الامام الباقر التقية

نظرة الإمام محمد الباقر”ع” إلى التقية / الرزينة ر. لالاني

الاجتهاد: ازدادت النقاشات الدينية الناجمة عن «الفتنة»(1) حدة أكثر فأكثر بحلول زمن [الإمام] الباقر “عليه السلام”. كان الناس قد بدأوا بالشك في صحة الإمامة و”مكانة المؤمن” التي يجب أن يتمتع بها الإمام. وأدّى ذلك إلى تساؤلات حول «الإيمان» و”الإسلام”، وما إذا كان «العمل» جزءاً ضرورياً من «الإيمان» وشرطاً لتسمية المرء بالمسلم.

وأثارت هذه الأسئلة بدورها قضية مسؤولية الإنسان أو فقدان هذه المسؤولية، إضافة إلى أسئلة بُنيت على الآراء الدائرة في ذلك الوقت حول طبيعة القرآن (مخلوقاً أم غير مخلوق)، والتأكيد الذي وُضع على الصفات الإلهية للكلمة.

وحملت هذه المسائل في طياتها المشكلة الأكثر عمومية والمتعلقة بالصفات الإلهية، وطريقة وجودها وعلاقتها بجوهر الله ووحدانيته.

وأثيرت ونوقشت بمرور الوقت مسائل عديدة إضافية، إلا أن الموضوعات الأساسية التي كانت ستشكل علم اللاهوت الديني، أو علم الكلام، كان سبق لها أن ظهرت في هذه الفترة المبكرة. وسنحاول هنا تقديم آراء [الإمام] الباقر “عليه السلام” بخصوص بعض المسائل الأساسية التي كانت موضع محاورات على نطاق واسع في حياته .

التقية

ترتبط مسألة التقية (2) أو التستر الاحترازي، في رأي [الإمام] الباقر “عليه السلام”، بشكل مباشر، بـ «العلم والإيمان». وروى له رجل من البصرة زَعْمَ الحسن البصري أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريحُ بطونهم أهلَ النار.

فردّ [الإمام] الباقر “عليه السلام” بأنه إذا كانت الحالة كذلك أهلك المؤمن من آل فرعون. ثم تابع مضيفاً ومشيراً إلى صدره، أن «العلم ما زال مكتوماً منذ بعث الله نوحاً فليذهب الحسن يميناً وشمالاً، فوَالله ما يوجد العلم إلا ههنا”(3).

توحي هذه الحادثة بأن مسألة ما إذا كان بالإمكان كتم العلم أم لا – أي ممارسة التقية – قد نوقشت إبان زمن [الإمام] الباقر “عليه السلام”.

وتشير الآراء التي عبر عنها [الإمام] الباقر “عليه السلام”، إلى التأكيد الذي وضعه على كتم العلم، أي ممارسة التقية في ما يتعلق بالعلم.

وسأل [الإمام] الباقر “عليه السلام” مرة رجلاً فقال: «ما تقول لو أفتينا رجلاً ممن تولانا بشيء من التقية؟ قال : أنت أعلم جُعلتُ فداك. قال : إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجراً» وفي رواية أخرى: إن أخذ به أُوجِرَ، وإن تركه والله أَثِم.(4)

توحي الصيغة الأولى للحديث، بأنه من المفضل ممارسة التقية، بينما تتضمن الثانية أن التقية مفروضة كفريضة نرتكب الإثم بإهمالها. وطبقاً لولده الصادق، قال [الإمام] الباقر “عليه السلام” أيضاً إن «التقية دینی ودین أجدادي، وكل من لا تقية له لا إيمان حقيقياً له. ومن أفشي لنا سراً فهو كمن رفضه» (5).

ربما كان استخدام التقية أمراً أساسياً في تعاليم [الإمام] الباقر “عليه السلام” لأنه ألحَّ على تقسيم العلم إلى ظاهر و باطن، وهنا تكمن أهمية جواب [الإمام] الباقر “عليه السلام” لجابر بن یزید الجعفي، الذي سأل لماذا أعطی جوابین مختلفين لمسألة قرآنية واحدة في أوقات مختلفة.(6)

وشرح أن للقرآن معنی باطناً وأن للمعنى الباطني معنی باطناً آخر بعده، كما أن للقرآن معنى ظاهرياً، له هو الآخر معنی ظاهري آخر بعد.

وأضاف [الإمام] الباقر “عليه السلام” أنه لا يوجد شيء أبعد عن عقول الناس من تفسير القرآن، لأنه من الممكن أن تكون بداية آية ما شيئاً، في حين أن نهایتها شيء آخر. فالكلمات متصلة مترابطة، لكنها تنصرف بطرق شتی.

وكانت مسألة التقية، في ما يخص السياسة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببحث «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وكان السؤال الذي أُثير بهذا الخصوص يدور حول: إلى أي مدى كان من واجب المسلمين مراقبة الآخرين يفعلون ما هو صحيح ويتجنبون ما هو خطأ.
بعضهم أعتقد أن واجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، يجب تنفيذه بالقوة إذا لزم الأمر. وقد تبنى المعتزلة هذا الرأي،

معتقدين أنه إذا ما أتيحت فرصة معقولة للقيام بمعارضة لأحد الظالمين، فيجب أن تقوم هذه المعارضة، حتى لو كان ذلك يعني أن أحداً ما يجب أن يُقتل أثناء هذه العملية.

ولم تكن آراء [الإمام] الباقر “عليه السلام” متطابقة مع تلك التي لمعاصريه الذين استخدموا هذه العقيدة للدعوة إلى الثورة، في ظل الظروف اليومية لتلك الفترة على الأقل. وهو لم يوافق، كما هو معروف، على الثورة المسلحة، بل نصح أخاه غير الشقيق، زید بن علي، بعدم تبني هذا المنحى.

ربما يكون ذلك من باب التقية ؛ فبينما لم يعتقد [الإمام] الباقر “عليه السلام” بإشهار السيف والخروج إذا لم يكن ذلك ضرورياً، فإن الزمن الذي عاش فيه، طبقا لأحد الأحاديث،(7) لم يكن مناسباً للثورة المسلحة.

مجال آخر من المجالات التي يظهر أن [الإمام] الباقر “عليه السلام” استخدم التقية فيها هو مسألة الخليفتين الأوَّلين، أبي بكر وعمر. فطبقاً لابن سعد(8)، يُروى أن [الإمام] الباقر “عليه السلام” قد سمّاهما «القادة (الخلفاء) الراشدين»، وقال إن علياً لم يرغب في معارضة سيرتهما.

وهذا، بالطبع، مناقض لما ورد عند الطبري حيث يرفض [الإمام] علي “عليه السلام”اتباع سيرتهما، أي أسلوب الخليفتين في الحكم(9).

غير أن [الإمام] الباقر “عليه السلام” كان مقتنعاً بأن النبي [صلى الله عليه وآله وسلمٍ] نص صراحة على أن يكون [الإمام] علي “عليه السلام”خليفة له، ويعني ذلك أن خلافتهما افتقرت إلى الشرعية التي وُجدت عند على وحده.

ويعتقد بعض أهل الكوفة أن [الإمام] الباقر “عليه السلام” کتم رأيه الحقيقي مستخدما التقية.(10) وقد بلغ اهتمام [الإمام] الباقر “عليه السلام” بتلك الحالة أن جعل من تلك العقيدة مبدأً لضمان سلامة الشيعة(11).

غير أن التقية لم تكن غريبة أبدأ على الإسلام، حتى في أطوارها المبكرة . فالآية القرآنية (16 : 106 ) التالية تبرر التقية في ظل شروط اضطرارية قاهرة: مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. (12).

هناك اجماع بأن هذه الآية تشير إلى عمّار بن یاسر، الصحابي الشهير الذي خضع لعذاب قاس على أيدي مشركي قريش لدرجة أنه اضطر إلى التخلي عن الإسلام شفهياً. وعندما اتهمه بعض المسلمين بالكفر، قال النبي [صلى الله عليه وآله وسلمٍ]، ” لا؛ إن عماراً مليء بالإيمان من رأسه إلى قدمه. لقد امتزج الإيمان بلحمه ودمه.

وعندما جاء عمار إلى النبي [صلى الله عليه وآله وسلمٍ] باكياً بسبب تبرُّئه الاضطراري من الإسلام، قيل له، “لماذا تفعل ذلك (تبكي)؟ إذا ما كرروا ذلك (تعذيبهم لك)، فكرر ما قلته لهم.(13).

* الرزينة ر. لالاني عضوة وباحثة في معهد الدراسات الإسماعيلية، ومتخصّصة في الشؤون العربية وحائزة شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة أدنبرغ.

الهوامش
1 – الفنتة التي وقعت في الأمة الإسلامية نتيجة مقتل الخليفة عثمان.
2- حول اشتقاقات كلمة “تقية” ومعانيها، انظر: شتروثمان ، مقالة “تقية”، الموسوعة الإسلامية ، م4، ص 628 -629؛ و مقالة کوهلبرغ حول آراء بعض الشيعة حول التقية في مجلة JAOS ، العدد ۹۵، 1975، ص 395-402.
3- الكليني، الكافي، م1، ص 51. عد إلى الحديث المسند إلى [الإمام] الباقر “عليه السلام” في: الدعائم، م1، ص ۱۷، حيث يتعمد الحسن البصري إخفاء الرسالة (الولاية) الموحى بها إلى النبي [صلى الله عليه وآله وسلمٍ] عن أحد السائلين مناقضاً بذلك آراءه الخاصة بعدم إخفاء العلم.
4- الكليني، الكافي، م1، ص 65.
5- القاضي النعمان،دعائم، م۱، ص ۷۵؛ انظر أيضأ: جعفر بن منصور اليمن، اسرار النطقاء، في: إيفانوف،Isma ‘li Tradition،ص۹۲.
6- الكليني، الكافي، م1، ص 65.
7- البارقي، كتاب المحاسن، م ۲، ص ۳۰۰
8- القاضي النعمان، شرح، ص266 وما بعدها؛ مناقب، ورقة ۳۰۳ وما بعدها. “أي فرد من آل البيت يلجأ إلى السيف قبل حلول زمن “المهدي” هو كالفرخ الذي يحاول الطيران قبل أن يقوى جناحاه، فإنه سيقفز مرة أو مرتين قبل أن يلتقطه الغلمان ويعبثوا به”.
9- ابن سعد، طبقات، م۵، ص ۲۳۱.
10- الطبري، تاریخ، م1، ص ۲۷۷۸.
11- الكشی، رجال، ص ۲۰۵ وما بعدها، حيث تُقتبس الأحاديث التي تشير إلى الكميت عن [الإمام] الباقر “عليه السلام” إنكاره القوي لأبي بكر وعمر. غير أن الكميت نفسه لم يذم أول خليفتين علنا طبقا لما ورد في “الهاشميات” ، ص 155، على الأقل. ربما كان الكميت يستخدم التقية ما دامت “الهاشميات” أشعاراً للجمهور العام.
12- إنه لأمر هام التشديد هنا على أن إخفاء آراء الشخص بكافة جوانبه هو أمر يختلف عن النفاق. والقضية موضع التساؤل، أي وضعية أول خليفتين، تكشف المبدأ المطبَّق هنا: فمن جهة، يمكن اعتبار أول خليفتين «خليفتين راشدين” بمقدار ما تكون المبادئ الرسمية الواضحة التي يحكمان بموجبها هي مبادی صحيحة؛ بينما يمكن اعتبارهما «غير شرعيين» لأن خلافتيهما ناقضتا النص على [الإمام] علي “عليه السلام”باعتباره الخليفة الحقيقي للنبي، وهناك درجات للأمور السليمة تماماً، كما أن هناك جوانب ووجهات نظر لها أثرها في هذه المسألة : ومثل هذه التعقيدات والأمور الشفافه يجب ألا تضيع عندما نريد فهم مبدأ التقية بشكل صحيح.
13- البيضاوي، أنوار، م ۱، ص۵۲۸؛ ابن کثیر، تفسير القرآن العظيم، م ۲، ص 586. مع أن أهل السنة أفسحوا المجال لمثل هذه التقية إلا أنهم فضّلوا التزام المؤمن بإعلان دينه.

 

المصدر:كتاب الفكر الشيعي المُبكِر تعاليم الإمام محمد الباقر . بقلم: الرزينة ر. لالاني * – ترجمة: سيف الدين القصير – الصفحة 121

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky