حكم الاغتيال في الفقه الإسلامي

حكم الاغتيال في الفقه الإسلامي.. دراسة في حديث «الإيمان قيد الفتك»

الاجتهاد: من النبويات المشهورة والمدوّنة في المجامع الروائية قوله’ : «الإيمان قيد الفتك» وهذه دراسة متواضعة قد تستوفي جوانب الحديث المختلفة. / بقلم: الشيخ مجتبى المحمودي*

أولاً: ألفاظ الحديث وأسانيده

ورد الحديث بألفاظ عدّة وأسانيد مختلفة عن طرق الفريقين، وضمن مناسبات تاريخية أحياناً ومجرّدة عنها أُخرى، والذي ظفرنا به هو ما يلي:

أ) ما ورد عن طرق أهل السنّة:

1 ـ حدثنا عبدالله، حدثني أبي، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن الحسن، قال رجل للزبير: ألا أقتل لك علياً؟ قال: كيف تقتله؟ قال: أفتك به، قال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن”([1]).

وذكر ابن عساكر هذا الحديث عن ابن العوام كما يلي: “إنّ الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن أخاه”([2])، ولا توجد كلمة «أخاه» في غير هذا المصدر.

والحديث مرسل، لكنه مقبول بناءً على نقل المتقي عن السيوطي في جمع الجوامع من أنّ كل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول، فإنّ الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن([3]).

2 ـ حدثنا محمد بن حزابة، حدثنا إسحاق (يعني ابن منصور) حدّثنا أسباط الهمداني عن السدي عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي’ قال: «الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن» ([4]). قال الحاكم النيسابوري عن الحديث: الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه([5]).

وقال محقّق كتاب (سير أعلام النبلاء) عن سند الحديث: أسباط كثير الخطأ ووالد السدي ـ واسمه عبدالرحمن بن أبي كريمة ـ مجهول الحال وباقي رجاله ثقات، وله شاهد من حديث الزبير بن العوام عنه أحمد ورجاله ثقات إلاّ أنّ فيه عنعنة الحسن، و [شاهد] آخر من حديث معاوية عند أحمد أيضاً، وفي سنده [حديث معاوية] علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وباقي رجاله ثقات، فالحديث قويّ بشاهديه([6]).

3 ـ حدثنا موسى بن عيسى بن المنذر المحمصي، حدثنا يزيد بن قيس، حدثنا محمد بن شعيب عن عطاء بن مسلم، عن السدي، عن عاصم بن رفاعة، عن عمرو بن الحمق، قال: “الإيمان قيد الفتك، من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافراً”.

قال الطبراني: هكذا قال في الإسناد: عطاء بن مسلم، والصواب: عطاء بن أبي سلم وقال: عاصم بن رفاعة، والصواب: رفاعة بن عاصم([7]).

وروي الحديث بالإسناد الآتي أيضاً: أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن عمر، حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي، قال: حدثنا أبو خراسان هو محمد بن أحمد بن السكن، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي عن عاصم بن رفاعة العجلي، عن عمرو بن الحمق … ([8]).

كما وروي الحديث عن عمرو بن الحمق من دون ذكر لجملة: «الإيمان قيد الفتك» في مصادر روائية أُخرى([9]).

4 ـ عن معان بن رفاعة السلامي عن أبي خلف الأعمى، وكان نظر الحسن بن أبي الحسن عن عثمان بن عفان أنه أتى النبي يوم فتح مكّة آخذاً بيد ابن أبي سرح، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من وجد ابن أبي سرح فليضرب عنقه وإن وجده متعلقاً بأستار الكعبة» فقال: يا رسول الله فيسع ابن أبي سرح ما وسع الناس؟ ومدّ إليه يده فصرف عنقه ووجهه ثم مدّ إليه يده أيضاً عن بُعد وأمّنه، فلما انطلق قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أما رأيتموني في ما صنعت؟» قالوا: أفما أومأت إلينا يا رسول الله؟ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ليس في الإسلام إيماءٌ ولا فتك، إنّ الإيمان قيد الفتك، والنبي لا يومئ». يعني بالفتك الخيانة.

قال الهندي: ومعان بن رفاعة ضعيف([10]).

5 ـ حدثنا العباس بن الفضل الأسباطي، حدثنا سعيد بن سليمان النشيطي قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن مروان بن الحكم قال: دخلت مع معاوية على عائشة أم المؤمنين فقالت: يا معاوية قتلتَ حجراً وأصحابه وفعلت الذي فعلت، أما خشيت أن أخبّئ لك رجلاً فيقتلك بمحمد بن أبي بكر؟ قال: لا، إني في بيت آمن، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن يا أم المؤمنين»([11]).

وعلي بن زيد ضعيف([12])، ولكن قال الذهبي عن الحديث: وللمرفوع منه شاهدان حديث الزبير عند أحمد وعبدالرزاق، وآخر عن حديث أبي هريرة عند أبي داود، فالحديث صحيح([13]).

ب) ما ورد عن طرق أهل البيت:

1- محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن رجل من أصحابنا، عن أبي الصباح الكناني قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ لنا جاراً من همدان يقال له الجعد بن عبدالله، وهو يجلس إلينا فنذكر علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) وفضله فيقع فيه، أفتأذن لي فيه؟ فقال لي: يا أبا الصباح أفكنت فاعلاً؟

فقلت: أي والله لئن أذنت لي فيه لأرصدنّه، وإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله، فقال: يا أبا الصباح هذا الفتك، وقد نهى رسول الله عن الفتك، يا أبا الصباح إنّ الإسلام قيد الفتك، ولكن دعه فستُكفى بغيرك.

قال أبو الصباح: فلما رجعت من المدينة إلى الكوفة لم ألبث بها إلاّ ثمانية عشر يوماً، فخرجت إلى المسجد فصلّيت الفجر ثم عقبت، فإذا رجلٌ يحرّكني برجله فقال: يا أبا الصباح البشرى، فقلت: بشّرك الله بخير فما ذاك؟

فقال: إنّ الجعد بن عبدالله بات البارحة في داره التي في الجبانة، فأيقظوه للصلاة فإذا هو مثل الزقّ المنفوخ ميتاً، فذهبوا يحملونه، فإذا لحمه يسقط عن عظمه فجمعوه في نطع فإذا تحته أسود فدفنوه.

ورواه محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن ابن محبوب مثله([14]).

ورواه الشيخ في التهذيب بإسناد ه عن الحسن بن محبوب مثله([15]).

والحديث مرسلٌ بجميع أسناده.

2 ـ روى أبو عمرو الكشي: حدثني محمد بن قولويه والحسين بن الحسن بن البندار القمي قالا: حدثنا سعد بن عبدالله، قال: حدثني محمد بن عيسى بن عبيد، قال: حدثني إسحاق الأنباري قال لي أبو جعفر الثاني (عليه السلام) : ما فعل أبو السمهري لعنه الله؟ يكذب علينا ويزعم أنه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا أشهدكم أنّي أتبرأ إلى الله عزّ وجلّ منهما، إنّهما فتانان ملعونان، يا إسحاق، أرحني منهما يُرحك الله عزّ وجلّ بعيش في الجنة: فقلت له:

جعلت فداك يحلّ لي قتلهما؟ إنّهما فتانان يفتنان الناس ويعملان في خيط رقبتي ورقبة مواليّ، فدماؤهما هدر للمسلمين، وإياك والفتك، فإنّ الإسلام قيد الفتك، وأشفق إن قتلته ظاهراً أن تسأل لِمَ قتلته؟ ولا تجد السبيل إلى تثبيت حجة ولا عليك أدلاء الحجة فتدفع ذلك عن نفسك، فيسفك دم مؤمن من أوليائنا بدم كافر، عليكم بالاغتيال([16]) .

قال محمد بن عيسى: فما زال إسحاق يطلب ذلك أن يجد السبيل إلى أن يغتالهما بقتل، وكانا قد حذّراه لعنهما الله([17]).

والرواية ضعيفة لمجهولية إسحاق الأنباري([18]).

قال ابن شهرآشوب: لما دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب … فلما دخل ابن زياد انتقل من دار سالم إلى دار هانئ هذا مما يدلّ على قوة الحديث واشتهاره بين المسلمين.

فمن ذلك ما ذكره عباس بن عبدالمطلب راداً على أبي سفيان عند بذله المساعدة عليه وعلى علي (عليه السلام) والله لولا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر (كناية عن تضارب السيوف والرماح)([19]).

ولكن السياق يدلّ على أن الفتك هنا فُهم بمعنى ارتكاب غطائهم الأمور والجنايات وسيأتي الإشارة إلى ذلك.

ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن سعد من أن إبراهيم بن ميمون الصائغ ومحمد بن ثابت العبدي كانا صديقين لأبي مسلم الداعية بخراسان يجلسان إليه ويسمعان كلامه، فلما أظهر الدعوة بخراسان وقام بهذا الأمر دسّ إليهما من سألهما عن نفسه وعن الفتك به، فقال محمد بن ثابت: لا أرى أن يفتك به؛ لأنّ الإيمان قيد الفتك، وقال إبراهيم الصائغ: أرى أن يفتك به ويقتل فولّى أبو مسلم محمد بن ثابت العبدي قضاء مرو، وبعث إلى إبراهيم الصائغ فقتل([20]).

وكان شريك بن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد، فمرض فنزل دار هانئ أياماً ثم قال لمسلم: إنّ عبيدالله يعودني وإني مطاوله الحديث فأخرج إليه بسيفك فاقتله وعلامتك أن أقول: اسقوني ماءً … فلما دخل عبيدالله على شريك وسأله عن وجعه … فلما خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفّه، قال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان: أما أحدهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره، وأمّا الأُخرى فحديث حدّثنيه الناس عن النبي’: إنّ الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن([21]).

وحديث مسلم عن النبي’ مُرسل.

وقد يستنتج من خلال مراجعة المرويات التاريخية أنّ الحديث كان شائعاً ومعروفاً بين المسلمين غير منكَر، وكان البعض يستند إليه في تبرير سلوكه من دون أن يسنده إلى النبي’ وكان يرسله إرسال المسلّمات.

3 ـ قال الجوهري: الفاتك الجريء، والجمع الفتاك. والفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل حتى يشدّ عليه فيقتله([22]).

ثانياً: مفهوم الفتك، والفرق بينه وبين الغيلة والغدر

1 ـ قال ابن الأثير: الفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارٌ غافل فيشدّ عليه. والغيلة أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي([23]).

وزاد في غريب الحديث ([24]) على كلام ابن الأثير في تفسير الفتك: وإن لم يكن أعطاه أماناً قبل ذلك، ولكن ينبغي له أن يُعلمه.

2 ـ قال أبو عبيد: قوله: غيلة: هو أن يغتال الإنسان فيخدع بالشيء، حتى يصير إلى موضع يستخفي له، فإذا صار إليه قتله. أما الفتك في القتل فأن يأتي الرجل الرجل وهو غارّ مطمئن لا يعلم بمكان الذي يريد قتله حتى يفتك به فيقتله، وكذلك لو كمن له في موضع ليلاً أو نهاراً، فإذا غرّه قتله فأما إذا أعطاه الأمان ثم قتله فذلك الغدر، وهو أشدّ هذه الوجوه كلها . وقال ابن عساكر في شرح الحديث: الفتك: الخيانة. وفي عون المعبود: الفتك هو القتل بعد الأمان غدراً([25]).

4 ـ وجاء في مختار الصحاح، في مادة (فتك): الفتك بفتح الفاء وضمها وكسرها هو قتل الإنسان اغتيالاً على غرّة.

5 ـ قال الزمخشري: الفصل بين الفتك والغيلة: الفتك هو أن تهتك غرّته، فتقتله جهاراً . والغيلة أن تكتمن في موضع فقتله خفية([26]).

6 ـ قال ابن عساكر: قال المعافا بن زكريا: الفتك بطش الإنسان بغيره على وجه المكر أو الغدر([27]).

7 ـ وفي أقرب الموارد في مادة (فتك): فتك الرجل فتكاً بطش به، وقيل: جرحه مجاهرة.

8 ـ قال الطريحي في مجمع البحرين في مادة (فتك): انتهز منه فرصة فقتله أو جرحه مجاهرة أو أعم، قاله في القاموس. وقال في مادة غول: الاغتيال وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله. والأصل في الاغتيال أن يؤتى المرء من حيث لا يشعر، وأن يُدهى بمكروه ولم يرتقبه. والغيلة: الأخذ على غرّة.

9 ـ الفتك أن تهمّ بالشيء فتركبه وإن كان قتلاً. قال: وما الفتك إلا أن تهمّ فتفعلا

والفاتك الذي يرتكب ما تدعوه إليه نفسه من الجنايات والجمع: الفتاك([28]).

10 ـ قال الفيروزآبادي: الفتك مثلته: ركوب ما همّ من الأمور ودعت إليه النفس، فهو فاتك: جريء شجاع. وفتك به: انتهز منه فرصة فقتله أو جرحه مجاهرة أو أعم([29]).

والملاحِظ في كلمات اللغويين وشرّاح الحديث يرى:

أـ أن هناك تفسيرين للفتك، فالبعض يفسّره بقتل الغير على غرّة وغفلة، كما في الصحاح ومختاره ونهاية ابن الأثير وغيرها.

والبعض الآخر يرى أنّ الفتك هو ارتكاب ما تدعو إليه النفس من الجنايات، كما في كلام الزمخشري والفيروآبادي وغيرهما، والذي يبدو أنّ المعنى الجوهري للكلمة هو ما ذكره الأخيران من الجرأة وارتكاب ما تهمّ به النفس، وبما أن أبرز مصاديق هذا المعنى هو القتل غدراً وغرّة فقد غلب استعماله في اللغة والحديث في ذلك. لا سيما إذا فسّر الفتك ـ كما سيأتي ـ بقتل الغير على غفلة مجاهرة، فالمجاهرة في القتل تناسب معنى الجرأة وعدم المبالاة.

ب ـ أنّ قيد الغفلة والجهل وكذا المكر هو الأساس في الفتك، فإذا كان القتل مع إعلام ومعرفة سابقة للمقتول لم يطلق عليه الفتك.

ج ـ أنّ المائز بين الفتك والغيلة هو أحد أمرين على سبيل منع الخلو:

الأول: أنّ الفتك هو قتل الغير على غرّة وغفلة مجاهرة، والغيلة هي قتله على غفلة خفية، كما جاء ذلك في كلام الزمخشري، وعلى هذا فهما أمران متباينان من حيث الجهر والخفاء.

الثاني: أنّ الفتك هو على غفلة مجاهرة أو خفية، وأما الاغتيال فلا يكون إلاّ خُفية . كما يبدو ذلك من قاموس الفيروزآبادي، فيصبح الفتك أعم مفهوماً من الاغتيال، وكل غيلة فهو من الفتك ولا عكس.

د) إنّ المائز بين الفتك والغيلة من جهة والغدر من جهة أُخرى هو أنّ الفتك والغيلة لا يشترط فيهما أن يكونا مسبوقين بأمان من القاتل بالنسبة إلى المقتول، وأما الغدر فهو قتل الغير مع إعطائه الأمان.

لكن نقل أبو عبيد عن كتاب عون المعبود أنّ: الفتك هو القتل بعد الأمان غدراً، ويتلاءم هذا مع ما نقله ابن عساكر في معنى الفتك بأنه الخيانة. كما ويؤيد هذا التفسير حديث عمرو بن الحمق عن النبي’: الإيمان قيد الفتك، من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء، «وإن كان المقتول كافراً» ([30]).

إلاّ أنّه قد يستخلص من كل ما ذكر في هذا المجال: أنّ الفتك قد يطلق أيضاً على القتل غدراً وبعد إعطاء الأمان، ولكن ليس ذلك على وجه الشمول، فهناك استخدام شائع لكلمة الفتك في اللغة والحديث في موارد من القتل لم يسبقها الأمان بمعنى الوثيقة والمعاهدة وإن سبقها الأمان بمعنى إحساس المقتول الأمن من القاتل.

ثالثاً: معنى الحديث

قال الشريف الرضي: الإيمان قيد الفتك، وهذه استعارة، والمراد بذلك أن الإنسان المؤمن يمتنع لأجل إيمانه أن يسفك الدم الحرام طاعة لأمر الحمية وركوباً لسنن الجاهلية، فكأنّ إيمانه قيّد فتكه فتماسكه وضبط تهالكه. ومثل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لخوّات بن جبير الأنصاري وكان خليعاً([31]) قبل إسلامه: ما فعل شراد بعيري([32]) يا خوّات؟

فقال: قيّده الإسلام يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ألا ترى كيف شبّهه عليه الصلاة والسلام في ريعان خلاعته وعنفوان نزاقته بالبعير الشارد الذي قد فارق مراحه([33]) وكيف أجاب هذا الإنسان عن كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ لما جعله بمنزلة البعير الشارد ـ جعل هو ما ردّه عن ذلك الشراد وعكسه عن تلك الحال بمنزلة القيد والعقال، وهذا القول من النبي’ أيضاً داخل في المجاز([34]).

وقال ابن الأثير: قيّد الإيمان في الفتك، أي أنّ الإيمان يمنع عن الفتك، كما أنّ القيد يمنع عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيداً([35]).

وقال ابن أبي جمهور الأحسائي في توضيح الحديث: أي الإيمان قيد للمؤمن عن الأفعال غير الملائمة للشريعة، ويدلّ بطريق العكس على أن من أفتك فهو غير مؤمن، ومن انتفى منه قيد الإيمان انتفى عنه الإيمان، فالفاتك غير مؤمن، والفتك كناية عن قتل العدوان([36]).

رابعاً: دلالة الحديث وحكم الفتك

عرفنا أن أسناد الحديث ـ بطريقيه ـ غير تامة غالباً إلا البعض منها على بعض الوجوه. فلنتحدث الآن عن دلالة الحديث فقهياً على فرض تمامية صدوره عن المعصوم فنقول:

1 ـ يتضمن الحديث في مرويّاته المختلفة الفقرات الآتية التي يمكن استظهار حرمة الفتك من كلّ منها أو من مجموعها، وهي:

* «الإيمان ـ أو الإسلام ـ قيد الفتك» والمنساق من هذا التعبير أنّ الإيمان أو الإسلام لا يجتمع مع الفتك ويدلّ ـ كما قال الإحسائي ـ على أنّ من فتك فهو غير مقيد بالإيمان ومن انتفى عنه قيد الإيمان انتفى عنه الإيمان، فالفاتك غير مؤمن.

* «المؤمن لا يفتك» وهذه جملة خبرية تفيد الإنشاء والنهي، مثل قولنا: المؤمن لا يسرق أو لا يزني. بل إنّ دلالتها على النهي أبلغ من دلالة صيغة الإنشاء.

* «نهى رسول الله’ عن الفتك» ومادّة النهي كصيغته ظاهرة في الحرمة، كما حرّر ذلك في أصول الفقه.

هذا وقد صرّح الشيخ المفيد بمناسبة الحديث عن قتل الزبير في حرب الجمل ـ بحرمة الفتك والغيلة، وقال: قتل الغيلة يوجب النار، وإن كان المقتول في النار([37]).

2 ـ لا ارتياب في حرمة الفتك والاغتيال ـ حتى بالنسبة إلى مُهدَري الدم ـ فيما إذا تمثّل بالغدر والخيانة، فإن الغدر مرفوض عقلاً ومحرّم شرعاً. فقد روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن علي بن أسباط عن محمد يعقوب بن سالم عن أبي الحسن العبدي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: «أيها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أهدى الناس، ألا لكل غدرة فجرة، ولكل فجرة كفرة، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار» ([38]).

وروي عنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال: بشّر قاتل ابن صفية (الزبير) بالنار، وذلك لأن ابن جرموز غدر بالزبير وقتله بعد أن أعطاه الأمان، وكان قتله على وجه الغيلة والمكر([39]).

والغدر هو ترك الوفاء ونقض العهد([40])، والعهد المنقوض قد يكون عبارة عن الأمان المعطى للكافر المحارب من قِبَل الإمام أو أحد المسلمين، فيجب الوفاء به. بل حتى لو توهّم المحارب الأمان وجاء إلى المسلمين فليس لهم الاعتداء عليه([41])، وهذا ما يدلّ على حرمة الأمان وشدّة احترامه، وقد يكون العهد والأمان ناشئاً من قرارات حكومية تفيد الأمن والطمأنينة على حياة وحقوق المواطنين أو الوافدين إلى أراضي الدولة الإسلامية، كتأشيرة الدخول إلى أقاليم الدولة الإسلامية أو الإقامة فيها، فإنها توجب توفير الأمن لأصحابها، حتى ولو كانوا كفاراً غير ذميّين ما دام دخولهم أو إقامتهم في تلك الدولة مرخّصاً فيه بتصريح قانوني من الحكومة.

وقد يكون الأمان بسبب العهود والمواثيق الدولية المصدّقة من قبِل الدولة الإسلامية والتي تفيد الاحترام المتبادل والالتزام بعدم الإضرار بأمن المواطنين وسلامتهم، فلا يجوز الغدر بمواطني الدولة الكافرة وسلب أمنهم ما دامت الدولة الإسلامية ملتزمة بعهودها مع تلك الدولة، إلى غير ذلك من مصاديق العهود والأمان المستجدّة في كل زمان([42]).

ونستخلص الكلام ونقول: إنّ الغدر ليس له مفهوم شرعي محدّد، بل هو عبارة عن نقض الأمان، والأمان له المصاديق المنوّعة والمتجدّدة، فكلّ ما كان غدراً ونقضاً لأمان فهو محرّم شرعاً وعقلاً.

قال الطبري: وقد كان بعضهم يزعم أن أصحاب رسول الله’ كانوا استأذنوا رسول الله’ في قتل الكفار إذا آذوهم واشتدّوا عليهم بمكة قبل الهجرة وسرّاً، فأنزل الله في ذلك: {إنّ الله لا يحبّ كلّ خوّان كفور}([43]).

وللمحقق البحاثة السيد عبدالرزاق المقرّم كلامٌ في توجيه امتناع مسلم من قتل ابن زياد في دار هاني من المفيد إيراده هنا، قال: إنّ الفتك مرغوب عنه عقلاً وشرعاً وسياسة دينية: أما العقل فهو يكره الغيلة ويبغض الخديعة، ولأن الاطمئنان بك ألزم أن تكون نفس المطمئن إليك وديعة، والواجب العقلي حفظ الوديعة.

وأما الشرع فهذا الحديث متفق على روايته ولا يرتكب أهل البيت^ خطّة تثلم الشرف وتقدح في الدين. وأما السياسة الدينية فلو أن مسلماً أطاع المؤتمر وطبّق أعضائه بالفعل لتنفّرت الناس من أهل البيت^ وقالوا: هم أناس طلاّب ملل لا طلاّب إصلاح يتوصّلون إلى نجاح مقاصدهم بالمخادعة والاحتيال ومن أجلى مظاهر الاحتيال الفتك([44]) .

3 ـ لو افترضنا عدم تمامية دلالة الحديث على حرمة الفتك، وفرضنا أيضاً أنّ الفتك غير موجب لهتك الأمن ونقض العهد، فقد يقال بحرمة الفتك والاغتيال إذا انطبق عليه قانون تزاحم الأهم والمهم وبالبيان الآتي:

أـ قد توجب المبادرة إلى قتل المهدَرين ـ سواءً بطريق الفتك والغيلة أم بغيرهما ـ إلحاق الأذى والضرر الكبيرين على المقدم وغيره من المؤمنين الأبرياء، أو تسبّب نشوب حرب على الدولة الإسلامية، وفي مثل ذلك يقدّم وجوب الحفاظ على أرواح المسلمين وأمن الدولة الإسلامية على وجوب أو جواز قتل المهدور دمه، لأهميّة ذلك بالنسبة إلى إهلاك المُهدَر.

ويمكن أن يستأنس للحكم بحرمة الخيانة على طريقة الفتك والاغتيال برواية إسماعيل بن عبدالله القرشي قال: أتى إلى أبي عبدالله (عليه السلام) رجل فقال له: يا بن رسول الله رأيت في منامي كأني خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه، وكأنّ شبحاً من خشب أو رجلاًُ منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه وأنا أشاهده فزعاً مرعوباً، فقال له (عليه السلام) : «أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته، فاتق الله الذي خلقك ثم يميتك»

فقال الرجل: أشهد أنك قد أوتيت علماً واستنبطته من معدنه، أُخبرك يا بن رسول الله عمّا فسّرت لي: إن رجلاً من جيراني جاءني وعرض عليّ ضيعته، فهممت أن أملكها بركْس (نقص) كثير، لما عرفت أنه ليس لها طالب غيري، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : «وصاحبك يتولاّنا ويتبرأ من عدوّنا» فقال: نعم يا بن رسول الله، رجل جيّد البصيرة مستحكم الدين، وأنا تائب إلى الله وإليك مما هممت به ونويت به، فأخبرني يا بن رسول الله لو كان ناصبياً أيحلّ اغتياله؟ فقال: «أدّ الأمانة إلى من أئتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين (عليه السلام) »([45]).

فإنها وإن كانت بصدد النهي عن الخيانة المتمثلة في اغتيال الشخص في معيشته وقطع رزقه، لكن النهي ثابت بطريق أولى في اغتيال الشخص في قطع حياته، إذا كان ذلك يجسّد الغدر والخيانة.

وقد وردت الإشارة إلى هذه الأهمية في بعض الروايات:

ففي صحيحة داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: «حلال الدم، ولكنّي أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل» قلت: فما ترى في ماله؟ قال: «توّه([46]) ما قدرت عليه»([47]).

وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) … فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أرأيت لو أنّ رجلاً الآن سبّ النبي’ أيقتل؟ قال: «إن لم تخف على نفس فاقتله».([48]) وبمضمونهما روايات أخرى أيضاً.

كما أن صاحب الجواهر احتمل المعنى نفسه في رواية أبي الصباح الكناني التي سبق ذكرها فقال: ولا ينافي ذلك [جواز قتل السابّ لأحد الأئمة أو الناصبين]، في خبر أبي الصباح الطويل، وحاصله أنه استأذنه في قتل جعد بن عبدالله لوقوعه في علي فقال: «قد نهى رسول الله عن الفتك، يا أبا الصباح إنّ الإسلام قيد الفتك…» الذي لا جابر له (سنداً) الممكن حمله على أنه روى ذلك للخوف عليه أو غيره ممّن هو بريء، لأنه رأى شدة عزمه على القتل، كما يظهر من بعض ما في الخبر المزبور([49]).

وإنّ كان قد يرى وعلى هذا التوجيه أنّ عدم الترخيص في قتل السابّ والناصب خوفاً على المُقدم على القتل قد ورد في روايات أُخرى، وبتصريح من الإمام بذلك الشأن، فمن المستبعد أن توجد حاجة ـ في ردع الكناني عن قتل الناصبي ـ إلى أن يروي الإمام له نهي النبي عن الفتك خوفاً على حياته.

ب ـ إن تنفيذ حكم الإعدام على طريقة الفتك والاغتيال حتى بالنسبة إلى مهدور الدم في كثير من الأحيان، ولا سيّما في الظروف العصيبة والصعبة ممّا يشوّه سمعة الإسلام والمسلمين عند غير المسلمين، ويوجب تنفير الناس عن الدين، وواضح أن إجراء أيّ حكم شرعي في المجتمع لو كان يؤدّي إلى كسر شوكة الإسلام ووهن المسلمين لا يجوز أو لا يجب تنفيذه، نظراً إلى أن الحفاظ على قدسية الدين وهيبته أهم من تطبيق بعض الحدود والأحكام.

وقد أشار صاحب الجواهر إلى هذا المعنى، حيث استند في حرمة الغدر بالكفار إلى أنّ ذلك مما يوجب تنفير الناس عن الإسلام([50]).

ويقوي الحكم في ما إذا كان هناك المتربصون بالإسلام والأعداء الحاقدون عليه ينتهزون الفرصة ويشنّون حرباً إعلامية واسعة على الإسلام تُفني الأخضر واليابس، وتلحق به نكسة يطول أمدها، فإن كان الحدّ لا يجري على المسلم إذا كان في أرض العدو خوفاً من أن تأخذه الحمية ويلتحق بالعدو ([51]) ويكون ذلك خسارة لمسلم واحد ينجرّ إلى العدو، فكيف إذا كان إجراء الحدّ مما يوجب وهن الدين وكسر شوكته تماماً.

وقد أفتى السيد الخوئي بعدم جواز اغتيال الكافر الكتابي، حتى ولو لم يكن ذمياً حفظاً للعناوين الثانوية([52]).

ج ـ وقد يؤدّي إجراء حكم القتل على سبيل الفتك والغيلة من قِبل آحاد المسلمين إلى حدوث الفوضى والإخلال بالأمن الاجتماعي، ومعلوم أنّ حفظ النظام من أهم الواجبات الاجتماعية، ولا يجوز تعريضه إلى الزعزعة والخطر([53]).

خامساً: أحكام أُخرى للفتك والغيلة

تبنّى بعض المذاهب الفقهية ثبوت أحكام وضعية للفتك والغيلة، مضافاً إلى حرمتهما التكليفية، فقال المالكية: إنّ قتل الغيلة يوجب إجراء عقوبة الموت على القاتل، حتى وإن لم يكن المورد موضوعاً للقصاص، فقالوا: إذا قتل المسلم الذمّي غيلة، بأن خدعة حتى ذهب به إلى موضع فقتله يقتل به سياسة لا قصاصاً، أما إذا لم يقتله غيلة فعليه الدية فقط([54]).

وقد أخرج أبو داود في المراسيل من طريق ابن وهب عن عبدالله بن يعقوب، عن عبدالله بن عبدالعزيز بن صالح الحضرمي قال: قتل رسول الله’ يوم حنين مسلماً بكافر قتله غيلة، وقال: «أنا أولى وأحق من أوفى بذمته»([55]).

وقال الشافعي: أبلغنا أنّ عمر بن الخطاب أمر أنْ يقتل رجل من المسلمين بقتل رجل نصراني غيلة من أهل الحيرة فقتله به([56]).

وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح أنّ رجلاً من البنط عدا عليه رجل من أهل المدينة فقتله قتل غيلة، فأتي به أبان بن عثمان وهو إذ ذاك على المدينة، فأمر بالمسلم الذي قتل الذمي أنّ يقتل، وأبان معدود من فقهاء المدينة([57]).

وقال المالكية أيضاً: لا يقتل الحر بالعبد إلاّ إذا كان القتل غيلة، فيقتل حينئذ به، وإنّ القتل للفساد لا للقصاص ([58]).

وقالوا أيضاً: لا يقاد الأب بالابن إلاّ أنّ يضجع فيذبحه، فأمّا إذا حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل، وكذلك الجد مع حفيده([59]).

وقالوا ـ خلافاً لجمهور الفقهاء ـ: لو عفا وليّ المقتول غيلة عن القاتل فإن عفوه لا يسقط عقوبة القتل، لأنّ الحق ليس له، وإنما لله سبحانه وتعالى، كما أنّ صلح الولي مردود والحكم فيه للإمام ([60]).

وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا عكرمة بن محمد عن عثمان بن سليمان قال: سمعت عمر بن عبدالعزيز وهو خليفة يقول: شيئان ليس لأهلهما فيها جواز أمر ولا لوالٍ، وإنّما هما لله يقوم بهما الوالي: من قتل عدواناً وفساداً في الأرض، ومن قتل غيلة([61]).

وذهب فقهاء الإمامية إلى أنّ الاغتيال كغيره من أنواع القتل في جواز القصاص أو العفو، فإذا اختار الولي العفو فليس للسلطان معه اعتراض([62]).

سادساً: تحريم الاغتيال وإشكالية الاغتيالات النبوية

ربما يتخيل أنّ هذا الحديث ينافي ما نقل عن رسول الله’ الأمر بالفتك أو تقريره في قصة كعب بن الأشرف والعصماء بنت مروان (أم المنذر) وأبي رافع (سلام بن أبي الحقيقي).

فإن كعب بن الأشرف كان يحثّ المشركين على قتال النبي، وخرج إلى مكة وجعل ينشد الأشعار ويبكي للذين أصيبوا من قريش ببدر، ويحرّض على رسول الله’، فلمّا رجع إلى المدينة قال رسول الله لأصحابه: من لي بابن الأشرف؟

فقال محمد بن مسلمة ـ وكان أخا ابن الأشرف من الرضاعة ـ : أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، فاجتمع محمد ونفر من الأوس وجاء ابن الأشرف فقال أحدهم: كان قدوم هذا الرجل (النبي) من البلاء علينا، عادتنا به العرب وحاربتنا ورمتنا من قوس واحدة، فقال كعب: أما والله لقد كنت أخبرك أنّ الأمر سيصير إلى ما أقول، فطلبوا منه أنّ يبيع عليهم الطعام أو التمر ويرهنوه ما يكون فيه الثقة، فقبل برهن السلاح منهم وتواعدوا على ذلك وأتوه إلى حصنه فهتف به أحدهم فنزل في ملحفته وخرجوا يتماشون وكان كعب حديث عهد بعرس وكان جميلاً وتطيّب بالمسك والعنبر فأدخل أبو نائلة يده في مقدم رأسه ثم شمّ يده وقال:

ما رأيت طيباً أعطر قط، ثم مشوا ثم عاد لمثلها وأمسك به وقال: اضربوا عدو الله فضربوه فاختلفت أسيافهم عليه فلم تغن شيئاً قال محمد بن مسلم: فحين رأيت أسيافنا لم تغن شيئاً، ذكرتُ مغولاً (السكين الصغير) في سيفي فأخرجته ووضعته قرب سرته ثم تحاملتُ عليه فوقع عدوّ الله، فجاؤوا إلى رسول الله’ آخر الليل وأخبروه بقتل عدو الله([63]).

وأما العصماء بنت مروان فكانت تقول شعراً تحرّض على النبي وتؤذيه وتعيب الإسلام، فبلغ قولها ذلك إلى عمير بن عدي الخطيمي ورسول الله’ يومئذ ببدر، فقال عمير: اللهم إنّ لك عليّ نذراً لئن رددتُ رسول الله إلى المدينة لأقتلنّها.

قال عمير: فلما رجع رسول الله من بدر جئتها في جوف الله حتى دخلت عليها فوجدت صبياً ترضعه فنحّيته عنها ثم وضعت سيفي في صدرها حتى أنفذته من ظهرها. ثم خرجت حتى صلّيت الصبح مع النبي بالمدينة، فلما انصرف النبي نظر إليّ فقال: أقتلت بنت مروان؟ قلت: نعم … يا رسول الله، فهل عليّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: لا، ثم التفت النبي إلى من حوله فقال: إذا أحببتم أنّ تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي([64]).

وأما أبو رافع سلام بن أبي الحقيقي فقد بعث رسول الله’ عبدالله بن عقيل ومعه نفر من الخزرج إلى خيبر ليغتال أبا رافع، فخرجوا حتى أتوا داره فجاءت امرأته فقالت: ما شأنك؟ فقال ابن عقيل: جئت أبا رافع مهدية، ففتحت له الباب فدخلوا عليه بأسيافهم وقتلوه في فراشه، فقدموا على النبي’ وهو على المنبر فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه([65]).

وقد أُجيب عن هذه الشبهة بأن اليهود كانوا قد عاهدوا النبي أنّ لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوه، وهؤلاءهم الذين آذوا النبي’ والمسلمين وحرّضوا المشركين عليهم، وأصبحوا من أظهر مصاديق المحاربين وناقضي العهود، ولا بأس بالاحتيال على المحارب فإن الحرب خدعة([66]) بل ويجوز الفتك بأهل الحرب([67]).

الهوامش

([1]) مسند أحمد بن حنبل 1: 353، الحديث 1433، طـ: دار الفكر.

([2]) تاريخ دمشق 18: 406.

([3]) منتخب كنـز العمال بهامش مسند أحمد 1: 57.

([4]) سنن أبي داود 1: 631.

([5]) المستدرك 4: 392.

([6]) سير أعلام النبلاء 17: 28.

([7]) مسند الشاميّين 3: 350، وراجع غريب الحديث لابن سلام 3: 301.

([8]) مسند الشهاب 1: 130.

([9]) السنن الكبرى 9: 142؛ مجمع الزوائد 6: 258، مسند أبي داود الطيالسي: 181، صحيح ابن حبان 13: 320.

([10]) كنـز العمال: ح30160.

([11]) الطبراني، المعجم الكبير 19: 319، وراجع مسند أحمد 6: 13، ح16832، طـ: دار الفكر.

([12]) مجمع الزوائد 1: 96.

([13]) سير أعلام النبلاء 3: 147.

([14]) فروع الكافي 7: 375، ح16.

([15]) التهذيب 10: 214، ح845.

([16]) يبدو من الرواية أنّ الإمام (عليه السلام) استعرض أشكالاً ثلاثة لقتل أبي السمهري وابن أبي الزرقاء: القتل فتكاً بالغدر والخيانة، القتل المعلن والمكشوف، والاغتيال، وقد نهاه عن الأول والثاني وأرشده إلى طريقة الاغتيال، وبقرينة السياق يفهم أن المقصود من الاغتيال هو القتل خفية من دون أن يكون غدر وخدعة في البين، خلافاً للمعنى المعهود للاغتيال، وقد يشهد لذلك ما جاء في رواية داود بن فرقد الآتية.

([17]) رجال الكشي 2: 811.

([18]) معجم رجال الحديث 3: 1107، ط: طهران.

([19]) نهج السعادة: 41:1.

([20]) الطبقات الكبرى 7: 370.

([21]) المناقب 2: 38، وعنه بحار الأنوار 44: 343.

([22]) الصحاح 4: 1602.

([23]) النهاية 3: 49.

([24]) النهاية 4: 6.

([25]) غريب الحديث 3: 301.

([26]) الفائق في غريب الحديث 2: 247.

([27]) تاريخ مدينة دمشق 5: 457.

([28]) كتاب العين 5: 340.

([29]) القاموس (مادّة فتك).

([30]) مسند الشاميين للطبراني 3: 350.

([31]) الخلع: الذي لا يعتمد عليه ولا يعتبر به.

([32]) البعير الهارب.

([33]) المراح: مبيت الإبل والدواب.

([34]) المجازات النبوية: 356.

([35]) النهاية 4: 130.

([36]) عوالي اللئالي 2: 241.

([37]) الفصول المختارة: 144.

([38]) وسائل الشيعة 11: 52، الباب 21 من أبواب جهاد العدو، ح3.

([39]) الفصول المختارة: 145؛ وبحار الأنوار 32: 336.

([40]) مجمع البحرين: مادة (غدر).

([41]) ابن إدريس، السرائر 2: 20؛ الشهيد الأول، الدروس 2: 33.

([42]) يراجع آثار الحرب في الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي: 267.

([43]) جامع البيان 17: 228.

([44]) سفير الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل: 64.

([45]) وسائل الشيعة 18: 461، الباب 27 من أبواب حدّ القذف، ح5.

([46]) خذ من أمواله.

([47]) وسائل الشيعة 18: 463، الباب 27 من أبواب حد القدف، ح 5.

([48]) المصدر نفسه، ح3.

([49]) جواهر الكلام 41: 436.

([50]) جواهر الكلام 21: 78.

([51]) وسائل الشيعة 18: 318، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة.

([52]) صراط النجاة 2: 422.

([53]) ويمكن أن يبرز التزاحم بوجه آخر أيضاً، وهو في ما لو قلنا بحرمة الفتك بعنوانه الأولي. فقد يتفق أن يصبح الفتك بأحد المهدَرين أو جماعة منهم جائزاً، لتوقف الدفاع عن الكيان الإسلامي أو رسوله العظيم أو كتابه المجيد أو ما شابهه على ذلك، وواضح أنّ الثاني أهم بكثير من حرمة الفتك، لكن لا يستبين هذا عادةً إلاّ لمن له الخبرة والإحاطة التامة بالملابسات التي كانت في عهد النبي’ بشأن بعض اليهود، كما سيأتي تفصيله. وأيضاً يفسّر ما نقل عن أمر النبي’ ـ عاصم بن ثابت وحبيب وابن حسّان ـ بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إنْ قدر عليه (كتاب الأم، الشافعي 4: 309) وبذلك أيضاً يفسّر ما صدر عن بعض الأئمة^ بشأن اغتيال بعض الغلاة والمبتدعين الذين أصبحوا في زمنهم رايةً للفتنة والضلال، فقد أمر أبو الحسن العسكري (عليه السلام) بقتل فارس بن حاتم القزويني، وضمن لمن قتله الجنة فقتله جنيد. وكان فارس فتاناً يفتن الناس ويدعو إلى البدعة (انظر للتفصيل: رجال الكشي 2: 807).

([54]) الزرقاني، شرح الموطأ 8: 3.

([55]) الزيعلي، نصب الراية 6: 332.

([56]) الأم 7: 338.

([57]) الجوهر النقي 8: 34.

([58]) الخرشي على مختصر جليل 8: 3.

([59]) الدسوقي 4: 238.

([60]) المصدر السابق.

([61]) الطبقات الكبرى 5: 301.

([62]) تحرير الأحكام 2: 245.

([63]) اليوسفي الغروي، موسوعة التاريخ الإسلامي، 2: 235 عن مغازي الواقدي 1: 190.

([64]) المصدر السابق نقلاً عن المغازي 1: 173 ـ 174.

([65]) موسوعة التاريخ الإسلامي 2: 540، عن مغازي الواقدي 1: 291 ـ 394.

([66]) راجع صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، الباب 157.

([67]) المصدر السابق، باب 159، باب الفتك بأهل الحرب.

 

 

(*) باحث في الفقه الإسلامي، ورئيس التحرير السابق لمجلة الفكر الإسلامي، من إيران.

المصدر: موقع نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky