الاجتهاد: مدار الحديث هنا يرتبط بمرحلة ما بعد مرجعيتي السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي، إذ إن وجودهما في الوقت الحاضر على رأس المرجعية العليا وقيادة المجتمع الشيعي يُغني عن البحث في مصاديق المرجع الأصلح، لأن كليهما يتوافر على مواصفات رؤية «المرجعية القائدة»، كما تتوافر هذه المواصفات لدى آخرين من جيلهما من المراجع المعمّرين.
وبالتالي، فإن مهمة البحث عن المرجع الأصلح، الذي تقع على عاتقه قيادة المجتمع الشيعي بعد رحيلهما، ستكون مهمة صعبة واختباراً مصيرياً للأمة، خاصة في مثل هذه الظروف المفصلية التي تعيشها الأمة، والتي تحتاج مرجعاً مديراً مدبراً كفأً حكيماً شجاعاً عارفاً بمتطلبات العصر وحاجات الأمة على الصعد العامة، وقادراً على دفع المفاسد عنها وجلب المصالح لها، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه المرجع الأصلح الذي هو عنوان رؤية المرجعية القائدة.
ولا نقصد هنا مرجعية الولي الفقيه وإنما المرجعية العليا، سواء على مستوى النجف أو قم.
ولعل تشخيص الفقيه الأصلح الذي يتصدّى للشأن العام، أكثر صعوبة وتعقيداً من تشخيص الفقيه الأعلم؛ ذلك لأن الفرد والمجتمع يمكنهما بسهولة استحصال الفتوى في المجالات العبادية والمعاملاتية، فأي فقيه جامع لشرائط الاجتهاد والعدالة يمكنه إصدار مثل هذه الفتاوى.
فضلاً عن أن شهادة فقيهين بأعلمية هذا الفقيه أو ذاك، وشياع أهل الخبرة، شرطان يمثّلان تشخيصاً مبرئاً لذمة المكلَّف وكافياً لرجوعه، دون عناء كبير. في حين أن تشخيص الفقيه العادل الكفء، الذي يتمتع بالقدرة على قيادة المجتمع الشيعي بدراية وتدبير وحكمة، هو المهمة الحساسة والخطيرة، لارتباطها بمصير المجتمع على كل الصعد.
إن إنتاج الفتوى في الشأن العبادي الخاص يختلف عنه في الشأن العام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والجهادي، رغم وحدة المصادر والقواعد الفقهية والأصولية غالباً؛ لأن الفتوى في الشأن العام ترتبط بوعي الفقيه بالمصالح والمفاسد، وبفهمه الإداري والسياسي والاقتصادي والجهادي، وبمعارفه العصرية، وسايكولوجيته، ونزعاته الشخصية.
فهي لا تستند كلياً إلى مصادر الاستنباط، وإن بدا الأمر كذلك ظاهرياً. أي أن القناعات الشخصية للفقيه في الشأن العام، أو تلك التي يتوصل إليها من خلال مستشاريه وفريقه، هي التي تقوده غالباً إلى تكييف الأدلة الشرعية لتُشرعن قناعاته المسبقة. ولذلك نجد أحياناً اختلافاً عميقاً في الموقف الشرعي بين فقيه وآخر حيال الموضوع نفسه، رغم اعتمادهما على الأدلة الشرعية ذاتها.
وبالتالي، فإن إنتاج الفتوى في الشأن العام يشبه، في آلياته وعناصره، إنتاج الموقف السياسي؛ فالموقف السياسي الذي يتخذه رجل السياسة مرتبط بانتماءاته ووعيه ونزعاته الشخصية، وبالمصالح الخاصة أو شبه العامة، وبأثر المحيطين به. ثم يقوم بتكييف الأدلة، أو صناعتها أحياناً، لتسويغ موقفه.
فما الذي تتطلّبه هذه الحقيقة؟ خصوصاً أن موقع المرجع الديني لا يقتصر على الإفتاء في عبادات الأفراد ومعاملاتهم، أو في العقود والإيقاعات والأحكام وعموم الشأن الخاص، بل هو قائد اجتماعي، ومدير حِسبي، وأحياناً قائد سياسي.
وفتاواه في الشأن العام تتصل بمصير فئة من المجتمع، أو المجتمع كله، أو بلد معين، أو الأمة بأسرها. أي أن الفقيه الشيعي ليس مفتياً فحسب، كالمفتي السني، بل هو معنيٌّ مباشرةً بقضايا المال الشرعي، والتحكيم بين الناس (القضاء)، وتوفير أدوات تنفيذ الأحكام، وقضايا الحِسبة وإدارة المجتمع، وصولاً إلى الجهاد والحكم والدولة.
أما الفتاوى المتعلقة بالعبادات والعقود والإيقاعات والأحكام الفردية، فيمكن لأي مجتهد أن يصدرها، وهم بالمئات، كما ذكرنا سابقاً، بينما لا يستطيع الإفتاء في الشأن العام، بما يحقق مصالح المجتمع ويدرأ عنه المفاسد، إلّا الفقيه الذي يتمتع بمواصفات شخصية خاصة، مقترنة بشرطي الاجتهاد المطلق والعدالة.
وهذه الحقيقة تتطلّب من الشيعة ما يلي:
1- الرجوع إلى فقيه يتمتع بالمواصفات الشخصية التي تمكّنه من إدارة المجتمع وقيادة الأمة بكفاءة وقوة وأمانة وتدبير وحكمة وشجاعة.ومن بديهيات هذه المواصفات: الكفاءة الإدارية والقيادية، والوعي بقضايا الشأن العام السياسي والجهادي والاقتصادي والدولي، والحكمة، والشجاعة، والرأي المستقل، والقدرة على تنظيم عمل الفريق الخاص (الحاشية والمكتب) وإدارته.
2- عدم الركون إلى مقولة «الأعلمية» وما يكتنفها من تفاصيل ملتبسة، بل الاعتماد على شرط «العالِمية» المقترن بشروط الكفاءة القيادية والإدارية والتدبير والوعي بالشأن العام والمقبولية العامة، كما سبق ذكره.
وشرط «العالِمية» يعني الاكتفاء بالاجتهاد المطلق فقط (الأعلمية نسبةً إلى الأعلم، والعالِمية نسبة إلى العالِم)، دون التشديد على شرط الأعلمية التي تعني – وفق السائد – الأقدرية العلمية، وهي تنفع شرطاً لكبير المفتين أو للأستاذ الجامعي المتمرس، لا للمرجع الذي يرتبط به مصير الأمة.
3- عدم الركون إلى الطرق المألوفة التي يتبعها الأفراد في تحديد المرجع الذي يقلدونه، كشهادة مجتهدين أو الشياع، بل البحث بدقة، من خلال آليات جماعية، عن المرجع القائد أو المرجع الأصلح من بين عشرات المجتهدين المؤهلين للفتوى.
وفضلاً عن أن البحث العميق من خلال آليات جماعية يؤدي إلى فرز المرجع الأصلح لقيادة الأمة، فإنه يضمن أيضاً ما يشبه إجماع الأمة على مرجع واحد؛ ليس من أجل التقليد فحسب، بل لقيادة الشأن العام كذلك، مع الحفاظ على مبدأ حرية التقليد وتعدد المراجع. فالمقصود هنا ليس حصر التقليد بمرجع واحد، وإنما حصر التصدي للشأن العام بالمرجع الأعلى، أو المرجع القائد الذي تقلده أكثرية المؤمنين، والذي لا يزاحمه في هذا التصدي مرجعٌ آخر، لا سيما في القضايا المصيرية.
للمزيد حول رؤية «المرجعية القائدة»، يُراجَع الفصل الخامس من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي».
علي المؤمن