فلسفة-الفقه

ماهيّة فلسفة الفقه / الشيخ جابر توحيدي أقدم

الاجتهاد: إن جذور هذا البحث والعمل على تأسيس علمٍ جديد تحت عنوان «فلسفة الفقه» إنّما نشأ عندما شهدت المرحلة المعاصرة بداية بلورة تدريجية لعلوم من الدرجة الثانية من نوع الفلسفات المضافة، من قبيل: «فلسفة الدين»، و«فلسفة التاريخ»، و«فلسفة السياسة»، و«فلسفة الأخلاق»، وما إلى ذلك من الفلسفات الأخرى، وقد تكفّل كلّ واحدٍ من هذه العلوم ببيان مباحث قيّمة ونافعة. / بقلم: الشيخ جابر توحيدي أقدم(*) و الشيخ عبد الرحيم سليماني بهبهاني(**) ترجمة: وسيم حيدر

تمهيد

إن السؤال عن ماهية «فلسفة الفقه» ليس سؤالاً عن علم مدوّن وقائم ومستقلّ عن سائر العلوم الأخرى. وبعبارةٍ أخرى: إن ماهية هذا السؤال من سنخ «ما الشارحة»، وليس من سنخ «ما الحقيقية».

فكما ورد في علم المنطق: إن السؤال يكون تارةً عن ماهية الشيء قبل السؤال عن وجود ذلك الشيء (الهليّة البسيطة) والعلم بوجوده، وتارةً أخرى يكون بعد العلم بوجوده. وفي الحالة الأولى يُسمّى السؤال بـ «ما الشارحة»، وفي الحالة الثانية بـ «ما الحقيقية».

وهنا إذا تحدّثنا عن «ماهية فلسفة الفقه» أو حتّى أن يمكن له أن يوجد، وإذا كان الكلام بشأن «ماهية فلسفة الفقه» لا يعني ذلك أن لمثل هذا العلم من وجودٍ بالضرورة، بل إن هذا في حدّ ذاته سؤالٌ آخر يمكن طرحه بعد السؤال الأول، ويكون بشكلٍ من الأشكال متمِّماً له.

إن «فلسفة الفقه» لفظ مركّب من كلمتين، وهما: «الفلسفة»؛ و«الفقه». ومن هاتين الكلمتين تعتبر كلمة «الفقه» كلمة ذات معنى اصطلاحي واضح لا لبس فيه.

وأما كلمة «الفلسفة» فقد تمّ تفصيلها طوال تاريخها المترامي في القِدَم على مقاس الكثير من المعاني والمصطلحات المتعدّدة (والمتخالفة أحياناً)([1]).

ولكنّها لسوء الحظ ليست مثل الألفاظ المنقولة التي ينطوي مفهومها المتأخّر على معناها المتقدّم المهجور، بل بمثابة الأم الرؤوم التي تحتضن الكثير من الأبناء، الأمر الذي يوفّر أرضية خصبة لسوء الفهم والانحراف عن المعنى والمغالطة. وإن الطريق إلى الخلاص من هذه المهلكات يكمن في تعيين المعنى الاصطلاحي المراد للمستعمل (في كلّ مورد من موارد استعمال هذه الكلمة)، وتجنّب الخلط بين هذه المعاني والمفاهيم.

بغضّ النظر عن المعاني اللغوية لكلمة «الفلسفة»، وتلك المجموعة من المعاني الاصطلاحية المهجورة، يمكن لنا أن نذكر استعمالين رئيسين لهذه الكلمة، وهما:

أـ استعمالها بشكلٍ مفرد وغير مضاف.

ب ـ استعمالها بشكلٍ مركّب ومضاف.

إن المعنى الشائع والسائد الذي نفهمه في ما يتعلق بالاستعمال الأول لهذه الكلمة في عصرنا الراهن عبارةٌ عن: «العلم الذي يبحث في حقيقة الوجود»،

وأما الفلسفة في شكلها التركيبي والإضافي (الاستعمال الثاني) فتشتمل على معانٍ متنوّعة، من قبيل:

أـ المذاهب الفلسفية المعيّنة، مثل: فلسفة إفلاطون، وفلسفة كانْت، وهكذا.

ب ـ مجموع المدارس الفلسفية في ثقافةٍ أو شعب، مثل: الفلسفة الإغريقية، والفلسفة الإسلامية، وما إلى ذلك([2]).

ج ـ إن الفلسفة عبارةٌ عن: سلسلة من المعارف والمعلومات البشرية التي لا يمكن إثباتها بالتجربة الحسيّة. في هذا المصطلح لا يُعتبر «التوحيد» علماً، بل فلسفة. وإن استعماله على صيغة «فلسفة التوحيد» صحيح، وليس «علم التوحيد»، وإن ذكر المضاف إليه «التوحيد» للفلسفة «المضاف» إنما يأتي للتعبير عن نوع المطالب التي يتمّ تناولها، والإشارة إلى موضوعها.

د ـ الأمور الاعتبارية والمعيارية: في هذا التعبير لا يصحّ استعمال «علم الأخلاق»، و«علم السياسة»، بل لا بُدَّ من استعمال «فلسفة الأخلاق»، و«فلسفة السياسة». إن هذا الاستعمال شائعٌ بين أولئك الذين يرَوْن هذه العلوم تابعةً لرغبات وأمزجة الناس، ولا يرَوْن لها مكانة ومنزلة واقعية([3]).

هـ ـ إن التحقيق النقدي للمبادئ والأصول في كلّ علمٍ يضاف إلى الفلسفة، من قبيل: «فلسفة العلوم»، يعني التحقيق النقدي في أصول المبادئ العامة للعلوم التي هي عبارةٌ عن بحث معرفي، وفي «فلسفة التاريخ» يعني التحقيق في القوانين العامة المؤثّرة في الأحداث والوقائع التاريخية([4]).

وإن «فلسفة الأخلاق» عبارةٌ عن التحقيق في المبادئ التصديقية لعلم الأخلاق. نتحدَّث في علم الأخلاق عن التعريف بالفعل الحَسَن والفعل القبيح، ولكنّنا قبل ذلك نكون قد فرغنا عن الأصل الموضوعي القائل بوجود أفعال حَسَنة وأخرى سيِّئة، وأن هناك ملاكات لتقسيم الأفعال إلى: خير؛ وشرّ، أو إلى: حَسَن؛ وقبيح. وفي فلسفة الأخلاق يتمّ البحث بشأن هذه «الأصول الموضوعة»، وكيف تكون هناك أفعال حسنة وقبيحة؟ وما هو الملاك لتقسيم الأعمال إلى حَسَنة وقبيحة؟ ومن أين ينشأ الحُسْن والقُبْح؟([5]).

و ـ كما يتمّ بيان الأسس والمباني، أو ما يُصطلح عليه بـ «المبادئ»، في علمٍ آخر، وموارد أخرى أحياناً، من قبيل: الجذور التاريخية، والواضع والمؤسّس لذلك العلم، وأهداف وأساليب التحقيق، ومسار تطوّر ذلك العلم أيضاً([6]).

وهو من قبيل: المسائل الثمانية، التي كان المتقدّمون يبحثونها في مقدّمة العلوم تحت عنوان «الرؤوس الثمانية»، وهي عبارةٌ عن: الغرض والغاية من تدوين أو تحصيل العلم، وفائدته (المعتدّ بها)، والسِّمة (عنوان الكتاب، وتعريف العلم بالرَّسْم أو بالخاصّة)، ومؤلّف الكتاب أو مدوِّن العلم، وماهيّة العلم (وأنه من أيّ سنخ من العلوم العقلية أو النقلية؟)، ومرتبة العلم، وتقسيماته (بيان أجزاء وأبواب العلم)، وأنحاؤه التعليمية (التقسيم والتحليل والتحديد والبرهان).

وبطبيعة الحال فإنّ ذكر هذه الأمور الثمانية ليس من باب الحصر العقلي، وإنّما يتمّ الخوض في هذه الأمور في تحصيل العلم لما تشتمل عليه من الفائدة والتأثير([7]).

ما هو المراد من «الفلسفة» من المعاني المتقدِّمة في العبارة المركّبة «فلسفة الفقه»؟ وحيث إن فهمنا لـ «فلسفة الفقه» أنّه علمٌ مستقلّ إلى جوار علم الفقه وغيره من العلوم يبدو أنّه بالإمكان من خلال أدنى تأمُّل استبعاد المعاني الأربعة الأولى، واحتمال أحد المعنيين الأخيرين، إلاّ أن تعيُّن أحد هذين المعنيين، والعثور على جواب قطعيّ لهذا السؤال، لا يبدو بسيطاً.

توضيح الأمر: إننا في مقام بيان ماهية العلم نواجه أحياناً علماً تجاوز مراحل تكوينه، وله موضوعٌ ومسائل واضحة ومتمايزة، وأحياناً يكون الحديث عن علم في طور التكوين، ويفتقر إلى هوية خارجية متميّزة، ومسائل ومباحث معيّنة. وفي الحالة الأولى لا يكون تعيين ماهية مثل هذا العلم على شيء من التعقيد، ويمكن بيانه في الحدّ الأدنى من خلال الطريقين التاليين:

من طريق الاستقراء وتجميع مسائل ومباحث ذلك العلم، والوصول (في ضوء ذلك) إلى تعريف يستوعب هذه المسائل بقدر الإمكان، ويحول دون دخول المسائل الأخرى.

من طريق كشف موضوع وغرض ذلك العلم، وتقديم تعريف يضمن ذلك الغرض، وإنْ كان أعمّ من المسائل التي تخوض فيها مجموع المباحث الجارية في ذلك العلم.

ما الذي يجب فعله عند تحديد ماهية علمٍ لا يزال يطوي مرحلته «المفهومية» قبل أن يُبصر النور في عالم المصداق؟ من الواضح أن ماهية مثل هذا العلم تابعةٌ للموضوع والغرض الذي رُسم له. وبطبيعة الحال إنه على أساس هذا الموضوع والغاية يمكن تحديد حقل مسائل العلم أيضاً، إلاّ أن الذي يستحقّ الاهتمام في حقل «فلسفة الفقه»، والذي يزيد في صعوبة تحديد ماهيّته، هو أننا قد اخترنا منذ البداية اسماً لعلم لم يولد بعدُ، ثمّ نسعى إلى بيان ماهية ذلك العلم الذي يحمل تلك التسمية.

فهل هذا الاسم مجرّد علامة وعنوان مشير لا يشتمل على أيِّ مضمون؟ أم أن تحديد الاسم لعلمٍ ما يحمل في أحشائه نوعاً من تحديد ذلك العلم؟ إن الاحتمال الثاني هو الأقرب للواقع.

توضيح ذلك: إن جذور هذا البحث والعمل على تأسيس علمٍ جديد تحت عنوان «فلسفة الفقه» إنّما نشأ عندما شهدت المرحلة المعاصرة بداية بلورة تدريجية لعلوم من الدرجة الثانية من نوع الفلسفات المضافة، من قبيل: «فلسفة الدين»، و«فلسفة التاريخ»، و«فلسفة السياسة»، و«فلسفة الأخلاق»، وما إلى ذلك من الفلسفات الأخرى، وقد تكفّل كلّ واحدٍ من هذه العلوم ببيان مباحث قيّمة ونافعة.

إنّ تطوّر وجدوائية هذا النوع من العلوم هو الذي دعا بعض المفكِّرين إلى التساؤل عن مدى إمكانية التأسيس لعلم مشابه لهذه العلوم المذكورة بشأن الفقه، تحت عنوان «فلسفة الفقه»؟ وإذا أمكن ذلك فما هي حدود المساحة المفهومية ودائرة شمول هذا العلم؟

من خلال هذا التوضيح يمكن الإضاءة على دائرة هذا العلم المقترح إلى حدٍّ كبير. يرى المقترحون لإقامة مثل هذا العلم أن «فلسفة الفقه» تسعى إلى بيان ذلك السنخ من المسائل التي تبحث عنها سائر الفلسفات المضافة المشابهة الأخرى (من قبيل: فلسفة الدين، وفلسفة التاريخ، وما إلى ذلك)، ويمكن بيان ماهية «فلسفة الفقه» من خلال الرجوع إلى هذه العلوم، ومعرفة أغراض وموضوعات ومسائل هذه العلوم.

من خلال الرجوع إلى هذه العلوم (الفلسفات المضافة) ودراسة مسائلها ومباحثها ندرك أن هذه العلوم تهتمّ بمجموعتين من المسائل ذات الصلة بالمضاف إليها (العلوم الناظرة إليها)، وهما:

1ـ تحليل مبادئ تلك العلوم.

2ـ بيان مسائل من قبيل: المبادئ التصوّرية، والموضوع، والغاية، والمساحة، وتاريخ ذلك العلم، ومسار تطوُّره، وما إلى ذلك من المسائل التي عالج المتقدِّمون من العلماء القسم الأكبر منها تحت عنوان (الرؤوس الثمانية).

وهناك من العلماء والمفكِّرين مَنْ جعل كلّ واحدةٍ من هاتين المجموعتين ـ من المسائل المتقدِّمة ـ موضوعاً لعلمٍ مستقلّ. ففي ما يتعلق بعلم الأخلاق ـ على سبيل المثال ـ جعلوا البحث عن المبادئ التصديقية لعلم الأخلاق موضوعاً لعلم باسم «فلسفة الأخلاق»، أو «ما فوق الأخلاق»، وجعلوا البحث عن الرؤوس الثمانية ونظائرها مرتبطاً بعلمٍ آخر باسم «فلسفة علم الأخلاق»([8]).

إلاّ أن الكثير من العلماء والمفكِّرين الآخرين لم يرَوْا ضرورة هذا الفصل والعمل على تكثير العلوم، وجعلوا كلا النوعين والقسمين من المسائل تحت علمٍ واحد (في ما يتعلق بحقل الأخلاق ـ على سبيل المثال ـ باسم «فلسفة الأخلاق»).

ومن الواضح أن اختلاف هذين الرأيين يؤثِّر في دائرة المباحث، وماهية وتعريف هذه العلوم أيضاً، وإنّ مصير «فلسفة الفقه» رهنٌ بالمبنى والرأي الذي يتّخذ في هذا الشأن.

كما تقدّم في الفقرة الرابعة فإن التعرّف على مسائل ومباحث العلم يلعب دوراً محورياً في إمكان صياغة تعريفٍ كامل له. كما يمكن لهذه المعرفة في مقام الحكم بشأن التعاريف المتقدّمة أن تساعد إلى حدٍّ كبير في معرفة جامعية ومانعية أو عدم جامعية ومانعية تلك التعاريف.

وعليه من المناسب ـ قبل الدخول في نقل التعاريف المقدَّمة من قبل المفكِّرين في حقل فلسفة الفقه، والحكم بشأنها، ونقدها ودراستها ـ أن نقدِّم رؤوس المسائل الهامّة في فلسفة الفقه (على أساس المعرفة التي حصلنا عليها في الفقرة الخامسة من هذا العلم، وطبقاً للمبنى الثاني من المبنيين والمنهجين المذكورين في تلك الفقرة).

وهذه المسائل عبارةٌ عن:

ـ تعريف الفقه.

ـ تاريخ تطوُّر الفقه.

ـ بنية الفقه وهيكلته وتقسيماته.

ـ موقع الفقه.

ـ ارتباط الفقه بالعلوم الأخرى.

ـ منهج الفقه.

ـ غاية الفقه وأهدافه.

ـ مساحة الفقه.

ـ ماهيّة الأحكام الفقهية.

ـ مراحل الحكم الفقهي.

ـ أنواع الحكم.

ـ الأحكام الثابتة والمتغيِّرة.

ـ ارتباط المصالح والمفاسد بالأحكام.

ـ مصادر تشريع الفقه.

ـ حجّية مصادر التشريع.

ـ أساليب تفسير النصوص.

ـ ميثولوجيا وعلم منهج التحقيق في الأسانيد.

ـ أنواع الاستدلالات الفقهية.

ـ تعريف الاجتهاد.

ـ العوامل المؤثِّرة في الاجتهاد.

ـ تاريخ تطوُّر الاجتهاد.

ـ دور المصالح الاجتماعية في الاستنباطات الفقهية.

ـ دور الزمان وتأثيره في الاستنباط.

7ـ مناقشة تعاريف «فلسفة الفقه»

في ما يتعلق بـ «التعريف» هناك إجماعٌ من قبل المحقّقين على أن تعريف الأشياء بحدودها، وبيان ذاتيّاتها، غير ميسور للبشر، وأن ما يُذكر تحت عنوان الحدّ التامّ والجنس والفصل إنْ هو ـ في الواقع ـ إلاّ ذكر للخواص والآثار ولوازم الأشياء (التعريف بالرَّسْم).

من هنا يذهب البعض في مقام التعريف إلى الاعتقاد بعدم جدوائية الدخول في مناقشة التعاريف، ونقضها وإبرامها، إلاّ أنه وفي الوقت نفسه هناك إجماعٌ من قبلهم أيضاً على وجوب العمل في مقام «التعريف» بحيث يتمّ التعريف بالشيء على أفضل وأوضح الوجوه بقدر الإمكان، وأن يتمّ تمييزه من سائر الأشياء الأخرى، ويكون مستوعباً لجميع مصاديقه.

من هنا ندخل في بيان ومناقشة التعاريف المطروحة في حقل «فلسفة الفقه» على النحو التالي:

التعريف الأوّل 

إن «فلسفة الفقه» عبارةٌ عن المسائل العقلية ما قبل الفقهية. والمراد بالمسائل العقلية ما قبل الفقهية هي المسائل العقلية التي يجب تنظيمها وتنقيحها بالبراهين العقلية قبل الدخول في الفقه، ولا تعدّ من مسائل الفقه أبداً. إن المسائل ما قبل الفقهية ترتبط بعلم الكلام، وإن الكثير من تلك المسائل ممتزجةٌ بمسائل علم الكلام([9]).

مناقشة التعريف الأوّل

يمكن لنا بشأن هذا التعريف أن نذكر الأمور التالية:

إن هذا التعريف ينطبق على المنهج والأسلوب الأوّل (من الأسلوبين المذكورين في الفقرة الخامسة)، حيث يتمّ الفصل والتفكيك بين «فلسفة الفقه» و«فلسفة علم الفقه».

إذا كان المراد من «المسائل العقلية ما قبل الفقهية» ذات المبادئ التصديقية لعلم الفقه لن يكون هناك وجهٌ لحصر مسائل هذا العلم بخصوص علم الكلام، بل إن الجزء الأكبر من هذه المسائل ترتبط وتمتزج بأصول الفقه، وجزء منها بعلم الكلام، وعدد منها ـ رغم قلّته ـ ممتزجٌ بعلم الرجال ومشترك معها. وأما إذا كان المراد من «المسائل العقلية المتقدّمة» مجرّد ذلك القسم من المبادئ التصديقية لعلم الفقه، المرتبط والممتزج بعلم الكلام، فلا يكون هناك وجهٌ لتخصيص هذه المجموعة من المسائل.

إن التعبير بـ «المباحث العقلية ما قبل الفقهية» قد حلَّ في الواقع محل «المبادئ التصديقية للفقه»، سواءٌ بشكل مطلق يشمل جميع المبادئ التصديقية أم بشكل مقيّد، في حين يبدو التعريف الثاني أجلى وأوضح، وليس هناك وجهٌ لاستبداله بالتعبير الأول.

التعريف الثاني

إن فلسفة الفقه عبارةٌ عن مجموع القضايا التي تتحدّث عن المبادئ التصوّرية والتصديقية، والغاية، والتقسيمات الفقهيّة، وتلك التي لا تكون من المسائل الفقهية والأصولية والكلامية والروائية والأخلاقية([10]).

مناقشة التعريف الثاني

يقوم هذا التعريف على أساس الفرضية القائلة: إن «فلسفة الفقه» تمتاز في حدود مسائلها ومباحثها من العلوم الأخرى بشكلٍ كامل، والتي تنكر تداخل مسائل هذا العلم وامتزاجها بالعلوم الأخرى. وفي معرض مواصلتنا لهذا الكلام (الفقرة الثامنة) سوف نتحدَّث عن هذا الأمر بالتفصيل.

إن هذا التعريف يشتمل على قسمين: إيجابي؛ وسلبي، بمعنى أن القسم الأول يهدف إلى بيان جامعية التعريف، وأما القسم الثاني فيهدف إلى بيان مانعية التعريف (وبذلك يكون التعريف جامعاً ومانعاً)، إلاّ أن هذا التعريف ـ للأسف الشديد ـ لم يكن موفَّقاً في هذه الغاية.

فعلى سبيل المثال: إن جزءاً من المبادئ التصديقية الذي تمّ اعتباره في القسم الإيجابي من التعريف من مباحث فلسفة الفقه هو بالإضافة إلى فلسفة الفقه يقع بنفسه مورداً للبحث في أصول الفقه، والجزء الآخر يُبحث في علم الكلام، وأما القسم السلبي من التعريف فلا يقدِّم ملاكاً أو معياراً لبيان الأمور والموارد التي يجب أن تبقى في دائرة فلسفة الفقه، وما هو الملاك والمعيار في بقائها ضمن هذه الدائرة؟ وما هي الموارد التي يجب أن تخرج من دائرة فلسفة الفقه؟ وما هو الملاك في إخراجها؟

التعريف الثالث

إن فلسفة الفقه عبارةٌ عن المسائل التي تتعرّض لمجموع المباحث الفقهية بشكلٍ كامل، وتجيب عن تلك الأسئلة الجوهرية التي تواجه الفقه برمّته. وهي المسائل التي تبحث في مسار عمل الفقيه في حقلين: الأول: مجموع الفقه؛ والثاني: ما يمارسه الفقيه في حقل اختصاصه الفقهي.

ثمّ قال مقترح التعريف بعد ذلك: من هنا يذهب بنا التصوُّر إلى أن العلم الأول وعلم الرجال يأتي في الواقع بعد فلسفة الفقه. إن الذي تتكفَّل فلسفة الفقه بترسيخه وبيانه، وتمهِّد له، هو الأصول والرجال، وتضع تحت تصرّف الفقيه آليّة تطبيق ذلك في حقل الفقه([11]).

مناقشة التعريف الثالث

يقوم هذا التعريف (مثل التعريف الثاني) على الفرضية القائلة بفصل حقل فلسفة الفقه عن العلوم الأخرى، وسيأتي البحث في ذلك.

لم يُذْكَر في أصل التعريف الملاك الذي يحول دون تداخل مسائل علوم من قبيل: علم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم الرجال، في فلسفة الفقه، وإن الذي يُذكر بعد ذلك ـ على شكل نتيجةٍ للتعريف المذكور ـ لا يُقلِّل شيئاً من الإبهام المحيط بالملاك المشار إليه. لماذا وكيف يقع علم أصول الفقه والرجال بعد فلسفة الفقه؟ ألا تلعب هذه العلوم أيَّ دورٍ في تثبيت وبيان بعض المباحث المشار إليها في التعريف؟ ولا يكون لها من تأثيرٍ إلاّ في وضع آليّة تطبيقه في يد الفقيه؟ هذا ما لا نجد له توضيحاً شافياً في هذا التعريف.

التعريف الرابع

إن فلسفة الفقه علمٌ يبحث في مسائل الفقه والاجتهاد الفقهي، ويسعى إلى حلّ نوعين من المسائل، وهما:

أـ المسائل المتعلِّقة بمجموع الفقه بوصفه علماً، والمسائل التي يواجهها، من قبيل: أهداف الفقه، ومساحة الفقه، وعلاقة الفقه بالتاريخ والزمان، ومصادر الفقه، وعلم منهج التحقيق التاريخي في الفقه، وأساليب تفسير النصوص، وعلاقة الفقه بالعلوم الأخرى، وما إلى ذلك.

ب ـ المسائل الناظرة إلى مسار الفقه والفقيه، وتعود إلى كيفية عمل المجتهد، من قبيل: العناصر المؤثرة في الاجتهاد، ومعرفة الاجتهاد، وأساليب اختلاف الفقهاء، وما إلى ذلك.

يقول صاحب هذا التعريف في معرض توضيحه: إنّ الشيء الذي يجب الالتفات إليه هو أنّ فلسفة الفقه تتّصف بما تتّصف به الفلسفة من التحرُّر الفكري. فكما تقوم الفلسفة بمناقشة ونقد مسلَّمات العلوم الأخرى تقوم فلسفة الفقه بنقد مسلَّمات الفقه، بل وحتّى علم الأصول والرجال أيضاً([12]).

مناقشة التعريف الرابع

إن الشطر الأول من هذا التعريف لا ينسجم مع الشطر التفصيلي الذي يتلوه؛ وذلك أن الشطر الثاني إمّا أن يكون بمنزلة تفسير للشطر الأول، وهو الأقرب للاحتمال؛ أو متمِّماً له.

وعلى الاحتمال الأول يرد الإشكال بأن الشطر الثاني يشتمل على مسائل تتجاوز المباحث التي يُشير إليها الشطر الأول من التعريف؛ لأن مسائل النوع الأول من القسم الثاني (المسائل المتعلّقة بمجموع الفقه)، ليست من قبيل مسائل الفقه والاجتهاد الفقهي.

وأما على الاحتمال الثاني ـ الذي نذهب من خلاله إلى جعل كلا شطري التعريف متمِّماً للآخر. وبعبارةٍ أخرى: أن نجعل الشطر الأول قسيماً للشطر الثاني، وليس مقسماً لكلا نوعَيْ القسم الثاني ـ فيكون التداخل حاصلاً، وإن الشطر الثاني لوحده سيكون مستوعباً للشطر الأول أيضاً، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى ذكره. خلاصة الكلام: إن هذا التعريف لم يكن موفَّقاً في تقديم تعريف جامع وواحد يشمل كلا نوعَيْ مسائل فلسفة الفقه.

التعريف الخامس

إن فلسفة الفقه عبارةٌ عن التفكير بشأن قواعد وأهداف ومصادر الأحكام والتمهيد للنظريات العامّة بشأن أسلوب التحقيق والتفسير([13]).

توضيح صاحب التعريف: إن الفلسفة هي نفس التعقُّل، والعثور على العلّة. فعندما يتمّ الحديث في الفقه عن علة الأحكام، أو حكمة الأحكام، يعني ذلك أننا نروم العثور على قواعد الأحكام، لا أن نكتفي بتقريرها فقط([14]).

إن «فلسفة الفقه» ليست فلسفةً بحتة، وإنّما هي «فلسفة تحققية»، بمعنى أنها تنظر إلى «ما هو كائنٌ»، وتضع الحلول لما هو معدومٌ، وتسعى إلى أن تستخرج منه «ما يجب أن يكون»([15]). وعندما يسعى الفقيه إلى معرفة ماهية فلسفة الفقه عليه أن يرى ما هي المصادر التي تلقِّنه هذه الإلزامات: هل هي القرآن، والسنّة، والعقل، والإجماع؟ وهل هناك تبويب بين هذه المصادر؟ إن فلسفة الفقه أعمّ من أصول الفقه([16]).

مناقشة التعريف الخامس

هل يمكن تسمية عملية «التفكير والتمهيد» علماً؟ إن المراد من العلم المنشود هنا ليس مطلق الإدراك والتفكير الذي يمارسه المفكِّرون، بل المراد هو مجموعة من القضايا المترابطة التي تهدف إلى موضوعٍ وأسلوب وغرض خاصّ. وعليه لا يمكن تسمية النشاط الذي يمارسه المفكِّرون علماً.

أجل، عندما تتحوَّل نتائج هذه الأنشطة الفكرية في كلّ علمٍ إلى مجموعة من القضايا المترابطة والمنتظمة في سلك من القواعد والأصول الخاصّة المدوّنة يمكن حينها أن نطلق عليها تسمية العلم.

إن هذا التعريف يسعى إلى بيان «فلسفة الفقه» بمعناها الأعمّ (طبقاً للقاعدة والمنهج الثاني المذكور في الفقرة الخامسة)، بَيْدَ أنه يفتقر إلى التعبير الشامل لجميع مسائل هذا العلم، كما أنه لا يستوعب مباحث من قبيل: مساحة وحدود الفقه، وتاريخ تطوّر الفقه، وتاريخ تطوّر الاجتهاد، وما إلى ذلك.

التعريف السادس

إن فلسفة الفقه عبارةٌ عن مجموع التأمُّلات والأفكار النظرية والتحليلية والعقلانية في حقل «علم الفقه».

توضيح صاحب التعريف: وعليه ليس السؤال عن ماهية الفقه وحدها هي التي تكون داخلة ضمن «فلسفة الفقه» فحَسْب، بل تدخل ضمن إطاره حتّى الأسئلة عن مباني الفقه أيضاً، بمعنى أنه بالإضافة إلى علل قيام العلم تكون علل وجود ذلك العلم داخلةً تحت «فلسفة الفقه» أيضاً؛ وذلك لأن السؤال عن علّة أو أدلّة قضيّة فقهية أو مجموعة من القضايا الفقهية ليس سوى السؤال عن ماهيّتها، وإن جميع مسائل فلسفة الفقه لا تندرج تحت السؤال القائل: «ما هو علم الفقه؟»، وإن السؤال عن قواعد الفقه من أوضح الأسئلة المطروحة في فلسفة العلم([17]).

مناقشة التعريف السادس

1ـ إن الإشكال الأوّل الذي أوردناه على التعريف السابق (التعريف الخامس) يرد على هذا التعريف أيضاً؛ لأنه يرى فلسفة الفقه «مجموعة من التأمُّلات النظرية والتحليلية والعقلانية»، في حين أن التأمُّل والتفكير من وظائف المتأمِّل والمفكِّر، وهذا ما لا يمكن تسميته علماً بـالمعنى الاصطلاحي.

2ـ إن هذا التعريف لا يشمل المباحث التاريخية والتقريرية، من قبيل: مراحل الفقه، ومراحل الاجتهاد، وما إلى ذلك.

التعريف السابع

إن فلسفة الفقه علمٌ موضوع بحثه هو علم الفقه نفسه.

توضيحات مقترِح التعريف: طبقاً لهذا التعريف لو وجد علمٌ يعتبر علم الفقه ـ الذي هو فرع علميّ ـ موضوعاً له نكون قد حصلنا على علم من الدرجة الثانية، يمكن تسميته بـ «فلسفة علم الفقه»، أو «فلسفة الفقه». وكلّ ما يُقال بشأن علم الفقه يعود إلى هذا الحقل المعرفي.

وإنّ ما كان يُطلق عليه المتقدِّمون مصطلح «الرؤوس الثمانية» لو تمّ بحثه وتحقيقه في خصوص علم الفقه فسوف يرتبط بالحقل المعرفي لفلسفة الفقه، بمعنى أن تعريف علم الفقه، وموضوع علم الفقه، والغرض منه وغايته، وفائدته، ومرتبته وموقعه بين العلوم الأخرى، ومؤسّسه ومؤلّفه، وفهرسة مباحثه ومسائله، وأنحاؤه التعليمية، تعود بأجمعها إلى حقل فلسفة الفقه([18]).

مناقشة التعريف السابع

إن الإشكال الذي يرد على هذا التعريف يكمن في غموضه وعدم وضوحه.

وقد التفت صاحب التعريف ـ بطبيعة الحال ـ إلى ذلك أيضاً، ولذلك نجده يقول بعد ذلك: لإيضاح مفهوم فلسفة الفقه لا بُدَّ لنا من تقديم مزيد من التوضيح؛ إذ إنّ كلّ ما يُقال بشأن علم الفقه ينطوي على الكثير من المسائل التي نذكرها هاهنا على شكل فهرسة لتلك المسائل([19]).

ثم تعرّض بعد ذلك إلى ذكر أربع عشرة مسألة من المباحث والمسائل الرئيسة لفلسفة الفقه.

التعريف الثامن

إن فلسفة الفقه عبارةٌ عن العلم الناظر في الفقه؛ بغية التعرّف عليه برمّته، وجميع أنحائه، بوصفه علماً قائماً، دون أن يكون لهذه المعرفة العامّة مدخلية أو تأثير في الفقه([20]).

وقال صاحب هذا التعريف في بيانه وشرحه التفصيلي: إن فلسفة الفقه علمٌ يسعى إلى معرفة الفقه بشكلٍ عامّ عبر عدّة مراحل، وبشكلٍ متناغم ومنسجم، بحيث يمكنه من خلال هذه المعرفة أن يصل إلى مسار وحدود وأبعاد وجميع المقوِّمات الداخلية وغايات ومبادئ وخصوصيات هذا العلم، وأن يتمكَّن ـ بالإضافة إلى ذلك ـ من التحقيق في تفكيك وتحليل الضوابط الاستنباطية من موقع المشرف والناظر. إن موضوع هذه المعرفة هو عمومات الفقه، ومسائله هي جميع مقوِّمات ومبادئ وغايات ومشخّصات الموضوع والمحمول والمقدّم والتالي في الفقه([21]).

مناقشة التعريف الثامن

إن هذا التعريف يقوم على أساس رؤية تعتبر فلسفة الفقه عامّة، وغير مختصّة بالمباني التصديقية وفرضيات علم الفقه فقط، وعلى هذا الأساس يكون هذا التعريف قد نجح في غايته، حيث قدَّم لنا تعريفاً جامعاً.

8ـ نسبة فلسفة الفقه إلى العلوم الأخرى 

لا نروم هنا البيان التفصيلي لنسبة فلسفة الفقه إلى سائر العلوم الأخرى؛ فإن ذلك يحتاج إلى بحث مستقلّ، وإنما نروم ـ على أساس ما تمّ التوصّل إليه من معرفة ماهية فلسفة الفقه ـ بيان هذه المسألة القائلة: هل هناك تداخلٌ واشتراك مسائل هذا العلوم ومسائل العلوم الأخرى، من قبيل: أصول الفقه، وعلم الكلام، وعلم الرجال وما إلى ذلك، أم لا؟

إذا كان الجواب بالنفي، وعمدنا إلى إنكار وجود أيّ نوعٍ من أنواع الاشتراك والتداخل مطلقاً، فسوف يلزم من ذلك إعادة النظر في أكثر التعاريف المتقدّمة ـ إذا لم نقل في جميعها، بنحوٍ من الأنحاء ـ؛ لأن هذه التعاريف قد صيغت بحيث لا تكون مانعة من هذه الناحية، ولا تنفي الاشتراك والتداخل بين مسائل هذا العلم والعلوم الأخرى.

وأما إذا كان الجواب بالإيجاب فإنّ ذلك سيفضي بنا إلى طرح أسئلةٍ أخرى، من قبيل: كيف يكون اشتراك مسائل هذا العلم مع مسائل كلّ واحدٍ من العلوم الأخرى؟

هل يكون هذا الاشتراك على نحو العموم والخصوص من وجه، أو العموم والخصوص المطلق، أو التساوي؟ وعلى أيّ حالٍ من هذه الأحوال هل من الصواب تأسيس علمٍ بهذه الخصوصية أم لا؟ وما هو الملاك المصحِّح لتفكيك وتأسيس العلم؟

في معرض الإجابة عن السؤال الأول (تداخل أو عدم تداخل المسائل) يجب أوّلاً أن نعمل على إيضاح النسبة التي يمكن اعتبارها مصداقاً لـ «التداخل» بين علمين.

أـ يتمّ في بعض الأحيان طرح مسألة في علمٍ ما، مع أنها ليست من مسائله، ولكنْ لأسبابٍ ـ من قبيل: عدم بحثها وطرحها في علم آخر، والحاجة إلى تبيينها للانتفاع بنتيجتها بوصفها مبدأ تصوّرياً أو تصديقياً لهذا العلم ـ تمسّ الحاجة إلى طرحها في هذا العلم، وفي هذه الحالة لا يمكن القول بتداخل هذين العلمين، بعد أن كان طرح هذه المسألة في ذلك العلم لمجرّد الاستطراد.

ب ـ وأحياناً يكون شيءٌ واحد موضوعاً في علمين مختلفين، ولا يكون طرح هذا الموضوع فيهما استطراداً، إلاّ أن حيثية وجهة البحث عن ذلك الموضوع في ذينك العلمين تكون مختلفة.

وبعبارةٍ أخرى: إن محمولات مسائل هذين العلمين مختلفة رغم اشتراك موضوعات مسائلها. ومن هذا القبيل: موضوع علم الصرف وعلم النحو، فالموضوع في هذين العلمين هو «الكلمة»، إلاّ أن محمولات المسائل في هذين العلمين مختلفة. وعليه فإنّ اختلاف حيثية وجهة البحث هنا تمنع من صدق «التداخل»؛ لأن وحدة المسائل تعود إلى وحدة الموضوع والمحمول معاً، لا إلى وحدة الموضوع وحده.

ج ـ وأحياناً، بالإضافة إلى وحدة الموضوعات، تكون محمولات المسائل في العلمين متحدة أيضاً، ويكون الاختلاف ماثلاً في الأغراض والأهداف من طرح مسائل هذين العلمين فقط. فعلى سبيل المثال: إن الهدف من ذكر مسألة العصمة وحجّية قول المعصوم في علم الكلام غير الهدف الذي ينشده فيلسوف الفقه من طرح هذه المسائل في فلسفة الفقه.

فهل يمكن لهذا الاختلاف في الهدف والغرض أن يكون مانعاً من صدق «التداخل»؟ من الواضح أن اختلاف وتعدُّد الأغراض لا يمكن أن يغيِّر ماهية مسائل العلم؛ لأن «غرض طرح المسألة» أمرٌ خارج عن ماهية المسألة، وإن تعدُّد الغرض، الذي هو أمر خارجي، لا يمكن أن يكون سبباً في تعدُّد واختلاف ذات المسألة وماهيّتها.

طبقاً لما تقدَّم، ومع أخذ مسائل فلسفة الفقه بنظر الاعتبار، والتي تقدم ذكر فهرستها الإجمالية في الفقرة السادسة، يتّضح أنّ مسائل فلسفة الفقه تتداخل مع مسائل علومٍ من قبيل: أصول الفقه، وعلم الكلام، وعلم الرجال.

فعلى سبيل المثال: إن البحث عن صحّة النصوص وقداستها، وحجّية ودليل اعتبار كلّ واحد من مصادر الفقه، يعدّ من المسائل المشتركة في فلسفة الفقه وعلم الكلام، كما أن البحث عن صحّة النصوص الروائية وتبويب الأحاديث يُعدّ من المسائل المشتركة بين فلسفة الفقه وعلم الرجال. وإنّ مسائل من قبيل: ماهية الحكم، ومراحل وأركان وأنواع الحكم، والأحكام الثابتة والمتغيِّرة، وأساليب ومناهج تفسير النصوص، وحجّية الظواهر وخبر الواحد، وما إلى ذلك، تعدّ من المسائل المشتركة بين فلسفة الفقه وعلم الأصول.

وبعد القبول بالتداخل بين مسائل فلسفة الفقه والعلوم ذات الصلة ـ على ما تقدَّم في الفقرة السابقة ـ يصل الدَّوْر إلى بيان النسبة بين مسائل فلسفة الفقه وهذه العلوم. وباستثناء أصول الفقه الذي يكون موضع تأمُّل أكبر يمكن للعلوم ذات الصلة الأخرى أن تكون مشمولةً لحكمٍ واحد، واعتبار النسبة القائمة بين كلّ واحدٍ منها وبين فلسفة الفقه هي نسبة العموم والخصوص من وجهٍ، بمعنى أن هناك بينها ـ إلى جوار المسائل المشتركة ـ موارد أخرى كثيرة خاصّة بكلّ واحدٍ منهما.

وبطبيعة الحال فإنّ موارد اشتراك كلّ واحد من هذه العلوم مع فلسفة الفقه، وحجم تداخلها مع فلسفة الفقه، ليس على وتيرةٍ واحدة، وعليه لا نرى حاجةً للدخول في تفاصيل هذا البحث.

وأما في ما يتعلق بأصول الفقه، ومقدار تداخل مسائله مع مسائل فلسفة الفقه، فهناك اختلافٌ بين العلماء: فمنهم مَنْ ذهب إلى القول بوجود التباين بينهما؛ وهناك مَنْ قال بأن أصول الفقه أعمّ من فلسفة الفقه؛ وقال آخرون: إن النسبة القائمة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجهٍ. فما هو السرّ في هذا الاختلاف؟

إن هذا الاختلاف ينشأ أحياناً من الاختلاف في فهم تعريف وماهية هذين العلمين. فهل فلسفة الفقه علمٌ توصيفي أو تاريخي، أو علم قواعد، أو هو مزيجٌ من ذلك كلِّه؟ وهل تعمل فلسفة الفقه على تناول المبادئ التصديقية للفقه فقط أم أنها تشمل ما هو الأعمّ من ذلك؟

ومن ناحيةٍ أخرى: هل علم الأصول عبارةٌ عن قواعد لاستنباط الحكم الشرعي وما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل (مباحث الأصول العملية)، أم عبارة عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي؟ وهل علم الأصول عبارةٌ عن تلك المباحث التي فرغ الأصوليّون من تدوينها أم أنها شاملة لجميع القواعد المؤثِّرة في تحصيل الحجّة الشرعية على الأحكام، وإنْ لم يتمّ الالتفات إليها حتّى الآن؟ إن اختيار كلّ واحد من هذه المباني المتقدّمة يؤدي إلى نتيجة مغايرة تختلف عن النتائج الحاصلة من اختيار الموارد الأخرى.

وفي بعض الموارد ينشأ هذا الاختلاف من التفسير الذي يقدِّمه البعض لـ «التداخل». فالذي يرى الاختلاف في الأغراض رافعاً للتداخل، والذي يرى وحدة المسائل (حتّى مع تعدُّد الأغراض) مصداقاً للتداخل، لا يمكنهما الذهاب إلى رأيٍ واحد في ما يتعلّق بالنسبة القائمة بين فلسفة الفقه وعلم الأصول.

لقد شرحنا في الفقرة الثامنة أن تعدُّد الأغراض قد يسوِّغ التأسيس لعلمين مستقلّين رغم وجود المسائل المشتركة بينهما، إلاّ أن ذلك لا يرفع التداخل بينهما. وعليه لو اعتبرنا فلسفة الفقه بالمعنى الأعمّ، الذي يشمل المبادئ التصورية والمباحث التاريخية، من قبيل: مراحل الفقه، وتاريخ تطوّر الاجتهاد، وما إلى ذلك، بالإضافة إلى الفرضيات والمبادئ التصديقية للفقه، فإنّ نسبتها إلى علم الأصول ـ أيّاً كان معناه من بين المعاني التي تقدَّمت الإشارة إليها ـ هي نسبة العموم والخصوص المطلق، بمعنى أن فلسفة الفقه أعمّ من أصول الفقه.

إلى هنا اتّضح أن مسائل «فلسفة الفقه» تتداخل في الجملة مع مسائل عدد من العلوم. واتّضح أيضاً أن النسبة القائمة بين فلسفة الفقه وعلم أصول الفقه هي نسبة العموم والخصوص المطلق، وأن مسائل علم الأصول تشكِّل جزءاً رئيساً من مسائل فلسفة الفقه. إلاّ أننا مع ذلك نقول: هل يصحّ لنا تأسيس علم باسم (فلسفة الفقه) أم لا؟

كما أشار الشيخ الآخوند الخراساني، صاحب كفاية الأصول، في مقدّمة تعريف علم الأصول إلى أن تأسيس وتدوين علم جديد (يشتمل على غرضٍ مختلف) إذا لم يكن مشتركاً في الجزء الأكبر من مسائله مع علمٍ آخر كان ذلك أمراً مستحسناً، وأما إذا كان مشتركاً مع علمٍ آخر في جميع مسائله، أو لم تكن المسائل الخاصّة بالعلم الجديد مستحقّة للاهتمام والالتفات، فلن يكون هناك وجهٌ لتأسيس علم جديد. ويمكن لضمان كلا الغرضين بحث المسائل في إطار علمٍ واحد، ولكنْ من جهتين وحيثيتين (بما يتناسب مع الهدفين المذكورين).

وحيث إن عدد المسائل غير المشتركة لفلسفة الفقه والعلوم ذات الصلة (باستثناء أصول الفقه) لا تستحقّ الاهتمام فإن وجود المسائل المشتركة بينهما لا يُشكِّل مانعاً من تأسيس «فلسفة الفقه».

وفي ما يتعلّق بعلم الأصول، بالنظر إلى الشرح والبيان المتقدِّم في الفقرة التاسعة، يمكن لنا أن نصل إلى نتيجة مفادها: إننا إذا كنا نروم إصدار الحكم بغضّ النظر عن الواقع القائم فإنّ الذي كان يجب تدوينه من هذين الأمرين (أصول الفقه؛ وفلسفة الفقه)؛ للحصول على نظام جامع ومعقول، هو فلسفة الفقه.

ولو تمَّ ذلك بشكلٍ مبكِّر لما كانت هناك ضرورةٌ إلى تأسيس علمٍ مستقلّ اسمه (علم أصول الفقه). وقد أدرك المفكِّرون المسلمون بشكلٍ مبكِّر وجوب طرح بعض مباحث فلسفة الفقه، وعمدوا بالفعل إلى طرح مسائل في إطار مجموعة من البحوث تمَّت تسميتها بـ «علم أصول الفقه». وإذا كانوا لم يتناولوا المباحث الأخرى من فلسفة الفقه فربما كان السبب في ذلك يعود إلى أنّهم في مقام الانتفاع في البحوث الفقهية لم يلمسوا حاجةً إليها، رغم أن بعضاً من هذه البحوث قد تمّ طرحها ضمن العلوم ذات الصلة الأخرى.

وباختصارٍ: حيث أدّى المسار الطبيعي لتدوين العلوم الإسلامية إلى تدوين علم الأصول يمكن حاليّاً، إلى جوار هذا العلم المتين والمتطوِّر والمثمر (والمتضخِّم إلى حدٍّ ما)، التأسيس لعلمٍ جديد باسم «فلسفة الفقه» أيضاً، والبحث فيه عن مسائل لم يتمّ البحث عنها في أصول الفقه.

الهوامش

(*) باحثٌ متخصِّص في الفلسفة المعاصرة، وخاصّة الفلسفة المضافة.

(**) باحثٌ متخصِّص في الفقه والأصول، وعضو الهيئة العلمية في معهد الثقافة والفكر الإسلامي في إيران.

([1]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (مصدر فارسي) 1: 67 ـ 70، سازمان تبليغات إسلامي، طهران، 1364هـ.ش؛ مرتضى مطهَّري، الأعمال الكاملة 5: 129 ـ 139، انتشارات صدرا، ط5، قم، 1376هـ.ش.

([2]) انظر: جميل صليبا، فرهنگ فلسفي، ترجمه إلى الفارسية: منوشهر صانعي دره بيدي: 503، انتشارات حكمت، طهران، 1366هـ.ش.

([3]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (مصدر فارسي) 1: 67.

([4]) انظر: جميل صليبا، فرهنگ فلسفي: 504.

([5]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، دروس فلسفه أخلاق (مصدر فارسي): 10، انتشارات اطلاعات، ط2، طهران، 1370هـ.ش.

([6]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (مصدر فارسي) 1: 68.

([7]) انظر: محمد علي التهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1: 14 ـ 16، مكتبة لبنان ـ ناشرون، 1996م.

([8]) انظر: المصدر السابق 1: 64.

([9]) انظر: المحقق الداماد (مصدر فارسي) 12: 2 ـ 3، 1373هـ.ش.

([10]) انظر: موسوي گرگاني، مجلة نقد ونظر 13 ـ 14: 312، 1376 ـ 1377هـ.ش.

([11]) انظر: مجلة نقد ونظر، العدد 12: 494.

([12]) انظر: فاضل مهريزي: 747 ـ 748، 1376هـ.ش.

([13]) انظر: كاتوزيان، مجلة نقد ونظر، العدد 12: 505.

([14]) انظر: المصدر السابق: 517.

([15]) انظر: المصدر السابق: 519.

([16]) انظر: المصدر السابق: 525 ـ 526.

([17]) انظر: لاريجاني، مجلة نقد ونظر، العدد 12: 16 ـ 21.

([18]) انظر: مصطفى مَلَكيان، مجلة نقد ونظر، العدد 12: 35 ـ 36.

([19]) انظر: المصدر السابق: 36.

([20]) انظر: عابدي شاهرودي، مجلة نقد ونظر، العدد 12: 13.

([21]) انظر: المصدر السابق: 10.

 

المصدر: موقع نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky