خاص الاجتهاد: يُعد فقه الافتراض، أو فقه التوقع والترقب والاستشراف فرعًا أصيلا في البناء الاجتهادي الإسلامي، تتقاطع فيه الدلالات وتتحد فيه الغايات، إذ يقوم على النظر في المسائل المحتملة الوقوع، مستندا إلى الأدلة الشرعية والقواعد الأصولية الراسخة في إطار من الاستنباط المنضبط والتقدير المعتبر، وليس هذا الفقه طارئًا على التراث العلمي، بل هو جزء من العقل الفقهي الذي وظف عبر العصور في استباق الأحداث وتوسيع دوائر النظر، بما يمكن من الحكم على ما لم يقع، كما حكم على ما وقع، إذا توفرت شروط إمكانه ومقدماته.
وتتجلى أهمية الفقه الافتراضي في كونه مكمّلا لفقه الحكم وفقه الواقع لا ينفصل عنهما ولا يستغنيان عنه، ففقه الحكم دون فقه الواقع المعيش قد يفضي إلى الانفصال عن حركة الحياة، وفقه الواقع المعيش دون فقه الافتراض يُبقي الفقيه في موقع رد الفعل بدلا من موقع التأثير والمبادرة، أما الفقه الافتراضي، فيمثل الامتداد الطبيعي لفقه الواقع في أبعاده المستقبلية، وليجعل منه مظهرا من مظاهر اكتمال النظر الفقهي وشموله، ولذا فإن كل افتراض معقول وممكن الوقوع، هو في حقيقته واقع مؤجّل، يحتاج إلى تصور دقيق ومعالجة استباقية.
وقد أدرك الفقهاء قديمًا هذا البعد، فاشتغلوا بمسائل افتراضية كانت في زمانهم من قبيل التمرين العلمي، فأصبحت في أزمنة لاحقة وقائع تحتاج إلى فتوى، وهو ما يؤكد أن الفقه الافتراضي لا يخرج عن مقاصد الشريعة، بل يُفعل أدواتها، ويمنح أحكامها الحيوية والمرونة والجاهزية، ويقرب علم أصول الفقه من واقع التطبيق العملي، في زمن تتقدم فيه النظم الإدارية والاقتصادية والتقنية بخطط استشرافية واسعة النطاق.
وفي السياق الأكاديمي، يشكل هذا النوع من الفقه أداة تعليمية فعالة في صناعة الفتوى وإعداد المفتين، إذ يسهم في تدريب طلاب العلم على طرائق الاجتهاد، وتمرينهم على ضبط القواعد الأصولية من خلال محاكاة النوازل المحتملة، وهو ما يعزز من قدراتهم على التعاطي مع القضايا المعاصرة بمنهجية تجمع بين ن أصالة التراث وحسّ الواقع وتطلعات المستقبل.
ومع تسارع المتغيرات التقنية والاجتماعية، برزت تحديات غير مسبوقة أمام العقل الفقهي، لا سيما في ميادين العقود الذكية، والتمويل الرقمي، والطب التجديدي والتجارة الإلكترونية، وغيرها من القضايا التي تفرض اجتهادا استباقيًا ينهل من أصول الشريعة، ويتوسل بأدوات العصر، وهنا تبرز إمكانات الذكاء الاصطناعي بوصفه تقنية واعدة يمكن أن تدعم العقل الفقهي من خلال تحليل البيانات الضخمة، واستقراء الأنماط، ومعالجة النصوص الفقهية، وتوليد تصوّرات اجتهادية حول المسائل المتوقعة، بما يتيح تقديم حلول فقهية مدروسة قبل حدوث الوقائع.
وقد شهدت بعض المؤسسات العلمية تجارب رائدة في هذا المجال كدار الإفتاء المصرية، ومركز الفتوى بدولة الإمارات، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، مما يدل على تحوّل تدريجي نحو توظيف التقنية لخدمة الفتوى مع الحفاظ على المرجعية الشرعية.
من هنا، جاءت هذه الدراسة لتسلّط الضوء على أبعاد الفقه الافتراضي، وتستكشف دور الذكاء الاصطناعي في تفعيله وضبطه، سعيًا إلى بناء نموذج تكاملي يثري الاجتهاد الفقهي المعاصر، ويعزّز من فاعلية المفتي في عصر تنزاحم فيه النوازل وتتسارع فيه التحوّلات دون الإخلال بثوابت الشريعة وميزان المقاصد.
إشكالية الدراسة :
تسعى هذه الدراسة إلى استجلاء مفهوم الفقه الافتراضي، وبيان أبعاده المنهجية، من خلال رصد طبيعة التفاعل بينه وبين تقنيات الذكاء الاصطناعي، واستكشاف مدى تأثير هذا التفاعل في بناء شخصية المفتي المعاصر وتأهيله العلمي، وتنبثق الإشكالية من الحاجة إلى الجمع بين أدوات الإفتاء عبر الوسائل التقنية الحديثة، وبين ضرورة المحافظة على الضوابط الشرعية والمنهجية التي تضبط العملية
الاجتهادية.
وتُطرح في هذا السياق مجموعة من التساؤلات المركزية، من أبرزها:
1 . ما هي الآليات المنهجية الكفيلة بتفعيل الفقه الافتراضي في تنمية كفاءات المفتين وتأهيلهم لمواكبة المستجدات؟
2 . ما الضوابط الشرعية التي ينبغي مراعاتها في إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن عمليات
الاستنباط الفقهي؟
3. كيف يمكن تحقيق توازن منهجي بين الإفادة من الأدوات التقنية الحديثة، والحفاظ على استقلالية العقل الفقهي وخصوصيته ؟
4 . ما أفق المعالجة التي يتوخاها الذكاء الاصطناعي لرفع كفاءة النماذج الفقهية الافتراضية، وتعزيز قدرتها على الاستشراف والاستيعاب المنهجي؟
الأهداف:
تأصيل مفهوم الفقه الافتراضي شرعيا ومنهجيا وبيان ضوابطه في التراث الفقهي الإسلامي.
تحليل أثر الفقه الافتراضي في تطوير صناعة الفتوى المعاصرة وتحسين كفاءات المفتين.
استكشاف إمكانيات توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم الفقه الافتراضي وتطوير النماذج العلمية للتكامل بينهما في صناعة الفتوى.
تقديم توصيات عملية لتطوير المؤسسات الفقهية ومناهج إعداد المفتين في عصر الذكاء الاصطناعي.
المنهج :
اعتمد الباحث منهجية علمية متكاملة تجمع بين المنهج الاستقرائي لتتبع مسائل الفقه الافتراضي، والمنهج التحليلي لتحليل المفهوم والعلاقة بين الفقه الافتراضي والذكاء الاصطناعي، والمنهج الوصفي لدراسة واقع صناعة الفتوى المعاصرة والمنهج التطبيقي لاستكشاف إمكانيات توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير الممارسة الإفتائية.
الدراسات السابقة
الفقه الافتراضي في مدرسة أبي حنيفة للدكتور عمر نهاد وهو عبارة عن رسالة ماجستير في كلية الإمام الأعظم ببغداد (2006) تناول الكاتب فيها معنى الافتراض وأهميته ومقاصده وما يجوز الافتراض فيه وما لا يجوز وما يستند إليه الافتراض من أصول وقواعد مع نماذج من تطبيقاته الفقهية، تتفق مع هذه الورقة العلمية في مفهوم الافتراض وأهميته مع فرق أن هذا البحث تناول العلاقة المباشرة للتوقع والافتراض وأثره في صناعة الفتوى وكيف يمكن الاستفادة منه في إثراء الفتوى وضبطها في ظل الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي للدكتور عمر شاكر الكبيسي، منشور في المنتدى الإسلامي بالشاقة 2024، تناول البحث تعريف الذكاء الاصطناعي وإمكاناته في المجالات الشرعية مثل الفتوى مؤكدا على أهمية الإطار الأخلاقي في التعامل مع الذكاء الاصطناعي وضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى وعدم الاعتماد عليه بشكل مطلق، إلا أن هذا البحث تناول ضبط الفتوى وصناعتها من خلال الفقه الافتراضي مع الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في الفتوى لكونه يحمل جانبا من التوقع أيضا من خلال ربط المعلومات المودعة فيه ثم توقع وافتراض الإجابة عن المسائل التي يقدمها المفتي الذكي.
خطة البحث
وسيكون هذا البحث مقسما إلى هذه المقدمة ومبحثين:
المبحث الأول: الفقه الافتراضي والذكاء الاصطناعي المفهوم والضوابط.
المطلب الأول: مفهوم الفقه الافتراضي وتأصيله الشرعي.
المطلب الثاني: الذكاء الاصطناعي وصناعة الفتوى المعاصرة: المفهوم والعلاقة والضوابط.
المبحث الثاني: الفقه الافتراضي والذكاء الاصطناعي وأثرهما في تطوير الفتوى والمفتي.
المطلب الأول: تأثير الفقه الافتراضي على تكوين المفتي وتطوير كفاءاته.
المطلب الثاني: أثر الذكاء الاصطناعي في صناعة الفتوى والافتراض الفقهي.
ثم الخاتمة
الفقه الافتراضي وأثره في صناعة الفتوى والمفتي في ظل الذكاء الاصطناعي
بقلم: د. عمر نهاد محمود
أستاذ مشارك – جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
بحث مقدم إلى مؤتمر :صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي الذي تقيمه دار الإفتاء المصرية