الاجتهاد: يحاول سماحة العلامة حيدر حبّ الله في هذا البحث الذي قدمه للطبعة الجديدة لكتاب « دروس في فقه الإمامية » لسماحة الشيخ الدكتور الفضلي رحمه الله، والتي صدرت في بيروت عن دار الغدير عام 2014م. أن يطلّ بإيجاز، على العمل القيّم الذي ترك العلامة الفضلي في المنهاج الدراسي الفقهي.
عندما أريد أن أتحدّث ـ ولو بإيجاز واختصار شديدين ـ عن شخصيّة بحجم العلامة الفقيد الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي رضوان الله تعالى عليه، فأوّل ما أواجه على الصعيد العلمي عنده هو هذه الخبرة المتراكمة في مجال وضع المناهج الدراسيّة، على صعد مختلفة في العلوم الإسلاميّة المتنوّعة.
إنّه الرجل الأكثر شموليّة على هذا الصعيد بين علمائنا رضوان الله عليهم، فربما نجد عالماً هنا وآخر هناك قدّم مشروعاً بديلاً في علمٍ من العلوم الإسلاميّة على صعيد الكتاب الدراسي، فالسيد الصدر (1400هـ) فعلَ ذلك في أصول الفقه، والشيخ المظفر (1381هـ) فعل ذلك في المنطق وأصول الفقه، والشيخ جعفر السبحاني حفظه الله فعل ذلك في أكثر من علم من العلوم الإسلاميّة كالرجال والحديث وغير ذلك، لكنّ امتياز العلامة الفضلي كان في المجموعة الكاملة المتكاملة للمناهج الدراسيّة في مختلف العلوم الإسلاميّة: في الفقه، وأصول الفقه، والكلام، والمنطق، والفلسفة، والتربية، والرجال، والحديث، وتاريخ التشريع، والصرف، والنحو، والبلاغة، والعروض، وتحقيق التراث، وأصول البحث و..
إنّ هذه المراكمة والتكامل يساعدان أكثر فأكثر على تصنيف العلامة الفضلي في عداد القلائل الذين حاولوا إعادة وضع برامج تعليميّة جديدة في المعاهد والجامعات والحوزات الدينية، في تجربة تقارب نصف قرن من الزمن.
إنّ قيمة تجربة علامتنا الفضلي رحمه الله تكمن أيضاً في اهتمامه العجيب بقضيّة المنهج، فلم يضع كتاباً دراسيّاً ليكتفي بتغيير العبارات أو تبسيطها، إنّ هذه الخطوة التي قام بها بعض العلماء مشكورةٌ، لكنّ الأهم منها هو إجراء تعديل في المنهج والتنظيم والتبويب والمصطلح وخارطة الطريق. وفهمُ المنهج مسألة بالغة الأهميّة، ويفتقر إليها الكثير من الدارسين في مجال العلوم الدينية.
مسألة المناهج، الأهميّة والدور
إنّ دراسة المناهج من أهمّ أبواب المعرفة، فالمنهج هو الذي يقود حركة البحث العلمي، وهو الذي يتحكّم بالتنقّلات الذهنية والعقليّة للباحثين، وهو المسؤول عن خارطة العمل، وهو الذي يتولّى ضمان سلامة النتائج.
إنّ المنهج تعبير آخر عن المنطق، فمنهج التفكير البشري العام هو الذي يتكفّله علم المنطق، فيما مناهج العلوم المختلفة تمثل منطق هذه العلوم، وكما لا يمكن السير الموضوعي السليم دون منهج يضيء الطريق ويضمن لنا الوصول إلى النتائج الأسلم والأصحّ، كذلك الحال في العلوم الدينية، حيث لابدّ لها من منهج تسير عليه كي تتمكّن من سوق الباحثين والدارسين في الاتجاه الصحيح ولو نسبيّاً.
إذن، دراسة المناهج ـ ومنها مناهج العلوم الشرعيّة ـ تفيد في:
أولاً: فهم هذه العلوم نفسها فهماً معمّقاً.
ثانياً: القدرة على الإدارة العلمية البحثية بشكل واعٍ ومدروس.
ثالثاً: القدرة على فهم الآخرين ومدارسهم وآرائهم بشكل أشمل وأعمق، يلامس البنيات التحتية لتفكيرهم.
رابعاً: القدرة على دخول حوار علمي منتج بين الفرقاء المتنازعين في الساحات الفكرية والعلميّة.
وإذا كان هذا حال دراسة المناهج، فإنّ وضع المناهج وبلورتها وتأمين سلامتها في أكثر الكتب تأثيراً وحساسية ـ وهي الكتب التعليميّة ـ يظلّ أمراً أكثر صعوبة من مجرّد رصد المناهج وفهمها والتأمّل فيها.
لقد لاحظنا في العلامة الفضلي، كما سوف نرى، إبداعاً في قضيّة المنهج لم نجده في أغلب الكتب التجديديّة الحوزويّة وحتى الجامعيّة، ففي الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية يعاني الدرس الفقهي والقانوني في الجامعات الحقوقيّة من نقص واضح يتمثل في أنّ الموادّ الفقهيّة التي تدرّس لطلاب الحقوق والقانون ليست سوى متوناً فقهيّة قديمة أو جديدة، ولكنّها لا تبدي تغيّراً حقيقيّاً في المنهجة، حتى أنّ بعض كبار أساتذتنا المختصّين في المجال القانوني والقضائي، يعترف بهذا الواقع، إلى حدّ أنّه يتحدّث أحياناً عن أنّ طلاب العلوم الحقوقيّة في إيران يعتبرون مادّة الفقه والشريعة أقرب إلى أن تكون مادّة لغةٍ عربيّة منها إلى مادّة قانونيّة تشريعيّة، وليس من سبب لذلك إلا أنّ الكتاب الدراسي والتعليمي الذي وضع في الفقه إلى اليوم ما زال يسير على منوالٍ منهاجيٍّ واحد حتى لو تغيّرت العبارات، وهذا يعني أنّ طالب العلوم القانونية والحقوقيّة سيجد نفسه أمام منهجين في التعليم، الأمر الذي سوف يضع المنهج القديم في عداد القراءة التراثية عنده ليس إلا.
هنا تكمن أهميّة جهود شخص مثل العلامة الفضلي رضوان الله تعالى عليه. إنّها في إخراج العلوم الدينية ـ على مستوى المنهج والتنظيم ـ من السياق المدرسي التقليدي إلى سياق يمكنه أن يلتئم مع واقع المسارات المعرفيّة والعلميّة المعاصرة، بحيث يمكن القول بضرس قاطع بأنّ ما فعله العلامة الفضلي يمكنه في كثير من المواقع أن يسدّ الأزمة المشار إليها في الجامعات الإيرانية ـ على سبيل المثال ـ ولو في بعض المراحل الدراسيّة على الأقلّ، ولا أدري لماذا لم تتمّ الاستفادة من أعمال الشيخ الفضلي هنا أو من شيء يسير على منوالها ويستنسخ طريقتها؟!
«دروس في فقه الإمامية» مطالعة عامّة في المنهج والملامح والميزات
سوف أحاول هنا أن أطلّ بإيجاز بالغ واختصارٍ شديد أكاد أجزم بأنّه مخلّ، على العمل القيّم الذي تركه لنا العلامة الفضلي في المنهاج الدراسي الفقهي. إنّ مراجعة مصنّفات العلامة الفضلي الدراسيّة والتعليميّة عامّة، وما قدّمه لنا في هذا الكتاب «دروس في فقه الإمامية» خاصّة، تعطينا مجموعة من النتائج والمعطيات، أهمّها:
1 ـ تطوّر الآليّات والتحرّر من معضلة المتن (التغيير اللغوي والإبداع البياني)
من ميزات الكتاب الدراسي هو يُسر اللغة وبساطة التعبير وسهولة وصول الفكرة إلى الطرف الآخر، ومن مشكلات الكتاب الفقهي التعليمي أنّه ما زال يعتمد إلى اليوم على المتن، بمعنى أنّ نصف الوقت يصرف على شرح الفكرة وبيان المعنى فيما نصفه الآخر على شرح العبارة وبيان اللفظ، وهذا الأمر ـ مضافاً إلى ما يسبّبه من ضياع الوقت ـ يؤدّي إلى الدوران حول الكتب المخصّصة للتعليم بطريقة يصبح من الصعب معها الخروج من إطارها المنهجي الذي وضعتنا فيه.
إنّ أبرز ميزات كتاب العلامة الفضلي هنا هو سهولة البيان وبساطة التعبير، وعدم الحاجة في تقديري لتطبيق الشرح على المتن، بل يكتفي الطلاب بمراجعة ما في الكتاب بعد أن صاروا واعين للمفاهيم الموجودة من خلال شرح الأساتذة، فحتى أكثر الكتب تجديداً في العلوم الدينية ما زالت تعاني من هذه المشكلة، ككتاب الحلقات في أصول الفقه للسيد الصدر، وبدرجة أقلّ كتاب المنطق وأصول الفقه للشيخ المظفّر، لكنّنا نجد مع العلامة الفضلي أنّنا تجاوزنا هذا الموضوع بالكليّة، ولم نعد نواجه أبسط المشاكل فيه، فكتب الشيخ الفضلي التعليميّة هي الكتب الوحيدة تقريباً التي يمكنها أن تؤسّس لمرحلة تجاوز المتن، بمعنى أنّ الأستاذ والطالب لم يعودا بحاجة أبداً لقراءة متن الكتاب الدراسي بعد إعطاء الدرس، لتفكيك عباراته وإرجاع ضمائره، وهو ما يوفّر الكثير من الوقت ومن الجهد والعناء على الطلاب والأساتذة معاً.
إنّ محاولة الشيخ الفضلي الاقتراب الكبير من المنهاج الحديث في التدوين الدراسي، والابتعاد عن المنهاج القديم، جعلته يبدو من أكثر الشخصيات التي تخلّصت نهائيّاً من أزمة اللغة المعقّدة والبيان الملتوي، وأكثرهم وفاءً لما آمن به من ضرورة التخلّي عن فكرة المتن والشرح، ولهذا لا نجد في كتابه متناً في الأعلى يتلوه شرحٌ في الأسفل، ولا نرى متناً في البداية يتلوه شرح بعده، خلافاً لما فعله بعض أساتذتنا الأجلاء المعاصرين المجدّدين في مجال الكتاب الدراسي أيضاً، حيث ظلّ أسيراً لفكرة المتن، الذي يتلوه شرح له وتعليق عليه.
ومن نماذج ذلك عنده هو الاهتمام بالرصد اللغوي، كون شيخنا الفضلي فقيهُ لغة ومتخصّص من الطراز الأوّل في جانب اللغة بفروعها المختلفة، وله نظريّاته الخاصّة في هذا المضمار، لهذا كثيراً ما نلاحظ الحضور اللغوي لجوانب أيّ موضوع يتناوله، فهو يهتمّ كثيراً في هذا الكتاب بالتعاريف اللغويّة والمصطلحية مميّزاً بينها، وتفكيك المصطلحات بشكل قد يبدو أحياناً مبالغاً فيه، لكنّ التعاريف تشكّل بالنسبة لطالب العلم مفتاحاً للحلول، ومانعاً عن الكثير من أنواع الالتباس والخلط بين المفاهيم.
إنّ من أهم ميزات الكتاب الدراسي هو قدرته على تفكيك المفاهيم والمبادئ التصوّرية، بحيث يكون متميّزاً في مجال تعريف المصطلحات، وشرح المقولات، وتفكيك التركيبات الخاصّة بهذا العلم، وقدرته على تحرير محلّ النزاع ومحلّ الاتفاق في المسألة التي تخضع للدرس.
وهو مهتمّ كثيراً أيضاً بالعنونة الداخليّة التفصيليّة لموضوعات أبحاثه في هذا الكتاب، كي تتميّز الموضوعات عن بعضها، ويسهل للطالب الوصول إلى موضوعه ومركز بحثه في مدّةٍ زمنيّة قياسيّة. كما أنّ عمليات التقسيم المتواصل للبحوث في كتابه هذا يجعل الكتاب أكثر يسراً وأسهل تناولاً لطلاب العلوم الشرعيّة.
وما لفتني في هذا الكتاب أيضاً، هو أنّ العلامة الفضلي يكثر فيه نسبيّاً من استخدام وسائل الرسم البياني والتشجير والتقسيم في الموضوعات المختلفة، على غرار ما كان فعله في كتابه الشهير «خلاصة المنطق».
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جاء في تقسيمه المياه وأنواعها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، حيث ذكر العلامة الفضلي مجموعةً من الأقوال في المسألة، شارحاً كلّ قول من خلال مشجّرات وتقسيمات رائعة، وهو ما لمسناه في مختلف الأبواب في هذا الكتاب، لاسيما الجزء الثاني منه.
وعلى هذا الصعيد، تظهر الرسومات الهندسيّة الجميلة والواضحة التي قدّمها لنا العلامة الفضلي في مباحث الكرّ عند كلامه عن الماء الكثير، حيث عرض لنا مجموعةً من الرسومات البيانيّة الهندسيّة الجميلة التي تساعد على فهم قضيّة الكرّ وتشرح مسألة المساحة وغير ذلك فيه. والكلّ يعرف أنّ مسألة الكرّ وتحديده، وربط مساحته بوزنه من القضايا الإشكاليّة الأساسيّة في فقه الطهارة.
يضاف إلى ذلك كلّه، عناصر التسهيل الأخرى التي يمتاز بها هذا الكتاب وغيره من كتب العلامة الفضلي، مثل وضع الأسماء الجديدة للمصطلحات القديمة كما في باب المقادير والأوزان والمسافات، وكذلك وضع المرادفات الأجنبيّة للمصطلحات بما فيها المصطلحات القانونيّة، وهي خطوة غير مسبوقة، ولكنّها تساعد الطلاب على البحث عن الموضوع في المصادر الأجنبيّة ولو عبر محرّكات البحث الالكتروني أو عبر المعاجم والموسوعات.
ووضع الفهارس والبيانات والمشجرات والرسوم كما قلنا سابقاً، وهو ما يساعد بشكل كبير على توضيح الأفكار. كذلك اهتمامه في هذا الكتاب بعناصر المقارنة بين النظريّات، حيث يبدو ذلك جليّاً دوماً ليكشف عن نقاط الالتقاء والافتراق بين الآراء والأفكار.
ومن العناصر المهمّة في مجال البيان والتسهيل تلك المقدّمات والخلاصات والنتائج التي توضع في أوائل الأبحاث وخواتيمها، فهي من خصائص هذا الكتاب الذي سهّل بذلك على الطلاب واختصر حيث يحتاجون، وأوردهم البحوث بطريقة هادئة دون مفاجأة.
ولا ننسى أن نشير إلى حداثة لغة الشيخ الفضلي العربية، وبلاغتها الأدبيّة، وفصاحتها، فهي كتبٌ عربيّة بامتياز، وهذا ما يعطيها عنصر قوّة في زمن قلّت فيه الكتب الحوزوية العربية الفصيحة، وصارت هناك عجمة في البيان. ولا أقصد بالعجمة الخطأ اللغوي نحويّاً أو صرفيّاً بالضرورة، بل البعد الصياغي من اللغة العربية، فإنّ الكتاب الدراسي ـ في قسم العلوم النقليّة على الأقل ـ كلّما كان كتاباً راقياً من الناحية اللغوية ساعد ذلك طلاب العلوم الدينية على لسان عربي فصيح وسلس وانسيابي، ومكّنهم أكثر من فهم نصوص اللغة العربية التي يشتغلون عليها في حياتهم، ولعلّني لا أبالغ إذا قلت بأنّ كتب الشيخ الفضلي وكتب الشيخ محمد رضا المظفر تحظى بالدرجة الأولى وسط الكتب الحوزوية الدراسيّة من ناحية الجودة اللغوية والبيانية والأدبيّة، فتجمع بين أصالة اللغة وحداثة التطوّر البياني في الوقت عينه.
وأختم كلامي حول البُعد البياني واللغوي عند الدكتور الفضلي بالإشارة إلى أخلاقيّة المناقشة عنده، فإنّ لغته النقديّة خاصّة والبحثية عامّة لغةٌ هادئة غير متشنّجة ولا عنيفة، وليس فيها تعريض أو غمز أو طعن أو تشويه أو تسخيف أو عُقدة من الآخر، كما لا نجد في لغته ما يشير إلى أيّ نزعة جزميّة تدّعي احتكار المعرفة أو احتباس الحقيقة عند زيد أو عمرو.
وهذه اللغة في الكتاب الدراسي عندما يجري تعميمها سوف تخلق ثقافة أخلاقيّة وأدبية وبيانية متقدّمة، كما ستساعد على إيجاد مناخ صحّي سليم وبيئة حاضنة لثقافة التنوّع واحترام الرأي الآخر، وستحول دون منطق الجزميات وحديث النهايات.
2 ـ العناية بمعطيات العلم الحديث واستحضار المعرفة الإنسانيّة في اكتشاف الموضوع الفقهي
نطالع في هذا الكتاب محاولات حقيقيّة للعلامة الفضلي للدخول في مقاربات علميّة حديثة بغية اكتشاف الموضوعات الفقهيّة أو النظر إلى بعض العناوين المأخوذة في الفقه الإسلامي من زاوية علميّة حديثة تنفع في توسيع أفق الطالب على الموضوع الذي يشتغل عليه، وسأذكر بعض الأمثلة على ذلك:
فالعلامة الفضلي عندما يتحدّث في الجزء الثاني من هذا الكتاب عن الخنزير البحري يقدّم لنا معطيات علميّة نافعة في تحديد ما هو خنزير البحر، وأيّ الحيوانات هو؟ وكذلك فعل عند حديثه عن الجرذ ونوعه الحيواني. والمتابعون للشأن الفقهي يعرفون أنّ بعض الأسماء القديمة وقع خلافٌ في تحديدها اليوم مثل كلب البحر وخنزيره، وبعض أسماء الحيوانات التي وردت في كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه الإسلامي. وهذا يعني الحاجة لمحاولة جادّة للتعيين، والفقيه هنا يمكنه أن يتعاون مع التاريخ واللغة والعلوم الحديثة لكي يصل بالفقه إلى نتيجة محدّدة، بدل إطلاق العناوين القديمة دون أن يتبيّن المكلّفون من مصاديقها في العصر الحديث.
وكذلك الحال عندما يتحدّث عن الخمر، فهو يذهب بنا في رحلة مطوّلة نسبيّاً في رحاب العلوم الحديثة لتحديد الخمر وأنواعه وخصائصه، وتحليل مادّة الكحول وغير ذلك، الأمر الذي يساعد بالتأكيد في الجواب عن بعض المستجدّات الفقهيّة في مجال الطبّ وغير ذلك.
الأمر عينه نجده عندما يتحدّث عن عوارض النساء، من الحيض والنفاس، حيث يعالج في مواضع مختلفة تحليل هذه الظواهر من وجهة نظر علميّة، وما يرتبط بها من تعيين سنّ الإخصاب عند المرأة وسنّ اليأس كذلك، والإجهاض وأنواعه.
والملفت أكثر عندما يتحدّث في باب المطهّرات عن الماء، حيث نجده يفرد صفحات متعدّدة حول الماء وخصائصه ودورة المياه الطبيعية، كذلك الحال في الأرض التي تعدّ من المطهّرات أيضاً، حيث يحدّثنا العلامة الفضلي عن التراب وأنواع الأتربة وخصوصيّاتها، موثقاً ذلك كلّه من المصادر العلميّة الموزونة.
ولا يقف الأمر عند القضايا الطبيعية التي يستمدّ العلامة الفضلي معلومات عنها من العلوم الحديثة تنفع طالب الفقه والشريعة، بل نجده يذهب إلى علم الاقتصاد ومقولات الاقتصاديين وعلماء الحقوق والقانون والتاريخ، عندما يتحدّث في الأجزاء الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب عن الحقّ والملك والعقد والبيع والذمّة والعهدة والشركة والبنك والمصرف والربا وغير ذلك. إنّ صورة العلوم الأخرى تظلّ حاضرةً هنا في معطياتها حيث تكون الحاجة، بلا تطويل مملّ أو اختصار مخلّ.
وخلاصة القول: إنّ محاولة العلامة الفضلي في هذا الكتاب الاستفادة من نتائج العلوم الحديثة بوصفها علوماً مُعِيْنَةً في دراسة القضايا الشرعيّة وموضوعاتها، تستحقّ الإشادة؛ إذ نادراً ما حصل ذلك في كتاب دراسي، إن لم نقل بأنّه لم يحصل أساساً. والكشف الميداني عن علاقة العلوم الشرعية بسائر العلوم الدينية من جهة، وعلاقتها بالعلوم الإنسانيّة والطبيعية من جهة ثانية، ضرورةٌ عليا اليوم، انطلاقاً من مبدأ العلاقات المتواشجة بين العلوم جميعاً، وهو مبدأ يظهر بوضوح من العلامة الفضلي الإيمان به والاشتغال على تطبيقاته.
3 ـ آليات تناول الموضوع الإشكالي الفقهي
من ميزات أو من عناصر جمالية وقوّة هذا الكتاب منهجيّاً أنّه عندما يعالج موضوعاً فقهيّاً إشكاليّاً وقع محلّ الخلاف بين العلماء، فهو يعتمد العناصر التالية في آليّة العمل، وهي عناصر باتت اليوم معتمدة في الكتابة الحديثة:
أ ـ عرض المشكلة البحث ومفرداته (المبادئ التصوّرية).
ب ـ عرض كلّ رأي على حدة.
ج ـ الاستناد في عرض الآراء إلى نصوصٍ مباشرة من المصادر الأصليّة، فنجده يعتمد على أمّهات المصادر والكتب الفقهيّة وينقل عنها نصوصاً مباشرة، مثل كتاب جواهر الكلام للشيخ محمد حسن النجفي، ومستمسك العروة للسيد محسن الحكيم، وموسوعة الإمام الخوئي، وكتاب الرياض للسيد علي الطباطبائي، وغيرها من أمّهات الكتب، لاسيما كتب المتأخّرين من الفقهاء الذين تعبّر آراؤهم عن آخر ما توصّل إليه البحث الفقهي الإسلامي.
إنّ نقل النصوص مباشرةً من هذه الكتب شيء مهم جدّاً في سياق تعريف الطلاب بنصوص هذه الكتب وطرائق بيانها وتطبيق الفكرة المنقولة على النصّ الذي يدّعى أنّه يحملها.
وفي هذا السياق، يهمّني جدّاً أن أشير إلى أنّ هذا الكتاب الدراسي للدكتور الفضلي، وبعض كتبه الأخرى أيضاً، قد اعتمد بشكل واضح على توثيق المعطيات المأخوذة من المصادر والمراجع الأخرى، فعندما ينقل لنا العلامة الفضلي قولاً للشيخ الطوسي أو نصّاً للمحقّق النجفي فهو يوثّقه من كتابه المحدّد، وهكذا عندما ينقل عن العلوم الحديثة أو عن علماء اللغة أو القانون أو غير ذلك.
إنّ من ميزات هذا الكتاب الدراسي على غيره مما وضع حتى اليوم من كتب تعليميّة في الحوزات والمعاهد الدينية هو عنصر التوثيق هذا، إلى حدّ وضع فهارس بالمصادر المعتمدة في الكتاب، ونحن اليوم بحاجة إلى ثقافة التوثيق، في ظلّ فوضى النقل العشوائي إلى جانب حالة من السرقة الفكريّة، فالكتاب الذي يعتمد التوثيق ينبغي أن يصبح في وعي طلاب العلوم الشرعيّة أكثر قيمة من الكتاب الذي لا يعتمده، بل يوهم الآخرين بأنّ كلّ ما فيه هو من صاحبه ومؤلّفه.
د ـ عرض أدلّة كلّ فريق على حدة، وهنا نجد العلامة الفضلي في هذا الكتاب وفي غيره يغلب عليه طابع تقديم الدليل القرآني، يتلوه السنّة القطعيّة، ثم سائر الأدلّة والأمارات والأصول، وهذا ما يكشف عن:
أولاً: اهتمامه بالمرجعيّة القرآنيّة.
ثانياً: انطلاقه من اليقين إلى الظنّ، وليس العكس، وهو ما يعبّر عن سلامةٍ ذهنيّة، وعن منطقية عالية في التفكير.
ثالثاً: تجاهله لفكرة الأصول العمليّة والعدميّة إلا حيث تكون الحاجة القاهرة، فلا ينطلق من فكرة تأسيس الأصل ليذهب بعدها إلى الدليل كما جرى عليه الكثير من العلماء؛ لأنّ في ذلك تطويلاً للمسافة، بل يذهب مباشرةً للأدلّة. علماً أنّ للعلامة الفضلي رأياً خاصّاً بقضيّة الأصول العدميّة، حيث يرى أنّها جاءت من الفلسفة إلى العلوم الشرعيّة.
هـ ـ أحياناً يعرض الدكتور الفضلي مسرداً بأسماء العلماء الذين اختاروا هذا الرأي أو ذاك، حيث لاحظنا هذه الطريقة عنده في الموضوعات التي وقع فيها جدل كبير، مثل قضيّة نجاسة أهل الكتاب وطهارتهم.
و ـ القيام بمقارنات بين الآراء، ولو بطريقة ضمنيّة حيث يحتاج الأمر، بغية التمييز بين بعض الآراء، إذ في الكثير من الأحيان يقع الالتباس ـ لاسيما للطلاب الذين لم يبلغوا المرحلة العالية من البحث الاجتهادي ـ فلا يتمّ التمييز بين هذا الرأي أو ذاك، أو يُجعل من نصّين لعالِمين اثنين قولَين، في حين يرجعان إلى قول واحد، وهكذا.
ز ـ بعد المرور بمرحلتي (الآراء ـ الأدلّة)، يقوم العلامة الفضلي في هذا الكتاب باعتماد مرحلة ثالثة، يسمّيها (الموازنة)، حيث يعمد إلى ممارسة قراءة تقويمية لمجمل الأدلّة التي قدّمت انتصاراً لهذا القول أو ذاك، لكي يتوصّل من خلالها إلى ترجيح أحد الأقوال، وربما إلى ابتكار قول جديد مغاير للجميع، أو التوفيق بينها بطريقة أو بأخرى.
ح ـ بعد ذلك يصار إلى وضع عنوان (النتيجة)، فتستخلص الآراء والمواقف والترجيحات.
إنّها بحقّ طريقة سهلة وواضحة وتنمّ عن وضوح الرؤية لدى صاحبها، فننطلق من عرض المشكلة، والأقوال، وتوثيقها، والمقارنة بينها، وأدلّتها، والموازنة والتقويم، لنصل إلى النتيجة، في يُسرٍ ذلك كلّه وسهولة.
ورغم ذلك كلّه، ورغم الحاجة للبيان والتبيين للوفاء بكلّ هذه الضرورات اللازمة، إلا أنّنا نجد العلامة الفضلي يحاول دوماً أن يقدّم زبدة الموضوع للقارئ، فلا يذهب به يميناً وشمالاً، ولا يغرقه بتفاصيل (إن قلتَ قلتُ)، ولا يدخله في كلّ شاردةٍ وواردة، بل يلامس معه روح الموضوع الفقهي وجوهره، فليس المطلوب من الكتاب الدراسي استعراض كلّ الموضوعات وما قيل ويُقال، بقدر ما يطلب منه أن يكون حاكياً عن جوهر الأمور ليترك الجزئيات الصغيرة بعد ذلك لعقل الطالب وجهده الشخصي؛ لأنّ الغاية من الكتاب التعليمي ليست إلقاء المعلومات، بقدر ما هي فتح الآفاق وكسر المغاليق وإعطاء سرّ المهنة للطالب، كي يسير بعد ذلك لوحده في ربوع التفاصيل، ممسكاً بمفاتيح المعرفة التي قدّمها له المنهاج الدراسي السليم والمتوازن.
هذا هو الترتيب المعتمد للبحوث الاستدلالية في هذا الكتاب القيّم، وهو ترتيبٌ ينمّ عن سلامة في الذوق، وجمالية في الأسلوب، وعمق في المنهجة، وتنظيم في التفكير.
4 ـ فهرسة جديدة وتبويب آخر لعلم الفقه
من أكثر الانجازات بُعداً علميّاً في هذا الكتاب هو أنّ الشيخ الفضلي لم يعمد إلى كتب الفقه بما فيها من تقسيمات وتبويبات ليقوم باستنساخها في كتابه هذا، مغيّراً العبارات من الصعوبة والتعقيد إلى السهولة والتفكيك؛ لأنّ هذه العمليّة لوحدها ليست سوى تغيير لفظي في العمليّة التدوينية للفقه، وهي شيء مهم، لكنّه غير كافٍ ولا جذريّ في حكايته عن التحوّل التدويني.
إنّ الميزة هنا ـ ومن حقّ الآخرين أن يختلفوا مع تطبيق العلامة الفضلي ـ أنّ الشيخ الفضلي قام بوضع خارطة جديدة وتقسيم جديد للبحوث الفقهيّة التي تناولها في هذا الكتاب، إلى حدّ أنّ هذه المنهجة الجديدة تطال مختلف فروع هذا الكتاب وليس مورداً أو موردين، وسأكتفي ببعض الأمثلة ويعرف غيرها من سائر الكلام:
أ ـ تقسيمه المطهّرات إلى مادّية، وغير مادية.
ب ـ تقسيمه البحث عن النجاسات إلى: النجس، التنجّس، المتنجّس.
ج ـ تخصيصه الجزء الثالث برمّته لأصول العقود والمعاملات التجاريّة، مفرداً الأبحاث العامّة في المال والمعاملات والتجارات لوحدها، وفاصلاً إيّاها عن مباحث البيع التي جاءت في الجزء الرابع، وهي خطوة مهمّة جدّاً استفادها العلامة الفضلي فيما أظنّ من التقسيم القانوني المعاصر، فبدل أن نبحث أصول التجارات ونظريّة العقد العامّة في داخل مباحث البيع ـ كما جرت العادة على ذلك، لاسيما بعد «مكاسب» الشيخ الأنصاري ـ نحن نجد أنّ الدكتور الفضلي يقوم بفصل المباحث والكلّيات العامّة في العقود عن مباحث البيع وسائر المعاملات التي خصّص لها الجزأين الرابع والخامس، وهي خطوة موفّقة سبق أن نادى بها بعض العلماء دون أن يطبّقها أحد في المناهج الدراسيّة.
د ـ تنويعه مباحث التطهير بحسب الشيء الذي يراد تطهيره، وذلك إلى: الفرش، وسائط النقل، المنقولات، المأكولات (خضروات، لحوم، فواكه و..)، الحيوانات، بدن الإنسان، و..
هـ ـ وضع فهرسة خاصّة بمباحث العقود العامّة أيضاً، حيث فصل النظريات العامّة، عن القواعد الفقهيّة العامّة في مجال التجارات.
و ـ فصله المباحث المقدّميّة التعريفيّة العامّة، ومباحث التكليف والأهليّة القانونيّة، عن مجمل البحوث الفقهيّة، حيث خصّص لذلك الجزء الأوّل من هذا الكتاب، كما سيأتي الحديث عنه بعون الله سبحانه.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي يصعب إحصاؤها.
ولم تأت هذه التقسيمات الجديدة عند الدكتور الفضلي من فراغ أو ترف، وإنّما سبقها رؤية نقدية له في غير موضع من كتاباته، ترى أنّ تقسيمات الفقهاء للفقه كلّه تارةً، ولغير مكان من الأبواب الفقهيّة أخرى، تعاني من مشاكل منطقيّة، ولهذا عمد إلى محاولة تلافي هذه المشاكل بالسعي لتقسيمات جديدة عامّة وخاصّة، تماماً كما أشرنا إلى ذلك أيضاً عند الحديث عن التشجيرات والرسوم البيانية التي وضعها.
وخلاصة القول: لو أخذ أيّ شخص هذا الكتاب في تقسيماته وتبويبه وفهرسته، ثم نظر في سائر كتب الفقه التي تحدّثت عن نفس الموضوعات، لوجد بشكل واضح أنّ هناك ابتكاراً جذريّاً في وضع فهرسة جديدة وتنويع وتبويب جديد للموضوعات، يختلف بدرجةٍ كبيرة للغاية، وليست جزئيّة، عن سائر التقسيمات والفهرسة التي استخدمها العلماء، بمن فيهم المجدّدون في هذا المجال، مثل السيّد محمد باقر الصدر في الفتاوى الواضحة.
5 ـ الاجتهاد بين فقه المسائل وفقه القواعد
يطالعنا العلامة الفضلي في الجزء الثالث من هذا الكتاب بمحاولة جديرة بالاهتمام والتوقّف، فعندما درس فقه العقود وأصول التجارات، وضعنا أمام ثنائي: النظريات والقواعد، هذه الخطوة لفتت انتباهي، فقد اعتدنا على دراسة البحوث الفقهيّة في المعاملات ـ فضلاً عن العبادات ـ بطريقة فقه المسألة، بحيث نسير في الفقه خلف هذه المسألة الفقهية أو تلك، وهذا ما جعل خطواتنا في بعض الأحيان تجزيئيّة متقطّعة.
ليس نظري هنا إلى تقسيم العلامة الفضلي مباحث أصول التجارات والمعاملات الماليّة، فقد أشرنا لذلك قبل قليل، إنّما هدفي أن نرى كيف ركّز العلامة الفضلي على البُعد القواعدي في تأسيس وعي منهجي لطالب العلوم الشرعيّة، هذا يعني أنّ القواعد الفقهية ليست علماً مستقلاً في الفقه، بل هي المدخل لكلّ باب فقهي؛ لأنّها توفّر رؤيةً استيعابيّة شموليّة تفتح الأفق على وسائل معالجة المفردات الجزئية في (فقه المسألة)، فلا نريد ونحن ندرس فقه كلّيات المعاملات أن نلاحق (لو فعل فلانٌ كذا) أو (لو باعه كذا فاشترى كذا)،
القضيّة ليست هنا فقط، بل نريد تحصيل صورة قواعديّة عامّة تحكم إطار اجتهادنا التفصيلي لاحقاً في هذه المسألة الفرعية أو تلك، هذا ما جذبني إلى دراسة العلامة الفضلي للنظريّات العامّة في المعاملات الماليّة، ثم رصده القواعد الفقهيّة العامّة في الباب نفسه مثل قاعدة الإباحة، وقاعدة التجارة، وقاعدة اللزوم، وقاعدة الشرط، وقاعدة تبعيّة العقود للقصود، وقاعدة السلطة على المال، وقاعدة الصحّة ونحو ذلك. ولو كان الكتاب يسمح بمزيد من التفصيل لأضاف العلامة الفضلي سائر القواعد الفقهيّة المتصلة بذلك.
6 ـ الكتاب التعليمي بين مستحدثات المسائل والمعالجة الفقهيّة الواقعيّة
لا يمكن للإنسان أن لا يسجّل لهذا الكتاب الذي تركه لنا العلامة الفضلي رحمه الله هذه النقطة والامتياز، وهو أنّه من الكتب الدراسيّة النادرة جدّاً في أوساطنا والتي تعالج القضايا الفقهيّة العصريّة ومستحدثات المسائل وفقه النوازل في مجالات قليلاً ما وجدنا حديثاً عنها.
والمثال الأساس الذي يهمّني أن أشير إليه في هذا الصدد، هو عندما تعرّض الشيخ الفضلي لفقه الشركة وأحكامها، فنحن نعرف أنّ فقه الشركة في الكتب المدرسية الفقهيّة يتناول أنواعاً قديمة للشركات، كشركة العنان، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة، وشركة الأعمال والأبدان، ونحو ذلك من الشركات العقدية فضلاً عن القهريّة.
وقد سمعنا مراراً من بعض العلماء المتصدّين للشؤون القانونيّة والمتابعين لفقه مستحدثات المسائل أنّهم كانوا يأخذون على الفقه السائد اهتمامه بالأنواع القديمة للشركات، فيما يشهد العالمُ الكثير من الأنواع الجديدة للشركات، والتي لم يسبق أن تعرّض لها الفقهاء، بمن فيهم السيد اليزدي في «العروة الوثقى»، وهو الكتاب المعتمد متناً لأهم الدراسات الاجتهادية اليوم.
إنّ ميزة كتاب العلامة الفضلي هنا، ليس أنّه تناول هذه الشركات الجديدة فحسب، بل لقد وضعها ضمن برنامج الكتاب الدراسي، بحيث لم تعد جزءاً من الموضوعات الهامشيّة، بل صارت عنصراً أساسيّاً من البحث الفقهي المعاملي،
ولهذا وضعها في الجزء الرابع من هذا الكتاب، عندما كان يتحدّث عن فقه أنواع المعاملات الماليّة، فتعرّض هناك للشركات الماليّة، وشركة التضامن، وشركة التوصية الوسيطة، وشركة التوصية بالأسهم، والشركة ذات المسؤوليّة المحدودة، وشركة المحاصة، وشركة المساهمة وغير ذلك، حيث وجدنا لديه في كلّ مباحث الشركة كلاماً مفصّلاً في تاريخ الشركات وتطوّراتها، وسياقاتها الغربيّة، وقضايا المال المعاصرة، وكلاماً مفيداً حول مواقف القانونيين وتعريفاتهم وما شابه ذلك.
الخاصية الأخرى هنا على هذا الصعيد تكمن في طريقة تناول الدكتور الفضلي لفقه المعاملات البنكيّة، إنّ أبسط ما هنالك هو الواقعيّة في التناول والابتعاد عن ثقافة الفقه الفرضي، فلم يجلس في بيته لينظّر لفرضيات المعاملة الماليّة البنكيّة، بقدر ما تابع وقائع حركة البنوك والمصارف، وحاول أن يعالج ما هو الواقع من هذه الحركة الماليّة. لقد فكّك لنا قضيّة البنك ومصطلحاتها من الزوايا الاقتصاديّة والماليّة، وكذلك القانونية، بطريقة بدت الأمور معها أكثر وضوحاً وجلاء، تمهيداً لممارسة فعل اجتهادي شرعي فيها.
كما وضعنا في سياق التجارب والنظريّات والمحاولات التي قدّمت حتى اليوم في مجال البنك، وقضايا فقه البنك من الزاوية الإسلاميّة، وقام ثالثاً برصد تاريخي لغوي لقضية الربا، لنقارن بشكل جادّ وعلمي بين الربا الذي جرى تحريمه في الكتاب والسنّة وبين واقع الفوائد البنكية التي نعيشها اليوم.
وهذا كلّه ميّز محاولاته هذه عن الكثير ممّا كتب عند المتأخّرين من علمائنا في هذا الموضوع، إذ غلب هناك الطابع الفرضي للمسائل أكثر من الطابع الواقعي، فهو يجيب بخلق فروض تقديريّة، كثيرٌ منها ـ إن لم يكن جميعها أحياناً ـ لا وجود له في الواقع الخارجي العيني، فيما العلامة الفضلي يبحث عن الفرض الواقعي في الخارج ويجيب عنه لوحده بطريقة عمليّة ممكنة ميدانيّاً؛ لأنّ الجواب عنه بهذه الطريقة هو الحاجة والهدف.
ما يمكنني قوله هو أنّ ما ميّز هذا الكتاب الدراسي أنّه جمع بين معالجة مستحدثات المسائل من جهة، وحافظ على واقعيّة هذه المعالجة من ناحية ثانية، ومن هذه النقطة ومما تقدّم نستكشف واقعيّة العقل الاجتهادي الذي كان يعيشه العلامة الفضلي رحمه الله.
7 ـ الكتاب الدراسي وأغراض المؤلّف
من الطبيعي أن يكون لأغراض المؤلّف دور في قيمة وهويّة الكتاب الدراسي، إنّ قيمة هذا الكتاب أنّه وضع لكي يكون كتاباً دراسيّاً، بحيث كان الطالب نصب أعين المصنّف وهو يكتب كتابه، وهذا عنصر مهم في عملية تدوين الكتاب الدراسي. فلم يصنّف العلامة الفضلي كتابه هذا لمجرّد الإضافة إلى ما في المكتبة الإسلاميّة من مساهمات في علوم الشريعة، بل أراد لكتابه هذا ـ كما لمجموعة أعماله التي من هذا النوع ـ أن يكون منهاجاً دراسيّاً يأخذ بنظر الاعتبار حال الطالب ومستوياته وحاجاته وأهدافه.
إنّ أغراض المؤلّف هنا هي عبارة عن شعوره بالمسؤوليّة إزاء الكتاب الدراسي في الجامعات والمعاهد الدينية، وقد صرّح مراراً أنّه رأى الحاجة لسدّ هذه الثغرة، فأقدم على مشروعه هذا، وهذا يعني أنّ العلامة الفضلي لم يكن ينطلق في تدوينه العلمي من حالة الترف الفكري أو حالة (عرض العضلات) كي يُبْرِزَ نفسه في هذا الموقع أو ذاك، كما نجده عند بعضهم، بل كان الواقع وحاجات الأمّة والضرورات العلميّة في المؤسّسة الدينية والجامعيّة هي التي تفرض عليه حركته هذه.
من هنا، رأينا أنّ العلامة الفضلي قد حاول أن يجيب عن الأغراض الواقعيّة من حيث تحديات الفقه الإسلامي اليوم أمام العصر، فركّز على الموضوعات الإشكاليّة والواقعيّة، بدل الاستغراق في الموضوعات التي لا فائدة منها أو تقلّ الحاجة إليها، وهو ما تعبّر عنه الأجزاء الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب.
إنّ حاجات الفقه اليوم متعدّدة، فبعضها داخلي، وبعضها يرتبط بعلاقة الفقه بالواقع، فالأصول الاجتهادية والمنهجة حاجاتٌ داخليّة، لكنّ اختيار الموضوعات حاجةٌ يفرضها الواقع اليوم، والجمع بين نوعي الحاجات (الداخلي والخارجي) هو الذي يوفّر نجاحاً أكبر للكتاب الفقهي.
ولهذا كلّه رأينا أنّ العلامة الفضلي لا يقوم بتقديم كتاب دراسي واحد، في مادّة علميّة واحدة، لمرحلة علميّة محدّدة.. إنّ هذه الطريقة توجب بتراً في المشروع، وتُنافي مبدأ التدرّج الذي يريد صاحب المشروع القيام به، من حيث كونه حاجة أساسيّة في النظام التعليمي، بل يعمد لكلّ علم بوضع منهاج كامل فيه وصولاً إلى المراحل العليا، ليذهب الطالب بعد ذلك إلى مرحلة الاجتهاد العالية، ضمن نظم البحث العلمي السائد.
وإنّني لآسفٌ على عدم سماح الفرصة للعلامة الفضلي في إكمال مشروعه في هذا الكتاب؛ لأنّني أعتقد بأنّ الكتاب عالج ثلاثة ملفّات أساسيّة:
أ ـ نظرة عامّة حول الفقه والأحكام، وهو ما عبّر عنه الجزء الأوّل من هذا الكتاب.
ب ـ فقه الطهارة والنجاسة، وهو ما عبّر عنه الجزء الثاني من هذا الكتاب.
ج ـ فقه المعاملات الماليّة، وقد عبّر عنه ـ بشقّه العام ـ الجزءُ الثالث من هذا الكتاب، فيما عبّر الجزءان الأخيران عن شقّه الخاصّ التطبيقي على المعاملات الماليّة.
وينقص الكتاب أربعة ملفّات أساسيّة أخرى، لكي تكتمل صور النماذج أمام طلاب العلوم الشرعيّة، وهي:
أ ـ أنموذج من الفقه العبادي، كالصلاة أو الحجّ أو الصوم.
ب ـ أنموذج من فقه الأسرة والعلاقات الاجتماعيّة، مثل كتاب النكاح والطلاق.
ج ـ أنموذج من فقه العقوبات الجزائيّة والجنائيّة (الحدود والتعزيرات والقصاص والديات ونحوها).
د ـ أنموذج من فقه الحكومة والإدارة (القضاء والجهاد والولاية..).
إنّ المرحلة التي يعبّر عنها هذا الكتاب لو تسنّى للعلامة الفضلي رحمه الله أن يكملها بهذه الملفّات الأربعة ـ ولو بحذف مجلّد من المجلّدات المخصّصة لفقه المعاملات المالية ـ ستحتاج لتنوّع الموضوعات الفقهيّة، ولكنّ الله قدّر لفقيدنا الكبير الرحيل قبل إنجاز مثل هذا المشروع الطيّب. نأمل للعلماء النهضويين أن يكملوا هذه المسيرة الرائدة التي عبّد طريقها الكبار، ولم يكن العلامة الدكتور الفضلي آخرهم إن شاء الله تعالى.
وما نقوله ليس من عندياتنا، بل هو مقترح العلامة الفضلي نفسه، إذ ذهب في بعض كتاباته القديمة أيضاً إلى ضرورة تغيير تقسيم الفقه من عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام، إلى فقه الفرد، وفقه الأسرة، وفقه المجتمع، ولو قدّر له من العمر لصاغ كتابه هذا وفقاً لهذا التقسيم مكملاً نواقصه في هذا السياق.
8 ـ «دروس في فقه الإمامية»، ومشروع المداخل المنهجيّة العامّة
عندما نطالع الجزء الأوّل من هذا الكتاب، أوّل ما نواجه تلك المقدّمات العلميّة التي يضعها الدكتور الفضلي لدراسة علم الفقه، وهذه المقدّمات الثلاث التي احتواها هذا الكتاب، يمكن أن تعبّر عن ثلاثة أطر:
أ ـ إطار التعريف بعلم الفقه، فإنّ أغلب طلاب العلوم الشرعيّة في المعاهد الدينية الإماميّة عندما يدرسون الفقه، سواء في المراحل الأولى أم العالية، لا يتناولون في دراستهم أو يقومون بأيّ جولة تعريفيّة عامّة بعلمٍ عريق كعلم الفقه، فما هو هذا العلم؟ وما هو موضوعه الذي يدور حوله؟ بحيث نستطيع من خلال هاتين النقطتين تمييزه ـ ولو نسبيّاً ـ عن سائر العلوم، كي لا يقع التداخل السلبي بين العلوم والتخصّصات.
هلّ حقّاً هناك حاجة للبحث حول علم الفقه؟ وما هي هذه الحاجة من زاوية شخص متشرّع؟ وما هي أيضاً من زاوية شخص لا يلتقي أساساً مع الفكر الديني؟ إنّ رصد الحاجة لعلم الفقه سوف يضع الطالب في موقع تقدير المادّة الدراسيّة التي يقوم بدراستها، وسيعي أكثر فأكثر أنّ العلم الذي يدرسه يجب أن يملك تصوّراً عن الحاجة إليه، كي لا يعيش دراسة علومٍ أو قضايا أو مسائل فقهيّة أو غير فقهيّة، متخلّياً عن ذهنية الحاجة التي تعبّر عن وعي لضرورات العصر وفقه الأولويات.
وفي ضوء معرفة الحاجة لعلم الفقه يتضح الموقف الشرعي من دراسته، وهل هو واجب أم مستحب أم مباح أم غير ذلك؟ وما هي نوعيّة الحكم الثابت في تعلّمه من حيث الكفائية والعينية أو غير ذلك.
من الضروري أيضاً لطالب علم الفقه أن يعرف ما هي المقدمات اللازمة لدراسة الفقه الإسلاميّ، ويدرك أنّ لكلّ علم عُدَداً معرفيّة يفترض به أن يطّلع عليها ويكون على دراية بها، كي لا يكون حاله حال بعض طلاب العلوم الشرعيّة الذين يدرسون مادّةً معيّنة دون أن يملكوا المقوّمات أو العناصر التمهيديّة التي تؤهّلهم أو تمكّنهم أو تسهّل لهم دراسة هذه المادّة العلميّة، الأمر الذي يجعل من دراستهم لها في بعض الأحيان تطويلاً للمسافات وتضييعاً للوقت وهدراً للإمكانات والطاقات.
إنّ مسألة مقدّمات علم الفقه أو مقدّمات الاجتهاد، يبحثها العلماء عادةً إمّا في كتاب القضاء من الفقه الإسلامي أو في بعض المباحث الأصوليّة. إنّ أخذ هذه الأبحاث من هذه الأمكنة غير المناسبة، ووضعها في مداخل علم الفقه سوف يصحّح مسيرة الوعي الفقهي لطالب العلوم الشرعيّة. وموضوعة مقدّمات علم الفقه صارت اليوم موضوعة إشكاليّة وحسّاسة، فعندما يطرح العلامة الفضلي قضيّة اللغة ويركّز عليها في هذا الكتاب، وهو الخبير والفقيه اللغوي، فهو يرشدنا إلى ضرورة إحياء الدرس اللغوي مجدّداً في محافلنا العلميّة بعد غيبوبة نسبيّة له في أوساطنا.
وما يلفتني هنا هو إشارة العلامة الفضلي في مقدّمات علم الفقه أيضاً إلى علوم القرآن الكريم، بما في ذلك علم القراءات والتجويد، إنّ علوم القرآن الكريم لا يشار إليها عادةً هنا، لكنّني أعتقد بأنّ الوعي القرآني وتيار المرجعيّة القرآنية الذي شهدناه في القرن العشرين قد أرخيا بظلالهما على علامتنا الفضلي، ليدرج علوم القرآن الكريم ـ وهو محقّ ـ في مقدّمات علم الفقه، نظراً لدور هذه العلوم الكبير في تمكين الفقيه من فهم القرآن الكريم فهماً صحيحاً.
وفي واحدة من تأثيرات عصر النهضة الإسلامي الحديث (القرن العشرين) يُلفتنا العلامة الفضلي إلى ضرورة علم التاريخ الاجتماعي لعصر التشريع، إنّ كلامه هذا يفتح ـ كما يشير ـ إلى قرائن المقام التي تحفّ بأغلب نصوصنا القرآنيّة والحديثية، فالوعي الفقهي لا يأتي فقط من مراجعة اللغة والمعاجم، بل يأتي أيضاً من مراجعة السياقات التاريخية الحافّة بصدور أو نزول النصوص، وبهذه الطريقة يصبح الاجتهاد حلقةً وسطى بين التاريخ ووعيه من جهة، والواقع والعصر وضروراته من جهة ثانية، فيكون الرابط بينهما، لينتج عنه بناء مستقبل أفضل.
ويختم علامتنا الفضلي إطار التعريف بعلم الفقه بالتعريف بالمذاهب الفقهيّة، إنّها خطوة ممتازة لخلق وعي فقهي اسلامي وليس مذهبيّاً فقط، وهو ما كرّسه داخل هذا الكتاب المخصّص للفقه الإمامي، عبر استحضاره هنا وهناك آراء فقهاء المذاهب الأخرى، ففي الوقت الذي يقوم الطالب فيه بدراسة الفقه الإماميّ لا يغيب عنه وجود مدارس فقهية أخرى عند المسلمين وأنّ عليه أن يطّلع عليها ويستفيد منها أو يصوّب مفاهيمها ومقولاتها، فالفقه المتصل بمذهب معين غير غائب عند علامتنا الفضلي عن سائر المذاهب، بل هو في عين خصوصيّته عام، وهو في عموميّته خاصّ كذلك.
ب ـ إطار التعرّف على المدرسة الفقهية الإماميّة، فبعد أن اطّلع الطالب على الفقه بشكل عام، ها هو يتجوّل مع هذا الكتاب للعلامة الفضلي في ربوع الفقه الإمامي، فيدرس مدارسه واتجاهاته الأساسيّة، وكذلك نشأته وتطوّره التاريخي، ويرصد مراكزه الكبرى عبر التاريخ، ومعالمه وخصوصيّاته. هذا المقطع من هذه المقدّمة التي يحويها الجزء الأوّل، يعني أنّ التاريخ ـ عنيت تاريخ العلم ـ يظلّ أمراً ضروريّاً للطالب كي يتمكّن في ضوئه من وعي العلم الذي يدرسه وعياً تراكميّاً تاريخيّاً، فمشكلة الكثيرين أنّهم يدرسون علم الفقه من خلال دراسة المنجز الأخير له مثلاً، بحيث لا يدرون كيف وصلت الأمور إلى هذا الحدّ.
إنّ العلامة الفضلي في هذه المقدّمة ـ وكذلك في سائر أبحاث هذا الكتاب ـ يمتاز بالوعي التاريخي للدرس الفقهي وقضاياه، فيفتح أفق الطالب على ملابسات نشأة هذا الموضوع الفقهي أو ذاك، ومراحل تطوّره، وكيف وصل إلى ما وصل إليه اليوم، وهو ما يفيد الطالب في كسر تصوّر مغلوط مهيمن في أنّ هذه الفكرة لم يقل بها أحد، حيث التاريخ يكشف عن تنوّع المدارس والاتجاهات والآراء الفقهيّة تنوّعاً رهيباً يفسح للطالب في المجال أن يسمح باستمراريّة هذا التنوّع في عصرنا الحاضر، ولا يراه غريباً عن جسم علم الفقه ومساراته.
يكفينا هنا أن نعرف أنّ العلامة الفضلي واحد من القلائل الذين كتبوا في تاريخ التشريع الإسلامي مصنّفات مستقلّة، وهذا ينمّ عن خبرة كافية في مجال الرصد والتحليل التاريخي للعلوم الفقهيّة، ويضع مساهماته هنا في هذا الكتاب في سياقٍ من الاختمار والوعي المسبق بهذا الحقل المعرفي الهامّ للفقه، عنيت تاريخ هذا العلم. ولهذا وجدناه يهتمّ بعرض مسارد بأسماء كتب الفقه الإمامي ومصادره ومراجعه وعلمائه ومراكزه؛ لأنّنا نعرف أنّ الكثير من طلاب علوم الشريعة لا معرفة كافية لهم بالتراث الفقهي وشخصيّاته ومصنّفاته، لهذا كان من الضروري الاهتمام بهذا الأمر.
وفي السياق عينه يأتي تسليطه الضوء على تاريخيّة التبويب الفقهي، وكيف حصلت تحوّلات فيه، ذلك كلّه يخرج طالب العلوم الشرعية من الصور النمطية التي يعيشها مع كتاب أو كتابين، إلى رحابة التنوّع في المنهجة والتبويب والتصنيف.
والذي لفت نظري في هذا الإطار هو اهتمام العلامة الفضلي بإثبات مكانة علم الفقه الإمامي ومرجعيّته المتمثلة بالكتاب والسنّة بما يشمل أهل البيت النبوي عليهم السلام، فوضع مقارنات يبدو لي أنّه لاحظ فيها الطالب غير الشيعي لكي يضع هذا المذهب الفقهي في موقعه الصحيح، وأنّه ليس هجيناً أو غريباً أو لا شرعيّة له في السياق الإسلامي العام.
ج ـ إطار دراسة التكليف، يمتاز هذا الكتاب عن كثير من الكتب الفقهيّة، بوضع مبحث التكليف والحكم الشرعي في مدخل علم الفقه، فما هو التكليف الشرعي؟ وما هي طرق معرفة الأحكام الواقعيّة التي خوطبنا بها؟ وما معنى الاجتهاد والاحتياط والتقليد؟ وما معنى أهليّة التكليف؟ وكيف نحدّد ذلك؟ وكيف نحدّد البلوغ والعقل والقدرة وغير ذلك مما يسمّى بالشروط العامّة للتكليف؟
إنّ الكثير من الفقهاء وضعوا قسماً من هذه البحوث في كتاب الحجر من أبواب المعاملات، مع أنّ حقّه الطبيعي أن يكون في مقدّمة علم الفقه؛ لأنّه يشكّل المدخل السليم لذلك، لا سيما على المستوى العملي الذي تتولاه الرسائل العمليّة للفقهاء.
وفي الختام
لا يسعني بعد مطالعتي لهذا الكتاب الوزين إلا أن أنحني إجلالاً وإكباراً لشخصٍ نذر نفسه لوضع برنامج دراسي كامل لطلاب العلوم الدينية، وليخدم أجيالاً قادمة من العلماء والباحثين والفقهاء والمجتهدين والمفكّرين، ولم يطلب على ذلك أجراً من أحد، وقضى ما يقرب من نصف قرن من الزمن في هذا المشروع، الذي لا تكمن قيمته بعدد صفحاته أو مجلّداته، كما بات يخيّل لبعضنا اليوم أنّ قيمة العقل تكمن في ذلك، بل نجد قيمته في هذه الهندسة المعرفيّة والمنهجيّة، وفي الانتقاء المدروس للنصوص والفقرات والكلمات، وفي الغايات النبيلة التي ساقت علامتنا الفضلي للقيام بهذا الدور.
ليس الفقه مجرّد الاستدلال و (إن قلتَ قلتُ)، كما أراد بعض المعاصرين أن يعلّق على العلامة الفضلي، بل هو هذا المنهج والنظام والتناسق والحداثة والتجديد والتطوير وإعادة الهيكلة وتقديم ما هو مختلف، ومواكبة العصر في تحدّياته على مختلف الصعد، فالعصر ليس مجرّد سائل لنجيبه بطريقتنا، إنّه منتج لطرائق التفكير وآليات الخطاب وأساليب البيان والمعرفة.
نحن لا نقول بأنّ العلامة الفضلي هو نهاية الطريق أو أنّه المنجَز الذي لا يقبل النقد، بل نحن نصرّ على نقده البنّاء وتقديم ما هو أفضل ممّا قدّمه على الدوام، لكنّ تنوّع ثقافته الفقهيّة وقدرته الاستثنائيّة على إعادة بناء نظامٍ جديد للفقه وغيره من العلوم الإسلاميّة ـ تدويناً وتنظيماً وبياناً وهندسةً وعصرنةً ـ لا يقلّ أبداً عن مماحكات الأدلّة التي لم يكن فيها علامتنا الفضلي عاجزاً، بل ـ ومعه سربٌ من العلماء النهضويين ـ غير مؤمنٍ بالكثير من هذه المماحكات التي مزّقت الذوق الفقهي السليم والفهم العربي الصحيح من وجهة نظره التي يحقّ للآخرين الاختلاف معه فيها، لكن لا يحقّ لهم فرض رؤيتهم عليها.
إنّني أبدي أسفي الشديد على غياب هؤلاء الكبار من بيننا، بالمقدار الذي يفترض لهم أن يكونوا حاضرين، هذا الغياب الذي فرضه التآكل في الأولويّات، والانغلاق في الفكر، والتعسّف في الحكم، والاستعجال في رؤية الأمور، فضاعت المهنيّة في خضم معركة الأيديولوجيا، وتلاشت الكفاءات في أقدام الولاءات، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل في الشدّة والرخاء.
أتوجّه ـ بعد الله سبحانه ـ بالشكر الجزيل للعلامة الفضلي رحمه الله، على هذا المنجز الرائع الذي قدّمه لنا، وأسأل الله تعالى له الرحمة والرضوان، وأن يجزيه عن الدين والإسلام خير جزاء المحسنين، وأن يوفق العاملين في خدمة فكره وعطائه لكلّ خير، إنّه قريب مجيب.
حيدر محمد كامل حبّ الله
27 ـ شعبان ـ 1434هـ
6 ـ 7 ـ 2013م
(*) نشر هذا البحث بوصفه مقدمة للطبعة الجديدة لكتاب سماحة الشيخ الدكتور الفضلي رحمه الله، والتي صدرت في بيروت عن دار الغدير عام 2014م.
المصدر: موقع سماحة الشيخ حيدر محمد كامل حبّ الله