الامام الباقر التقية

حياة الامام الباقر، استمرار منطقي لحياة الامام السجاد عليهما السلام

من الأحداث الهامة في اواخر حياة الامام الباقر عليه السلام استدعاء الامام الي الشام عاصمة الخلافة الاموية. فالخليفة الاموية أراد أن يستوثق من موقف الامام تجاه الجهاز الحاكم فاءمر باعتقاله وارساله مخفوراً الي الشام. (وفي بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضا جعفراً الصادق عليه السلام.

الاجتهاد: اصبح اتباع أهل البيت مجموعة متميزة ذات وجود مستقل،ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميكبسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش الاُمويين، قد اصبح لها وجود منتشروواضح في كثير من الاقطار الاسلامية خاصة في العراق والحجازوخراسان، وأصبح لها «تنظيم» فكري وعملي.

وولّت تلك الايام التيقال الامام السجاد عليه السلام عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيهاعلي عشرين شخصا. واضحي الامام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبي صلّي اللّه عليه وآله في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من اصقاع العالم الاسلامي، يساءلونه عن رأيالاسلام في مختلف شؤون الحياة.

ويفد عليه امثال طاووس اليمانيوقتادة بن دعامة وأبو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علم الامام أو ليحاجّوه في أمور مختلفة. وبرز شعراءيدافعون عن مدرسة اهل البيت، ويُعبّرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكريوالعاطفي لآل بيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله. وتناقلت الألسن هذه الروائع الادبية وحفظتها الصدور.

ومن جهة أخري فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلال هذه الفترة بنوعٍ من الطماءنينة، وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبدالملك بن مروان (ت 86هـ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصربالأمن والاطمئنان الي أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كاءسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّي الي انشغالهم باللهو والملذات التيتصاحب الشعور بالاقتدار والجاه والجلال.

مهما يكن الأمر فإن حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة اهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الامام وأتباعه في ماءمن تقريباًمن مطاردة الجهاز الحاكم.

وكان من الطبيعي أن يقطع الامام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف علي طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة. وهذا ما يميّز حياة الامام الباقر عليه السلام.

ويمكن تلخيص حياة الامام الباقر عليه السلام خلال الاعوام التسعة عشر من امامته (95 ـ 114هـ) بما يلي:

إن أباه الامام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصي أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر ابنائه وعشيرته وسلّمه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم.. وتذكر أن فيه سلاح رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وقال له: «يا محمد هذاالصندوق فاذهب به الي بيتك.

ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولادرهم، ولكنه كان مملوءاً علما. [1] «لعل هذا الصندوق يرمز الي أن الامام السجاد سلّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي).

ومع بدء الامام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت عليهم السلام، يتسع نطاق انتشار الدعوة، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدي مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعاً في اصقاع بعيدة عن مركز السلطة الاُموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كماتحدثنا الروايات التاريخية. [2] .

ان الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الامام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذاالواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الانحراف.

إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنوأمية، فغرقوا الي الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتي أضحواكحكّامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصيخون لنصيحة سمعاً «إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا. [3] .

ومن جهة اخري يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسيرتنحو منحي استرضاء الطاغوت الاُموي وتلبية رغباته. ومن هنا فان كل ابواب عودة الناس الي جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة اهل البيت بواجبها «وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا [4] .

اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت الي تقريع اولئك الذين باعواذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة الي ايقاظ ضمائرهم أو ضمائراتباعهم من عامة الناس.

نري الامام يقول للكميت الشاعر مؤنباً:

«امتدحت عبدالملك؟» قال: ما قلت له يا إمام الهدي، وإنما قلت ياأسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحرموات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ.فتبسم الامام وأنشد الكميت بين يديه:

من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام [5] وبهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الاُموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.

وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب لمقابلة الامام، فيؤخذ بهيبة الامام وشخصيته ووقاره ومعنويته وفكره، فيقول له: «يابن رسول اللّه لقدجلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ماأدركني آنفاً» .

فقال له الامام: «إنك بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه. [6] .

ومن الابعاد الاخري لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط باءهل بيت رسول اللّه وأتباعهم من ظلم واضطهادوقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة،وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيههم وجهة ثورية حركية.

عن المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر عليه السلام اذ جاءه رجل فقال له: كيف انتم؟ فقال الامام الباقر:

أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الاُمة مثل بني اسرائيل، كان يذبّح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ألا وإن هؤلاءيذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً علي العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم:صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً علي غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذاك؟ قالوا: كان محمد قرشياً.

قالوا لهم:صدقتم. فان كان القوم صدقوا فلنا فضل علي الناس لأنا ذرية محمد،وأهل بيته خاصة وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا. فقال له الرجل:واللّه إني لاُحبكم أهل البيت. قال: فاتخذ للبلاء جلبابا، فواللّه إنه لأَسرع الينا وإلي شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم. [7] .

فما إن بدت علي الرجل علامات الهياج جرّاء استثارات الامام حتي سارع الامام الي رسم الطريق أمامه. إنه طريق مفروش بالدماءوالدموع، والامام رائد المسيرة علي هذا الطريق يصيبه البلاء أولاًقبل أن يصيب شيعته.

وفي دائرة أضيق نري أن علاقة الامام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الاتباع كالدماغ المفكر بين اعضاء الجسدالواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار.

وتتوفر باءيدينا وثائق تبين هذا الارتباط متمثلا باعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الاتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم.

منها وصية الامام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي في اول لقاء له بالامام أن لا يقول لأحد أنه من الكوفة، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة. وبذلك يعلّم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الامام فيه قدرة علي حفظ الاسرار، درس الكتمان.. وهذا التلميذ الكفوء أصبح بعدذلك صاحب سرّ الامام. ويبلغ به الامر مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير:

كنت ملازما لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنّا بالمدينة، دخل علي أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتي وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلمانهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه علي عينيه، واذا هو من محمد بن علي (الباقر) الي جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متي عهدك بسيّدي؟ فقال:الساعة فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. قال:ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتي أتي علي آخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتي وافي الكوفة.

يقول النعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلماأصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاما له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجدمنصور بن جمهور.. أميراً غير ماءمور، وأبياتاً من نحو هذا فنظر فيوجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكيلما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتي دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون: جُنّ جابر بن يزيد. فو اللّه ما مضت الأيام حتي ورد كتاب هشام بن عبدالملك الي وإليه أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فالتفت الي جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك اللّه كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان علي القصب يلعب معهم. قال:فاءشرف عليه فاذا هو مع الصبيان يلعب علي القصب. فقال: الحمد للّه الذي عافاني من قتله. [8] .

هذا نموذجٌ من نماذج الارتباط بين الامام وخاصةِ أتباعه، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء الاتباع، ويؤكّد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الامام باءتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها [9] .

وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في حياة الامام الباقر عليه السلام وفي حياة الشيعة ليسجل فصلاً آخر في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام.

النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بهاالامام. وهذا يعود الي عوامل كثيرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن علي المجتمع مما يفرض عنصر التقية بين اتباع الامام الذين هم المطلعون الوحيدون علي حياة الامام السياسية.. ولكن ردود الفعل المتشدّدة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي.

فحين يتخذجهاز حاكم مقتدر كجهاز عبدالملك بن مروان، الذي يعتبر اقوي حاكم أموي، ضد الامام الباقر عليه السلام كل أسباب الشدّة والحدّة،فإن ذلك يدل دون شك علي إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الامام وأتباعه. لو كان الامام منهمكاً فقط بنشاط علمي،لا ببناء فكري وتنظيمي، فان الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الامام، لأن ذلك يدفع بالامام وباءتباعه الي موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطة.

باختصار، موقف السلطة المتشدّد من الامام الباقر عليه السلام يمكن فهمه علي أنه رد فعل لما كان يمارسه الامام من عمل معارض للسلطة.

من الأحداث الهامة في اواخر حياة الامام الباقر عليه السلام استدعاء الامام الي الشام عاصمة الخلافة الاموية. فالخليفة الاموية أراد أن يستوثق من موقف الامام تجاه الجهاز الحاكم فاءمر باعتقاله وارساله مخفوراً الي الشام. (وفي بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضا جعفراً الصادق.)

يؤتي بالامام الي قصر الخليفة. وهشام أملي علي حاشيته طريقة مواجهة الامام لدي وروده. تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم علي الامام، وكان يستهدف في ذلك امرين: اولهماإضعاف معنويات الامام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه.والثاني: محاولة إدانة الامام في مجلس يضمّ زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الامامة)، ثم نقل هذه الادانة عن طريق ابواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجل لنفسه انتصارا علي خصمه.

يدخل الامام مجلس الخليفة، وخلاف ما اعتاده الداخلون من السلام علي الخليفة بإمرة المؤمنين، يتوجه إلي كل الحاضرين، ويشيراليهم جميعا ويقول: السلام عليكم.. ودون أن ينتظر الاذن بالجلوس ياءخذ مكانه في المجلس. وهذا الموقف من الامام أضرم نار الحسدوالحقد في قلب هشام.. وبدأ هشام علي الفور يقول: يا محمد بن علي لايزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا الي نفسه، وزعم أنه الامام سفها وقلة علم، وجعل يوبّخه [10] .

وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم والتوبيخ..والامام ساكت في كل هذه المدّة ومطرق بوقار ينتظر فرصة الاجابة..وحين افرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت علي المجلس،نهض الامام وتوجه الي الحاضرين، وبعد أن حمد اللّه واثني عليه وصلي علي نبيه، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير اسلامية، واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال:

«ايها الناس! اين تذهبون؟ واين يراد بكم؟ بنا هدي اللّه أولكم،وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً،وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة. يقول اللّه عزّ وجل: والعاقبة للمتقين [11] .

عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ في جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض علي سامعها الايمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوي الامر بسجن الامام.

الامام في سجنه واصل عمله التغييري فاءثّر علي من معه فيالسجن. بلغ الامر هشاما فكَبُر عليه أن يري حدوث مثل ذلك فيعاصمته المحصّنة من التاءثير العلوي. فاءمر أن يؤخذ السجين ومن معه علي مركب سريع (البريد) ويُرسل الي المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام. [12] .

مرّت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهي خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا «مدين» . وأغلق اهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر ابواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعا. اشتد علي أتباع الامام الجوع والعطش. صعد الامام علي مرتفع يطل علي المدينة ونادي باءعلي صوته:

بَقية اللّه خير(يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية اللّه. يقول اللّه:.)لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ

يقول الراوي: وكان بين اهل المدينة شيخ كبير فاءتاهم فقال: ياقوم هذه واللّه دعوة شعيب عليه السلام. واللّه لئن لم تخرجوا الي هذاالرجل بالاسواق لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقونيوأطيعوني.. فاني لكم ناصح.

استجاب اهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الي أبيجعفر واصحابه الاسواق. [13] .

وآخر فصل في هذه الرواية يبين أيضاً بطش الخليفة العباسيوتجبّره. فبعد أن فتح اهل المدينة أبوابها للامام وصحبه، كُتب بجميع ذلك الي هشام. فكتب هشام إلي عامله علي مدين ياءمره باءن ياءخذالشيخ فيقتله رحمة اللّه عليه وصلواته. [14] .

ومع كل ذلك، يتجنب الامام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد الي سيف، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة الي السلاح أن تشهره، ويوجهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان أيضاً لايشهره إذا لم يتطلب عمله التغييري الاساسي الجذري ذلك. ولايسمح لأخيه زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيمّاثورة، أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام علي التوجيه الثقافيوالفكري.. وهو بناء اساس ايديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية.

ولكن هذا الاسلوب لم يكن يمنع الامام ـ كما اشرنا ـ من توضيح «حركة الامامة» لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهوإقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحيانا الي إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب علي هذا الطريق.والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد من السبل التي مارسها الامام الباقرعليه السلام مع أتباعه. وهو يشير ايضاً الي تقويم الامام عليه السلام للمرحلة التي يعيشها من الحركة.

يقول الحكم بن عيينة: بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص باءهله إذ أقبل شيخ يتوكّاء علي عنزة (عكازة) له حتي وقف علي باب البيت فقال: السلام عليك يابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.ثم سكت فقال ابو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته. ثم اقبل الشيخ بوجهه علي أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتي أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام.

ثم أقبل بوجهه علي الامام وقال: يابن رسول اللّه أدنني منك جعلني اللّه فداك. فواللّه إنيلأحبكم وأحب من يحبكم، وواللّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لاُبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللّه ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍكان بيني وبينه. واللّه إني لأحل حلالكم واُحرّم حرامكم، وانتظرأمركم، فهل ترجو لي جعلني اللّه فداك؟ فقال الامام: إليَّإليَّ، حتي أقعده إلي جنبه ثم قال:

«ايها الشيخ، إن أبي عليّ بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فساءله عن مثل الذي ساءلتني عنه فقال له أبي عليه السلام: إن تمت ترد علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وعلي عليّ والحسن والحسين وعلي عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين… وإن تعش تري ما يقرّ اللّه به عينك، وتكون معنا في السنام الاعلي» .

قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشري: كيف يا أبا جعفر؟ فاءعاد عليه الكلام، فقال الشيخ:اللّه اكبر يا أبا جعفر، إن انا متُ أرد علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وعلي علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقرُ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي واُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لوقد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش اري ما يقرُ اللّه به عيني، فاكون معكم في السنام الاعلي؟ ثم اقبل الشيخ ينتحب حتي لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الامام ان يناوله يده فقبّلها ووضعها علي عينه وخدّه، ثم ضمّها الي صدره، وقام فودّع وخرج والامام ينظر اليه ويقول: «من أحبّ أن ينظر الي رجل من أهل الجنة فلينظر الي هذا [15] .

مثل هذه التصريحات، تذكي روح الامل في قلوبٍ تعيش جوّالاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الاسلامي العادل.

تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت علي هذاالخط المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاماً من التعليم الايديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية، وإذكاء روح الأمل.. تسعة عشر عاماً من مسيرشائك وعر يتطلب كثيراً من الجدّ والجهد. وحين أشرفت هذه الاعوام علي الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك علي المغيب، تنفّس اعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف يتخلّصون من مصدر إثارةٍ طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم.

لكنّ الامام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة، ووسيلة توعية مستمرة! لقد وجّه ولده الصادق عليه السلام في اللحظات الاخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الامام الباقر عليه السلام والاسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة.

في الرواية عن ابي عبداللّه الصادق عليه السلام قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف ليمن مالي كذا وكذا النوادب تندبني [16] عشر سنين بمني أيام مني. [17] .

وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الامام الباقر وغفلواعما فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الامام (800) درهم، وأوصي أن يخصص جزء منها لمن يندبه في مني.. وندب الامام في مني له معني كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة.

واختيار مني بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل أرجاء العالم الاسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة فيموسم الحج. فكل مناسك الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة، الاّ في مني، حيث يبيت الليلتين او الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع.

وندب الامام في هذا المكان سيثيرالتساؤل عن شخصية هذا المتوفّي، من هو؟ فيحصلون علي الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه. انه من أبناء رسول اللّه، واستاذالفقهاء والمحدّثين. ولماذا يندب في هذا المكان؟ الم يكن موته طبيعياً؟من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكل خطراً علي الجهاز الاُموي؟ و..و.. عشرات الاسئلة كانت تثار حين يندب الامام في هذا المكان. ثم يحصل السائلون علي الاجابة.. وتنتشر الاخبار في اطراف البلادوأكنافها بعد عودة الحجيج الي أوطانهم. وكان هناك في مواسم الحج من ياءتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع المسلمين، وليبثّ روح التشيّع من خلال أعظم قناة إعلامية آنذاك.

هكذا عاش الامام، وهكذا خطط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل اللّه ويوم يبعث حيا.

توفّي الامام الباقر عليه السلام وهو في السابعة والخمسين من عمره، علي عهد هشام بن عبدالملك، وهو من اكثر ملوك بني اُمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الاُموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإن ذلك لم يصرفها عن التآمر علي القلب النابض للشيعة،أي الامام الباقر، فاءوعز هشام الي عملائه أن يدُسّوا السم للإمام،وحقق بذلك انتصاره في القضاء علي أخطر أعدائه.

الهوامش

[1] بحار الانوار 46: 229 باب 4. عن البصائر 4: 44.

[2] من ذلك رواية ابي حمزة الثمالي يقول: «حتي أقبل ابو جعفر عليه السلام وحوله اهل خراسان وغيرهم يساءلونه عن مناسك الحج» (بحار الانوار 46: 357 ط: بيروت)، وانظر حديث أحد علماءخراسان مع عمر بن عبدالعزيز، وفيه اكثر من عبرة ودلالة. (بحار الانوار 46: 366).

[3] من حديث للامام الباقر عليه السلام في ارشاد الشيخ المفيد: 284، وبحار الانوار 46: 288.

[4] بحار الأنوار 46: 288.

[5] المناقب 4: 207 وهذه الميمية من هاشمياته وفيها يخاطب أئمة اهل البيت عليهم السلام فيقول: ساسة لا كمن يري رِعية الناسِ سواء ورِعية الانعام وهو بيت له دلالته الكبيرة.

[6] بحار الانوار 46: 258.

[7] بحار الانوار 46: 360 رواية 1 ـ باب 100 نقلاً عن امالي الطوسي: 95.

[8] بحار الانوار 46: 282 ـ 283 نقلاً عن الكافي 1: 396.

[9] يؤيد هذه الحقيقة، اضافة الي قضية جابر ونظائرها، رواية عبداللّه بن معاوية الذي يسلّم الامام الباقر عليه السلام رسالة تهديد من حاكم المدينة (بحار الانوار 46: 246. الباب 16 الرواية 34).

[10] بحار الانوار 46: 263 رواية 63 باب 5.

[11] بحار الانوار 46: 264 الباب 16 الرواية 63.

[12] ويروي أنه أشاع بين اهالي المدن الواقعة علي الطريق أن محمد بن علي وجعفر بن محمد تنصّراوخرجا من الاسلام (بحار الانوار 46: 306). وشبيه ذلك ما وقع لمولانا وهو من زعماء الحركة الاسلامية المناهضة للاستعمار البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر. فقد أشاعوا عنه أنه وهابي.وكانت هذه التهمة كافية لاسقاط هذا الرجل المناضل من أعين الناس البسطاء السذّج. الوهابية كانت مقرونة في اذهان الناس بتلك العصابة التي روّعت حجاج بيت اللّه واستباحت دماء المسلمين في الحجاز.. فكانت كريهة لديهم ومقيتة.

وتهمة الوهابية الصقت بهذا الرجل فتقبلتها الاذهان الساذجة دون أن تساءل عن مبرر هذه التهمة وعن امكان أن يكون رجل مناضل مثل مولانا معتنقالفكرة جاء بها الانجليز الي العالم الاسلامي (راجع كتاب: المسلمون في حركة تحرير الهند (بالفارسية)ط آسيا) حين اري موقف الناس من الامام الباقر عليه السلام بعد اتهامه بالنصرانية في ذلكالزمان وموقفهم من مولانا بعد اتهامه بالوهابية في القرن الماضي اتعجّب من وحدة المواقف،واردّد ما ==يقوله الشاعر العربي: الناس كالناس والايام واحدة.

[13] بحار الأنوار 46: 264.

[14] بحار الانوار 46: 313.

[15] بحار الانوار 46: 362 ـ 363.

[16] هكذا في الأصل، ولعل الصحيح: لنوادب يندبنني.

[17] بحار الانوار 46: 220.

 

المصدر: مؤسسة الامام ولي عصر للدراسات العلمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky