الاجتهاد: وباء كورونا وحكم الإجراءات الوقائية منه: ذكر التاريخ عدداً من الأوبئة والطواعين، التي انتشرَتْ في مختلف أصقاع العالم، وفتكَتْ بالبشرية بشكلٍ نسبي. وقد كان من أبرزها وأكثرها شهرةً وتأثيراً: طاعون عمواس (18هـ/ 693م)؛ طاعون الجارف (69هـ/ 688م)؛ طاعون الفتيات أو الأشراف (87هـ/ 705م)؛ طاعون مسلم بن قتيبة (131هـ/ 748م)؛ وغيرها من الطواعين والأوبئة([1]).
واليوم ينتشر كوفيد ـ 19، أو ما يُعْرَف باسم الوباء التاجي. ولهذا الوباء، كما أيّ وباء، سرعة انتشارٍ وضَرَر. وتحاول الأنظمة مع الناس تفاديه، قَدْر استطاعتها، من خلال عددٍ من القوانين والإجراءات الوقائية التي قد تعارضَتْ في كثيرٍ من الأحيان مع بعض الأعراف والقوانين التنظيمية أو الدينية.
والذي يهمّنا في هذا المقال بالخصوص هو تعارضها وتزاحمها مع الأحكام الفقهيّة الإسلاميّة.
فما هو موقف الفقه الإسلامي ـ الاثني عشري ـ من هذه الإجراءات؟ وخاصّة أن عدداً منها يطال شروط بعض الأحكام (وجوب الحجّ، استحباب ارتياد المسجد، …إلخ).
نعم، رغم أنه يمكن أن يُقال: إن حرمة قتل النفس من أولى الأصول الموضوعية الفقهية المحقّقة، ولكنْ ماذا لو لم يكن المرض مؤدّياً إلى قتل النفس، وكان مؤدّياً بنوع الإنسان إلى ضَرَرٍ معتدٍّ به، فهل يُحكم بلزوم ووجوب اجتنابه، حتّى لو كان مقابل وجوبات ومستحبّات؟ إذ كما نعلم فإن شرط الواجب واجبٌ عقلاً.
هذه المقالة هي محاولةٌ للإجابة عن مثل هذه التساؤلات وفق الدليل العقليّ أوّلاً؛ فالقرآنيّ ثانياً؛ ثمّ النقليّ؛ انتهاءً بقاعدة لا ضَرَر ولا ضرار.
وسنتّبع في هذا المقال الترتيب التالي:
أوّلاً: سننقّح المعنى اللغوي للوباء أو الطاعون.
ثانياً: سنشير بشكلٍ موجز إلى الحكم العقليّ في المسألة.
ثالثاً: سنعالج الآيات التي يمكن الاستفادة منها في المقام.
رابعاً: سنعالج الروايات التي يمكن الاستفادة منها في المقام، مع تحديد كيفية الاستفادة.
خامساً: التفصيل في قاعدة لا ضَرَر ولا ضرار وفق المباني المختلفة؛ للاستفادة منها([2]).
الفرق بين الوباء والطاعون، لغةً واصطلاحاً
لقد وردَتْ في تراثنا الإسلامي عدّةُ رواياتٍ تتكلَّم عن الوباء والطاعون، ولما كان البعض يخلط بينهما، كان لا بُدَّ من التحقيق لتمييز بينهما، حتى يتم توظيف كلٍّ منهما في محلّه الصحيح، وعند بيان ذلك سيسهل تصنيف الأمراض للاستفادة من الروايات بشكلٍ صحيح.
أـ «الوباء» في المعاجم اللغوية
وبأ: الوَبَأُ، يُمَدُّ ويقصر: مَرضٌ عامٌّ. وجمع المقصور: أوْباءٌ؛ وجمع الممدود: أوْبِئَةٌ. وقد وَبِئَتِ الأرضُ تَوْبَأُ وَبَأً فهي مَوْبوءَةٌ: إذا كثُر مرضها. وكذلك وَبِئَتْ تَوْبَأُ وَباءَةً، فهي وَبِئَةٌ ووَبيئَةٌ([3]).
الوَبَأُ: الطاعون، بالقصر والمدّ والهمز. وقيل: هو كلُّ مَرَضٍ عامٍّ. وفي الحديث: إِنّ هذا الوَبَاءَ رِجْزٌ. وجمعُ الـممدود: أَوْبِيةٌ؛ وجمع المقصور: أَوْباءٌ. وقد وَبِئَتِ الأَرضُ تَوْبَأُ وَبَأً. ووَبُأَتْ وِبَاءً وَوِباءة. (قوله: «وِباء ووِباءة…إلخ» كذا ضُبط في نسخةٍ عتيقة من المحكم، يُوثَق بضبطها، وضُبط في القاموس بفتح ذلك). وإِباءة على البَدَل، وأَوْبَأَتْ إِيبَاءً ووُبِئَتْ تِيبَأُ وَبَاءً، وأَرضٌ وَبِيئةٌ على فَعيلةٍ ووَبِئةٌ على فَعِلةٍ ومَوْبُوءة ومُوبِئةٌ: كثيرة الوَباء. والاسم البِئةُ إِذا كَثُر مرَضُها([4]).
ويظهر أن كلمة وباء تعني المرض العامّ. والمقصود من العامّ هنا حَسْب ما يظهر هو الذي يصيب عدداً كبيراً من الناس.
ب ـ معنى «الطاعون» لغةً
والطَّاعونُ: المَرَضُ العامُّ، والوَباءُ الذي يَفْسُد له الهَواءُ، فتَفْسدُ به الأَمْزِجَة والأبْدان([5])؛ أَرادَ أَنَّ الغالِبَ على فَنَاءِ الأُمَّةِ بالفِتَنِ التي تُسْفَك فيها الدِّماءُ وبالوَباءِ؛ وجمعه طَواعِينُ([6]).
والطاعون: الوباء([7]).
الوَبَأ، محرّكة: الطاعون، أو كلّ مرضٍ عامّ، جمعه: أوباء؛ ويمدّ، وجمعه: أوبية([8]).
الخلاصة
الذي يظهر من مجمل المعاجم أن لا فرق بين معنى الطاعون والوباء، إلاّ ما ذكره معجم تاج العروس من إشارةٍ في معنى الطاعون. وعلى أيّ حال البحث في الاصطلاحين لن يقتصر على المعنى اللغويّ المستفاد من المعاجم.
الطاعون والوباء، الفرق الفقهيّ بينهما
في هذا العنوان سنشير إلى أبرز عبارات الفقهاء التي تفيد في المقام، بعد مراجعة معظم التراث الفقهيّ:
أوّلاً: يذكر الشيخ الطوسي في مبسوطه: «مثاورة الدم على ضربين: دم يأخذ جميع البدن، وهو الطاعون، فإذا أخذ جميع البدن واحمرّ فإنه يكون مخوفاً؛ لأنه رُبَما تجفّ البرودة الغريزية، فيموت منه»([9]).
نستفيد من عبارة الشيخ الطوسي أن الشيخ يميِّز الطاعون عن مطلق المرض العامّ، واصفاً عوارضه.
ثانياً: يقول العلاّمه الحلّي: «وأما الواسطة: فكلّ مرضٍ لا يقين معه بالتَّلَف، ولا يستبعد معه، كالحمى المطبقة، لا كحمى الربع والغبّ، إلاّ أن ينضمّ إليهما برسام، أو رعاف دائم، أو ذات جنب، أو وجع صدرٍ أو رئة، أو قولنج؛ وكالإسهال المفرط، أو المستصحب للزحير، أو الدم؛ وكغلبة الدم: إما على جميع البدن، فينتفخ البدن به مع الحمّى، وهو الطاعون؛ لأنه من شدّة الحرارة، فيطفئ الحرارة الغريزية؛ أو على بعض البدن، فينتفخ به ذلك العضو»([10]).
يتّفق العلاّمة الحلّي في تعريف الطاعون الخاصّ مع تعريف الشيخ الطوسي.
ثالثاً: وافق المحقِّق الكركي ما ذهب إليه العلاّمة فقال: «قوله: (وكغلبة الدم: إما على جميع البدن، فينتفخ البدن به مع الحمّى، وهو الطاعون؛ لأنه من شدة الحرارة، فيطفئ الحرارة الغريزية؛ أو على بعض البدن، فينتفخ به ذلك العضو).
قال في التذكرة: إلاّ أنه يكون من هيجان الدم في جميع البدن، وينتفخ، وقال بعضهم: إنه انصباب الدم إلى عضوٍ. والوجه الأوّل.
فقوله هنا: (أو على بعض البدن) هو القول الثاني. وظاهر كلامه هنا ارتضاء التفسيرين.
ويمكن أن يريد بقوله: أو على بعض البدن مطلق غلبة الدم، من غير أن يكون طاعوناً؛ فإنه خصّ الشقّ الأول بكونه الطاعون. وتحقيقُ ذلك ليس من وظيفة الفقيه»([11]).
ولعلّ ما أفاده الفقهاء هو الصحيح، بخلاف ما ظهر من المعاجم اللغوية؛ ويشهد على ذلك ما فصّله ابن الجوزي، حيث قال: «الطَّاعُونُ ـ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ ـ: نَوْعٌ مِنَ الْوَبَاءِ، قَالَهُ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ». وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الطِّبِّ: وَرَمٌ رَدِيءٌ قَتَّالٌ، يَخْرُجُ مَعَهُ تَلَهُّبٌ شَدِيدٌ، مُؤْلِمٌ جِدّاً، يَتَجَاوَزُ الْمِقْدَارَ فِي ذَلِكَ، وَيَصِيرُ مَا حَوْلَهُ فِي الأَكْثَرِ أَسْوَدَ أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أَمْرُهُ إِلَى التَّقَرُّحِ سَرِيعاً. وَفِي الأَكْثَرِ يَحْدُثُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: فِي الإِبِطِ، وَخَلْفَ الأُذُنِ، والأرنبة، وفي اللحوم الرّخوة».
ثمّ يحرّر الجوزي محلّ النزاع بين الوباء والطاعون، ويشير إلى النسبة الحقيقية بينهما، قائلاً: وَلَمَّا كَانَ الطَّاعُونُ يَكْثُرُ فِي الْوَبَاءِ، وَفِي الْبِلادِ الْوَبِيئَةِ، عُبِّرَ عَنْهُ بِالْوَبَاءِ، كَمَا قَالَ الخليل: الْوَبَاءُ: الطَّاعُونُ. وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَرَضٍ يَعُمُّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَ الْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ عُمُوماً وَخُصُوصاً، فَكُلُّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ، وَلَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُوناً. وَكَذَلِكَ الأَمْرَاضُ الْعَامَّةُ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعُونِ؛ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا. وَالطَّوَاعِينُ خُرَّاجَاتٌ وَقُرُوحٌ وَأَوْرَامٌ رَدِيئَةٌ حَادِثَةٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. قُلْتُ: هَذِهِ الْقُرُوحُ وَالأَوْرَامُ وَالْجِرَاحَاتُ هِيَ آثَارُ الطَّاعُونِ، وَلَيْسَتْ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ الأَطِبَّاءَ لَمَّا لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إِلاَّ الأَثَرَ الظَّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطَّاعُونِ([12]).
ويشير الدكتور عبد الرحيم خير الله الشريف ـ أستاذ التفسير في جامعة الزرقاء في الأردن ـ إلى أن تعريف الطاعون بالمرض العامّ هو تعريفٌ غير دقيق، ويؤيِّد التمييز الذي جاء في معجم الوسيط. ويشير في نفس السياق إلى التعريف الاصطلاحي الذي ذكره النووي: أما الطاعون فهو قروحٌ تخرج في الجسد، فتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدي أو الأصابع وسائر البدن، ويكون معه ورمٌ وألمٌ شديد، وتخرج تلك القروح مع لهيبٍ، ويسودّ ما حواليه أو يخضرّ أو يحمرّ حمرةً بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب والقيء؛ وأمّا الوباء فقال الخليل وغيره: هو الطاعون؛ وقال: هو كلّ مرضٍ عامّ. والصحيح الذي قاله المحقِّقون: إنه مرضُ الكثيرين من الناس([13]).
وتظهر هذه التفرقة في الأثر المذكور عن عائشة، حيث قَالَتْ لِلنَّبِيِّﷺ: «الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، يَخْرُجُ فِي الْمَرَاق وَالإِبْطِ». قَالَ الأَطِبَّاءُ: إِذَا وَقَعَ الْخُرَّاجُ فِي اللُّحُومِ الرِّخْوَةِ، وَالْمَغَابِنِ، وَخَلْفَ الأُذُنِ وَالأَرْنَبَةِ، وَكَانَ مِنْ جِنْسٍ فَاسِدٍ، سُمِّيَ طَاعُوناً، وَسَبَبُهُ دَمٌ رَدِيءٌ مَائِلٌ إِلَى الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ، مُسْتَحِيلٌ إِلَى جَوْهَرٍ سُمِّيٍّ، يُفْسِدُ الْعُضْوَ وَيُغَيِّرُ مَا يَلِيهِ، وَرُبَّمَا رَشَحَ دَماً وَصَدِيداً، وَيُؤَدِّي إِلَى الْقَلْبِ كَيْفِيَّةً رَدِيئَةً، فَيَحْدُثُ الْقَيْءُ وَالْخَفَقَانُ وَالْغَشْيُ. وَهَذَا الاسْمُ وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ كُلَّ وَرَمٍ يُؤَدِّي إِلَى الْقَلْبِ كَيْفِيَّةً رَدِيئَةً، حَتَّى يَصِيرَ لِذَلِكَ قَتَّالاً، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ الْحَادِثُ فِي اللَّحْمِ الْغُدَدِيِّ، لأَنَّهُ لِرَدَاءَتِهِ لا يَقْبَلُهُ مِنَ الأَعْضَاءِ إِلاَّ مَا كَانَ أَضْعَفَ بِالطَّبْعِ، وَأَرْدَؤُهُ مَا حَدَثَ فِي الإِبِطِ وَخَلْفَ الأُذُنِ؛ لِقُرْبِهِمَا مِنَ الأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ أَرْأَسُ، وَأَسْلَمُهُ الأَحْمَرُ، ثُمَّ الأَصْفَرُ. وَاَلَّذِي إِلَى السَّوَادِ فَلا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ([14]).
ويوافقه على ذلك محمود عبد الرحمان، صاحب معجم المصلحات والألفاظ الفقهيّة([15]).
النتيجة
والذي يمكن الانتهاء إليه بنحوٍ من الاطمئنان، وذلك اعتماداً على عبائر الفقهاء وما قدَّمناه، أن مرض كورونا ليس من قبيل: الطاعون؛ حيث إن الطاعون له خصائص محدَّدة، ولا تشمل أيّ مرضٍ عامّ، بل هي مختصّةٌ بمَرَضٍ مخصوص، وإنْ كان عامّ البلوى ومُعْدٍ، بخلاف الوباء الذي هو أيّ مرضٍ عامّ.
ولعل سببَ اللبس الحاصل بين الاصطلاحين كونُ الوباء أعمّ مطلقاً من الطاعون، فيطلق لفظ الوباء على الطاعون، وهو إطلاقٌ صحيح، ولكنْ لكثرة ما حلَّت الطواعين جرى الخلط؛ إذ كَثُر استعمال الاصطلاحين في المورد نفسه.
العقل ولزوم حفظ النفس
وبشكلٍ موجز توجد مبانٍ مختلفة للاستفادة من الحكم العقلي:
فمَنْ قال بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مطلقاً، وأدرك عقله حُسْن حفظ النفس، فإنه لا بُدَّ أن يسلِّم بلازمه، وهو وجوب حفظ النفس شرعاً. ولو تزاحم مع أمرٍ أو نهيٍ عباديّ قُدِّم الأهمّ بينهما.
اما مع عدم القول بالملازمة فلا يستطيع الاستفادة من الحكم العقلي، وهذا واضحٌ.
أما على القول بعدم الملازمة في الموافقة والملازمة في عدم المخالفة ـ يعني أن لا يحكم الشارع بخلاف ما حكم به العقل ـ فهنا لو أدرك العقل قُبْح أذيّة النفس أو حُسْن حفظها فلا بُدَّ من إجراء قواعد التزاحم حين مخالفة أحكام الشارع لها.
الأدلّة القرآنية على وجوب حفظ النفس، تحقيقٌ وتعليق
الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾
في «لا تقتلوا أنفسكم» أربعة أقوال([16]):
1ـ إن معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنكم أهل دينٍ واحد، وأنتم كنفسٍ واحدة، كقوله: ﴿سَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، وقد ذهب إليه جماعةٌ، ومنهم: الحسن، وعطاء، والسدي، وأبو عليّ الجبائي.
2ـ إنه نهى الانسان عن قتل نفسه في حال غضبٍ أو ضجرٍ. وهو المنقول عن أبي القاسم البلخي.
3ـ إن معناه: لا تقتلوا أنفسكم بأن تهلكوها بارتكاب الآثام، والعدوان في أكل المال بالباطل، وغيره من المعاصي التي تستحقّون بها العذاب.
4ـ ما رُوي عن أبي عبد الله× من أن معناه: لا تخاطروا بنفوسكم في القتال، فتقاتلوا مَنْ لا تطيقونه.
يرجِّح العلاّمة الطباطبائي الرأي الأوّل؛ حيث يقول: صحيحٌ أنه نهى عن قتل الإنسان نفسه، لكنّ مقارنتها مع قوله: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾؛ حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنَفْسٍ واحدة لها مالٌ يجب أن تأكله من غير طريق الباطل، رُبَما أشعرَتْ أو دلَّتْ على أن المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الدينيّ المأخوذة كنفسٍ واحدة، نفس كلّ بعضٍ هي نفس الآخر، فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه، ونفس غيره أيضاً نفسه.
ويضيف العلاّمة الطباطبائي على الرأي الأوّل، فيقول: ورُبَما أمكن أن يُستفاد من ذيل الآية، أعني قوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾، أن المراد من قتل النفس المنهيّ عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل، والتسبيب إلى هلاك نفسه المؤدّي إلى قتله([17]).
ويؤيِّد ما ذكره العلاّمة من إضافةٍ ما في الوسائل، في خبر الحسن بن زيد، عن عليّ بن أبي طالب× قال: سألتُ رسول الله| عن الجباير تكون على الكسير، كيف يتوضّى صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسّ بالماء عليها في الجنابة والوضوء، قلتُ: فإنْ كان في بَرْدٍ يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله|: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾([18]).
نقدٌ وتحقيق
ما الضَّيْر في كون الآية تدلّ على معنىً جامعٍ؟ وهو حفظ جنس النفس مثلاً، فتشمل به المعاني الأربعة كافّةً؛ مضافاً إلى ما أشار إليه العلاّمة الطباطبائي في المقام وغيره أيضاً؛ إذ إن إطلاق ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ…﴾ يمكن أن يفيد الدلالات المذكورة، بل غيرها أيضاً ممّا يفيده الإطلاق، وخاصّةً أن الروايات المؤوّلة للآية، كما ظهر من الرواية المذكورة في الرأي الرابع، والرواية الأخيرة لتأييد العلاّمة، تفيد بعضاً من هذه الدلالات.
ومن هنا ما يهمّنا في البحث ـ ولا إطالة ـ هو الاستفادة من الآية في حفظ النفس، وهذا ما استفاده الفقهاء الأجلاّء من الآية في العديد من الموارد الدالّة على وجوب حفظ النفس، وصَوْنها من جميع المخاطر([19]).
إلاّ أن هذه الآية وإنْ كانت دالّةً على حرمة قتل النفس بحرمة مقدّماته، لكنْ لا يمكن الاستفادة منها في الوباء عموماً، والمرض التاجي خصوصاً، إلاّ بنحوٍ جزئيّ، لمَنْ كان المرض يؤدّي به إلى قتل نفسه أو غيره.
وهذه لو تزاحمت مع بعض الأحكام، مثل: وجوب الصوم، قُدِّم الأَوْلى والأهمّ لدى المولى، على مبنى مشهور المتأخِّرين، وفق مرجِّحاتٍ عديدة([20])، ليست محلّ بحثنا.
وبالخلاصة: لو قدّمت المرجِّحات آية ﴿لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فإنها لن تفيد في المقام سوى حرمة الصوم فيما لو أدّى إلى قتل النفس.
الآية الثانية: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
وفي معنى «لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ» وجوهٌ أربعة([21]):
1ـ قال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، وهو المرويّ عن حذيفة أيضاً، وابن عبّاس: إن معناها «لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» بالامتناع من الإنفاق في سبيل الله.
2ـ ما رُوي عن البراء بن عازب، وعبيدة السلماني: لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة.
3ـ ما قاله البلخي من أن معناها: لا تتقحّموا الحرب من غير نكايةٍ في العدوّ، ولا قدرة على دفاعهم.
4ـ ما قاله الجبائي: لا تسرفوا في الإنفاق الذي يأتي على النفس.
وقد ذكر السيد الطباطبائي في تفسير الآية، معلِّقاً على كثرة الروايات فيها: «أقول: واختلاف الروايات ـ كما ترى ـ في معنى الآية يؤيِّد ما ذكرناه: إن الكلام مطلقٌ أريد به النهي عن كلّ ما يوجب الهلاك، من إفراط وتفريط في الإنفاق جميعاً، بل تعمّ الإنفاق وغيره»([22]).
وهلك بمعنى سقط وضاع وتلاشى([23])، وتشمل النفس والمال والعرض.
ولا يقال للشيء سقط ما لم يكن فيه ضَرَرٌ معتدّ به عادةً.
ويشير صاحب تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، إلى أن عبارة: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بالرغم من أنها واردةٌ في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، لكنّ مفهومها واسعٌ يشمل موارد أخرى كثيرة، منها: أن الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخَطِرة للسفر (سواء من الناحية الأمنية أو بسبب العوامل الجوّية أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة لذلك؛ كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل قويّاً أن يكون مسموماً؛ وحتّى أن يَرِدَ ميدان القتال والجهاد دون تخطيطٍ مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤولٌ عن نفسه فيما لو ألقى بها في الخَطَر بدون عُذْرٍ مقبول([24]).
بيانٌ وتعليقٌ
والآية، كما ذكرنا في الآية الأولى، يمكن حملها على جميع الوجوه المتقدّمة؛ لإطلاق الكلام في الآية. وقد أشار إلى ذلك السيد الطباطبائي في ذَيْل كلامه الذي نقلناه، حيث قال: «بل تعمّ الإنفاق وغيره». وهو أَوْلى، كما أشار الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان، حيث قال: «والأَوْلى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك»([25]).
وفي هذا السياق نستطيع فهم ما استفاده الشيخ الطوسي وغيره([26]) من الآية: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، حيث قال: فمعلومٌ بأوائل العقول وجوب دفع المضارّ عن النفس، فمَنْ لم يدفعها عنها مع القدرة استحقّ الذمّ([27]).
فيُستفاد من الآية ـ وفق ما تقدّم ـ النهي عن إلقاء النفس في التهلكة. وهذا المعنى الذي تفيده الآية أوسع دلالةً من معنى الآية الأولى؛ حيث اقتصر فيها على القتل.
ولو تزاحمت الآية مع بعض الأحكام، مثل: وجوب الصوم، قدِّم الأَوْلى والأهمّ لدى المولى، على مبنى مشهور المتأخِّرين، وفق مرجِّحات عديدة([28]).
وعلى أيّ حالٍ لو قدَّمت المرجِّحات آية: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فإنها ستفيد في المقام حرمة الصوم فيما لو أدّى إلى التهلكة.
الآية الثالثة: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا﴾
قاعدة تحريم ما ضرره أكبر من نفعه، والتي قد استند إليها السيد محمد حسين فضل الله لتكون قاعدةً فقهيّةً تقتضي تحريم كلّ ما كان ضررُه أكبر من نفعه، وقد اعتبرها قاعدةً مستقلّة حتّى لو لم يَرِدْ فيها نصٌّ، باعتبار أن القضيّة قد تكون عقليّةً يحكم العقل بها، ويدرك وجود الملاك الشرعي للتحريم في مواردها، كما أنها عقلائيّةٌ يمكن استفادتها من خلال السّيرة العقلائيّة الجارية في ترك ما كان ضَرَرُه أكثر من نفعه([29]).
وتطبيق هذه الآية على كلّ موردٍ يكون إثمه، بمعنى ضَرَره، أكبر من نفعه، فمثلاً: حين يصبح الاجتماع مؤدّياً إلى انتشار الوباء والموت فالاجتماع حينها يمكن أن يكون ضَرَره أكبر من نفعه، فيحرم.
مناقشةٌ وترجيح
في الآية لا يوجد لفظ «ضَرَر»، وإنما المستَخْدَم لفظ «إِثْم». وبمراجعة القواميس اللغوية لا نجد مَنْ ذهب إلى كون الإِثْم بمعنى الضَّرَر.
وقد ذكر السيد الطباطبائي مثل ذلك، حيث قال: «ليس الإِثْم هو الضَّرَر، ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضَّرَر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإِثْم بمعنى الضَّرَر في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾ (النساء: 47)، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: 283)، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ (المائدة: 29)، وقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ﴾ (النور: 11)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (النساء: 111)، إلى غير ذلك من الآيات»([30]).
ثمّ قدَّم تعريفاً لمصطلح «الإِثْم»، حيث قال: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، وقرئ: إِثْمٌ كَثِيرٌ، بالثاء المثلّثة. والإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنىً، وهو حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نَيْل الخَيْرات، فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى، ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى، وهذان على هذه الصفة»([31]).
إلاّ أن السيد الطباطبائي نفسه ذكر بعد هذا التعريف آثام شرب الخمر، مشيراً إلى مضارّه، فقال: «أمّا شرب الخمر فمضرّاته الطبّية وآثاره السيّئة في الجسم…
وأمّا مضرّاته الخلقية…
وأمّا مضرّته في الإدراك وسلبه العقل وتصرُّفه غير المنتظم في أفكار الإنسان…».
وقد يمكن الجمع بين كلامي الطباطبائي باعتبار أن الإِثْم أعمّ مطلقاً من الضَّرَر مثلاً…
إن ما يمكن ترجيحه أن بين الإِثْم والضَّرَر عموماً وخصوصاً من وجهٍ؛ وذلك بالاستفادة ممّا ذكره السيد الطباطبائي آنفاً، بعد حشده آيات الإِثْم، جَمْعاً بينها وبين ما في بعض المعاجم اللّغوية، حيث ذكرَتْ أن الضَّرَر قد يكون من دون قَصْدٍ، لكنّ الإِثْم لا يكون إلاّ مع قَصْدٍ، والإثم هو الذنب ـ الخطأ المقصود([32])، ومن هنا فإنه ليس كلّ موردٍ فيه إِثْمٌ يعني فيه ضَرَر بالضرورة؛ إذ يوجد مصاديق يوجد فيها إِثْمٌ بلا ضَرَر، وموارد أخرى يوجد فيها ضَرَرٌ بلا إِثْم…
وعلى أيّ حالٍ فإن السيد فضل الله لم يستنِدْ إليها باعتبارها آيةً قرآنية، بل تحرَّر من النصّ، واعتبرها قاعدةً عقليّة وعقلائيّة. وقد دعم استقلاليّتها… ولعلّه ذكر ذلك لالتفاته.
إلاّ أن هذه القاعدة العقليّة أو العقلائيّة أقصى ما يمكن أن نستفيده منها، بعد معرفة منشئها، هي الموارد التي لم يُبْدِ الشارعُ رأياً فيها.
أما في الأمور التي أبدى فيها الشارع رأيه فكيف يمكن لنا تحديد النفع والضَّرَر مع تعارض كلٍّ من مؤدّى الدليلين، مع اختلاف منشئهما؟!
ونعود بذلك إلى مفاد ما ذكرناه في الدليل العقليّ.
الروايات ودلالتها
سنتعرّض أوّلاً لروايات العامّة المستفاد منها؛ لأنه لا يمكن فهم الروايات الواردة عندنا إلاّ من خلالها؛ لكونها ردوداً على روايات أهل العامّة:
أـ روايات أهل السُّنّة
ومن طرق العامة رواياتٌ كثيرة للمنع من الدخول في أرض الوباء، والفرار منها:
ـ روى مسلم منها خمس عشرة رواية، منها: ما رواه عن أُسامة بن زيد قال: قال النبيّ|: «الطاعون رجزٌ أُرسل على بني إسرائيل أو على مَنْ كان قبلكم، فإذا سمعتُمْ به بأرضٍ فلا تقدموا عليه؛ وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه»([33]).
والبواقي كلّها بهذا المضمون.
وهم قد اختلفوا؛ فأخذ أكثرهم بتلك الروايات، فمنعوا الفرار منه، والقدوم عليه، حتّى قال بعضهم: الفرار منه كالفرار من الزحف؛ وبعضهم أجاز الأمرين؛ وقال بعضهم: لم ينْهَ عن الخروج خوف أن يهلك قبل أجله، ولا عن الدخول خوف أن يصيبه غير ما كتب الله له، ولكن خوف فتنة الحيّ؛ بظنّ أن هلاك مَنْ دخل لدخوله، ونجاة مَنْ خرج لخروجه. ونقل عن ابن مسعود أن الطاعون فتنةٌ على المقيم والفارّ، يقول المقيم: أقمْتُ فمتُّ، ويقول الفارّ: فررْتُ فنجَوْتُ، وإنما فرّ مَنْ لم يحضر أجله، وأقام مَنْ جاء أجله فمات([34]).
ـ وفي رواية عائشة: قال رسول الله|: إن من فناء أمّتي بالطعن والطاعون، فقلتُ: هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: غدّةٌ كغدّة البعير، تأخذهم في مراقهم. المسلم الميت فيه شهيدٌ؛ والمقيم عليه المحتسب كالمرابط في سبيل الله؛ والفارّ منه كالفارّ من الزحف([35]).
ـ وعن أمّ أيمن قالت: في وصيّة رسول الله| لبعض أهل بيته: إنْ أصاب الناس موتان وأنتَ فيهم فاثبت فيهم.
لذا صرَّح كثيرٌ من فقهاء العامة بالكراهة؛ وتخطّى البعض إلى التحريم؛ وزاد بعضهم فامتنع عن الصلاة على الميت الفارّ منه، وهو إفراطٌ بإزاء تفريطِ مَنْ أوجب الفرار([36]).
ب ـ روايات الشيعة الإماميّة
وهي رواياتٌ ناظرة إلى ما استفاده السُّنّة من كلام رسول الله، حيث أشاروا إلى عدم جواز الفرار من الوباء؛ واعتبر كثيرٌ منهم هذا التحريم أمراً مشكلاً، فسعى بعضهم إلى تخريج الفرار في تلك العصور ببعض القواعد والتخريجات الفقهية.
ورغم أن الإمام المعصوم قد صحَّح صدور روايات رسول الله، إلاّ أنه كان يبيِّن السياق التاريخي للكلام:
1ـ ففي خبر أبان الأحمر قال: سأل بعضُ أصحابنا أبا الحسن”ع” عن الطاعون يقع في بلدةٍ، وأنا فيها، أتحوَّلُ عنها؟ قال: نعم، قال: ففي القرية، وأنا فيها، أتحوَّلُ عنها؟ قال: نعم، قال: ففي الدار، وأنا فيها، أتحوَّلُ عنها؟ قال: نعم، قلتُ: فإنّا نتحدّث أن رسول الله”ص” قال: الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف، قال: إن رسول الله| إنما قال هذا في قومٍ كانوا يكونون في الثغور في نحو العدو، فيقع الطاعون، فيخلون أماكنهم، ويفرّون منها، فقال رسول الله| ذلك فيهم([37]).
والرواية صحيحةٌ، حيث تشير إلى أنه لا أقلّ يصحّ الفرار من الوباء.
2ـ خبر عليّ بن المغيرة قال: قلتُ لأبي عبد الله×: القوم يكونون في البلد يقع فيها الموت ألهم أن يتحوَّلوا عنها إلى غيرها؟ قال: نعم، قلتُ: بلغنا أن رسول الله| عاب قوماً بذلك، فقال: إن أولئك كانوا ربيئةً بإزاء العدوّ، فأمرهم رسول الله| أن يثبتوا في موضعهم، ولا يتحوَّلوا منه إلى غيره، فلما وقع فيهم الموت تحوَّلوا من ذلك المكان إلى غيره، فكان تحويلهم من ذلك المكان إلى غيره كالفرار من الزحف([38]).
ويتخلَّل السند رجلان: محمد بن موسى بن المتوكِّل؛ وعليّ بن المغيرة.
وهذان الرجلان لا يوجد توثيقٌ صريح في حقِّهما.
إلاّ أن عدداً من الفقهاء وثَّق محمد بن موسى بن المتوكِّل؛ لكثرة رواية الصدوق عنه.
أما عليّ بن المغيرة فقد تكرَّر ذكرُه في رواياتٍ كثيرة، واحتمال سقوط كلمة (أبي) قبل كلمة (المغيرة) وإنْ كان جارياً في بعض الموارد، إلاّ أنه غير جارٍ في الجميع، فالظاهر أنه مغايرٌ لعليّ بن أبي المغيرة، والله العالم. وعلى أيّ حالٍ الاثنان ـ عليّ بن أبي المغيرة وعليّ بن المغيرة ـ مجهولا الحال.
وبالتالي الرواية مجهولة الحال؛ للجهل بأحد رجالها.
3ـ خبر الحلبي، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الوباء يكون في ناحية المصر فيتحوَّل الرجل إلى ناحيةٍ أخرى؛ أو يكون في مصرٍ فيخرج منه إلى غيره؟ فقال: لا بأس، إنما نهى رسول الله| عن ذلك لمكان ربيئةٍ كانت بحيال العدوّ، فوقعَ فيهم الوباء، فهربوا منه، فقال رسول الله|: الفارّ منه كالفارّ من الزحف؛ كراهية أن تخلو مراكزهم([39]).
والرواية صحيحةٌ تشير إلى جواز الفرار من الوباء.
وقد استفاد الفقهاء من الروايات المذكورة حيث قالوا: ويجوز الفرار من الوباء والطاعون، وما في بعض الأخبار من أن الفرار من الطاعون كالفرار من الجهاد مختصٌّ بمَنْ كان في ثغرٍ من الثغور؛ لحفظه([40]).
وفي الخلاصة: إن الروايات غير مفيدةٍ في المقام، إلاّ من ناحية الردّ على أهل العامّة في جواز الفرار من الوباء.
كراهية الفرار من المسجد
روى عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى×، قال: سألتُه عن الوباء يقع في الأرض، هل يصلح للرجل أن يهرب منه؟ قال: يهرب منه ما لم يقع في مسجده الذي فيه، فإذا وقع في أهل مسجده الذي يصلّي فيه فلا يصلح الهرب منه([41]).
ومثله في المعنى المُرْسَل المرويّ في معاني الأخبار([42]).
وهذه الرواية صحيحةٌ بناءً على صحّة طريق الحُرّ العاملي إلى كتاب عليّ بن جعفر، واعتباره طريقاً حقيقيّاً، كما ذهب إليه السيد الخوئي، وليس تبرُّكيّاً، كما يظهر من الشيخ آصف محسني.
قال صاحب الوسائل بعد نقله للصحيحة: يمكن أن تكون الرواية الأخيرة ـ على تقدير صحّتها ـ محمولةً على الكراهة([43]). وهو قد اتّفق بذلك مع العلاّمة المجلسي حيث قال: «والظاهر أن لخصوصيّة المسجد مدخلاً، وليس لبيان الفرد الخفيّ؛ لما رواه عليّ بن جعفر، في كتاب المسائل، عن أخيه موسى×، حيث قال: سألتُه عن الوباء يقع على الأرض، هل يصلح للرجل أن يهرب منه؟ قال×: يهرب منه ما لم يقع في أهل مسجده الذي يصلّي فيه، وإذا وقع في أهل مسجده الذي يصلّي فيه فلا يصلح الهرب منه»([44]).
تحقيقٌ واستنتاج
ـ هل للمسجد خصوصيةٌ لجهة الحفظ من الوباء؟
الوجدان والتجربة يشهد بأنه لا يوجد للمسجد أيّ خصوصيّةٍ تميِّزه عن باقي الأماكن الأخرى من حيث الوباء، ويمكن أن يُقال: إن الخطر على مرتادي المسجد من جهة انتشار الوباء آكد؛ لجهة الاجتماع والتقارب الحاصل في نفس المسجد.
لكنْ لعلّ منشأ الكراهة علّةٌ أخرى غير ما ذكرنا.
ـ ما المقصود بـ «أهل مسجده الذي يصلّي فيه»؟
قد يقصد من قوله: «في أهل مسجده» أهل المحلّة؛ وذلك لكَوْن المسجد هو المَعْلَم الأبرز في ذلك الزمان، وهو لا يزال مُعْتَمداً عند بعض أهل هذا الزمان، فيُقال: «أهل المعصومة في قم»، فإنهم يقصدون المحلّة التي تحاوط مقام المعصومة.
ويؤيِّد ذلك عبارة: «الذي يصلّي فيه»؛ فإنه يمكن أن يُتصوَّر خصوصية لمطلق مسجدٍ بكراهة الفرار، لكنْ أن يضيف هذه العبارة بهذا الموضع فإنه يقصد أهل المحلّة الذين يصلّون في هذا المسجد.
ويؤكِّد ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي في مسألة إذا أوصى لجيرانه بثلث ماله، حيث قال أحمد بن حنبل في المقصود من جيرانه: أهل مسجده وجماعته([45]).
فعبارة أهل مسجده الذي يصلّي فيه يُستفاد منها أهل محلّة ومنطقة معيّنة.
وقد ذكر السيد عبد الأعلى السبزواري في هذا السياق أنه لا بُدَّ من حمل كراهة الفرار من المسجد على بعض المحامل، كعموم الوباء في جميع الأمكنة، بحيث لا ينفع الهرب([46])، فليس للمسجد خصوصيّةٌ طبّية تمنع الإصابة من الوباء، بحَسَب ما يظهر عبر العصور والأزمان.
وخاصّةً أنه كان يصعب على الفرد الفرار في ذلك الزمان، فأين سيفرّ وقد انتشر في محلته؟! وهو لا يعلم حال المحالّ الأخرى، فقد يكون منتشراً فيها أيضاً، فيفتك فيه المرض في سفره؛ إذ لا يوجد وسائل اتّصال، ولا وزارة صحّة تحصي الإصابات، وتجري الفحوصات.
ولعلّه أيضاً، مضافاً إلى ما ذُكِر، لوقاية الآخرين من غير أهل محلّته؛ كي لا ينقل العدوى.
وفي الخلاصة: ليس المقصود بعبارة: «أهل مسجده» الأناس الذين هم في المسجد، بل المقصود بها أهل المحلّة والمنطقة، وبالتالي لا دلالة على خصوصيّة نفس المسجد بالكراهة، إنما الكلام كلّ الكلام في انتشار الوباء في المحلّة والمنطقة.
قاعدة لا ضَرَر ولا ضرار، اختلافٌ في المفاهيم والنتائج
التفسير الأوّل
وهو أن يكون المقصود منها النهي التحريميّ، فيحرم الضَّرَر والإضرار حرمةً تكليفية، على وزان حرمة شرب الخمر مثلاً. وقد اختاره شيخ الشريعة في كتابه قاعدة لا ضَرَر، حيث قال: «إن الراجح في نظري القاصر إرادة النهي التكليفي من حديث لا ضَرَر ولا ضرار»([47]).
وبالتالي فإن المكلَّف يكون منهيّاً، وفق ما ذهب إليه شيخ الشريعة، عن الإتيان بالفعل الضَّرَري مطلقاً، سواء بحقّ نفسه أو بحقّ الآخرين. ولكنّه لا يشمل الأحكام الوضعيّة التي قد تؤدّي إلى ضَرَر، فمثلاً: في ما يخصّ بحثنا، وهو وباء كورونا، على فرض وجود ضَرَر معتدٍّ به نتيجة حصول عَقْدٍ فإنه لا يصحّ إبطال هذا العقد.
التفسير الثاني
وهو نفي أن يكون في الشريعة ضَرَرٌ غيرُ متدارَكٍ وغيرُ مجبورٍ، فيفهم بالكناية أن هناك نهياً عن ترك تدارك الضَّرَر، وأن كلَّ ضَرَرٍ لا بُدَّ من تداركه. وقد اختار هذا الرأي المولى عبد الله بن محمد التوني البشروي الخراساني، المشهور بـ (الفاضل التوني)، حيث ذكر في كتابه «الوافية في أصول الفقه»: «لا ضَرَر ولا إضرار في الإسلام… فنفي الضَّرَر غير محمولٍ على نفي حقيقته؛ لأنه غير منفيٍّ، بل الظاهر أن المراد به: نفي الضَّرَر من غير جبران بحَسَب الشرع»([48]).
إذن المنفيّ ليس الضَّرَر مطلقاً؛ بداهة وجود الضَّرَر في الخارج، بل المنفيّ وصفُ عدم التدارك. فالمصحِّح لهذا النفي هو أن يكون المنفيّ الضَّرَر غير المتدارك، فالضَّرَرُ المؤثِّر حقيقةً ينحصر في الضَّرَر غير المتدارك، وأما الضَّرَر المتدارك فليس بضَرَرٍ، فتكون الهيئة بصدد بيان أنه لا ضَرَر خالياً عن التدارك والجبران في الإسلام، وتهدف إلى بيان الضمان.
وفق هذا الرأي لا يكون المكلَّف منهيّاً عن الإتيان بالفعل الضَّرَري، وإنما يكون مطالَباً بضمان الضَّرَر في حال وقع الضَّرَر… وفي ما يخصّ بحثنا فعلى فرض وجود ضَرَرٍ معتدٍّ به جرّاء وباء كورونا فإنه لا يجب الاحتراز أو التنبُّه، وفق هذا الدليل، بل فقط يكون المكلَّف مأموراً بالضمان فيما لو تضرَّر منه أحدٌ.
أما مع الجهل بالجهة الفاعلة فتكون الدولة هي الضامن.
التفسير الثالث
إنّ تفسير الحديث بنفي الحكم الضَّرَري هو المعروف بين المتأخِّرين، والمقصود من هيئة لا (ضَرَر) هو نفي الحكم المستلزم للضَّرَر، فكلُّ حكمٍ يوجب وقوع المكلَّف في الضَّرَر نتيجة امتثاله فهو منفيٌّ في عالم التشريع.
واختاره كلٌّ من: الشيخ الأنصاري؛ والميرزا النائيني.
يقول الشيخ الأنصاري، في كتابه «فرائد الأصول»: «إن المعنى بعد تعذُّر إرادة الحقيقة: عدم تشريع الضَّرَر، بمعنى أن الشارع لم يشرِّع حكماً يلزم منه ضَرَرٌ على أحدٍ، تكليفيّاً كان أو وضعيّاً…». ثمّ يذكر معنىً ثانياً، لكنّه يرجِّح المعنى الأول: «والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأوّل»([49]).
وهكذا قول الميرزا النائيني، في كتابه «منية الطالب»، بعد أن عرض الوجوه المختلفة في قاعة لا ضَرَر، وناقشها: «كيف كان، فأحسن الوجوه وأصحّها هو ما اختاره شيخنا الأنصاري، أن هذا الوجه يصلح لأن يكون مدركاً للقاعدة الفقهية المتداولة بين الفقهاء»([50]).
وبناءً على هذا التفسير يلزم الاستفادة الكثيرة من الحديث، حيث يثبت أنّ كلّ حكمٍ من الأحكام منفيٌّ حالة الضَّرَر.
وهذا الاحتمال يشمل الضَّرَر الناشئ من نفس الحكم، كما في العقد الغَبْني حين يحكم بلزومه؛ فإنه يلزم منه نقصٌ ماليّ على الطرف المغبون، وكذلك يشمل الضَّرَر الناشئ من العمل وفق الجَرْي لإيجاد متعلَّقه، كالوضوء حين يتوضّأ بالماء البارد الذي لا يحتمل عادةً؛ فإن الضَّرَر ينشأ من خلال الجَرْي العملي للمكلَّف لتحقيق متعلَّق الوضوء خارجاً، بلا فرق بين أن يكون الضَّرَر نتيجة ذات المتعلَّق، أو أن يكون نتيجة مقدّمةٍ إعدادية من مقدّمات المتعلَّق.
ووفق هذا المبنى فإن الحكم الذي يستلزم الضَّرَر، تكليفيّاً كان أو وضعيّاً، مرفوعٌ، سواء كان الضَّرَر بسبب موضوعه أو بعض مقدّماته، ولكنه ليس حراماً.
التفسير الرابع
وهو يرى أن المقصود من الحديث نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. فقد تعارف بين المتحاورين نفي الحكم والمحمول بلسان نفي الموضوع؛ لأجل المبالغة في التعبير. وهذا الاحتمال هو الذي اختاره الآخوند الخراساني، في كتابه «كفاية الأصول»، حيث ذكر: «كما أن الظاهر أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب، حقيقةً أو ادّعاءً، كناية عن نفي الآثار، كما هو الظاهر من مثل: (لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد)؛ و(يا أشباه الرجال ولا رجال)؛ فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً، لا نفي الحكم أو الصفة، كما لا يخفى. ونفي الحقيقة ادّعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو في الكلمة، ممّا لا يخفى على مَنْ له معرفةٌ بالبلاغة»([51]).
والفرق بين هذا الرأي والرأي الثالث أنّ الرأي الثالث يجعل كلمة الضَّرَر مستعملةً في الحكم ودالّةً عليه، بينما يرى هذا الرأي أنّها مستعملةٌ في الموضوع دون الحكم؛ ففي قولنا: الوضوء واجبٌ يكون الوضوء بمنزلة الموضوع، والوجوب حكمٌ، وعلى الرأي الثالث تكون كلمة «الضَّرَر» مستعملةً في الوجوب، بينما على الرأي الرابع تكون مستعملةً في الوضوء. هذا فارقٌ.
والفارق الثانٍي أنّه على الرأي الثالث ينتفي الحكم كلّما استوجب الضَّرَر، سواء كان الضَّرَر بسبب موضوعه أو بعض مقدّماته؛ وهذا بخلافه على الرأي الرابع، فإنه لا ينتفي إلاّ إذا كان موضوعه ضَرَريّاً، و لا يكفي لانتفائه كون مقدّماته ضَرَريّة.
فمثلاً: حصول ضَرَر الوباء تارةً يكون بسبب نفس الصلاة في المسجد؛ وأخرى بسبب مقدّمات الصلاة في المسجد (أثناء الطريق مثلاً).
في الحالة الأولى يرتفع استحباب الصلاة في المسجد، بدون فرقٍ بين الاحتمالين؛ أما في الحالة الثانية فيرتفع استحباب الصلاة في المسجد على الاحتمال الثالث، ولا يرتفع على الاحتمال الرابع.
التفسير الخامس
ذهب الإمام الخميني إلى أن مفاد هيئة الجملة هو النهي عن الضَّرَر والإضرار، لكنْ بنحوٍ حكوميّ، لا بنحوٍ شرعيّ، وسمّاه بالنهي السلطانيّ؛ لأن النبيّ كما أنه مبيِّنٌ للحكم الشرعي ومبلِّغٌ عنه، فهو أيضاً له حقٌّ في تشريع أحكامٍ ولائية حكومية تقتضيها مصلحة تدبير المجتمع.
لكنّنا نعتقد أن هذا الرأي لا يختلف في نتيجته عن رأي شيخ الشريعة، القائل بالنهي التشريعي، فكما يجب على العباد امتثال النهي التشريعي كذلك يجب عليهم امتثال النهي الولائي.
وقد ذكر ذلك في كتابه «بدائع الدُّرَر في قاعدة نفي الضَّرَر»، حيث قال: «وأما إرادة النهي من النفي ـ كما عن ابن الأثير، والسيوطي، وغيرهما من مَهَرة أهل اللسان ـ فهو ليس ببعيدٍ، بل الظاهر منه ذلك. والاختلاف بين ما رجَّحناه وبين ما ذكره هؤلاء إنما هو في كون النهي من نواهي الله تعالى، كالنهي عن شرب الخمر والقمار، فطبَّق رسول الله| الكبرى الكلّية على المورد، واتّكل في ردع سمرة بن جندب فقط أو في أمره بقلع الشجرة ـ أيضاً ـ على قوله: (لا ضَرَر ولا ضرار)، كما يظهر من شيخ الشريعة، ولعله الظاهر ـ أيضاً ـ منهم؛ أو أن النهي مولويٌّ صدر منه| بما أنه سلطانٌ في الرعية، وسائسٌ في الملّة، كما هو أرجح عندي، وعرفْتَ وجهه مستقصىٍ؛ فإنْ رجح ذلك في نظرك فالشكر لله تعالى وله المِنّة؛ وإلاّ فاجْعَلْه أحد المحتملات في مقابل سائرها، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً»([52]).
ومن هنا فإنه، وفق رأي الإمام الخميني، يمكن للحاكم أن يأمر وينهى بما يتناسب مع رفع الضَّرَر، سواء عن نفس الفعل الضَّرَري أو مقدّماته، وذلك لا يطال الأحكام الوضعيّة.
ومن هنا فإنه يحقّ للحاكم وفق ما يقدِّره من المصلحة أن يأمر وينهى في سبيل تجنُّب الضَّرَر الناتج من الوباء.
وفي الخلاصة: تفاوتت المباني الفقهية المستفادة من رواية (لا ضَرَر) في سبيل معالجة أيّ ضَرَرٍ معتدٍّ به خارجٍ عن طبيعة نفس الفعل. وقد اختلفَتْ على ضوء ذلك عددٌ من النتائج الفقهية المستفادة من كلّ مبنىً. ومن هنا حاولنا توظيفها في بحثنا (بحث الوباء) بقَدْرٍ لا بأس.
خاتمةٌ واستنتاج
توصَّلنا في هذا المقال، ووفق آليّة البحث المعتمدة، إلى نتائج عدّة:
أوّلاً: وجود مائزٍ بين اصطلاحَيْ: (الوباء) و(الطاعون) وفق ما تمّ تقديمه؛ إذ الوباء هو المرض العامّ؛ أما الطاعون فهو مرضٌ عامّ مخصوص. وقد ذكرنا أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً.
ثانياً: في البحث العقليّ حول المسألة أشَرْنا إلى وجود اختلافٍ في النتائج المستفادة، وذلك تَبَعاً لاختلاف المباني؛ فمَنْ قال بالملازمة بين حكم العقل والشرع استطاع القول بلزوم تحريم الشارع للضَّرَر المقطوع به عَقْلاً؛ وأما مَنْ لم يقُلْ بالملازمة فإنه لا يمكنه الاستفادة من حكم العقل في المقام.
ثالثاً: في البحث القرآني بحثنا ثلاث آيات، أبرزها: الآية الثانية: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، حيث استفَدْنا منها حرمة إلقاء النفس في التهلكة، مع عدم تزاحمها مع فعلٍ آخر، ولو تزاحمت فإنه سيصار إلى قواعد الترجيح..
رابعاً: في البحث الروائي تناولنا الروايات الواردة في الوباء. لكنها رواياتٌ غير مفيدة إلاّ من ناحية الردّ على أهل العامّة، حيث حرَّموا أو كرَّهوا الفرار، وقد أتَتْ مثل هذه الروايات لنفي ما ذهب إليه العامّة.
خامساً: في قاعدة لا ضَرَر ذكرنا أبرز المباني الموجودة المستفادة من رواية (لا ضَرَر)، ثم بيَّنا الأثر الفقهيّ لكلّ واحدةٍ منها في ما يرتبط ببحثنا.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. من لبنان.
([1]) للتوسعة يمكن مراجعة هذ المصادر:
ـ أبو الفداء الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية، ج13، ط7، 1408هـ ـ 1988م، مكتبة المعارف، بيروت.
ـ عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك وذهنيات الإنسان في المغرب والأندلس (12 ـ 14م)، الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت، 2008.
ـ علي محمد الصلابي، سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شخصيّته وعصره، (2005)، مؤسسة اقرأ، القاهرة.
ـ مبارك محمد الطراونة، الأوبئة وآثارها الاجتماعيّة في بلاد الشام في عصر المماليك الشراكسة، 2010، المجلة الأردنية للتاريخ والآثار.
ـ محمد الأمين البزّاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، 1992، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس.
ـ موقع قناة الجزيرة، الوباء، شبكة الجزيرة، الدوحة، آخر مشاهدة: 18 مارس 2020، انظر:
https://bit.ly/3d9gmkx
ـ نصير بهجت فاضل، الطواعين في صدر الإسلام والخلافة الأموية، 2011، مجلة جامعة كركوك للدراسات الإنسانية.
ـ عبدالإله بن مليح، عرض كتاب «جوائع وأوبئة المغرب في عهد الموحدين»، 2002، الجمعية المغربية للبحث التاريخي.
([2]) ملاحظة: ليس كلامُنا في فلسفة المرض، كما أشارت رويات عديدة، وكما قال القرطبي: هو نقمة يرسلها الله على مَنْ شاء من عصاة عبيده وكَفَرتهم، ورحمة وشهادة للصالحين من عباده، وقال عياض: إنه عذابٌ يبعثه الله تعالى على مَنْ شاء، ثمّ يجعله رحمةً للمؤمنين. المولى محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي 12: 44.
([3]) الجوهري، الصحاح في اللغة.
([4]) ابن منظور، لسان العرب.
([5]) الزبيدي، تاج العروس 18: 356؛ ابن منظور، لسان العرب 13: 767.
([6]) الزبيدي، تاج العروس 18: 356.
([7]) الفيروزآبادي، القاموس المحيط 4: 245.
([8]) المصدر السابق 1: 31.
([9]) الطوسي، المبسوط 4: 45.
([10]) محمد بن الحسن الحلّي (ابن العلاّمة)، إيضاح الفوائد 2: 530؛ العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام 2: 595.
([11]) المحقّق الكركي، جامع المقاصد 11: 103.
([12]) ابن القيِّم، الطبّ النبوي: 30.
([13]) صحيح مسلم (بشرح النووي) 14: 204؛ عمدة القارئ 7: 256؛ المنتقى 7: 198؛ فتح الباري 10: 180.
([14]) ابن القيِّم، الطبّ النبوي: 30.
([15]) محمود عبد الرحمن عبد المنعم، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 2: 421.
([16]) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 3: 178؛ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 435.
([17]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ٤: ٣٢١.
([18]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج1، باب 39 من أبواب الوضوء؛ المجلسي، بحار الأنوار 18: 87؛ البرهان في تفسير القرآن 1: 363.
([19]) المحقّق الحلّي، المعتبر 1: 363؛ الطوسي، المبسوط 6: 285؛ وغيرهما الكثير من الفقهاء، من المتقدِّمين والمتأخِّرين.
([20]) حيدر حبّ الله، فقه المصلحة (مدخلٌ لنظرية المقاصد واجتهاد المبادئ والغايات): 419، ط1.
([21]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 34؛ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 2: 151.
([22]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 73.
([23]) ابن منظور، لسان العرب؛ الجوهري، الصحاح في اللغة.
([24]) ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْـزَل ٢: ٣٦.
([25]) كما يضيف الشيخ الطوسي في نفس المصدر.
([26]) المحقّق الحلّي، المعتبر 1: 363؛ ص285 الطوسي، المبسوط 6: 285؛ وغيرهما الكثير من الفقهاء، من المتقدِّمين والمتأخِّرين.
([27]) الطوسي، الخلاف 5: 346.
([28]) حيدر حبّ الله، فقه المصلحة (مدخلٌ لنظرية المقاصد واجتهاد المبادئ والغايات): 419، ط1.
([29]) السيد محمد حسين فضل الله، القرآن وواقعيّة التّشريع: تحريم الخمر والميسر نموذجاً، بتاريخ: 24 رجب 1434هـ، ٣ / ٦ / 2013م:
http://arabic.bayynat.org.lb/ArticlePage.aspx?id=2628
([30]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 191.
([31]) المصدر نفسه.
([32]) معجم الفروق اللغوية؛ ومعجم لسان العرب:
https://www.arabdict.com/ar/%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8Aـ%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%A5%D8%AB%D9%85
([33]) أخرجه البخاري في الصحيح: 60 (كتاب الأنبياء)؛ 54 (باب حدَّثنا أبو اليمان)؛ وأخرجه مسلم في الصحيح: 39 (كتاب السلام)؛ 32 (باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، ح92).
([34]) المازندراني، شرح أصول الكافي 12: 44.
([35]) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6: 145.
([36]) السيد عبد الله الجزائري، التحفة السنيّة في شرح نخبة المحسنيّة (مخطوط): 339.
([37]) وسائل الشيعة 2: 430.
([38]) المصدر نفسه.
([39]) المصدر نفسه.
([40]) السيد اليزدي، العروة الوثقى 2: 22؛ الشيخ محمد تقي الآملي، مصباح الهدى في شرح عروة الوثقى 5: 378.
([41]) وسائل الشيعة 2: 430.
([42]) الصدوق، معاني الأخبار: 255.
([43]) وسائل الشيعة 2: 430.
([44]) بحار الأنوار 6: 122.
([45]) الطبرسي، المؤتلف من المختلف بين أئمّة السلف 2: 34 ـ 66؛ الطوسي، الخلاف 4: 153.
([46]) السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذَّب الأحكام في بيان الحلال والحرام 3: 380.
([47]) شيخ الشريعه الأصفهاني، قاعدة لا ضَرَر: 18، مؤسّسة النشر الإسلامي.
([48]) الفاضل التوني، الوافية في أصول الفقه 1: 194.
([49]) الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول 2: 461، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ط1.
([50]) الخوانساري، منية الطالب (تقرير بحث النائيني) ٣: ٣٨٢.
([51]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 381، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، ط1.
([52]) الإمام الخميني، بدائع الدُّرَر في قاعدة نفي الضَّرَر: 119، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، قم، ط2.