خاص الاجتهاد: تتبوأ “العدالة” مكانة مركزية في المنظومة الفقهية للإمامية، حيث لم تقف عند حدود المفاهيم الأخلاقية، بل تجذرت كأصلٍ عملي وقاعدة استنباطية. ما هو نتاج الفقه الإمامي في مبحث العدالة؟ وما هو الموقع الذي تبوأته العدالة في هذا الفقه حتى يومنا هذا؟
عند قراءة الفقه الإمامي قراءةً استقصائية شاملة من منظار “مکانة العدالة“، يمكننا القول إن هناك ثلاثة مجالات بحث فيها الفقهاء العظام مسألة العدالة:
أولاً: العدالة كشرط في تصدي المناصب
بحث الفقهاء “العدالة” من باب أن تصدي جملة من المناصب والمهام مشروط بكون المتصدي عادلاً. فعلى سبيل المثال: يشترطون العدالة في إمام الجماعة، وإمام الجمعة، والقاضي، والمتصدي لجباية الزكوات، والشاهد في الطلاق.
وبعبارة أخرى: أن هناك جملةً من المناصب في الفقه الإمامي، قد شُرِطت العدالة في المتصدي لها؛ نظراً لما تكتسيه من صبغةٍ اجتماعية وتماسٍّ مباشرٍ بالشأن العام.
ومن هذا الباب، دخل الفقهاء في مباحث حقيقة العدالة وتحديد ماهيتها.
ثانياً: قاعدة العدل والإنصاف في الشبهات الموضوعية
المجال الثاني الذي برز فيه ذكر العدالة هو “قاعدة العدل والإنصاف”. وهنا لا يدور البحث في “الشبهة الحكمية”، بل ينحصر في “الشبهات الموضوعية”؛ وتحديداً في الموارد التي يقع فيها النزاع والخصومة حول “عينٍ مالية” مثلاً. مثال ذلك: لو وُجد قطيع من الغنم وادعى ثلاثة أشخاص ملكيته، ولم يمكن حسم النزاع بالطرق القضائية المتعارفة؛ لعدم امتلاك أي منهم للبينة، أو اليد، مع نكولهم جميعاً عن اليمين. هنا انقسم الفقهاء إلى اتجاهين:
جريان القرعة: استناداً لعموم “القرعة لكل أمر مشكل”.
جريان قاعدة العدل والإنصاف: استناداً لبعض الروايات الواردة في موارد مشابهة، حيث يحكمون بتقسيم المال بين المتنازعين؛ فإن كانوا ثلاثة فـ”التثليث”، وإن كانوا أربعة فـ”التربيع”، وإن كانا اثنين فـ”التنصيف”.
ثالثاً: العدالة ككُبرى في استنباط الأحكام (الشبهات الحكمية)
المجال الثالث الذي نجد فيه أثراً للعدالة هو الاستناد إليها في “الشبهات الحكمية”. وهذا المسلك نلمسه بوضوح عند المتقدمين من فقهاء الإمامية كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى (ره)؛ حيث استندوا في بعض الشبهات الحكمية إلى قاعدة “نفي الظلم” أو “قاعدة العدل”.
ومثال ذلك ما طرحه شيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) في مسألة: هل يسوغ للقاضي أن يمنع أحد المتخاصمين من الإقرار حال إرادته ذلك؟ ذهب الشيخ في المسألة إلى التفصيل:
أما في حق الله: فيجوز للقاضي المنع والتعريض بالصرف عن الإقرار؛ تماشياً مع السيرة النبوية، كما في قصة المقر بالزنا بين يدي رسول الله(ص)، حيث كان النبي(ص) يحاول صرفه عن الإقرار ويقول له: «ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، وذلك احتمالاً لكون قوله “زنيت” كناية عن أفعال أخرى لا تبلغ حد الزنا الموجب للحد، “أي إنَّ النبيّ (ص) كان بصدد تلْقين المُقِرِّ بالزّنا وتعريضه بالرّجوع عن إقراره، وهذا مِمَّا لا محذورَ فيه شرعاً.” ولا ضير فيه.
وأما في حقوق الناس (المسائل المالية): فلا يجوز للقاضي الحيلولة بين الخصم وبين إقراره؛ لكون المنع في هذا المورد مصداقاً للظلم في حق الغريم والدائن. فلو أراد الخصم الإقرار بالحق لغريمه ومنعه القاضي، لكان القاضي متلبساً بالظلم تجاه صاحب الحق.
وعليه، فإن النزاع هنا واقع في الشبهة الحكمية؛ إذ البحث يدور حول الحكم الشرعي الكلي: هل يسوغ المنع من الإقرار مطلقاً أم لا؟ فاستدل الشيخ بـ”قاعدة نفي الظلم” في هذه الشبهة الحكمية.
الاجتهاد موقع فقهي