الاجتهاد: تناول المقال دور زيارة الأربعين المليونية في عملية الإصلاح الفردي والاجتماعي، وذلك في اثني عشر محوراً، استعرض الكاتب فيها أهمّية الزيارة مشياً، والروايات في ذلك، ودور المشي في البناء المعنوي لشخصية المؤمن.
ثمّ تطرّق الشيخ محمد رضا الساعدي إلى الممارسات الاقتصادية المنضبطة في الزيارة، التي تنعكس على حياة الفرد والمجتمع.
كما بيّن أهمّية الزيارة في الإصلاح التعبوي والاجتماعي، وما يعكسه ذلك التجمّع المليوني من مظاهر قوّة ووحدة وتماسك لدى الجمهور الحسيني، وكذلك دور الزيارة في الإصلاح الفكري والعلمي، باعتبارها فرصة لتبليغ وترويج التعاليم الدينية، وكذلك دورها في الإصلاح الأمني، وأنّها تؤسّس لنظام أمني مركّز.
بعد ذلك استعرض المعطيات الأخلاقية لزيارة الأربعين، كالصبر، والتواضع، والإيثار، وغيرها، وذكر جملة من الروايات في ذلك، ثمّ بيّن أهمّية الزيارة في بناء الشاب المضحّي والمقاوم، وأنّ الزيارة هي الرافد الأساسي لبناء جيش الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
كما تطرّق إلى المنجزات الإعلامية التي تتحقّق في زيارة الأربعين، ومنها: منجزات عددية، ونوعية، ودولية، وحضارية، وتعارفية، وغيرها.
ثم عرض صوراً عن التكافل والإيثار المتجسّدَين في زيارة الأربعين، كالإيثار بالطعام، والفراش، والمبيت، وغيرها.
ثمّ ذكر دور زيارة الأربعين في البناء السياسي، وأنّها خير وسيلة لخلق إرادة سياسية للتغيير والخروج على الظالمين.
وفي المحور الأخير بيّن دور المسيرة الأربعينية في توطين النفس والجسد على تحمّل المشاقّ والمتاعب؛ من أجل الثبات على المبدأ الذي رسمه أهل البيت عليهم السلام
قراءة المقال
مقدّمة [1] كانت وما زالت الثورة الحسينية ثورة الإصلاح الأكبر، ليس عند أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل عند أحرار العالم أجمع، فمع مرور ما يقارب أربعة عشر قرناً ما زالت شعلتها الوقّادة تلتهب في قلوب المؤمنين خاصّة والأحرار عامّة، وما زالت التضحية التي رسمها الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه في عاشوراء، تُنير درب الثوّار وتشحذ الهمم في كلّ بقاع الأرض، فكان الجود بالنفس سمة النصر الحسيني، وأصبح هذا الدم الطاهر مادّة السِّقاء لشجرة التحرّر والفداء والتضحية من أجل العدل والإصلاح والنهوض والإباء. ومن عظمة هذه الثورة، أنّها أوجدت مظاهر وشعائر أضافت إصلاحاً وتوعيةً إلى الإصلاح الذي أوجدته أصل الثورة، وهذا ما لا نجده في غيرها. وكان عنصر الخلود والتجدّد والمعاصرة ممّا امتازت به ثورة الحسين عليه السلام، كما ورد في الرواية عن جدّه العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»[2]. وبعد أن انحرفت الأُمّة عن مسارها الصحيح أراد الحسين عليه السلام بدمه ومهجته أن يوقظها ممّا هي عليه، فصَدَع بمقولته المشهورة: «وأنّي لَمْ أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُريدُ أن آمُر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومَن ردّ عليّ هذا، أصبر حتّى يقضي الله بَيْنِي وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين»[3]. وهذا الإصلاح الذي استهدفه الإمام الحسين عليه السلام هو الإصلاح العام الشامل لكلّ النواحي، سواء كانت دينية، أو فكرية، أو أيديولوجية، أو تربوية، أو سياسية. فهو لم يستهدف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الممارسات الفردية فحسب، بل استهدف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجماعي أيضاً، فكما أنّ هناك منكراً فردياً ومعروفاً فردياً، كذلك هناك منكر جماعي ومعروف جماعي، قد تمارسه جماعة سياسية فيكون منكراً سياسياً، أو جماعة اقتصادية فيكون منكراً اقتصادياً، أو جماعة تربوية، أو فكرية، أو إعلامية… وغير ذلك. ونستطيع القول: إنّ العملية الإصلاحية التي كان الحسين عليه السلام يستهدفها ليست إصلاح الأوضاع في زمانه فحسب، بل الإصلاح في كلّ الأزمنة، ولعلّ الإصلاح في كلّ الأزمنة كان هدفه الأساسي؛ لمعرفته عليه السلام أنّ أهل زمانه غير قابلين للإصلاح، وقد أشار إلى هذا المعنى في خطبته: «ويلكم، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمَن أطاعني كان من المرشَدين، ومَن عصاني كان من المهلَكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد مُلئت بطونكم من الحرام، وطُبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟! ألا تسمعون؟!»[4]. إنّ هناك مظاهر عديدة وصوراً متنوّعة للإصلاح في شعائر الحسين عليه السلام، منها: مظهر الخطابة الحسينية، والشعر الحسيني، والزيارة الحسينية وغيرها، ونموذجنا في هذا المقال هو زيارة الأربعين المليونية العالمية المباركة، حيث أصبحت تلك الزيارة مظهراً عالمياً، ورسالة كبرى في الإصلاح بكلّ نواحيه، وهنا نقف بصورة مختصرة على مفردة الإصلاح فحسب، تاركين فوائد الزيارة الأُخرى؛ دفعاً للإطالة والخروج عن هدف البحث، مستعرضين ذلك في عدّة محاور: المحور الأول: الإصلاح المعنوي والروحي من أهم ما يُسهم في الإصلاح الفردي والاجتماعي هو بناء شخصية المؤمن بناءً روحياً ومعنوياً؛ ليكون مؤهّلاً للقيام بوظيفته الشرعية تجاه ربّه ونفسه ومجتمعه، وهناك آليات عديدة لبناء الشخصية الإسلامية عموماً، ولعلّ أهمّ تلك الآليات هو اتخاذ القدوة الحسنة والسير على نهجها، والتزوّد بالعلم والمعرفة وغيرها، وبناء هكذا شخصية يجعل الإنسان قوياً وصبوراً أمام المصاعب والشدائد، ويُوجِد عنده نفساً عزيزة تأبى الذلّ والمسكنة، فيصبح شجاعاً وصادقاً وأميناً، وغير ذلك من الصفات الحميدة. ومن الآليات المهمّة أيضاً هو انتهاج السلوك العبادي، واتخاذه وسيلة للتقرّب إلى الله، وبناء الملَكَات والفضائل النفسانية، وكسر الشهوات ومحو الرذائل، فالصلاة ـ مثلاً ـ لها آثار معنوية كبيرة كما صرّحت الآيات والروايات، فهي حصانة للإنسان من الوقوع في الفحشاء والمنكر، قال تعالى: ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)[5]، وهي وسيلة يتقرّب بها العبد إلى الساحة الإلهية، ويبتعد بها عن الخطط الشيطانية، كما جاء في الحديث: «الصلاة قربان كلّ تقي»[6]، وهي سبيل للعروج إلى الربّ، فقد ورد: «الصلاة ميزان أُمّتي»[7]، إلى غير ذلك من الآثار. وهكذا الصوم، والحج، والجهاد، وأداء الحقوق الشرعية، وغيرها، كلّ له آثاره في بناء شخصية الإنسان المؤمن وتربيتها تربية إسلامية. وزيارة الأربعين ـ وبالخصوص مشياً ـ تمثّل ممارسة عبادية متنوعة وطويلة الأمد ـ زماناً ومسافة ـ وتشابه إلى حدّ ما موسم الحج، من حيث التنوّع العبادي، والجهد المعنوي، والتعبوي، فتُمارس فيها مجموعة من العبادات كالزيارة، والصلاة ـ خصوصاً صلاة الجماعة ـ والتسبيح، والوعظ والإرشاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء، والمشي ـ بناء على كونه عبادة كما هو الصحيح ـ وغيرها. وهذه الممارسات العبادية المتنوعة، خصوصاً عند تكرارها، تخلق جوّاً روحياً عالياً من خلال ما يحصده المؤمن من الأجر والثواب، لا سيّما وأنّه يتحمّل متاعب المشي، والحرّ والبرد، وتورّم الأقدام، وغير ذلك من المصاعب، كما كان يتحمّل الجوع والخوف في زمن الطغاة. وهذا يخلق شخصية دينية صلبة الإيمان تكون مؤهّلة لممارسة دورها الشرعي. بعض روايات المشي وثوابه وردت روايات مستفيضة، بل متواترة وصحيحة، في المشي وأهمّيته العبادية، منها: 1 ـ عن أبي الصامت، قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «مَن أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلّ خُطوةٍ ألف حسنةٍ، ومحا عنه ألف سيئةٍ، ورفع له ألف درجةٍ…»[8]. 2ـ عن علي بن ميمون الصائغ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «يا عليّ، زُر الحسين ولا تدعه. قال: قلت: ما لـمَن أتاه من الثواب؟ قال: مَن أتاه ماشياً كتب الله له بكلّ خُطوةٍ حسنة، ومحا عنه سيئة، ورفع له درجة، فإذا أتاه وكّل الله به ملكين يكتبان ما خرج من فيه من خير، ولا يكتبان ما يخرج من فيه من شرٍّ ولا غير ذلك، فإذا انصرف ودّعوه وقالوا: يا وليّ الله، مغفوراً لك أنت من حزب الله، وحزب رسوله، وحزب أهل بيت رسوله، والله، لا ترى النار بعينك أبداً ولا تراك، ولا تطعمك أبداً»[9]. 3ـ عن بشير الدهان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ الرجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السلام، فله إذا خرج من أهله بأوّل خُطوةٍ مغفرة ذنوبه، ثمّ لم يزل يُقدّس بكلّ خُطوةٍ حتّى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله تعالى، فقال: عبدي، سلني أُعطك، اُدعني أُجبك، اُطلب منّي أُعطك، سلني حاجةً أقضها»[10]. وغير ذلك من الروايات، وهي واضحة في دور المشي لزيارة الحسين عليه السلام في البناء المعنوي وتحصيل الأجر الرافع للدرجات، وهو ممّا يحتاج إليه كلّ مؤمن لتحقيق سعادة الدارين. المحور الثاني: الإصلاح الاقتصادي إنّ القوّة الاقتصادية وتأمين الوضع المالي واحدة من أهمّ مقوّمات نجاح الأُمم والحركات بعد الموارد البشرية، وكذلك معرفة كيفية إدارة المال، وعدم الإسراف والتبذير، وحُسن الاقتصاد بالصرف يُشكّل دعامة اقتصادية أُخرى. فالمال له أهمية كبيرة في بناء الفرد والمجتمع، ودور مهم في خلق حياة سعيدة وأُسرة صالحة وحياة آمنة، فيما إذا أحسن الإنسان التصرّف به، وإلّا فيمكن أن يكون وبالاً على صاحبه، فهو سلاح ذو حدّين. والقرآن في اللحظة التي يُبيّن فيها أنّ المال زينة في قوله}: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[11]، يُبيّن كذلك أنّه فتنة، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[12]، فهو زينة فيما لو صانه الإنسان ووضعه في موضعه، واتخذه وسيلة للآخرة، وكفى به نفسه وعياله ومجتمعه وأُمّته الإسلامية، وقضى حوائجهم، وهو فتنة وعذاب إذا ما ضيّعه وبذّره، وجعله وسيلة للدنيا، والشهوة والحرام، وانتهاك الأعراض، وقتل النفوس. وقد بيّنت الروايات هذه الحقيقة، ومدحت المال مع الدّين، وذمّت المال إذا كان وسيلة للعصيان، ووازنت بين النظرتين[13]. ومن الممارسات الإيجابية في مجال المال والاقتصاد هو ما تقوم به جموع المؤمنين من توظيف القدرة المالية في إحياء هذه المناسبة، من خلال الصرف المالي على المواكب وإطعام ملايين الزائرين، وهو عمل يكشف عن قدرة اقتصادية كامنة في الأُمّة الحسينية، فلا ميزانية مالية، ولا دعم دولة ولا حزب، وإنّما هو تمويل من جمهور الحسين عليه السلام لزوّاره، وهذا التمويل الهائل ما هو إلّا ممارسة وتدريب اقتصادي على الصرف المالي المنضبط الذي يمارسه الحسينيون؛ لتحقيق الإصلاح الاقتصادي في الحياة الفردية والاجتماعية، ولم تكن هذه الممارسة والاستعداد للصرف، بل الصرف الفعلي، لولا هذه الزيارة المباركة، خصوصاً وأنّ بعض المؤمنين يقاسم زوّار الحسين عليه السلام قوت عياله ومؤونته السنوية، بل بعضهم يبيع بيته أو سيارته ويشتري ما هو أقلّ من قيمتها إذا لم يكفِ ما جمعه للموسم. فهكذا عمل يصدر من هكذا جمهور حسيني يمكن أن يؤهّله لتكوين مجتمع ملتزم وواعٍ، ويقوده إلى بَرّ الأمان، ويبني له اقتصاداً رصيناً يتكفّل بسدّ حاجة الأُمّة. المحور الثالث: الإصلاح التعبوي من المفاهيم المهمّة في عالم الدعوة واستقطاب الجماهير والأنصار هو مفهوم التعبئة، وهو عبارة عن قوّة شعبية كامنة أو ظاهرة، لها حضورها في كلّ نواحي الحياة؛ لخدمة الوطن أو المواطن، وهي على أنواع: فقد تكون تعبئة عسكرية، أو إعلامية، أو اجتماعية، وغير ذلك، ومن أهم أنواعها هي التعبئة الاجتماعية، وهي: «تحريك واستنفار المجتمع بكلّ قطاعاته للمشاركة الإيجابية؛ لتحقيق الأهداف المطلوبة. لا بدّ أن تشمل التعبئة الاجتماعية جميع قطاعات المجتمع، من المسؤولين الرسميين والسياسيين، قادة الرأي، القادة المحلّيين، وجموع المواطنين»[14]. وهذا ما يحصل فعلاً في زيارة الأربعين، فإنّ هناك تعبئة جماهيرية عامّة؛ لتحقيق هدف ديني مهم في حياة الفرد والمجتمع. إنّ من أهم ما تحتاج إليه كلّ دعوة، سماوية كانت أم أرضية، هو وجود قوّة معنوية أو مادّية، أو شخصية قيادية تمتلك (كاريزما) عالية، تستطيع أن تخلق جمهوراً وأتباعاً من خلال التعبئة الجماهيرية الواسعة التي تُقدّم الولاء والخدمة مجّاناً وبلا مقابل. والملاحظ أنّ أيّ جهد في زيارة الأربعين لا يُبذل في التعبئة الجماهيرية، بل إنّ الجمهور مُقبل على الزيارة بلا نظير، وكثير منهم يُنفق أموالاً وجهداً مضاعفاً في تلك الأيّام، ويبتهج بهذا الصرف والجهد. وهذا العمل التطوّعي العظيم لا تجد له نظيراً في كلّ العالم، وهو مفخرة يتميّز بها أتباع آل البيت عليهم السلام، وثمرة من ثمرات النهضة الحسينية الخالدة، فدور زيارة الأربعين في تعبئة المؤمنين لأيّ طارئ واضحة وفعّالة، من خلال الحرارة التي أوجدها مقتل الحسين عليه السلام في قلوبهم. المحور الرابع : الإصلاح الاجتماعي من أبرز ما يُميّز المجتمع الناجح والصالح هو قوّة الترابط الاجتماعي بين أفراده وعملهم مجتمعين؛ لإنجاز مهامهم المناطة بهم، ممّا يُساعد على البناء السليم لجميع مفاصل الحياة الفردية والاجتماعية، ويساعد على أن ينال كلّ فرد فرصته فيها؛ لذا نجد الروايات قد اهتمت كثيراً بالترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ومن هذه الروايات: عن مرازم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحُسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنّه لا بدّ لكم من الناس، إنّ أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لا بدّ لبعضهم من بعض»[15]. وعن حبيب الخثعمي، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز، وعودوا المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدكم، وأحبّوا للناس ما تحبّون لأنفسكم، أَما يستحيي الرجل منكم أن يعرفَ جارُه حقَّه ولا يعرفُ حقَّ جاره»[16]. وعن زيد الشحّام، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «… صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحسُن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور…»[17]. إلى غيرها من الروايات وآداب التعاشر والتواصل الاجتماعي[18]. وبالمقابل فإنّ من أبرز ما يدمّر المجتمع هو كثرة النزاعات والخلافات والتحزّبات، وتحوّله إلى شيع يتلاعب بها الظلمة، يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[19]، وهذه سنّة قائمة يتّخذها الظالمون لإضعاف المجتمع. كما أنّ التنازع سبباً واضحاً لهدر الطاقات وضياع الفرص، والتراجع الفردي والاجتماعي على كلّ المستويات؛ لذا يحرص علماء الاجتماع في البلدان على خلق جوٍّ اجتماعي بين أفراد مجتمعاتهم، بعيداً عن الخلافات والصراعات والشتات، والحرص على خلق روح التعاون والمحبّة، وتقوية الروابط الاجتماعية والأُسرية. والذي يلاحظ الزيارة الأربعينية يرى قوّة الترابط بين أفراد الزائرين، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، أغنياء وفقراء، رؤساء ومرؤوسين، فلا تميّز بين غنيّ أو فقير، ولا بين مشهور أو مغمور، وغيرهم، فالكلّ سواسية، بل في بعض الأحيان تنقلب الموازين، فترى الكبير يخدم الصغير، أو المشهور يخدم المغمور، أو الرئيس يخدم المرؤوس، وهكذا، فيتجلّى الترابط الاجتماعي بأروع الصور، وبأجمل ما يكون؛ وكلّ ذلك نابع من الزيارة الأربعينية المباركة. وهذا الترابط الاجتماعي ليس بين أفراد المدن والدول فحسب، بل بين الشعوب أيضاً، فهناك جماهير من عشرات الدول تلتقي فيما بينها، فتكون زيارة الأربعين سبباً في خلق أواصر ووشائج قوية بين الشعوب. إضافة إلى ذلك، هناك حواجز اجتماعية ونفسية وثقافية بين شعوب بعض البلدان بسبب حروب أو غيرها، نراها تضمحلّ وتذوب بسبب هذا الملتقى العام في زيارة الأربعين، فزيارة الأربعين تجعل الترابط الاجتماعي ليس بين أبناء بلد ما فحسب، بل بين الشعوب والبلدان الأُخرى؛ ممّا يُعزّز خلق نسيج اجتماعي كبير، يربط دولاً وشعوباً فيما بينها، على الرغم من اختلافها باللغة، أو اللون، أو الثقافة، أو غيرها؛ لخلق مجتمع صالح ومصلح. وتمتاز زيارة الأربعين بكونها عاملاً مساعداً على إلغاء الطبقية، والقطرية، والعرقية، والقومية والعنصرية، وأنّها تعمّق الوجود التعارفي الذي عُبِّر عنه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )[20]، وكذلك هي فرصة كبيرة للانفتاح الحضاري بين أُمّة الإيمان، ومجال للحوار على أُسس دينية تمهّد لظهور الإمام الحجة عليه السلام وعالمية دعوته. المحور الخامس: البناء الفكري والعلمي إنّ تحصين الأُمة فكرياً وعلمياً يُعدّ من الواجبات التي تقع على عاتق المؤسّسات الدينية، ولعلّ تسويق المعلومة إلى الجمهور يُعدّ من أهم المشاكل التي تواجه المُبلّغ؛ لذا يجب علينا استثمار المواسم التي يسهل فيها تسويق المعلومات إلى الجمهور، والمتابع لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت عليهم السلام يرى أنّهم يدأبون على استثمار المواسم العبادية لإيصال صوتهم إلى الجماهير، كما في مواسم الحج والعمرة، وصلاة العيد، والجمعة والجماعة، والمجالس والمآتم الحسينية، فكانت لهم خطب وكلمات ومواقف في تلك المواسم سجلّها التاريخ، ونقلتها الأحاديث، فشعائر الحسين عليه السلام عموماً وزيارة الأربعين خصوصاً من أهم الوسائل لتسويق المعلومات الدينية إلى الجمهور في هذه الأيّام. إنّ خلق مجتمع مُتعلّم على سبيل النجاة يُعدّ من أبرز ركائز البناء الديني للفرد والمجتمع، بل هو قوام للدين والدنيا، كما ورد عن أمير المؤمنين: «قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم…»[21]. ومن جملة البناء الديني المهم للمؤمن هو بناؤه على كافة الصُّعد، عقيدةً وفقهاً وأخلاقاً؛ وذلك من خلال استثمار ذلك الموسم لتبليغ تلك العلوم للناس، وتعريفهم بتفاصيلها، وتحصينهم فكرياً ضدّ الدجّالين والمدّعين والمشوّهين؛ فيكون موسم الزيارة موسم تبليغ وترويج وتطبيق للدين والتديّن، ويقع هذا التبليغ على عاتق الجميع، خصوصاً أهل التخصّص الديني، من خلال إلقاء المحاضرات والإرشادات والنشرات والكتب وغيرها. المحور السادس: الإصلاح الأمني تشكّل الحصانة الأمنية للشعوب والدول ركيزة أساسية في البناء السليم لها ودفع المخاطر عنها؛ لذلك تقاس قوّة الدول وقدرتها على مقاومة المخاطر بقوّة نظامها الأمني العام. إنّ التحصين الأمني يُعدّ اليوم من أهم مقوّمات النجاح لأيّ حركةٍ تُريد الإصلاح والتغيير، وهذا التحصين الأمني لا ينفع كثيراً إذا لم يخرج من النظرية إلى التطبيق، فلا يُكتفى بمعرفة البناء الأمني والمباني الأمنية من دون أن تحوّل تلك المعرفة إلى تطبيق عملي على أرض الواقع. وقد أسّس آل البيت عليهم السلام نظاماً أمنياً كبيراً ـ يستحقّ دراسات مستقلّة ـ في كيفية التعامل مع الصديق والعدو، ولعلّ من أهم مصادره روايات التقيّة[22]، وروايات كشف الأسرار والإذاعة[23]، فهي تؤسّس لنظام أمني محكم في التعامل العام وكيفية تحصين الأُمّة المؤمنة. وزيارة الأربعين هي بناء وتدريب أمني معمّق لعموم المكلّفين، وبالأخص لأصحاب المسؤولية في المواكب والزيارة، فهم يعملون على عدم السماح بالاختراق لأيّ شخصٍ غريبٍ أو غير معروفٍ، سواء داخل الموكب أم أثناء المسير، أم ممَّن يوزّع الطعام أو غير ذلك من الخدمات، حتّى مَن يُشتبه به، فإنّه يبقى تحت المراقبة والاختبار، حتّى يُرفع اللبس عنه، ويتبيّن أمره، ويُلاحظ ذلك بشكل كبير، خصوصاً ممّن لهم تجربة كأصحاب المواكب والخدمات والزائرين، فإنّهم يلاحظون حركات وتصرّفات وسكنات الزائر وتوجّهاته، وحتى كلامه ومواقفه، ويسهرون إلى الصباح للحفاظ على أمنه وممتلكاته وحرمته، ويحرصون على أمن الزائرات المؤمنات؛ لذا تجد أنّ المرأة تعيش أيّام الزيارة حالة من الأمن والطمأنينة، فلا تخاف على نفسها، ولا على مالها، ولا على حياتها، ما دامت سائرة في هذا الطريق المبارك. وهذا كلّه بفضل النظام الأمني المتقن الذي توجده زيارة الأربعين، وهو يفوق كلّ الأنظمة الأمنية في العالم حتّى في الدول العظمى. إذن؛ هذا البناء العملي الأمني يُعطينا دروساً عمليةً تنفعنا كثيراً في مجالات الحياة والإصلاح. المحور السابع: الإصلاح الأخلاقي من أهم المبادئ التي ركّز عليها التشريع، هو خلق ملكات أخلاقية وصفات نفسانية في الفرد والمجتمع، وقد دأب المشرّع على التنظير لذلك بعشرات الآيات ومئات الروايات من جهة، ومن جهة أُخرى أرسل الأنبياء والرسل لحثّ الناس على العمل بمكارم الأخلاق. وزيارة الأربعين تُعتبر من الدروس الأخلاقية العملية، التي تُكوّن في أنفسنا الملكات الأخلاقية من جهة، وتكشف عن تجسيد تلك الملكات وانعكاسها على أفعالنا وتعاملنا مع الآخرين من جهة أُخرى، ففي زيارة الحسين عليه السلام مشياً على الأقدام عدّة معطيات أخلاقية نذكرها إجمالاً: 1ـ الصبر: فإنّه قيمة أخلاقية عالية أكّدتها الآيات والروايات، وإليك جملة منها: أمّا الآيات فكما في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [24]. أمّا الروایات، فمنها: ما عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «… الصبر يُعقب خيراً، فاصبروا ووطِّنُوا أنفسكم على الصبر تُوجروا»[25]. وعن حمزة بن حمران، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمَن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار»[26]. وعن أبي سيّار، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مُطلٌّ عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونَكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه»[27]. فتبيّن أنّ الصبر له قيمة معنوية عالية، وأثرٌ بالغ في الدنيا، وأجرٌ عظيم في الآخرة، والمشي لزيارة الأربعين وتحمّل الصعاب وعناء السفر لهو من المصاديق الواضحة للصبر، خصوصاً المشي من أماكن بعيدة، مع كثرة الزحام والابتلاءات. إذن؛ زيارة الأربعين تعطينا دروساً عملية في الصبر وتحمّل الأذى والجوع والألم وغير ذلك؛ ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى. 2ـ التواضع: وهو سمة من سمات وفضائل المؤمن، إذ يقع في قبال رذيلة التكبّر، وقد وقع التواضع موضوعاً للمدح في العديد من الآيات والروايات. فمن الآیات قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[28]، وقوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[29]. ومن الروايات نذكر ما جاء في مستدرك الوسائل عن مصباح الشريعة، قال الصادق عليه السلام: «التواضع أصل كلّ شرفٍ، وخيرٍ، ونفيسٍ، ومرتبةٍ رفيعةٍ، ولوكان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيّات العواقب، والتواضع ما يكون لله، وفي الله، وما سواه مكر، ومَن تواضع لله شرّفه الله على كثيرٍ من عباده، ولأهل التواضعِ سيماء يعرفها أهل السماوات من الملائكة، وأهل الأرض من العارفين، قال الله}: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)، وقال أيضاً: (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ) الآية. وأصل التواضع من إجلال الله وهيبته وعظمته، وليس لله} عبادة يقبلها ويرضاها إلّا وبابها التواضع، ولا يعرف ما في معنى حقيقة التواضع إلّا المقرّبون من عباده، المتّصلون بوحدانيّته، قال الله}: (وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، وقد أمر الله} أعزّ خلقه وسيّد بريّته محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالتواضع، فقال}: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، والتواضع مزرعة الخشوع والخضوع والخشية والحياء، وإنّهن لا ينبتن إلّا منها وفيها، ولا يسلم الشوق التام الحقيقي إلّا للمتواضع في ذات الله تبارك وتعالى»[30]. ويطبّق الإنسان ـ أثناء المشي إلى كربلاء ـ تمارين في التواضع والبساطة، فيبيت على فراش غير لائق، أو يأكل الشيء القليل، أو يمشي في الطرق الوعرة، أو يخدم غيره من الزوار، أو يبتدأ بالسلام على مَن يلاقيه، وهذه كلّها من علامات التواضع، ففي (مشكاة الأنوار) روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «من رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على مَن لقيت، وتردّ على مَن سلّم عليك، وأن ترضى بالدّون من المجلس، ولا تُحبّ المدحة والتزكية»[31]. كما أنّ ما يقدّمه أصحاب المواكب هو من أعظم صور التواضع، فيقومون بفرش الفراش للزوّار، وإطعامهم، والسهر على خدمتهم، وتوفير كلّ ما يحتاجون إليه تواضعاً لله وخدمة لعنوان: (زائر الحسين). 3ـ الإيثار: فإنّ من الكمالات التي تكشف عن رقي الإنسان اتّصافه بالإيثار، وقد جاءت الآيات والروايات مادحة لهذه الصفة. فمن الآيات قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[32]، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[33]. ومن الروایات، ما عن علي بن سويد السائي، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: قلت له: «أوصني. فقال: آمرك بتقوى الله. ثمّ سكت، فشكوت إليه قلّة ذات يدي، وقلت: والله، لقد عريت حتّى بلغ من عريتي أنّ أبا فلان نزع ثوبين كانا عليه وكسانيهما. فقال: صم وتصدّق. قلت: أتصدّق ممّا وصلني به إخواني وإن كان قليلاً؟ قال: تصدّق بما رزقك الله ولو آثرت على نفسك»[34]. وعن أبان بن تغلب، قال: «كنت أطوف مع أبي عبد الله عليه السلام، فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة، فأشار إليّ، فكرهت أن أدع أبا عبد الله عليه السلام وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إليّ أيضاً، فرآه أبو عبد الله عليه السلام، فقال: يا أبان، إيّاك يُريد هذا؟ قلت: نعم. قال: فمَن هو؟ قلت: رجل من أصحابنا. قال: هو على مثل ما أنت عليه. قلت: نعم. قال: فاذهب إليه. قلت: فأقطع الطواف. قال: نعم. قلت: وإن كان طواف الفريضة. قال: نعم. قال: فذهبت معه، ثمّ دخلت عليه بعدُ، فسألته، فقلت: أخبرني عن حقّ المؤمن على المؤمن. فقال: يا أبان، دعه لا تردّه. قلت: بلى جُعلت فداك! فلم أزل أُردّد عليه فقال: يا أبان، تقاسمه شطر مالك. ثمّ نظر إليّ فرأى ما دخلني، فقال: يا أبان، أَما تعلم أنّ الله} قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟ قلت بلى جُعلت فداك. فقال أمّا إذا أنت قاسمته فلم تُؤثره بعدُ، إنّما أنت وهو سواء، إنّما تُؤثره إذا أنت أعطيته من النّصف الآخر»[35]. وفي زيارة الأربعین نجد مصاديق الإيثار واضحة، فإنّ تقديم الآخرين على النفس من أعظم ما يقوم به السائر إلى الحسين عليه السلام، والخادم في موكبه، فيقدّم مصلحة الزائر على مصلحة نفسه، وراحة الزائر على راحة نفسه، ويُنفق من ماله لكي لا ينفق الزائر من ماله، وهكذا يتعلّم من الزيارة درساً عظيماً في الإيثار. 4ـ التضحية: إنّ السائر إلى زيارة الحسين عليه السلام يقدّم الجهد الجهيد والتضحية بماله ووقته وراحته؛ لأجل إحياء هذه الشعيرة، وفي ذلك تطبيع للنفس على التضحية من أجل المبادئ والقيم السامية، وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى ذلك في دعائه لهم: «… اغفر لي ولإخواني، وزوّار قبر أبي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم؛ رغبةً في برِّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا… وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غُربتهم عن أوطانهِم، وما آثرُونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم…»[36]. 5 ـ العفّة: وهي من الصفات التي ركّزت عليها الشريعة في البطن والفرج، بل وصفت العفّة بأنّها من أفضل العبادات، وجاءت النصوص مبيّنة لذلك: فمن القرآن قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)[37]، وقوله تعالى: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)[38] . ومن الروایات ما عن المُفضّل، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «إيّاك والسّفلة، فإنّما شيعة عليّ مَن عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أُولئك فأُولئك شيعة جعفر»[39]. إذا كانت الزيارة تشمل الرجال والنساء، فهنا تبرز العفّة في التعامل مع الجنس الآخر من خلال غضّ البصر، وحفظ اللسان واليد عن التعدّي، والالتزام بالحجاب الشرعي، والتعامل مع الآخر بأنّه من المحارم كما ورد في صحیح صفوان الجمال، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قد عرفتني بعملي تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها، وحبّها إيّاكم، وولايتها لكم، ليس لها محرم. قال: إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإنّ المؤمن محرم المؤمنة، ثمّ تلا هذه الآية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)»[40]؛ لذا ذهب الفقهاء إلى عدم اشتراط المحرم في الحج والزيارة ما دامت المرأة مأمونة على نفسها[41]. 6ـ الشجاعة: إنّ الزيارة تُعلّم الإنسان الشجاعة في اتخاذ الموقف، والصبر على الخوف، وقوّة الإقدام، خصوصاً مع المنع منها كما كان يحصل أيّام النظام السابق، فإنّ فيها توطيناً للنفس على المواجهة والتحدّي للموت والقتل، والسجن والتعذيب، وما هذه إلّا صور رائعة من صور الشجاعة والإقدام في سبيل المبادئ والقيم الدينية؛ لذا وردت الروايات في الحثّ على الزيارة حتّى في مثل هكذا محن وشدائد، منها : 1ـ أجرُ مَن حُبس في طريق الحسين عليه السلام: في الوسائل عن هشام بن سالم، قال: قلت للإمام الصادق عليه السلام: «فما لـمَن حُبس في إتيانه؟ قال: له بكلّ يومٍ يُحبس ويغتمّ فرحة يوم القيامة»[42]. 2ـ أجرُ مَن ضُرب بطريق الحسين عليه السلام: في مستدرك الوسائل في حديث طويل لهشام عن الصادق عليه السلام: «قلت: فإن ضُرب بعد الحبس في إتيانه. قال: له بكلّ ضربةٍ حوراء، وبكلّ وجعٍ يدخل عليه ألف ألف حسنة، ويُمحى بها عنه ألف ألف سيئة»[43]. 3ـ أجر مَن مات في طريق الحسين عليه السلام: في بحار الأنوار: «… فإن هلك في سفره نزلت الملائكة فغسّلته، وفُتح له باب إلى الجنّة يدخل عليه روحها حتّى يُنشر، وإن سلم فُتح الباب الذي ينزل منه رزقه، فجُعل له بكلّ درهمٍ أنفقه عشرة آلاف درهمٍ، وذُخر ذلك له، فإذا حشر قيل له: لك بكلّ درهمٍ عشرة آلاف درهم، وإنّ الله تبارك وتعالى نظر لك، وذخرها لك عنده»[44]. 4ـ أجر مَن قُتل في طريق الحسين عليه السلام: «حدّثنا هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديثٍ له طويل، قال: أتاه رجل، فقال له: يابن رسول الله، هل يُزار والدك؟ قال: فقال: نعم. إلى أن قال: قلت: فما لـمَنْ قُتل عنده جار عليه سُلطان فقتله. قال: أوّل قطرةٍ من دمه يُغفر له بها كلّ خطيئة، وتُغسل طينته التي منها خُلق الملائكة، حتّى تخلُص كما خلصت للأنبياء المخلَصين، ويذهب عنها ما كان خالطها من أجناس طين أهل الكفر، ويُغسل قلبه، ويُشرح صدره، ويُملأُ إيماناً، فيلقى الله وهو مُخلَصٌ من كلّ ما تُخالطه الأبدان والقلوب»[45]. وهذه بمثابة مراكز تدريب ميدانية على الشجاعة والإقدام، وعدم التهيّب من الأعداء والطغاة، فتكون من أهم وسائل الإعداد الجهادي لأنصار الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف. 7 ـ الموالاة والبراءة: من المفاهيم العقائدية التي أكّدها آل البيت عليهم السلام في نفوس أتباعهم، هو مفهوم الولاء لأولياء الله، والبراءة من أعدائهم، وهذان المفهومان لهما تأثير على المستوى العقدي، فلا إيمان حقيقي إلّا بهما، وعلى المستوى العملي لا قبول ـ بل لا صحّة للعمل ـ إلّا بهما، وهذا ما أشار له الكثير من الآيات والروايات . فمن الآيات، قوله تعالى: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…)[46]، وقوله تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّـهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً…)[47]. ومن الروايات: عن سعيد الأعرج، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «من أوثق عُرى الإيمان أن تُحبّ في الله، وتُبغض في الله، وتُعطي في الله، وتمنع في الله»[48]. وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:«كلّ مَن لم يُحبّ على الدين، ولم يُبغض على الدين، فلا دين له»[49]. وعن أبي محمد العسكري، عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله، أحبب في الله، وأبغض في الله، ووالِ في الله، وعادِ في الله، فإنّه لا تنال ولاية الله إلّا بذلك، ولا يجد رجلٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتّى يكون كذلك، وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها على الدنيا، عليها يتوادّون وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً. فقال الرجل: يا رسول الله، كيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله، ومَن وليّ الله} حتّى أُواليه، ومَن عدوّه حتّى أُعاديه؟ فأشار له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي عليه السلام، فقال: أَلا ترى هذا؟ قال: بلى. قال: وليّ هذا وليّ الله، فواله، وعدوّ هذا عدوّ الله فعادِه، والِ وليّ هذا، ولو أنّه قاتل أبيك وولدك، وعادِ عدوّه، ولو أنّه أبوك أو ولدك»[50]. وزيارة الأربعين مصداق واضح لتقوية الولاء لآل البيت عليهم السلام، والبراءة من أعدائهم، خصوصاً إذا اكتنفتها الشعارات الدالة على ذلك، ممّا يعزّز العنصرين المهمّين في عقيدة الإنسان الحقّة، وعمله المقبول، وهذا التولّي والتبرّي يفعله زوّار الحسين عليه السلام من خلال إحياء الشعائر التي يمارسونها في شعيرة الأربعين؛ استجابة لأمر آل البيت عليهم السلام، وغيظاً لأعدائهم، وقد أشارت الروايات لذلك، منها: ما تقدّم قبل قليل، من قول الإمام الصادق عليه السلام: «… اغفر لي ولإخواني، وزوّار قبر أبي الحسين الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم؛ رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا…» [51]. وفي هذه الصور الولائية البرائية عدّة أُمور: أـ إيصال رسالة إلى العالم أجمع بأنّنا سائرون على هذا النهج الذي رسمه آل البيت عليهم السلام، خصوصاً الإمام الحسين عليه السلام، في رفض الظلم، والدفاع عن عقيدة الأُمّة وإصلاحها، ولو كلّف ذلك حياتنا. ب ـ إيصال رسالة بأنّنا رافضون للنهج التكفيري والأُموي، المستبيح للنفوس والأعراض والأموال؛ لأغراض سلطوية ودنيوية، وأنّ هذا النهج لا بدّ أن يُحارب؛ كي لا يتكرّر في التاريخ. ج ـ إيصال رسالة للعالم بأنّ مذهب آل البيت عليهم السلام هو مذهب الاعتدال والإنسانية والإصلاح، وأنّ معيار موالاة أهل طاعة الله وبغض أهل معصية الله وسيلةٌ لإصلاح العباد والبلاد، وردعٌ للظالمين، وتقويةٌ للمؤمنين، وأنّ الناس لا تقاس على أساس العِرق، أو اللون، أو القرابة، وإنّما على أساس الإيمان والتقوى والولاء لله وأوليائه، والبراءة من الشيطان وأتباعه من الجنّ والإنس. 8 ـ التدرّب على التعايش السلمي مع الآخر: من أهم الإشكاليات التي تواجه الأُمم والديانات هو التدرّب على التعايش السلمي مع الآخرين، وكيفية التعامل معهم وعدم إلغائهم فكرياً، أو معنوياً، أو حتّى مادياً، وهذا ما تسعى لتحقيقه المنظّمات الدولية المعنيّة بذلك، وكذلك منظّمات المجتمع المدني، وتجعل برامج لذلك، وتعمل على الحدّ من وقوع الصراعات ونشوء حركات وتوجّهات تدعوا للقتل والتقاتل، كالحركات النازية، أو الشعوبية، أو الوهابية، أو ما تمخّض عنها كـ(داعش، والقاعدة، والنصرة، وأخواتهن). وهذا ما جاء به الدين الحنيف من رسم علاقتك مع الآخر، وإن اختلف معك في المذهب، أو العرق، أو الدين، وذلك على أُسس لا تكفير فيها، ولا قتل، إلّا إذا ابتدأ هو الحرب، أو تعدّى على مقدّساتك ومعتقداتك، بل إنّ الإسلام رسم لنا نمطاً في التعاطي مع الأعداءً[52]. وأبرز نموذج لذلك هو عهد مالك الأشتر، فقد حدّد أمير المؤمنين مجمل علاقتك بالناس من خلال العهد المبارك، الذي هو برنامج أساسي للعلاقات الداخلية والخارجية، والذي جاء فيه: «وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق مَن ولّاك…»[53]. والزيارة بهذه السعة المليونية تُعتبر موسماً للانفتاح على حضارات ولغات وثقافات العالم؛ وذلك يجعلنا نكتسب خبرة عالية في التعامل مع الآخر حتّى مع اختلافنا معه في اللون، أو القومية، أو الثقافة، أو البلد، أو المذهب، أو الدين. 9ـ إلغاء الطبقية والتعالي والتكبّر: تُعدّ الطبقية بين أفراد المجتمع مرضاً ينسف المجتمعات؛ ممّا يُنتج التعالي والتكبّر واستعباد الآخر بسبب السلطة أو المال أو الجاه، فيحتاج الإنسان إلى ما يكسر جموح النفس، ويضعف هذه الصفات، ولعلّ أهمّ عامل لذلك هو التعاطي العملي والتعايش الميداني مع أفراد المجتمع، وموسم الأربعين إنّما هو درس عملي لإلغاء التكبّر والتعالي، خصوصاً ما يمارسه أصحاب المواكب من إلغاء الذات والتواضع، وتقديم الخدمات بتفانٍ لكلّ الناس، فترى الكبير يخدم الصغير، والغني يخدم الفقير، كما أشرنا إلى ذلك في نقطتي التواضع والإيثار. 10ـ الشعور بالمسؤولية: إنّ من أبرز مقوّمات صناعة الإنسان هو تحمّل المسؤوليات، وكلّما كانت المسؤوليات أكبر كانت الصناعة أقوى؛ لأنّ الابتلاء مدرسة لصناعة العظماء. إنّ أمامنا مسؤولية عظمى نُسأل عنها يوم القيامة، وهي نعيم آل البيت عليهم السلام الذي يجب علينا أداء حقّه، وإبراز الصورة الحقيقية لما هم عليه من أخلاق وقيم ومعارف، ففي رواية المحاسن عن أبي خالد الكابلي قال: «دخلتُ على أبي جعفر عليه السلام، فدعا بالغداء، فأكلتُ معه طعاماً ما أكلتُ قط طعاماً أنظف منه، ولا أطيب منه، فلمّا فرغنا من الطعام قال: يا أبا خالد، كيف رأيت طعامنا؟ قلت: جعلتُ فداك! ما رأيتُ أنظف منه قط، ولا أطيب، ولكنّي ذكرتُ الآية التي في كتاب الله (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)، فقال أبو جعفر عليه السلام: لا، إنّما تُسألون عمّا أنتم عليه من الحقّ»[54]. وفي المحاسن أيضاً، عن أبي حمزة قال: «كُنّا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة، فدعا بطعامٍ ما لنا عهد بمثله لذاذةً وطِيباً، حتّى تملّينا، وأُتينا بتمرٍ يُنظر فيه إلى وجوهنا من صفائه وحُسنه، فقال رجلٌ: ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ )، عن هذا النعيم الذي نُعّمتم عند ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال أبو عبد الله عليه السلام: الله أكرم وأجلّ من أن يُطعمكم طعاماً فيُسوّغكموه، ثمّ يسألكم عنه، ولكنّه أنعم عليكم بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم»[55]. فهذه الزيارة تدعونا إلى تحمّل المسؤولية الدينية في إيصال رسالة عامّة لكلّ العالم، بأنّنا مجتمع يمتلك صفات ومقوّمات حضارية، واجتماعية، وتربوية، وإدارية عالية. إذن؛ فهي فرصة لبيان الإسلام المحمّدي العلوي الناصع، من خلال عكس الصورة الحقيقية للمذهب، لا كما ينقل البعض عن تخلّف الإسلام والمسلمين من خلال عكس صور لأُناس يدّعون انتحالهم للإسلام، مع أنّه بريء منهم، كبعض الحركات السلفية والوهابية، وبعض الدول المتخلّفة دينيّاً وقيميّاً، والمتحللة أخلاقياً وتربوياً. المحور الثامن: الإصلاح العسكري إنّ المؤسّسة العسكرية لا تقاس بقوّة تسليحها فقط، وإنّما الأهم فيها هو وجود الموارد البشرية، خصوصاً الموارد البشرية من الشباب الذين لهم استعداد عالٍ للتضحية والفداء والإباء. وزيارة الأربعين عامل مهم في بناء الشاب المهدوي العسكري المقاوم والمضحّي، ولعلّ تجربة الحشد الشعبي من أكبر الشواهد على ذلك، فإنّ عامل بناء هذه الشخصيات الشابة والمضحّية التي تتحدّى الصعاب، وتواجه أشرس الأعداء مع قلّة العدّة والعدد، هو حضور شخصية الحسين عليه السلام بين ظهرانيها، وتبرز هذه الشخصية في مواسم، منها: موسم الزيارة، فتكون الشخصية الحسينية صانعة لشخصية مقاومة ومجاهدة. فما سطّره الأبطال في ساحات القتال من تضحيات لم يكن وليد اللحظة، بل هو صناعة حسينية لمستقبل مهدوي؛ لذا كانت شعاراتهم في المعركة هي شعارات الحسين، والعباس، والأكبر، و… وتحرّكاتهم وتطلّعاتهم تطلّعات مهدوية ثائرة تمهّد لعصر الظهور، فالتضحية بالنفس والمال والراحة لأجل الغير ولأجل المبدأ والدين والمقدّسات، إنّما هي دروس تعلّمناها من مدرسة الحسين عليه السلام وشعائره، وارتبطت بالموعود، ومستقبل العالم الذي يقوده الإمام المهدي عليه السلام. فهناك جيش عالمي قد تمّ إعداده سابقاً، وخاض التجارب في عدّة دول، ونجح نجاحات باهرة، قد يكون هو نواة لجيش المهدي المنتظر عليه السلام، وزيارة الأربعين تُعدّ رافداً مهمّاً لهذا الجيش القادم الذي يقوده صاحب الأمر نحو تحقيق العدل والقسط والسلام. المحور التاسع: الإصلاح الإعلامي من المعروف لدى القوى السياسية أو غيرها استعراض جماهيرها من خلال مظاهرات، أو تجمّعات، أو احتفالات، أو مناورات، أو غيرها؛ وذلك لإيصال رسالة إلى الآخر بأنّ لنا جماهير، وأنّنا أقوياء، وذلك من باب (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)[56]. والمؤمنون لا بدّ لهم من ذلك التجمّع أيضاً، وأنّ ما يحصل من تجمّع مليوني ليس له نظير، بشكلٍ عفوي، وبتنظيم ذاتي، وتمويل شخصي، هو من أعظم صور الاستعراض الإعلامي للجمهور المؤمن، فالشعيرة الأربعينية ليست عبادة فردية فحسب، بل أصبحت عبادة ذات طابع جماعي كشعائر الحجّ، وصلاة الجمعة، وهذا يمنحها أهمّية كبرى، وثراءً معنوياً، وصدىً إعلامياً، يُوصل رسالة واضحة للجميع بأنّنا حسينيون، وممّهدون، ومؤمنون، وأقوياء، ومُنظّمون، ومُتكافلون، ومُصلحون… وذلك إذا عكسنا بالخصوص الصورة التي أراد لنا آل البيت عليهم السلام أن نعكسها للإنسانية، وبيّنا أنّ الدين الإسلامي هو الخاتم، وأنّ المهدي هو المُخلّص، وأنّه لا نجاة إلّا به؛ وبذلك يمكن أن نحقّق جملة من المنجزات، وهي كالآتي: 1ـ تحقيق منجز عددي، أي: أنّ جماهيرنا مليونية، تزداد كلّ عام، بحيث لا يسع المكان الجمهور. 2ـ تحقيق منجز نوعي، أي: أنّ جماهيرنا مؤمنة وقوية ومخلصة ومطيعة لله تعالى ولرسوله وآله عليهم السلام. 3ـ تحقيق منجز دولي، أي: أنّ زيارتنا دولية، وليست إقليمية أو قطرية؛ إذ يأتيها الناس من كلّ فجٍّ عميق. 4ـ تحقيق منجز حضاري، أي: أنّنا مُنظّمون، مُنسجمون، لا يتعدّى بعضنا على بعض. 5ـ تحقيق منجز تعارفي، بين لغات مختلفة، وثقافات متعددة، وقوميات متنوّعة؛ لتبادل الخبرات، والاطلاع على الهموم والمشاكل، ومعالجة الأوضاع، والشعور بالآخر. المحور العاشر: المحور التكافلي من العناصر المهمّة في الشخصية الممهِّدة للظهور وجود روح التكافل والإيثار في تلك الشخصية، ومن أهم سبل تحقيق هذا البناء هو التدرّب على التكافل، ومساعدة الآخرين، وإيثار راحة الآخرين على راحة النفس، حتّى مع التعب والخصاصة، والمشي في زيارة الأربعين هو موسم تكافلي عظيم؛ حيث إنّ الخدمات تُقدّم مجاناً بلا منّة ولا ضجر، بل بفرحة وبهجة، ولعلّ التكافل الذي يقدّمه أصحاب المواكب من أعظم صور التكافل والخدمة، وهذا واضح بالوجدان لكلّ مَن مشى للزيارة، فإنّه يلاحظ روح الإيثار والمساعدة بين الزائرين، وعطف الكبير على الصغير، وتوقير الصغير للكبير، ومساعدة الرجل للمرأة والعكس، وهكذا. وللتكافل والإيثار صور، منها: التكافل والإيثار بالطعام، ولو بقيت جائعاً، التكافل والإيثار بالمبيت، ولو بقيت سهراناً، التكافل والإيثار بالفراش والغطاء، التكافل والإيثار من خلال إعطاء مكانك لغيرك والبقاء واقفاً، التكافل والإيثار بتقديم راحة الآخرين على راحة النفس. وغيرها من الصور والمشاهد الرائعة التي تتجلّى في زيارة الأربعين. المحور الحادي عشر: البناء السياسي زيارة الحسين عليه السلام موسم مهم لاستذكار مبادئ ثورته، ومنها: المبدأ السياسي، وهو البراءة من الظالمين، والثورة عليهم، وخلق إرادة سياسية صادقة لدى المؤمن للتغيير، والخروج على الظالمين، والاستعداد لذلك تحت قيادة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ كي يُعزّ الأولياء ويذلّ الأعداء، ويملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، كما أنّها رفضٌ للاتجاه السياسي المستبد، والملبّس بلبوس الدين، ودعوى النيابة عن المسلمين، وكذلك رفضٌ للسياسة الداعية إلى الخضوع والتذلل للقوى العالمية المستبدة، تحت ذريعة سياسة الأمر الواقع ومداهنة الأعداء، مما يُضيّع معالم الدين والعباد والبلاد. فاستذكار شعارات الحسين في الثورة يُعتبر حافزاً كبيراً للاستعداد والتمهيد السياسي للإمام الحجّة، من خلال نشر الأفكار الدالة على أنّ الإمام هو المُخلّص السياسي من ظلم الدول الجائرة، كما في خطابه عليه السلام: «أيّها الناس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَن رأى سُلطاناً جائراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله»[57]. وبذلك توجد إرادة سياسية لدى الأُمّة المؤمنة، تحفّز المؤمن على الالتحاق خصوصاً إذا كانت الزيارة مقترنة ببعض النصوص التي تُشير إلى نصرة آل البيت عليهم السلام، وخاتمهم الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف،كما ورد في الزيارة القائلة: «اللهمّ، أنت مننت عليّ بزيارة مولاي وولايته ومعرفته، فاجعلني ممّن تنصره وتنتصر به، ومُنّ عليّ بنصري لدينك في الدنيا والآخرة»[59]، وبالأخص الاستعداد للنصرة الوارد في زيارة عاشوراء: «فأسأل الله الذي أكرم مقامك أن يُكرمني بك، ويرزقني طلب ثارك مع إمامٍ منصورٍ من آل محمد»[60]. فزيارة الأربعين كفيلة بهكذا بناء سياسي للمجتمع المهدوي، الذي يأبى الظلم والضيم، ويثور على الظالمين والمعتدين، ولا يداهن المنحرفين والمستبدّين وإن علوا وتغطرسوا. المحور الثاني عشر: الإصلاح التمريني والتدريبي الإنسان بطبعه يميل إلى الدعة والراحة، وعدم الدخول في الصعاب، فإذا مرَّ بصعوبات، فقد تؤدّي به إلى الضعف، أو الانهيار، أو ترك المبادئ، أو التخلّي عن بعضها؛ لذا يحتاج إلى دورة تدريبية للتخلّص من ذلك. وموسم الزيارة مع طول المسافات وكثرة الصعوبات وشدّة الابتلاءات ـ خصوصاً مع البرد القارس، أو الحر الشديد، أو الخوف من الظالم كما في عهد النظام المقبور ـ لهو مركز تدريبي عام وشامل لتحمّل أنواع الصعاب والمحن، والثبات على المبدأ الذي رسمه آل البيت عليهم السلام، فالزيارة تمثّل مركزاً لتدريب المؤمن؛ استعداداً وإعداداً للإصلاح، والتوجه لعصر الظهور، فيدخل ذلك في الإعداد للمهدي، والنهوض معه في ثورته العالمية، فلا يتفاجأ إذا ما ابتُلي بصعوبة أو شدّة، بل يواجهها بعزم حسيني، فهذه الصعوبات والزلازل والمحن التي يمرّ بها المؤمن، ما هي إلّا تقوية لنفسه، وتمرينٌ له على مواجهة العدو، فالزيارة الأربعينية ورشة عمل مكثّفة لصناعة شخصية قوية ومدرَّبة. النتيجة إنّ زيارة الأربعين فيها عظيم البركات على كلّ المستويات المادية والمعنوية، ومن أعظم البركات أهمّيةً لهذه الزيارة المليونية هو الإعداد العملي للإصلاح على كلّ مستوياته، ومحاربة الفساد والمفسدين تطبيقاً لمقولة الإمام الحسين عليه السلام «إنّما خرجت لطلب الإصلاح…»، فحريّ بنا أن نجعل تلك الزيارة مناراً لنا في الإصلاح تنظيراً وتطبيقاً. هذا ما أردنا ذكره من محاور، وهناك محاور أُخرى قد تظهر للمتتبع، لم نذكرها دفعاً للإطالة. الهوامش [1] باحث إسلامي، من العراق. المصدر: مؤسسة وارث الأنبياء: مجلة الإصلاح الحسيني العدد التاسع عشر
دور الزيارة الأربعينية في الإصلاح
بالشخصية المنقذة، والبراءة من الأُمّة الظالمة والقاتلة، والراضية بذلك، كما ورد في الزيارة: «لعن الله أُمّة قتلتك، ولعن الله أُمّة ظلمتك، ولعن الله أُمّة خذلتك، ولعن الله أُمّة خدعتك»[58].
[2] النوري، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج10، ص318.
[3] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج44، ص329.
[4] المصدر السابق: ج45، ص8.
[5] العنكبوت: آية45.
[6] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج3، ص265.
[7] النوري، حسين، مستدرك الوسائل: ج3، ص31.
[8] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص132.
[9] المصدر السابق .
[10] المصدر السابق.
[11] الكهف: آية46.
[12] الأنفال: آية28.
[13] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج69، ص57 وما بعدها، حيث وازن بين إشكالية كون المال فتنة وكونه زينة.
[14] الرشيد كشك، مقال بعنوان: (مفهوم التعبئة الاجتماعية)، نشر على الشبكة العنكبوتية: http://aldamazin.ahlamontada.net/t2-topic عجل الله تعالى فرجه الشريفtop
[15] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص635.
[16] المصدر السابق.
[17] المصدر السابق: ص236.
[18] اُنظر: آداب العشرة في الوسائل أو غيرها من الموسوعات الحديثية.
[19] القصص: آية4.
[20] الحجرات: آية26.
[21] البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة: ج13، ص540.
[22] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج16، ص203.
[23] المصدر السابق: ص247 .
[24] البقرة: آية155ـ 157.
[25] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص89.
[26] المصدر السابق.
[27] المصدر السابق: ص90.
[28] الفرقان: آية63.
[29] الحجر: آية88.
[30] النوري، حسين، مستدرك الوسائل: ج11، ص298.
[31] الطبرسي، علي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: ص200.
[32] الحشر: آية9.
[33] البقرة: آية207.
[34] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص18.
[35] المصدر السابق: ج2، ص171.
[36] المصدر السابق: ج4، ص582.
[37] المؤمنون: آية5.
[38] الأحزاب: آية35.
[39] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص233.
[40] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص439.
[41] وقد بيّنتُ ذلك في بحث مستقل. اُنظر: مشتاق طالب، مشي النساء إلى كربلاء (قراءة في الأدلّة والنصوص الشرعية)، مجلّة الإصلاح الحسيني: العدد5، ص249.
[42] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، الوسائل: ج14، ص442.
[43] النوري، حسين، مستدرك الوسائل: ج10، ص279.
[44] المصدر السابق: ج45، ص172.
[45] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص123.
[46] المجادلة: آية22.
[47] آل عمران: آية28.
[48] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص125.
[49] المصدر السابق: ص127.
[50] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج66، ص236.
[51] المصدر السابق: ج4، ص582.
[52] اُنظر: بحث (نمط التعاطي مع الأعداء)، مجلّة المنهج: العدد2.
[53] نهج البلاغة: ج3، ص84.
[54] البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج2، ص400.
[55] المصدر السابق.
[56] الأنفال: آية60.
[57] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج78، ص128.
[58] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص43.
[59] المصدر السابق: ص45.
[60] المصدر السابق.