الاجتهاد: فتح من بعد السيد الشريف المرتضى باباً كبيراً في الأصول، وكَتب في ذلك جملة من المؤلفات الأصولية، كالذريعة إلى اصول الشريعة، ومسائل الخلاف في أصول الفقه، ومسائل منفردات في أصول الفقه، وإبطال القياس، وكذلك كتاباته في الفقه فضلاً عن علم الكلام والتفسير والأدب وأجوبة المسائل وغيرها.
إنّ السيّد المرتضى علي بن الحسين علم الهدى نابغة القرن الرابع والخامس من الهجرة النبوية، العَلَم العَيلم، والطود الشامخ، فقيه أهل البيت “عليهم السلام” عظيم المنزلة ورفيع الدرجة في العلم والدين والدنيا، جامع المعقول والمنقول وحاوي الفروع والأصول.
وقد كتب الكثير من المترجمين والمؤرخين وعلماء الرّجال عن هذه الشخصيّة العظيمة الفذّة بما يجلُّ عن الإحصاء، فقلّ ما تجد كتاباً أو بحثاً عن الشخصيات الإسلامية في التاريخ والتأليف لا يتعرض إلى ذكر الشريف المرتضى رضوان الله تعالى علیه، وإليكم وميض خاطف عن هذا العملاق الكبير والعبقري الفذ في العلوم والمعارف.
ولد في رجب سنة 355 هـ ق في بغداد، ونسبه الشريف ـ كما سيأتي ـ من طريق الأب يتصل بالإمام موسى الكاظم”عليه السلام” ومن طريق الأم بالإمام زين العابدين علي”عليهما السلام”
وترعرع في بيت العلم والسيادة والشرف، وفاق أقرانه في العلوم والمعارف والفنون، وكان من أفضل تلامذة شيخنا المفيد، وإشتهر في الآفاق بشدة ذكائه وحسن تدبيره، ولقب لبيان عظمته بـ (ذي المجدين) و (علم الهدى) و (الشريف المرتضى) و…
كان في عصره مرجع الطائفة، وإنتهت إليه الزعامة الدينية، وأنّه صاحب المؤلفات والمصنفات القيمة والكثيرة في شتى العلوم والمعارف، وله مجموعة كبيرة متزاحمة من الثقافات والمعارف الإسلامية، فإنّ له آثاراً ممتازة في التفسير والكلام والعقائد والفقه وأصوله والأدب والشعر والجدل وغيرها من العلوم والفنون المتداولة في زمانه.
وُلد له محمد وكان من فضلاء عصره وصلّى على جنازة أبيه، كما ولد له بنتاً، وقیل: له ثلاث بنات مات منهن إثنان في حياة والدهما، والأخرى تروي نهج البلاغة عن عمّها الشريف الرّضي.
فضائله وأوصافه:
كان السيد المرتضى القمة الشامخة في الفقه الجعفري، وفي طليعة الذين كانت لهم مساعي كبيرة في تطوير الفقه وإخضاعه للقواعد الأصولية في طريق الإستنباط بعد ما كان من قبله في دائرة الرواية والحديث غير مركوز على أسس الإستدلال والتعمق الأصولي، ومن بعده فتح باباً كبيراً في الأصول، وكَتب في ذلك جملة من المؤلفات الأصولية، كالذريعة في علم اصول الشريعة، ومسائل الخلاف في أصول الفقه، ومسائل منفردات في أصول الفقه، وإبطال القياس، وكذلك كتاباته في الفقه فضلاً عن علم الكلام والتفسير والأدب وأجوبة المسائل وغيرها.
وقد أطراه ومدحه كل من كتب عنه فهذا الشيخ الطائفة تلميذه الشيخ الطوسي يقول في حق أُستاذه: متوحّد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدّم في العلوم، مثل علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب والنحو والشعر ومعاني الشعر واللغة (الفهرست: 219). جامع للعلوم كلّها، مدّ الله في عمره (الرجال: 485).
وقال النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانيه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً وشاعراً، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا. (رجال النجاشي: 206).
وقال إبن داود في رجاله: أفضل أهل زمانه، وسيد فقهاء عصره، حال فضله وتصانيفه شهير (قدس الله روحه) (رجال إبن داود: 241).
وقال السيد إبن زهرة في غاية الإختصار: (علم الهدى الفقيه، سيد الشيعة وإمامهم، فقيه أهل البيت، العالم المتكلم البعيد، الشاعر المجيد، كان له برّ وصدقة وتفقد في السّر، عُرف ذلك بعد موته ـ رحمه الله ـ كان أحسن من أخيه، ولم يُرَ أخوان مثلهما شرفاً وفضلاً ونُبلاً وجلالة ورئاسة وتحابباً وتوادداً، لما مات الرضي لم يصلِّ المرتضى عليه عجزاً عن مشاهدة جنازته وتهالكاً في الحزن) (غاية الإختصار: 76).
وقال السيد بحر العلوم في كتاب رجاله: ذو المجدين وصاحب الفخرين والرياستين، والمروج لدين جدّه سيد الثقلين في المأة الرابعة على منهاج الأئمة المصطفين، سيد علماء الأمة، وأفضل الناس حاشا الأئمة، جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، وحاز من الفضائل ما توحّد به وإنفرد، وأجمع على فضله المخالف والمؤالف، وإعترف بتقدمه كل سالف وخالف، كيف لا؟ وقد أخذ من المجد طرفيه وإكتسى بثوبيه وتردّى ببرديه..) رجال السيد بحر العلوم: 3: 87 ـ 88).
هذا وقد شهد بفضله علماء العامة أيضاً. قال في لسان الميزان: هو أول من جعل داره دار العلم وقدرها للمناظرة، ويقال: أنه أمرؤ لم يبلغ العشرين، وكان قد حصل على رئاسة الدنيا، العلم مع العمل الكثير في اليسير، والمواظبة على تلاوة القرآن وقيام الليل وإفادة العلم، وكان لا يؤثر على العلم شيئاً، مع البلاغة وفصاحة اللّهجة. (لسان الميزان: 4: 224).
وقال في وفيات الأعيان: كان نقيب الطالبين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر. (وفيات الأعيان: 3: 3).
كما جاء ثنائه ومدحه في تتميم يتيمة الدهر (1: 53) وفي مرآة الجنان (ص56) وفي صحاح الأخبار (ص61) ودمية القصر (75) وفي رياض العلماء: 4: 20) وفي عمدة الطالب: 205) وغيرهم الكثير من الخاصة والعامة.
وفي وجه تلقّبه بعلم الهدى، ذكر الشهيد في أربعينيته قال: نقلت من خطّ السيد العالم صفي الدين محمد بن محمد الموسوي بالمشهد المقدس الكاظمي في سبب تسمية السيد المرتضى بـ (عالم الهدى) إنه مرض الوزير أبو سعيد محمد بن الحسين بن عبد الصمد في سنة عشرين وأربعمأة، فرأى في منامه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول له: قل لعلم الهدى يقرأ عليك حتى تبرأ، فقال: يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ فقال(عليه السلام): علي بن الحسين الموسوي.
فكتب إليه الوزير بذلك، فقال: الله الله في أمري، فإنّ قبولي لهذا اللّقب شناعة عليّ، فقال الوزير: والله ما كتبت إليك إلّا بما لقبّك به جدك أمير المؤمنين(عليه السلام).
فعلم القادر الخليفة بذلك، فكتب إلى المرتضى: يا علي تقبّل ما لقبّك به جدك، فقبل وأسمع الناس. (روضات الجنات: 1: 295 ـ 296).
وفسّره معنى (علم الهدى) في الرياض قال: ولعلّ (علم الهدى) بالتخفيف بمعنى راية الهدى أو الجبل العالي للهداية، وقد يقال: إنّه بالتشديد، وقد كان فعلاً ماضياً من باب التفعيل، والهدى مفعوله، يعني هو قد علّم أبواب الهداية للناس.
وكلاهما محتمل وإن كان الأول أظهر وأشهر (رسائل الشريف المرتضى: 1: 29).
مشايخه وتلامذته، ومؤلفاته
وقد ذكر من ترجمة السيد المرتضى علم الهدى ومشايخه وتلامذته، وكذلك مؤلفاته ومصنفاته، فقد تجاوزت جهود الفرد الواحد، وأنها تُنبئك بتفوقه وإضطلاعه وتبّحره بجوانب المعرفة الشاملة، ومن بينها مؤلفات مشهورة قيمة لا تزال معيناً لا ينضب للعلماء والفضلاء إلى يومنا الحاضر، وقد أشار صاحب الذريعة في مجلدات ذريعته إلى (117) كتاباً ورسالة. كالآمالي في التفسير والإنتصار في إنفردات الإمامية والإنصاف وإنقاذ البشر من الجبر والقدر والرسالة الباهرة في العترة الطاهرة وتقريب الأصول في علم الكلام وتنزيه الأنبياء والأئمة والثمانين وجمل العلم والعمل وجوابات المسائل والذخيرة في علم الكلام والذريعة إلى أصول الشريعة والشافي في الإمامة وإبطال حجج العامة، والمحكم والمتشابه، والمسائل الناصريات، وغيرها الكثير فراجع.
وفاته
توفي السيد المرتضى علم الهدى في الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة (436 هـ) وسنّه يومئذ ثمانون سنة وثمانية أشهر وعرف بالثمانين، وصلّى عليه إبنه، وتولى غسله أبو الحسين النجاشي مع الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلار بن عبد العزيز كما في رجال النجاشي، ودفن في داره أوّلاً، ثم نقل إلى جوار جدّه الحسين(عليه السلام) ودفن في مشهده المقدّس مع أبيه وأخيه، وقبورهم ظاهرة ومشهورة.
قال في رجال بحر العلوم نقلاً عن كتاب زهرة الرياض وزلال الحياض، بعد أن ذكر نقله إلى مشهد الإمام الحسين(عليه السلام)، قال: وبلغني أن بعض قضاة الاروام وأظنه سنة (942 هـ) نبش قبره رحمه الله فرآه كما هو لم تغير الأرض منه شيئاً، وحكي من رآه أن أثر الحّناء في يديه ولحيته، وقد قيل: إنّ الأرض لا تغيّر أجساد الصالحين.
ثم قال السيد: قلت: الظاهر أنّ قبر السيد وقبر أبيه وأخيه في المحل المعروف بإبراهيم المجاب، وكان إبراهيم هذا هو جدّ المرتضى.
أقول: وله ولأخيه مزار قريب عن حرم جدهّما الإمام الهمام موسى الكاظم عليه السلام إلى يومنا هذا.
فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً، وإنا على دربه لسائرون.
نسبه الشريف:
أما من طرف الأب فإنه يتصل بالإمام الهمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام بخمس وسائط: قال إبن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: فهو أبو الحسين علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم إبن موسى بن جعفر الصادق (عليه السلام):
وكان أبوه نقيب الطالبين وأمير الحاج جليل القدر عظيم المنزلة، محترماً في دولة بني العباس ودولة بني بويه، ولقّب بالطاهر، ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بابويه بالطاهر الأوحد، مما يدل على عظيم منزلته آنذاك، وولي نقابة الطالبين خمس دفعات ومات وهو متقلّدها بعد أن حالفته الأمراض، وذهب بصره في أواخر عمره، وتوفي عن سبع وتسعين سنة.
فكان مولده في سنة أربع وثلثماة وتوفي سنة أربعمأة، وقد رثاه ولده الرّضي أبو الحسن، وأشار إلى عمره الشريف في قصيدة مطلعها:
وسمعك حالية الربيع المرهم
وسقتك ساقية الغمام المرزِمِ
سبع وتسعون اهتبلن لك العِدَا
حتى مضوا وغبرت غير مذَمّمِ
الا بقايا من غبارك أصبحت
غصصاً وأقذاءً لعين أو فَمِ
أن يتبعوا عقبيك في طلب العلا
فالذئب يعسل في طريق الضّيغمِ
ودفن النقيب أبو أحمد أولاً في داره، ثم نقل جثمانه إلى مشهد الإمام الحسين عليه السلام.
وهو الذي كان السفير بين الخلفاء من بني العباس وبين الملوك من بني بويه والأمراء من بني حمدان وغيرهم.
وكان عليه الرحمة مبارك الغُرّة ميمون النقية، مهيباً نبيلاً، ما شرع في إصلاح أمرٍ فاسدٍ إلّا وصلح على يديه وإنتظم بحسن سفارته وبركة همّته، وحسن تدبيره ووساطته (2).
وأما من طرف الأم:
فأمه السيدة فاطمة بنت الحسين الملّقب بالناصر الصغير نقيب العلويين في بغداد بن أحمد بن الحسن الناصر الأصّم الكبير الأطروش وهو من الأئمة الزيدية صاحب الدّيلم، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف علي زين العابدين بن الحسين إبن علي المرتضى ـ أمير المؤمنين ـ بن أبي طالب عليه السلام.
والسيد ناصر الكبير شيخ الطالبين وعالمهم وزاهدهم وأديبهم وشاعرهم، ملك بلاد الديلم والجبل، ويُلقب بالناصر الحق، جرت له حروب عظيمة مع السامانية.
وتوفي بطبرستان سنة أربع وثلثمأة وسنّه تسع وتسعون سنة، وإنتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني ويلقب بالداعي إلى الحق (3).
وهي أمّ أخيه الشريف الرضي جامع نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي عليه السلام.
فالشريفان العَلَمان المرتضى والرضي قدس سرهما ينتسبان إلى الإمامين موسى الكاظم أباً وإلى زين العابدين عليهم السلام أُمّاً.
وأنهما مفخرة الشيعة الإمامية الإثني عشرية، كما هما مفخرة الشيعة الزيّدية، حتى من الزيدية من يذهب إلى أن الشريف الرّضي منهم، ولجلالة قدره كل يدّعي به.طوائف يسيرة من أهل الجهات.
(الهوامش)
1. دراسة مختصرة حول كتاب (الناصريات) للعلمين السيد المرتضى علم الهدى من أعلام المذهب إلامامي الجعفري الإثني عشري في القرن الرابع والخامس الهجري والناصر الكبير من أئمة الزيدية في القرن الثالث للهجرة قدّمت للمؤتمر العالمي لألفيّة السيد المرتضى المنعقد في العتبة الكاظمية المقدسة (4 ـ 5 رجب 1436) العراق ـ الكاظمية المقدسة.
2. شرح بن أبي الحديد: 1: 3 ـ 33.
3. شرح بن أبي الحديد: 1: 3 ـ 33.
حمل الکتابین