في مقطع صوتي مسجل يقرب من سبع عشرة دقيقة والذي يعود تاريخه إلى سنة ١٣٧٧ﻫ، أي قبل ٦٣ سنة وفي مقدمة بحث فقهي من أبحاث الخارج لأستاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله السيد أبوالقاسم الخوئي “قدس سره”، ينصح سماحته طلاب الحوزة العلمية والفضلاء بكلمات نفيسة وغاليه. علماً أن كلمة السيد الخوئي “ره” كانت في ست دقائق وباللغة الفارسية. وهذه ترجمة نصية قام بإعدادها مشكوراً سماحة الفاضل الأستاذ الشيخ حبيب آل حمادة القطيفي.
الاجتهاد: يلاحظ أن تمام المقطع الصوتي المُسجل يقرب من ١٧ سبع عشرة دقيقة احتوى على هذه المقدمة في قرابة ٦ ست دقائق باللغة الفارسية، ثم شرع سيدنا المعظم طاب ثراه – فيما بقي من الوقت – في المبحث الفقهي باللغة العربية، بمسألة ماء الاستنجاء والاستفادة من روايات الباب .. بين طهارته ونجاسته، وإنكار أصالة العموم في المورد.
أعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم .
لايخفى على السادة أهل العلم أنه قد سُفكت دماء كثيرة زكيّة لتثبيت مذهب الشيعة الإمامية. وقد تعرّضت طائفة من العلماء الأعلام للحبس والسجن والتشريد من بلد إلى بلد وبعضهم *كالشهيد الأول والثاني* وغيرهما قد نالوا درجة الشهادة .
كما أن *شيخ الطائفة الطوسي* قدس الله نفسه – هذا الشيخ العظيم – الذي أسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف قد تحمل مصاعب جمة ومشاق صعبة وأحرقت داره، وكذلك أستاذه *الشيخ المفيد* قدس الله نفسه، تعرض بيته للمداهمة والهجوم مرات عديدة.
وفي نهاية المطاف، وعلى أثر هذه المتاعب والمصاعب والزحمات بلغ مقام المرجعية والزعامة الدينية لعلماء الدين الشيعة – بحمد الله تبارك وتعالى – غاية أوجه وأعلى مرتبته، وأثبت للعالم الاسلامي خاصة بل لجميع الناس كافة حقانيته ومصداقيته.
وعلى أثر هذه الخدمات والتضحيات التي كانت في سبيل الله تعالى، تيسّرت وتحسّنت أمورهم المعيشية وأوضاعهم وتصدّرت وجاهتهم الإجتماعية والدنيوية إلى درجة أن *المحقق الثاني الكركي* قدس الله نفسه تبوأ مكانة ومنزلة مرموقة بحيث صار بيده عزل وتنصيب حتى أمراء الدولة .
ومن ناحية أخرى، أراد أعداء الدين أعني أعداء الإسلام وأعداء الشيعة، زعزعة هذه المكانة والمنزلة، وذلك عبر توجيه أصابع الإتهام والإفتراء على هذه القيادة الروحية والزعامة الدينية.
وقد عملتْ في هذا الإتجاه والسياق أيادي عديدة – كما تعلمون – لتضعيف هذا النفوذ الإجتماعي والوجاهة لعلماء الشيعة بحيث صار وضع عالم الدين وحياته ومعيشته في أرجاء النجف الأشرف وغيرها وفي المراكز والحواضر العلمية لاتصل إلى مستوى معيشة وحياة حتى إنسان عادي من الناس.
وبطبيعة الحال، هذا الأمر مُشاهد وملموس يدركه كل واحد بوجدانه، وأنه إلى أي حدّ وصلت أوضاع أهل العلم والعلماء. ومع ذلك، فإن هذا الأمر قابل للصبر والتحمُّل بل حتى لو كان أشد من هذا الحال أيضا، فهو قابل للتحمل.
وقد رأيتم بالعيان والوجدان في أيام الحرب كيف كانت الأحوال والأوضاع أشد وأصعب بمراتب مما هي عليه الآن، وكان يعيشون في منتهى الشدة والعسر والضيق؛ حيث يمكن الصبر والسكوت والتحمل لكل ذلك في مقابل تضحيات أولئك العظماء وقتلهم وشهادتهم وما لاقوه من هتك وإهانة وحبس وتشريد وضرب وأذى وتعذيب .
وكيفما كان، فالجهات المادية سهلة ويسيرة جدا ولكن كانت الجهات الروحية والمعنوية محفوظة ومصانة. يعني أن الواحد من أهل العلم كانت منزلته محفوظة ومصونة والناس تعبِّر عنه بأنه عالم وزعيم دين ومقامه أرقى من مقام المادة وأمور الدنيا.
إلا أنه أخيرا نشطت بعض الأيدي لأجل إيجاد الإختلاف والنزاع بين أهل العلم، فصاروا بصدد إيجاد التفرقة والقاء الإختلاف والنزاع فيما بينهم؛ لينالوا من مقام الزعامة الدينية والروحية لعلماء الدين ويجعلوها في دائرة الإتهام ليضربوا الجهات الروحية للعلماء، فضلا عن الناحية الإجتماعية والوجاهة والنفوذ بين الناس.
وحتى لو لم يكن إيجاد التفرقة والاختلاف مستندا إلى هذه الأيدي، بل كان الإختلاف أمرا طبيعيا، فإنهم يريدون الإصطياد في الماء والعكر وأن يستغلوا هذا الإختلاف لصالح مآربهم” ويصنعوا من الحبة قُبة ” ويُضخِّموا الأمور، ويجعلوا من الأمر البسيط قضية كبيرة ويوحوا للناس ويقولوا لهم بأن علماء الدين ليسوا رجال دين وزعماء روحيين وأهل آخرة ورجال علم بل أهل دنيا وطلاب متاع الدنيا. وهذا الشيء أمر واضح، حيث لايخفى عليكم أيها السادة أن أعداءنا يسعون على الدوام إلى استغلال هذه الأمور وحرفها لهذه الغاية.
فمن الجيد أن نكون واعين وملتفتين لهذه الناحية وأن لا نُعرِّض هذا المقام للوهن والإهانة بأيدينا .
فلنفرض أن هناك اختلافا بين شخصين أو جماعتين مثلا أو طائفتين من المؤمنين، فعلينا اتباع سبل النصح والموعظة والرفق واللين وإيجاد التفاهم لحلحلة هذا الإختلاف لا أن يكون حالنا حال الآخرين .
طبعاً، طلبي ورجائي أن يُؤخذ هذا الأمر بجدية وأن يترتب عليه منكم الأثر المرجو إن شاء الله؛ والمأمول أن لا يَحدث بين شخص وآخر من أهل العلم أو حتى بين جماعتين سوء تفاهم واختلاف حتى ينجر الأمر إلى سخرية الآخرين ونكون محل سخرية العوام منا.
مع أنّ أمر العوام هيِّن؛ لأنهم يتصرفون بعفوية وسذاجة ومن دون غرض خبيث بخلاف الأعداء الذين يسعون لاستغلال مثل هذه الأمور والقضايا من أجل محق مقام العلماء و سلب نفوذهم الروحي وتأثيرهم الإجتماعي ومكانتهم من النفوس بالمرة .
ونعوذ بالله أنْ تتزعزع مكانة العلماء التي بُذل من أجلها الغالي والنفيس وصُرفت من أجلها ملايين الأموال وأُزهقت الأرواح وسُفكت الدماء الزكية فنصير – معاذ الله – مصداقاً تاماً لقوله تعالى : *خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ* .
فهذه كلمة هذا العبد.
——————
توضيحٌ وتعليق للأخ الشيخ أمين أبو علي القطيفي :
تجدر الإشارة أن المسألة المُشار لها موجودة – بنحو مُفصّل – في الجزء الأول من كتاب الطهارة الموسوم ب : *التنقيح في شرح العروة الوثقى* ، تأليف سماحة آية الله الكبرى المرجع الشهيد *الشيخ ميرزا علي الغروي* طاب ثراه ، وقد طبع بتقريض أستاذه العظيم المرجع الأعلى سيد الطائفة *المحقق الخوئي* طاب ثراه في منتصف ذي الحجة نفس العام ١٣٧٧ﻫ .
*والمهمُ* أن هذه الكلمة المهمة تاريخية ونادرة ومناسبة لزماننا الحاضر .. فهي قراءة واعية لمجريات الأحداث وما تمر به الحوزات العلمية من قوة بجهود العلماء الربانيين وتضحياتهم .
وهي توعية مستقبلية لما يخطط له أعداء الأمة الإسلامية ، من تضعيف مكانة العلماء العاملين ، بإيجاد سبل التفرقة وبث الأقاويل الباطلة والتهم الزائفة .. وقانا الله وكافة الحوزات العلمية شرورهم ومكرهم .
** إشارة للآية الشريفة : *{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}* [الحج : ١١] .
*أمين أبو علي القطيفي*
سحر ليلة السبت : ١٦ / ١١ / ١٤٤٠هـ .