة لا تنتمى لعائلة الحاكم ولا إلى وجهاء الدولة، بل انتماؤها للحق ومدى القرب منه، (مبدأ الكفاءة لا العصبيات).

2. وأي شخصية تكون قريبة من حاكم ك علي ع، ويتم تكليفها بمهمة من قبل الإمام كمهمة الحكم يلاحظ تشديد الإمام ع على تلك الشخصيات في التوصيات والتوجيهات خاصة التي تتولى مناصب عالية في الدولة (مبدأ التكليف لا التشريف)، حيث تركز توصيات وتوجيهات الإمام على عدة جوانب :
– الجانب النفسي والتركيز على عدالة النفس واعتدالها، وعلى الضبط وفق قواعد الحق والإنصاف.

– الجانب الاجتماعي المتمثل بالشعب والمحيط الخارجي للحاكم، حيث يتم التركيز على المساواة في أدق تفاصيلها، لدرجة طلب الإمام من مالك المساواة في النظر بين الجميع، حتى لا يظن أحدهم بتفاضله على الآخر فيحدث في نفسه أثرا يوهمه بتميزه عن غيره ، وعلى تحقيق العدالة الشاملة في كافة مستوياتها، وبناء مجتمع متضامن يشكل نواة الجماعة الصالحة التي تعاضد الأنوية الأخرى المنتمية للدولة الإسلامية، لتشكل بمجموعها الأمة الهادية والمهدية.

– الجانب القضائي الذي يمارس دوره في حل مشاكل الناس، ويفصل في منازعاتهم، و أيضا يستقبل شكاوى الناس عن الحاكم وجهازه وينظر فيها بإنصاف وعدالة، وكيف يجب تحصين جبهة القضاء سواء تحصين ذاتي لأفرادها بتوفير الاكتفاء المادي، واختيار القضاة وفق معايير دقيقة تنظر لتقوى القاضي وانضباطه الشرعي وفق حكم الله لا فقط لشهادته وحصيلته العلمية والخبروية، أو على المستوى الخارجي بتوفير الأمن والحماية والتحصين الذي يقلل من مخاطر الاختراق وشراء الذمم وتحريف الأحكام عن مسار الحق والعدالة.

– الجانب الاقتصادي المتمثل ببيت مال المسلمين، وكيفية الحفاظ على هذه الأمانة، و أهمية نزاهة كف الحاكم في ردع الآخرين عن التسلق على أموال المسلمين.

3. عدم محاباة الإمام لمالك رغم قربه منه، واعتماد معيار. الحق والباطل وتحقيق العدالة وفوقهما رضا الله مرجعية في تقريب هذا الوالي وتثبيته أو عزله وتنحيته بشكل صريح( مبدأ الثواب والعقاب).

4. التركيز على النهوض بوعي الجمهور ليمارس دوره الرقابي على الحاكم وجهازه، و يمارس دوره في المحاسبة أو بشكل أدق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( الرقابة والتشريع).

العدالة والتمييز : قراءة في الآثار

العدالة:

التشديد على هدف العدالة وإقامتها من قبل جميع من أرسله الله تعالى، بل تركيز الله في القرآن على هذا المبدأ يكشف عن محوريته وأهميته في انتظام الحياة البشرية على الأرض، بل انتظام الكون، كون العدالة لا تقتصر على تعامل الإنسان مع الإنسان، بل العدالة لها مراتب عديدة تحقيقها مجتمعة يحقق ميزان العدالة المطلوب:

1. العدالة الداخل نفسية، وهي وصول الإنسان في صفاته النفسية إلى الاعتدال بحيث يصبح نفسيا لا مفرطا ولا مفرطا، ويمتلك ميزان قويم يقيس وفقه الأمور، وإحراز العدالة النفسية يتطلب مرحلة قبلية منطقية وهي بوابة العدالة النفسية اي اتزان ميزان الأفكار العقلية، والتي تحتاج نظم لمصادر هذه الأفكار ومنبعها، أي نظم لمصادر المعرفة، هذا النظم له بعدين:

– بعد إلهي معصوم ولا محدود يتمثل في القرآن والسنة الموثوقة الصدور.

– بعد بشري غير معصوم ومحدود، يتمثل في العقل والحس والتجربة.

وهذه المرتبة هي مفتاح ومقدمة قاعدية لإحراز مراتب العدالة الفوقية.

2. العدالة السلوكية: وهي المعنية بسلوك الفرد مع محيطه:

– مع نفسه وفق موازين دقيقة أسسنا لها في المرتبة الأولى.

– مع جسده وضبطه وفق ضوابط العقل المنتظمة في معارفها وفق مصادر معتمدة.

– مع الإنسان الآخر سواء كان فردا ارتبط به برابطة حقيقية كالأرحام، أو رابطة حقوقية كالزوجية و باقي صلاته الاجتماعية والدولتية.

– مع الطبيعة والمقصود بها العدالة في التعاطي مع الطبيعة واكتشافاته لها، وكيفية توظيف هذه الطبيعة بما يحقق مبدأ العدالة وعمارة الأرض بالعدل في صالح كمال الإنسان وتكامله.

3. العدالة الوظيفية: وهي المتعلقة بكل موقع يمكن للإنسان أن يتم تنصيبه به، سواء في الأسرة أو في المجتمع أو في الدولة. وهو ما يتطلب إحاطة أشمل في القوانين، والحقوق، والنظم التي من شأنها تحقيق العدالة ومنع الظلم، و لكل وظيفة مرتبة في تحقيق العدالة، فليست العدالة المتحققة في الخارج بمرتبة واحدة، بل لكل مرتبة وظيفية عدالة متعلقة بها وخاصة بمرحلتها.

وتحقيق العدالة في كافة المستويات كفيل بتهيأة قابليات المجتمع جميعا وتوجيهها نحو الأهداف الإلهية، في تحقيق العمارة على الأرض، وتشييد بناء متكامل يفجر طاقات الإنسان العقلية والعملية، ويحقق له القدرة على التكامل وفق مراتب الكمال المختلفة، ويشيع أجواء التعاون على البر، والتنافس في تحقيق الرضا الإلهي، وحتى الرفاه الإنساني، وتوفير فرص واحدة لجميع البشر بما يكفل لهم تفجير طاقاتهم التي أودعها الله تعالى بالتساوي فينا جميعا، ويبقى أمام تساوي الفرص لجميع البشر تحت مظلة العدل، سعي كل إنسان واجتهاده، وحينما يكون هناك تنافس إيجابي سيخلق ذلك عند الجميع الهمة والعزيمة للسعي وسيعلي من مستويات الإرادة في تحقيق ما من شأنه حفظ القيم العليا كالكرامة والحرية والعزة، في مضمار العبودية لله فقط وهو ما يثبت أركان التوحيد في الأرض، كون العدالة تنفي كل أنواع الظلم، بما فيها ظلم الإنسان لنفسه بعبوديته لمثيل له أو لما هو أقل شأن منه.

ستقنن العدالة إدارة الموارد والثروات، وتحد من سلطة الحاكم وحاشيته عليها، بل ستفرض منهجا اقتصاديا مانعا للهدر والفساد والطبقية ومؤسسا للرفاهية و الاكتفاء الذاتي وتحقق مبدأ الكفاية. وهذا يعالج كثير من مشاكل الفقر والعوز وعدم تكافؤ الفرص.

التمييز:

التمييز تارة يصب في صالح العدالة، وهو تمييز إيجابي يخلق جو تنافسي تكاملي، ويدفع باتجاه التطور والنهضة، خاصة التمييز على أساس الكفاءة و المرتبة العلمية، كون الله ميز في المراتب بين الأنبياء، ولم يساوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذا النوع من التمييز هو من فروع تحقيق العدالة.

وتارة يكون التمييز عقبة في طريق تحقيق العدالة، بل سهم يصيب العدالة في مقتل، وهو التمييز السلبي، الذي يضع معايير قبلية ومذهبية أو عائلية في التمييز بين فرد وآخر، ولا وجود لمعايير مثل الكفاءة والحق والأهلية، بحيث يتم التعاطي مع الفرد وفق معايير ذاتية قائمة على أسس عصبوية بعيدة عن الحق وعن منهج الله تعالى، ويحقق هذا النوع من التمييز فوضى في القيم والمعايير ويكون قاعدة لكل فساد.

فحينما يتم التمييز بين الأفراد، سواء كانوا أفراد في الأسرة، أو المجتمع، أو مؤسسات الدولة، أو في المدرسة، ويكون التمييز سلبيا، فإن ذلك مع التقادم سيخلق عند الذين وقع ضدهم التمييز حالة من الشعور بالغبن، وهو ما يولد شعورا بالظلم يتعاظم إذا ما تم إنصاف هذا الشخص، وبالتالي ستغيب صفة الإنصاف، وتحضر صفة الانتقام وفق مراتبها الخاصة، حيث لكل مرتبة غبن هناك مرتبة انتقام تناسبها، وهو ما يدفع المظلوم لممارسة الظلم ذاته على من ظلمه، لتحقيق الراحة النفسية ورفع شعور الظلم، وحتى لو مارس تمييزا مماثلا بحق مع ظلمه، بحيث تترسخ مع التقادم معايير وقيم جديدة بعيدة كل البعد عن الحق والإنصاف والعدالة، وتدريجيا تنتقل هذه كعدوى في المجتمع، وتصبح مفاهيم العدل مشوهة، بحيث يجد المظلوم ان العدل هو أن تمارس نفس ما مارسه الظالم عليك، تمارسه بحق الظالم لك، و يغيب معيار الإنصاف الذي يعتبر معيارا يعيد ميزان العدالة لنصابه حتى مع وجود بعض الظالمين، فالإنصاف يزيل الحجب عن النفس، ويعدل الشعور النفسي بالظلم، ويمنع تحوله لشعور بالانتقام، بل يضبطه ليكون شعورا يسعى لتحقيق العدل حتى في حق الظالم.

فمثلا: إذا كان الحاكم قام بممارسة تمييزا بين أفراد الشعب، بأن قرب فئة وأعطاها ميزات على حساب فئة أخرى لأسباب مذهبية أو قبلية أو عائلية، وقامت هذه الفئة باستخدام نفوذها في مخالفة القوانين ضد الفئة الأخرى كنوع من الهيمنة والتهميش، فإن الإنصاف يقتضي من الفئة المظلومة، من عدم السعي للانتقام، وعدم ممارسة نفس ما قامت به تلك الفئة في حال أتيحت الفرصة للفئة المظلومة مساحة للقرب من الحاكم.

فإذا اخترقت الفئة المقربة من الحاكم قوانين وظلمت بهذه القوانين الفئة المهمشة، فإن ذلك يستدعي من الفئة المهمشة وفق قاعدة الإنصاف، أن تعيد ميزان العدالة لوضعه الطبيعي، وأن لا تستخدم الأدوات المنحرفة التي استخدمتها تلك الفئة لإعادة حقها، والدفاع عن الحق واسترداده لا يبرر استخدام نفس أدوات الظالم أو لا يبرر ظلم الآخرين بحجة استرجاع الحق، كون الحق لا يسترد بالظلم، أو للانتقام من تلك الفئة، بل عليها أن تعيد ميزان الحق والعدالة لينعم الجميع بها، و لمواجهة الفساد والتقليل من انتشاره.

لذلك يعتبر التمييز السلبي على مستوى من الخطورة بحق تحقيق العدالة، لآثاره النفسية والاجتماعية، وتغييبه معيار وقيمة الإنصاف، وبغيابها تحجب النفس عن الحق والعدالة، وتوجه إلى حالة الانتقام المتبادل الذي يغرق المجتمع بالظلم والتفرقة ويشتت جهوده ويشيع الفساد، ويكرس وجود الظالم، ويعيب مبدأ التوحيد على المستوى العملي، وإن بقي مرتكزا نظريا في النفس، لكنه معطل عمليا فلا يحرز الأثر المرجو منه.

بينما الإنصاف معيار يعيد نصاب الأمور إلى ميزان العدل والحق، ويمنع تفاقم الفساد، وتوسيع الهوة بين الأفراد والمجتمعات، ويعيد نصاب النظم وفق أسس سليمة في المجتمعات وفي المؤسسات والأسر.

إن إحراز العدالة النفسية وحضور قيمة الإنصاف التي هي قلب العدالة، يمنع انتشار الأمراض في النفس وفي المجتمع، فهو يمثل ضابطة للحاكم من جهة، وضابطة للمحكومين، ويعلي من منسوب الرقابة لكل جهة على الجهة الأخرى، وفق معيار الحق والباطل، بحيث يخرج من دائرة المعيارية كل أنواع الشخصنات مثل القداسات النابعة من المواقع والانتماءات، والعصبيات وكل نفوذ وظيفي أو موقعي يعمد إلى تجيير نفوذه لصالحه او من ينتمي إليه. بالتالي هو يذيب الحواجز و الهواجس، ويبني جسورا للتواصل والتواصي بالحق، لأجل تحقيق العدالة الشاملة.

خلاصة ورؤية:

– إن إشكالية مجتمعنا اليوم هو غياب العدالة، وحضور التمييز السلبي بكل أشكاله، ووهذا دفع بالكثيرين إلى غياب قيمة الإنصاف على مستواهم العقلي و النفسي وبالتالي السلوكي، ومن ثم إشغال المجتمع بخلافات بينية بعيدة كل البعد عن الإشكاليات الحقيقية وملفات الفساد.

غياب المرجعية المعيارية وفق مبدأ الدليل والحق والباطل، وحضور القداسات الشخصية والانتماءات القبلية والمذهبية كمرجعية معيارية، وبالتالي الانشغال بصراعات لا تنجز شيئا غير الفرقة والكراهية وتقسيم المجتمع، وأخطر آثارها تقويض بنى الدولة، وتكريس الاستبداد، وتغييب العدالة واستحضار كل أنواع الغرائز وحضور مبدأ التوحيد على مستواه النظري أو كفرة عابرة، وغيابها على المستوى العملي بما يعيد مبدأ العبودية بأشكال مختلفة،

– عدم قيام المعنيين من النخب من كافة الطبقات بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق معيار الحق لا المصلحة، وهو ما يكرس من الفساد باسم المصلحة ويشرعنه بحجج نفعية ذاتية آنية يسبب فسادا متراكما على المدى البعيد يضر ببنية المجتمع ككل.

– انقياد أغلب النخب لرغبات ومطالب الجمهور حتى لو كانت خلاف الحق والعدل، مع عدم وجود وعي واقعي وموضوعي عند أغلب طبقات الجمهور، بل تحول الجمهور لنظرية مزرعة البصل، كلهم رؤوس.

– عدم امتلاك منهجية معرفية في تقصي الحقائق وامتلاك المعرفة، و الاعتماد غالبا على الشائعات في اتخاذ المواقف، مما يدخل المجتمع دوما في رياح الفتنة، ويشغل المجتمع بشائعات تستنفذ طاقته فيما لا يجب، ويسهل تمرير مشاريع سلطوية بعيدا عن الرقابة والمحاسبة، فغياب معايير قيمية على رأسها العدالة، من خلال مصادرة الحريات وممارسة شتي أنواع التمييز السلبي يؤدي إلى الفوضى المعرفية والحكمية.

رؤية مقترحة:

– تفعيل العمل المدني التوعوي القائم على توعية الأفراد والمجتمع على حقوقه، وعلى أهمية مبدأ العدالة الاجتماعية، ونشر وعي حقوقي يمكّن الشعب من ممارسة دوره في تصحيح مسار النخب والسلطة.

تفعيل مبدأ الإنصاف لتفويت الفرصة على محاولات تقويض القانون و خلق فجوات بين مكونات المجتمع وقطع جسور التواصل والوحدة. من خلال مبدأ الحق لا يسترد بالظلم. و مبدأ ادفع بالتي هي أحسن، وتفعيل قاعدة ولا يجر منكم شنآن قوم ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، وهذا يفترض أن تقوده النخب من خلال المبادرات إلى تفويت الفرص على الفتن المتنقلة، ومواجهة كل أنواع الإنحرافات والفساد الذي يقوض مبدأ العدالة ويستخدم أدوات ظالمة في حق المختلفين معنا حتى لو قاموا هم باستخدامها في حقنا، ولا يكون ذلك إلا بتصدي النخب لتوعية الناس بكافة الوسائل المتاحة.

– تحديد الأولويات التي على النخب والشعب الانشغال بها لتحقيق العدالة، وهو ما يتطلب عمل ورش توعوية حول ذلك تمكن الشعب من فهم الواقع كما هو لا كما يروج له.

– مد جسور التواصل والحوار مع الجميع ووضع قاعدة مشتركات بين الجميع أساسها العدالة والمساواة.

– كشف رعاة الفتن كشفا توثيقيا أمام الشعب، وتشكيل وحدات عمل تتحرك في المقار الانتخابية في وقت الانتخابات مهمتها كشف مدعي الإصلاح وتوعية الناس.

– تفعيل مبدأ التشبيك بين النخب وبين المؤسسات الفاعلة ووضع برنامج تقويمي لمسار العمل السياسي والاجتماعي.

الإنصاف عين العدل والحرية المنضبطة علة غائية لتحقيق العدل، والعدل بوابة لازمة لتحقيق الكرامة الإنسانية

المصدر: في منتدى الإمام علي عليه السلام / الدستور والعدالة في عهد الإمام علي (ع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky