سير البحث حول تطور التقليد في عبارات الفقهاء / الدكتور محمد علي قرباني

الاجتهاد: يظهر لنا بعد مراجعة كتب الأصحاب في أوائل الغَيبة أن التعبير الرائج الذي استعملوه هو عنوان المفتي والمُستفتي، مکان كلمة المجتهد والمقلَّد، ثم صار هذان المصطلحان شائعين عندهم. ولعل أوّل من ذکر عنوان التقليد مع الاجتهاد هو الشريف المرتضی”ره”؛ لأنه ذكر في كتابه الموسوم بـ “الذريعة” باباً بعنوان: «صفة المفتي والمستفتي»(1)، ثم جعل عنوان المقلَّد مع المفتي.

كما ذكر السيد المرتضى في ذلك الكتاب باباً بعنوان: «فيما يدلّ على حُسن تَقليد العامّي للمفتي ودفع ما يقال عليه».

وقد ذكر في موضع آخر منه: «والذي يدلّ على حُسن تقليد العامي للمفتي أنّه لا خلاف بين الأمّة قديماً وحديثاً في وجوب رجوع العامي إلى المفتي، وأنه يَلزمه قبول قوله، لأنه غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث»(2).

وقد قال في موضع آخر منه: «و أما حمل الأصول على الفروع في جواز التقليد فغير صحيح؛ لأن تقليد المستفتي للمفتي إنما جاز لأن له طريقا إلى العلم بحسن ذلك و وجوبه، وإنما يكون له إليه طريق لعلمه بالأصول، ولو لم يكن بها عالماً لما جاز أن يعلم حسن هذا التقليد.

والتقليد في الأصول غیر مستند إلى طريقة علم تقدّمت يُؤمِن من الإقدام على القبيح كما استند التقليد في الفروع إلى ذلك».(3)

ثم ذكر الشيخ الطوسي عنوان التقليد مع المفتي، و قد جعل باباً في كتاب ( عُدّة الأصول – الفصل الثاني من الباب الحادي عشر) بعنوان: «في ذكر صفات المفتي والمستفتي وبيان أحكامها»(4)

فقال في موضع منه: «إذا لم يمكن للمستفتي الاستدلال و يعجز عن البحث عن ذلك، فقد اختلف قول العلماء في ذلك، فحُكي عن قوم من البغداديّين (5) أنهم قالوا: لا يجوز له أن يقلّد المفتي، وإنما ينبغي أن يرجع إليه لينبهه على طريقة العلم بالحادثة، وأن يقلّده محرَّم على كل حال، وسوّوا في ذلك بين أحكام الفروع والأصول.

وذهب البصريون (أي معتزلة البصرة) و الفقهاء بأسرهم إلى أن العامي لا يجب عليه الاستدلال والاجتهاد، وأنه يجوز له أن يقبل قول المفتي… والذي نذهب إليه أنه يجوز للعامي الذي لا يَقْدر على البحث والتفتيش تقليدُ العالم».(6).

وقد قال في موضع آخر من (عدة الأصول): «و أقوى مما ذكرنا أن لايجوز التقليد في الأصول إذا كان للمكلَّف طريق إلى العلم، إما جملة أو تفصيلاً، و من ليس له قدرة على ذلك أصلاً فليس يكلَّف، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلَّفة بحال».(7)

وبعد الشيخ الطوسي شاع استعمال عنوان التقليد في كتب الأصحاب، ولكن بعض العلماء مثل أبي المكارم ابن زُهرة (ت 585هـ)، وكذا علماء حلب مثل أبي الصلاح الحلبي (ت 447هـ) و ابن حمزة (أواخر المئة السادسة) في كتاب (الوسيلة)، والميرزا عبد الله الأصفهاني صاحب كتاب (ریاض العلماء)، والعلامة الماحوزي صاحب كتاب (الإشارات)، وغيرهم، قد ادعوا بحرمة التقليد والوجوب العيني للاجتهاد. (8).

فقال ابن زهرة في كتاب (الغُنية): «فصل: لايجوز تقليد المفتي، لأن التقليد قبيح، ولا الطائفة مجتمعة على أنه لا يجوز العمل إلا بعلم».(9).

وعلى كل حال، فقد صار استعمال لفظ التقليد بعد الشيخ الطوسي شائعاً بين الأعلام، حيث ذكر المحقق الحلي (ت 676هـ) باباً في كتاب (معارج الأصول) بعنوان: “في المفتي والمستفتي” (10) فعرّف التقليد هناك «بأنه قبول قول الغير من غير حُجّة».(11).

وبعد ذلك ذكر العلامة الحلي (ت۷۲6هـ) (في کتاب مبادئ الوصول إلى علم الأصول) بعد مبحث الاجتهاد وشرائطه و تصویب المجتهد و تفسير الاجتهاد، مبحث جواز التّقليد، ولعل هذا أول استعمال للتقليد مع الاجتهاد(12).

ولكن أول من استفاد عنوان التّقليد مع الاجتهاد صریحاً هو صاحب (المعالم) حسن بن زين الدين (ت۱۰۱۱هـ)، حيث ذكر في كتابه عنوان: «المطلب التاسع في الاجتهاد والتقليد»(13) ، وبعد ذلك صار استعمال التقليد مع لفظ الاجتهاد شائعاً.

وقال المحقق الكركي (ت 940هـ) في (رسائله): «و المقلِّد اسم فاعل من التقليد، وقد عرفتَه، والمراد به هنا المستفتي توسّعاً، لأن المقلِّد في اصطلاحهم هوالآخذ بقول الغير من غير حجة ملزمة كالآخذ بقول العاصي أو المجتهد، والآخذ بقول من هو مثله لا أخذ العامي بقول المجتهد، لوجود الحجة الملزمة وهو وجوب الأخذ بقوله هذا هو الأشهر، وجوّز بعضهم الأمرَين ولا مشاحة». (14)

. وقال في موضع آخر منه: «و اعلم أن التقليد هو قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد، أما المُخبِر عن يقين بأحد طرق اليقين فهو شاهد، و ليس قبول خبره من التقليد في شيء»(15).

– وكتب الشيخ البهائي في (زبدة الأصول): «المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد».(16)

وهذه الحركة تستمر إلى زمان الإخبارية، وبعد ذلك صار عنوان المقلِّد مع عنوان المحدِّث شائعاً لأنهم كانوا يهتمون بردّ الاجتهاد والمجتهدين، وقد كتب الملّا أمين الأسترآبادي كتابه المسمّي بـ (الفوائد المدنية)، في رد الاجتهاد والمجتهدين، ولذا قد يُسمّى العالم، في هذا العصر بالمحدِّث: كالمحدّث الأسترآبادي، و البحراني، و الفيض الكاشاني، وغيرهم.

وبعد تحطيم مبنى الإخبارية على يد العالم، الوحيد البهبهاني صار عنوان التقليد مع الاجتهاد، وبعد ذلك كثر استعمال عنوان المقلِّد مع عنوان المجتهد، وشاع على ألسن الفقهاء و استمر إلى زماننا هذا، حتی کتب الفاضل التوني (ت۱۰۱۷هـ) في كتاب (الوافية): «البحث الرابع – في التقليد، وهو قبول قول مَن يجوز عليه الخطاء من غير حُجة ولا دليل». (17)

-و کتب ملا أحمد النراقي (ت ۱۲45هـ) في كتابه ( مستند الشيعة) في مبحث القبلة: «فأراد بالاجتهاد استعمال القواعد، وبالتقليد العمل بخبر الغير وإن أفاد الظنّ، وإلا فغير المفيد له لا يجوز التعويل عليه مع عدم التمكّن من الاجتهاد أيضاً منه».(18)

 

الهوامش

1 – الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 2، ص 796.

2- الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 2، ص 796.

3- الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 2، ص 798.

4- عدة الأصول، ج 2 ، ص 727.

5- الأحكام للآمدي، ج 4 ، ص 45، المعتمد، ج 2، ص 360.

6- عدة الأصول، ج 2 ، ص 729.

7- عدة الأصول، ج 2 ، ص 732.

8- معالم الأصول، ص 237، مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 10.

9- غنية النزوع، لابن زهرة، ص 547.

10- معارج الأصول، ص 197.

11- معارج الأصول، ص 199.

12- مبادئ الوصول إلى علم الأصول، ص 240.

13- معالم الأصول، ص 232،

14- رسائل المحقق الكركي، ج1 ص 175.

15- رسائل المحقق الكركي، ج2، ص 69.

16- زبدة الأصول، ص 115.

17- الوافية، ص 299.

18- مستند الشيعة للملا أحمد النراقي، ج 1 ، ص 265.

 

 

المصدر: كتاب الاجتهاد والتجزي للدكتور محمد علي قرباني / ص 200

تحميل الكتاب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky