رجائي عطية

في بعض ضوابط النظر والبحث في الإسلام (العرف)

العلماء الذين يقررون أن العرف أصل من أصول استنباط الأحكام، يقرون كونه دليلًا حيث لا يوجد نص من كتاب أو سنة.. فإذا خالف عرف الناس الكتاب أو السنة، فإن عرفهم مردود لا يجوز الاعتداد به في استنباط الأحكام، فالاعتداد به مخالفة أو إهمال للنص، وإبطال للشرائع، واتباع للهوى. ذلك أن الشرائع لم تأت لتقرير المفاسد، بل لإبطالها ومقاومتها. بقلم: أ. رجائي عطية

موقع الاجتهاد: تجري كلمة العرف على لسان الناس، العامة والخاصة، وهي متداولة من قديم في المجتمعات. والمقصود به ما تعارف عليه الناس وساروا عليه، من قول أو فعل أو ترك، في عاداتهم ومعاملاتهم، على أن العرف له معنى اصطلاحي لدى رجال القانون بعامة، ولدى الشرعيين والأصوليين بخاصة.

والعرف من الأدلة الشرعية عند الفقهاء، وإليه يتم الاحتكام في كثير من أحكام الفقه الفرعية، وهو آية على ثراء الشريعة الإسلامية وقدرتها على مواكبة الحياة، واتساع نظرتها. ومن العرف ما هو عملي، ومنه ما هو قولي. فالعرف العملي مثل اعتياد الناس بيع المعاطاة من غير صيغة لفظية، وتعارفهم على قسمة الصداق في الزواج إلى مقدم ومؤخر. والعرف القولي مثل تعارف الناس على إطلاق لفظ «الولد» على الذكر دون الأنثى، وتعارفهم على ألا يطلقوا لفظ «اللحم» على الأسماك.

والعرف العام يتكون بتراكم ما تعارف عليه الناس على اختلاف طبقاتهم، عامتهم وخاصتهم، وهو غير الإجماع الذي حدثتك عنه كمصدر للأحكام الشرعية يلي الكتاب والسنة، ذلك أن الإجماع لا دخل للعامة في تكوينه، وإنما هو اتفاق المجتهدين خاصة.

فمصدر تكوين العرف ما اعتاده وتعارف عليه الناس، والأصل في الاعتداد به، لدى الأصوليين، في غير موضع النص، إن كان صحيحًا غير فاسد، مستمد من قول الرسول ﷺ: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، ولأن مخالفة العرف الذي اعتاده الناس وسارت عليه أمورهم، فيه حرج ومشقة وإعنات، بينما يقول اللطيف الخبير:

“وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” (الحج: 78)

على أن العرف منه صحيح وفاسد، فالصحيح ما لا يخالف دليلًا شرعيًا، أو يحل محرمًا أو يبطل واجبًا، كتعارف الناس على عقد الاستصناع الذي يجاز من باب المصالح المرسلة مع أن المبيع معدوم وقت العقد، لأن هذه الإجازة التي جرى بها العرف لا تخالف دليلًا شرعيًا، ولا تحل حرامًا أو تبطل حلالًا. ومن العرف الصحيح التعارف على أن ما يقدم للخطيبة من هدايا كالحلي والثياب وما شابه، هو هدية لا مهر. أما العرف الفاسد، فهو وإن كان الناس قد تعارفوا عليه، إلاَّ أنه يخالف الشرع أو يحل المحرم أو يبطل الواجب، ومن ذلك كثير من المنكرات التى تجري على سبيل العادة في الموالد والمآتم، وتعارف بعض الناس على أكل الربا وعقود المقامرة.

والعرف الصحيح هو فقط الواجب مراعاته في التشريع والقضاء، وعلى المجتهد مراعاته في تشريعه، وعلى القاضي مراعاته في قضائه. لأن ما تعارف عليه الناس وساروا عليه، صار من حاجاتهم ومتفقًا ومصالحهم، وما دام لا يخالف الشرع وجبت مراعاته. ولهذا قال العلماء: العادة شريعة مُحكمة. وقال علماء الأحناف والمالكية إن الثابت بالعرف الصحيح غير الفاسد – ثابت بدليل شرعي، ويقول شارح الأشباه والنظائر: «الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي»، ويقول السرخسي في المبسوط: «الثابت بالعرف كالثابت بالنص».. ولعله يقصد بذلك أن الثابت بالعرف ثابت بدليل يعتمد عليه كالنص حيث لا نص.

والعلماء الذين يقررون أن العرف أصل من أصول استنباط الأحكام، يقرون كونه دليلًا حيث لا يوجد نص من كتاب أو سنة.. فإذا خالف عرف الناس الكتاب أو السنة، فإن عرفهم مردود لا يجوز الاعتداد به في استنباط الأحكام، فالاعتداد به مخالفة أو إهمال للنص، وإبطال للشرائع، واتباع للهوى. ذلك أن الشرائع لم تأت لتقرير المفاسد، بل لإبطالها ومقاومتها.

ويرى فقهاء الحنفية أن العرف إن كان عامًا متفقًا عليه، فإنه يُتْرك به القياس، ويسمى ذلك «استحسان العرف»، كما يخصص به العام إذا كان العام ظنيًا ولم يكن قطعيًا، ويضربون مثلًا لترك العموم في نص ظني وإعمال العرف أنه قد ورد نهي النبي ﷺ عن بيع وشرط، ولكن جمهور الحنفية مع المالكية رأوا أنه يجوز كل شرط جرى العرف باعتباره.

والعرف العام الذي يخصص به العام الظني، ويترك به القياس، هو العرف العام الصحيح الذي يسود في كل الأمصار، ولا يخالف نصًا. أما العرف الخاص، فإنه لا يقف إلاَّ أمام القياس الذي لا تكون علته ثابتة بطريق قطعي من نص أو ما يشبه النص في وضوحه وجلائه.

فالأحكام التي تبنى على القياس الظني، تتغير بتغير الأزمان، ولذا قالوا – فيما أورد أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة – إنه يجوز أن يخالف المتأخرون مذهب المتقدمين منهم إذا كان اجتهاد المتقدمين مبنيًا على القياس، لأنهم يكونون في أقيستهم متأثرين بأعرافهم في زمانهم، فيقول ابن عابدين في رسالة العرف من مجموعة رسائله: «إن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص، وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهادي ورأي، وكثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لو كان في زمن العرف الحادث (أي الجديد الحاصل) لقال بخلاف ما قاله أولًا: ولهذا قالوا في شرط الاجتهاد إنه لا بد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالَم على أحسن نظام وأتم إحكام».

فلا بد للحاكم -فيما نقل الشيخ أبو زهرة عن ابن عابدين- من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به الصادق من الكاذب، ثم يطابق هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع.

فأين هذا العمق مما يجترئ به بعض الناس في أيامنـا على الديـن وعلى الإفتـاء فيـه والجـزم بما لا معرفة لهم به؟.

المصدر: مجلة الأزهر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky