الاجتهاد: محلّ البحث في حقوق الطبع والنشر يكون في ثبوت المحمول للموضوع وهو الاحترام لهذه الحقوق وعدمه بعد تسليم كونه حقاً عرفاً، بمعنى أنّ الشريعة الإسلاميّة هل تحترم مثل هذه الحقوق أو أنّها لا تحترمها؟ وبعبارة أدقّ: هل إنّ تأليف الكتاب أو تحقيقه أو نشره يولّد حقّاً يختص بالمؤلّف تحترمه الشريعة أو لم يكن الأمر كذلك؟ وبالنتيجة يمكننا أن نخوض في البحث في مرحلتين: المرحلة الاُولى: هل إنّ المنع من تكثير ونشر الكتب حقّ للمؤلّف أم لا ؟ وما هي مناشئ هذا الحقّ؟ المرحلة الثانية: لو سلّمنا أنّ المنع من النشر والتكثير من الحقوق، هل إنّ هذا النوع من الحقوق محترم شرعاً أو لا ؟
إنّ من جملة الموضوعات التي لم تكن موجودة في عصر صاحب الشريعة المقدسة (صلى الله عليه و آله وسلم) والأوصياء من بعده، وحدثت بعد ذلك مسألة حقوق الطبع والنشر، وهذه المسألة بدأت تأخذ طابع الجديّة بعد أن انتشرت صنعة الطباعة والتأليف والترجمة وتحقيق المخطوطات، وغير ذلك من النشاطات العلمية والثقافيّة .
وقد كثرت الحاجة إلى تحرير هذه المسألة فقهياً في العصر الحاضر خصوصاً بعد نزول أشرطة الكامبيوتر المعروفة بـ ( CD ) إلى السوق؛ فإنّ الناس كثيراً ما يسألون عن جواز وعدم جواز تكثير مثل هذه الأشرطة بدون إجازة من مالكها الأصلي .
ونحن عندما نقول: إنّ هذه المسألة من المسائل المستحدثة مقصودنا من ذلك أنّها من المسائل المستحدث موضوعها، فإنّ الموضوع للمسألة الشرعية ـ وهو حق الطبع وحق النشر هنا ـ من المواضيع المستحدثة التي تولّدت بعد انتشار صنعة الطباعة، كما عرفت.
المقدّمة الاولى : تحرير محل النزاع
محلّ البحث هنا يكون في ثبوت المحمول للموضوع وهو الاحترام لهذه الحقوق وعدمه بعد تسليم كونه حقاً عرفاً، بمعنى أنّ الشريعة الإسلاميّة هل تحترم مثل هذه الحقوق أو أنّها لا تحترمها ؟
وبعبارة أدقّ: هل إنّ تأليف الكتاب أو تحقيقه أو نشره يولّد حقّاً يختص بالمؤلّف تحترمه الشريعة أو لم يكن الأمر كذلك ؟
وبالنتيجة يمكننا أن نخوض في البحث في مرحلتين:
المرحلة الاُولى: هل إنّ المنع من تكثير ونشر الكتب حقّ للمؤلّف أم لا ؟ وما هي مناشئ هذا الحقّ ؟
المرحلة الثانية: لو سلّمنا أنّ المنع من النشر والتكثير من الحقوق، هل إنّ هذا النوع من الحقوق محترم شرعاً أو لا ؟
هذا، وإنّ هناك ثلاث حالات للمؤلّف والناشر: فإمّا أن يكتب عبارة: «حقوق الطبع والنشر محفوظة اللمؤلّف»، أو أن يكتب عبارة تجويز طبع ونشر الكتاب لكلّ أحد، أو أن يسكت من دون التعرّض لإثبات الحق لنفسه أو لبيان الانصراف عنه .
ومحلّ الكلام هنا في الحالتين الأولى والثالثة، ويمكن أن نحمل الحالة الثالثة على الثانية ونجعلها بمنزلة الانصراف عن الحق، فيبقى البحث في الحالة الاولى.
ثمّ إنّه بناءً على حفظ حقوق الطبع للناشر أو للمؤلّف أو للمؤسّسة التحقيقيّة التي اهتمّت بالكتاب يأتي هنا بحث آخر هو: إلى متى يستمرّ هذا الحق للمتصدّي؟ هل إنّ هذه السلطة تكون له مادام الكتاب تحت يده ولم يخرج إلى السوق أو إنّ هذا الحق والسلطة على المنع من النشر والتكثير خاصّ بالمتصدّي في الطبعة الاُولى وإذا خرج الكتاب إلى السوق فقد انقطعت العلاقة بين الكتاب وبين صاحبه ؟
أو إنّ الحقّ يستمرّ إلى آخر العمر وينتهي بموته؟
أو إنّ الحق يستمرّ ويصل للورثة من بعده ؟
ثم إنّه إذا تصدّى الغير للطبع والنشر بدون إجازة من المؤلّف أو الناشر، بل شرع في النشر والتكثير مع منع المولّف، هنا هل تكون المطبوعات شرعاً ملكاً للمتصدّي للطبع أو إنّ المؤلّف الأصليّ يكون له شيء منها ؟
وبعبارة أخرى أدقّ: هل يوجد أثر وضعيّ شرعي يترتّب على تلك العبارة المكتوبة على أوّل الكتاب وهي عبارة «حقوق الطبع محفوظة للمؤلف أم لا»؟ وهل يجوز للمؤلّف أن يعطي هذا الحق للغير مثل الناشر ويأخذ بازائه شيئاً من المال أو لا يجوز ذلك؟ وما هو الوجه في أخذه؟
هذه جملة من الأسئلة نتجت بسبب تطوّر صنعة الطباعة والنشر وتكثير الكتب وأشرطة المسجلات وأجهزة الكامبيوتر .
الغاية من المنع
ثمّ إنّ الغاية من منع الغير من تكثير الكتاب أو الشريط المسجّل أو غير ذلك قد تكون لأجل الاختصاص بالأرباح المادّية التي تحصل نتيجة البيع بعد النشر والتكثير، فإنّ المتصدّي للكتاب أعمّ من المؤلّف أو الناشر أو المحقّق يريد أن يستأثر بكلّ النتاجات المادّية له.
وقد تكون إرادة المنع من النشر والتكثير لأجل أمر آخر يرتبط بذات المؤلّف من حيث رغبته في إعادة النظر في الكتاب بعد نفاذ الطبعة الاُولى من السوق .
المعروف بين علماء الإسلام أنّ أمر تكثير ونشر الكتب سائغ وجائز لأصحابها ، بل إنّ النشر والتكثير في بعض الموارد مطلوب ، وعلى هذا فإذا تصدّى صاحب بالحقّ ـ المؤلّف أو دار النشر أو المؤسّسة التي اهتمّت بطبع الكتاب وتحقيقه ـ لنشر الكتاب فإنّ أثر هذا العمل ونتائجه الماديّة تكون لهم بلا ريب ، وأنّ مثل هذا العمل خارج عن محلّ بحثنا .
المقدّمة الثانية : الحقوق على قسمين
إنّه يمكن لشخص أن يقسم الحقوق إلى نوعين :
النوع الأول هو الحقوق الشرعية،
والنوع الثاني هو الحقوق العرفيّة .
أمّا الحقوق الشرعية فهي الحقوق التي ثبتت بتأسيس من الشارع المقدّس، مثل: حق خيار الحيوان الثابت للمشتري قبل انتهاء ثلاثة أيام من عملية البيع، ومثل حق خيار المجلس الثابت للمتبايعين ماداما في المجلس وغير ذلك ممّا ورد ذكره في الشريعة المقدّسة .
وأمّا الحقوق العرفيّة فهي الحقوق التي لم يؤسّسها الشارع المقدّس، وأنّ العرف يرى ثبوت مثل هذا النوع من الحقوق.
وهنا يمكننا أن نقول: إنّ الحقوق العرفية تنقسم إلى قسمين: قسم ممضى شرعاً بحيث يجب احترامه ومراعاته، وقسم غير ممضى شرعاً.
ونحن في هذا البحث نريد أن نصل إلى أنّ حقوق الطبع والنشر ثابتة شرعاً بعد تسليم ثبوتها عرفا أو إنّها غير ثابتة شرعاً ؟
المقدّمة الثالثة: تشخيص الموضوعات بيد العرف
لا إشكال في أنّ تشخيص موضوعات الأحكام وكذا تطبيق العناوين على المصاديق موكول إلى العرف، ضرورة أنّ الشارع المقدّس كواحد منهم في إلقاء الخطابات ، وليس له منهج خاص ولا طريقة خاصة به في تشخيص موضوعات الأحكام .
فالآيات والأخبار الواردة في الأحكام الشرعية يكون فهمها وتشخيص موضوعاتها بحسب العناوين والمفاهيم وتشخيص مصاديقها بحسب الواقع والخارج بيد العرف العام، لا العقل البرهاني الدقيق، فإذا قال الشارع المقدّس: الدم نجس يكون الاعتبار في تشخيص مفهوم الدم ومصداقه بنظر العرف، فالموضوع للنجاسة هو عنوان الدم عرفاً، ومصداقه ما يراه العرف بحسب الخارج دماً.
ثم إنّ المراد من تشخيص العرف ليس ما هو المتداول في لسان بعضهم من التشخيص المسامحي والمسامحة العرفية، فإنّ العرف قد يتسامح كما في بعض الموضوعات التي لا يعتنى بها كالتبن والكلأ ولا يتسامح في بعضها كالذهب ونحوه، والميزان في موضوعات الأحكام الشرعية تشخيص العرف الدقيق لا المتسامح، إلا أن تقوم قرينة على أنّ الشارع أيضاً تسامح في موضوع من الموضوعات فيتبع.
وخلاصة هذا الكلام: أنّ المدار والملاك في نجاسة الفقاع ـ مثلاً ـ هو تسميته فقاع عرفاً أو ظهر من شربه السكر، لا مطلق ماء الشعير، فإنّ تشخيص الموضوعات الخارجية للأحكام الشرعية بيد العرف .
جاء في مصباح الفقيه: أنّ المرجع في تشخيص الموضوعات للأحكام الشرعية التي ليس لها حقيقة شرعيه هو الصدق العرفي، فلا مسرح للتشبّث بالاصول والقواعد في مقابله(1).
المقدّمة الرابعة : انتفاء الصدق العرفي
قد اتضح من خلال الكلام السابق أنّ تحديد مفاهيم موضوعات الأحكام الشرعية يكون بيد العرف وكذلك تطبيق المفاهيم على المصاديق يكون بيد العرف ، والسؤال الآتي ما هو الموقف لو انتفى الصدق العرفي ؟ وإلى أين يكون الملتجأ لو لم يتمكّن العرف من تطبيق المفهوم على مصداقه ؟
يقول الشيخ الهمداني في هذا المجال : لو انتفى الصدق العرفي بحيث حصل الشك في اندراج هذا الفرد تحت المطلق أو المضاف يجب الرجوع في تشخيصه إلى ما يقتضيه الأصل الموضوعي إن أمكن تعيين أحد الموضوعين بالأصل كما لو شك في إضافة الماء باختلاطه بالمضاف أو شيء من الجوامد من تراب ونحوه شيئاً فشيئاً أو شك في إطلاق المضاف لا متزاجه بالمطلق شيئاً فشيئاً على وجه يعدّ المشكوك بنظر العرف بعد المسامحة العرفية عين الموضوع الذي كان في السابق ماءً مطلقاً أو مائعاً مضافاً، المرجع حينئذٍ استصحاب حالته السابقة دون الاُصول الجارية في نفس الأحكام ؛ لحكومته عليها(2).
أهل الخبرة :
وهناك طريق آخر وهو الرجوع إلى أهل الخبرة، ولأجل هذا قال بعض العلماء في هذا المجال: « ولعلّ الأقوى في المقام ونحوه ممّا يتعذّر العلم وما بحكمه من البيّنة في تشخيص الموضوعات التي يترتّب عليها الأحكام الرجوع إلى الظنّ الحاصل من أهل الخبرة في تشخيصها سواء كان الشك في مفهوم الموضوعات أو في مصاديقها.
فإنّ المرجع في ذلك العرف الخاص، كما عليه بناء العقلاء في معرفة ما يتعلّق به أغراضهم من ذلك، ومنه الظنون الرجالية، والحاصل من قول اللغويين.
ويرشد إليه صحيحة عمّار الساباطي في معرفة المواقيت عن الصادق (عليه السلام)، قال: «يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك» .
وكلمة «يجزيك» ظاهرة في كفاية الظّن الحاصل من جواب الشخص الذي سأله؛ إذ ما وراء العلم من شيء غير الظنّ »(3)فإذن المعتبر في تحديد موضوعات الاحكام الشرعية هو الظن ان لم يمكن تحصيل القطع واليقين.
وعملية الاستنباط إنّما هي عملية تشخيص الحكم للموضوع بعد تحديده وتشخيصه ، ولا شك أن المعايشة الحياتية للحوادث لها دور كبير في تشخيص الموضوعات وتحديدها وفهم طبيعة الحكم المناسب المستفاد من الادلّة .
ولعلّ هذا الفهم لعملية الاستنباط هو الذي جعل الامام الحكيم يهتم بقضية الارتكاز العرفي، كما أنّه يفتح آفاقاً في عملية الاجتهاد لا يمكن حصرها في العملية التجريدية المحصورة بين النصوص والتصورات والفروض، وقد يضيف للاجتهاد والأعلمية شرطاً جديداً وبعداً ومحتوى أصيلاً يحتاج فيه مثل هذا الفهم إلى المعايشة (4).
المقدّمة الخامسة: الموضوعات على قسمين
القسم الأوّل: موضوعات صرفة كتشخيص أنّ هذا المائع خمر مثلاً، وهذا القسم من الموضوعات يكون تشخيصه بيد المكلّف .
القسم الثاني: الموضوعات مستنبطة ، وهي التي يعود تشخيصها إلى شؤون المجتهد ، كتشخيص أنّ الغناء هو الصوت المطرب لا كلّ صوت اشتمل على ترجيع من غير طرب .
والموضوعات المستنبطة على نحوين :
الأول :هو الثابت بحيث لا يتغيّر باختلاف الزمان والمكان ، ومثاله الغناء .
الثاني: هو المتغيّر بحيث يتأثّر بالظروف المحيطة ، وبما أنّ الأحكام تتغيّر بتغيّر المواضيع ، وتدور مدارها فمن هنا كان تشخيص الموضوعات المستنبطة المتغيّرة له دخل في الاجتهاد .
جاء في الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم: « أنّ جميع القضايا الشرعية إنّما وردت على سبيل القضايا الحقيقة لا القضايا الخارجية، فلا تتكفّل تشخيص وتعيين موضوعاتها خارجاً، وإنّما يترك تشخيص الموضوعات إلى المكلّفين أنفسهم بالطرق والقواعد المجعولة من قبل الشارع لذلك ، ومن هنا قيل: إنّ القضية لا تعيّن موضوعها خارجاً إذا كانت قضية حقيقة، فالدليل الذي يأمرك بالصلاة خلف العادل، لا يعيّن لك أن فلاناً مثلاً عادل أو غير عادل وهذا من الواضحات »(5).
وبعد طيّ هذه المقدّمات نستعرض أولاً الأدلّة التي استدلّ بها أو يمكن أن يستدلّ بها لعدم احترام حقوق الطبع، ثم نستعرض أدلّة الطرف الآخر ثانياً، وثالثاً الاشارة الى بعض الآثار المترتّبة على ثبوت الحق ، ورابعاً بحث بعض الصور والحالات لثبوت حق الطبع، وخامساً التعرّض الى بعض التطبيقات العملية ، وسادساً بحث حكم الأقراص الكمپيوترية، فصارت ستة بحوث مضافاً الى المقدّمة والى فتاوى الفقهاء التي جمعناها ضمن ملحق آخر البحث .
البحث الأول : أدلّة عدم احترام حقوق الطبع
يمكن أن يستدلّ لجواز تكثير الكتاب المطبوع والمباع في الأسواق من قبل غير المؤلّف والناشر باُمور :
الأمر الأوّل: أنّ المؤلّف والناشر ليس له حقّ في منع غيره من تكثير ونشر الكتاب والاستفادة منه ماديّاً ؛ وذلك لأنّ المؤلّف أو الناشر أقدم على بيعه ، وبهذا
البيع تخرج وتنتهي سلطته على الكتاب ، وعلى هذا فإذا كتب في أوّل أو آخر الكتاب عبارة «حقوق الطبع محفوظة للمؤلّف أو للناشر» فإنّ هذه العبارة لا أثر لها أصلاً ، ولا تثبت حقاً شرعياً للمؤلّف .
نعم ، له سلطنة ثابتة على الكتاب قبل أن ينشر في الأسواق ، وأمّا بعد الانتشار فقد فلت من يده، وهذا العمل نظير التقليد الجاري في الصناعات، حيث ترى شركة أو مؤسّسة تصنع زياً خاصاً من الملابس وتبيعه في الأسواق، وبعد الانتشار ترى الغير من أصحاب تلك الصنعة يقلّد ذلك الشكل مستفيداً من الخبرات والجهود التي صرفها المنتج الأوّل ، ولا ينكر عليه أحد من أصحاب ذلك الفنّ ، وهذا مؤيّد لعدم وجود الحق الشرعي للمؤلّف في منع الغير من تكثير كتابه.
ويرد عليه: إنّه قياس مع الفارق حيث إنّ ما مثّلت به ليس له حق محفوظ حسبما تعارف بين أهل الصنعة، مضافاً إلى ذلك أنّه لم يحفظ حق ذلك الانتاج لنفسه ولم يكتب أنّ ذلك الشيء ممنوع تكثيره، وعدم تثبيت الحق لنفسه بمنزلة الانصراف عنه، وهذا الأمر جارٍ حتّى في الكتب؛ فإنّ عدم وجود عبارة «حقوق الطبع محفوظة للمؤلّف أو للناشر» بمنزلة الانصراف والإعراض عن ذلك الحق ، كما هو واضح .
الأمر الثاني: أصالة العدم بأن نقول: إنّنا ندّعي عدم ثبوت الحق للمولّف أو الناشر في منع الغير عن تكثير الكتاب، وإذا شككنا في أنّ الحق للمؤلّف أو للناشر ثابت أم لا ؟
أصالة العدم هي الجارية هنا، فلا حقّ له في منع غيره عن نشر الكتاب .
ويرد عليه: إنّ أصالة العدم هنا محكومة بأصالة الاستصحاب حيث توجد الحالة السابقة ؛ فإنّ المؤلّف قد كان له الحق في الكتاب قبل نشره ، وبعد نشره يشك في أنّ حقه في منع الغير من طباعته وتكثيره قد زال أم لا ؟ الأصل بقاء حقه السابق .
اللهمّ إلاّ أن نقول: إنّ موضوع جريان الاستصحاب قد تبدّل فلا مجال للاستصحاب حيث إنّ الكتاب والمؤلّف قبل النشر والتكثير يختلف عنه بعد النشر والتكثير، فتأمّل .
الأمر الثالث: ثم إنّه قد يستدلّ لعدم وجوب حفظ حقوق الطبع للمؤلّف أو للناشر بالأدلّة الحاثّة على نشر العلم وبثّه مثل ما ورد في الذكر الحكيم : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ } (6)فإنّ هذه الآية الشريفة صريحة في حرمة كتمان العلم ، وتدلّ بالالتزام على عدم وجوب ، بل على عدم جواز حفظ حقوق الطبع والنشر وحصرها في جماعة معيّنة كالمؤلف والناشر .
وقد يشكل عليها بأنّها واردة في حرمة كتمان العلوم المرتبطة بإصول الدين، ولا تشمل كلّ علم، فلا ربط لها بمسألة حفظ حقوق الطبع .
ونقول في رد هذا الاشكال: إطلاق الآية شامل لكلّ علم يرضى به الله تعالى وقد بيّنه للناس فكتم العلم الملازم لحرمة نشر الكتاب حرام .
ويرد عليه : أن مثل هذا المؤلّف أو الناشر لا يصدق عليه أنّه كاتم للعلم ، بل قد تحقق منه نشر العلم من خلال الطبعة الاولى ولو طلب منه نشره مرة ثانية من قبله لم يمتنع ، فالمسألة ترتبط بمنافع نشر الكتاب ، ولا ربط لها بمنع نشر العلم .
الأمر الرابع : قد ورد في الخبر عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنه قال : «من سئل عن علم فكتمه حيث يجب إظهاره وتزول عنه التقية جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار» (7).
وهذا الحديث أيضاً ظاهر في حرمة كتمان العلم الملازمة لعدم احتكار العلم المعبر عنها بحفظ حقوق الطبع ، وقد ورد في خبر عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبدالله بن ميمون القداح ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه عليهم السلام قال : جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال : يا رسول الله ما العلم ؟ قال : الإنصات ، قال : ثم مه ؟ قال : «الاستماع» . قال : ثم مه ؟ قال : «الحفظ» قال : ثم مه ؟ قال : «العمل به» ، قال : ثم مه يا رسول الله ؟ قال : «نشره» (8).
ولهذا ذهب بعض العلماء في عصرنا إلى أنّ من موجبات الكتمان المحرّم أن يمنع المؤلّف نشر كتابه إلا بإذن منه ، وتعاقدٍ معه ، وأخذ أجرة عليه ، وإنما يجب عليه أن يمنحه لمن شاء طبعه ونشره دون حجر ولا احتكار ، وبغير مقابل ، وأنكروا ما اصطلح الناس في عصرنا على تسميته حقوق التأليف أو النشر أو التوزيع .
وجوابه واضح ممّا تقدم حيث إنّ المؤلّف لا يصدق عليه أنه كاتم للعلم فإنه قد نشر العلم في الطبعة الاولى .
الأمر الخامس: يمكن التمسّك لإثبات عدم الحق للمؤلّف أو دار النشر في منع غيره من تجديد طبع الكتاب ونشره بدليل «الناس مسلّطون على أموالهم» (9)وهذا الشخص الذي اشترى الكتاب قد صار الكتاب ملكه وماله يفعل به ما يشاء ، من قراءة أو كتابه أو هبة أو بيع أو تكثير ونشر وغير ذلك .
وبعبارة اُخرى : إنّ البائع للكتاب مثل صاحب المكتبة قد باعه لإنسان لا يعرفه ولا علاقة له بالناشر أو المؤلّف ، كما أنّه قد استوفى المال المقابل للكتاب ولم يبق شيء لم يأخذه من مشتري الكتاب حتّى يمعنه عن النشر والتكثير فسلطة المؤلف من ناحية تكثيره ونشره قد ذهبت وصارت له ولغيره ممن وقع بيده الكتاب بالشراء .
إن قلت : إنّ المؤلّف للكتاب وكذلك الناشر كان لهما الحقّ في منع الغير عن نشر الكتاب وطبعه قبل أن ينطبع الطبعة الاُولى وهذا ثابت بلا ريب ، وبعد الطبعة الاُولى نشكّ في بقاء تلك السلطنة وزوالها ، هنا نستصحب بقاء تلك السلطنة .
قلت : إنّنا لا نشكّ في بقاء تلك السلطنة ، بل نقول: إنّها قد ارتفعت يقيناً بالبيع للطبعة الاُولى ، وصار هذا الكتاب ملكاً للمشتري والناس مسلّطون على أموالهم وعلى عقولهم ، فلا مجال للاستصحاب في مثل هذا المورد .
وذلك لأن الاستصحاب يجري فيما إذا تمت أركانه وهي اليقين السابق والشك اللاحق وما نحن فيه ليس كذلك فإنه لا يوجد عندنا شك لاحق بل نحن على يقين بارتفاع تلك السلطنة .
الأمر السادس: إنّ القول بأحقيّة المؤلّف والناشر بمنع تكثير الكتاب قول بجواز اجحاف المشتري ، فإنّ المشتري قد أعطى مالاً مقابل الشيء الذي أخذه ، وهو حرّ في التصرّف يفعل بالكتاب الذي اشتراه ما يشاء .
وهكذا يجري الأمر فيمن اشترى ملبساً معيّناً مخيطاً وفق هيئة معينة ، وأراد أن يصنع مثله بعد أن فهم رغبات المجتمع لهذا الشيء هنا هل يجب أخذ رخصة وإجازة من المبدع الأوّل أو لا يجب ؟
كما أنّه لو ردع المبدع الأوّل غيره عن التكثير ولم يقبل هل لمنعه أثر أم لا ؟
وهكذا يجري الأمر فيمن سافر إلى دولة ودخل فندقاً من فنادقها أو مدرسة من مدارسها مثلاً ورأى الجهد الفكري المبذول في هندسة هذا البناء ، وكان صاحب فن بحيث إنّه تمكّن من نقل الخارطة من الواقع الخارجي إلى ذهنه فإذا رجع إلى وطنه هل تقولون بأنّ هذا لا يحقّ له استعمال تلك الخارطة الموجودة في ذهنه لأجل حفظ الحقوق ، أو تقولون إنّ مثل هذه الأشياء له حقّ فيها ؟
ويرد عليه بعض الايرادات الواردة في الأمر الأوّل .
هذا غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في عدم احترام حقوق الطبع .
البحث الثاني : أدلّة احترام حقوق الطبع
يمكن أن يستدلّ لمنع الغير شرعاً من تكثير الكتاب المطبوع المباع في الأسواق من قبل المؤلّف أو الناشر باُمور:
الأمر الأوّل: إنّ حقّ المنع من تكثير الكتاب من الحقوق العرفيّة العقلائيّة المستحدثة ، وكلّ ما كان حقّاً بنظر العقلاء فهو محترم في الشرع الإسلاميّ ، فتكون النتيجة أن للمؤلّف والناشر الدفاع عن حقه ، فله منع الغير عن التكثير ، فالعرف هنا صنع لنا موضوعاً للكبرى الكليّة القائلة بأنّ الحقوق محترمة بنظر الشريعة الإسلاميّة ، وهو أنّ المؤلّف له حق في تأليفه .
وهذا الحق عبارة عن فرد ومصداق جديد يدخل تحت الكبرى الكلّية ، فإنّه بمجرّد صيرورة شيء حقّاً عرفيّاً فإنّ العمومات الصريحة باحترام الحقوق تشمله .
قال السيّد الشيرازي في كتاب الفقه : « وأمّا الحق المستحدث باعتبار جعل الناس له حقّاً كحقّ التأليف مثلا ممّا دخل في موضوع الحق بجعل الناس له إذا أبطله الناس خرج عن الموضوعيّة ، فلا يترتّب عليه بعد ذلك أحكام الحقوق »(10).
ويستفاد من مفهوم كلامه إنّ الذي يثبته الناس من الحقوق محترم عند الشارع المقدس .
وقد يشكل عليه بأنّه ليس كلّ حق ثبت عند الناس قد أمضاه الشارع ، وما نحن فيه غير ثابت كونه من قبيل الحقوق المحترمة .
الأمر الثاني: إنّ هذا الشخص الذي اشترى الكتاب قد اشتراه مع شرط ، وهو الاستفادة من هذه النسخة من الكتاب الذي بيده في القراءة والنقل منها فقط ، ولا يحقّ له الاستفادة من الكتاب بالنشر والتكثير ؛ لأنّه قد رأى ما على ظهر الكتاب من منع ، فلا يحقّ له المتاجرة بالتكثير والطبع والنشر .
وقد قبل المشتري هذا الشرط الضمنيّ ـ وهو حفظ حقوق النشر للمؤلّف ـ بالإقدام على الشراء ، ولا يحق له مخالفة هذا الشرط ؛ لأنّ «المؤمنين عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف الكتاب والسنّة» (11)كما أنّه يشمله عموم الآية الكريمة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (12) والشرط هنا وإن كان غير مصرّح به إلا أنّه محترم شرعاً حاله حال الشرائط المصرّح بها لفظاً .
وسيأتي توضيح أكثر لما يترتب على مخالفة الشرط في معاملة البيع .
ونظير هذا ما نشاهده في بعض البلدان في أزمنة معيّنة من أنّ بعض الحكومات أو الشركات تبيع أشياءً بأسعار رمزيّة وتشترط على صاحب الدكّان أن يبيعها بهذا المكان وبهذا السعر لأجل مراعاة حال الفقراء مثلاً ، فإنّه هنا لا يجوز لصاحب الدكّان تجاوز الشرط المتّفق عليه وما نحن في من هذا القبيل ؛ فإنّه لا يحق لمشتري الكتاب أن يغض النظر عن الشرط المفروض عليه حين شراء الكتاب وهو حفظ حق النشر والتكثير للمؤلف ، وإذا أغمض المشتري النظر فإنّ صاحب الكتاب يحق له فسخ المعاملة كما سيأتي ذلك مفصلاً .
وهذامثل أن تشترط المرأة في عقد الزواج سكن امّها معها مادامت على قيد الحياة فإنّ هذا الشرط يجب على الزوج الوفاء به .
الأمر الثالث: إلحاق الضرر
إنّ الشارع لو لم يقف مع المؤلّف والناشر في المنع من تكثير الكتاب فإنّه سيكون مُقراً في إلحاق الضرر بالمؤلّف والناشر الأصليين حيث إنّنا نرى كثيراً.
من الكتّاب والمؤسّسات حيث يقومون بتحقيق الكتاب وإصلاحه وتخريج مصادره ويطبعونه الطبعة الأولى ولم يستوفوا ما صرفوه فتراهم منتظرين للطبعة الثانية كي يستوفوا ما صرفوه من الأموال في هذا الطريق وإذا جاز للغير الطبع والتكثير فإنّه سيتضرّر صاحب الموسّسة ، والشارع لا يرضى بالضرر والضرار ، فلا بدّ من الحكم بالمنع ، وعليه فتبقى تلك الحقوق محفوظة ومختصة بالمؤلف والمحقق .
ولا بأس بالاشارة إلى أنه يجب التمييز بين الكتاب المؤلّف والكتاب المحقق من قبل المؤسسات في مسألة إلحاق الضرر ، فإنّه قد يصدق إلحاق الضرر بمؤسسات التحقيق ولا يصدق إلحاق الضرر في تأليف الكتاب ، نعم يصدق فوات المنفعة .
إن قلت: إن المؤلف الذي يبذل جهداً فكرياً في تأليف الكتاب إذا طبعه غيره فإنه لا يدخل تحت الضرر، بل يدخل تحت فوات المنفعة والفرق بينهما واضح، حيث إنّ فقهاء الإسلام يفرّقون بين الأفعال الموجبة لإلحاق الضرر على الإنسان وبين الأفعال الموجبة لتفويت المنافع، وأنّ حكم الأول غير الثاني وما نحن فيه قد يكون من هذا القبيل، فإنّ من أخذ كتاب الغير وكثّره وباعه في الأسواق واستفاد من منافعه فإنّه لا يكون قد أضرّ بناشر الكتاب أو المؤلف، بل إنّه قد فوّت المنافع عليهم وتفويت المنافع غير إلحاق الضرر .
قلت: لو صحّ كلامك فما هو قولك فيمن يجعل ميزانية مالية ضخمة في تحقيق كتاب ولم يستوفها بالطبعة الاُولى ويبقى منتظراً للطبعة الثانية ؟
فلو قلنا بعدم حفظ حقوق الطبع ألم نكن من القائلين بجواز إلحاق الضرر بمثل هذا الشخص أو هذه المؤسسة ؟
وهذا مقبول في مؤسسات التحقيق الباذلة مالاً في إخراج الكتاب لكنه غير جار في مسألة تأليف الكتاب .
الأمر الرابع: المعلوم في الفقه الإسلاميّ حرمة التصرّف في مال الغير من دون إذنه، وتشتدّ الحرمة مع منعه عن التصرّف في ماله. وهنا حقّ الطبع والنشر والتكثير مال للمؤلّف فإنّ هذا النوع من الحقوق له ماليّة محترمة عند الشارع المقدس.
بيان ذلك: إنّ الثابت في الشريعة المقدّسة إن جهود وأتعاب الإنسان لها ماليّة ، فالماليّة قد تحصل من عمل الإنسان البدني وقد تحصل من عمل الإنسان الفكري ، وما نحن فيه من قبيل الثاني فتكون هذه الماليّة التي تكونت للمؤلّف بسبب جهد التأليف من مختصّاته ولا يحق لأحد التكثير والتصرّف فيها بدون إجازته .
ويمكن التأييد له في باب الجعالة حيث ثبت جواز إعطاء المال على العمل الفكري كأن يقول الجاعل : إنّ من يناظر فلاناً ويغلبه في المناظرة فله كذا . وإذا ثبت استحقاق المالية على مثل هذا العمل وهذا الجهد ثبت كونه محترماً عند الشارع المقدس ولا يحق لأحد التجاوز عليه .
ثمّ إنّ المؤلّف يمكنه أن يتنازل عن هذا الحق والجهد الذي بذله ـ النسخة الاُولى من الكتاب ـ للناشر بعد التوافق بينهما وأمّا بدون توافق فلا يجوز النشر والتكثير من غير رضاه .
ولا يخفى عليك أن الكتاب ملك لمؤلّفه ولهذا ينسب إليه ، ويحسب عليه ويحاسب على أخطائه ، وملكيته هنا ملكية علمية أدبية ، وهو أمر اُعترف به في القوانين المدنية .
ولا ريب أنّ من ملك شيئاً أصبح حرّ التصرّف فيه ، وأصبح من حقه الانتفاع بثمراته ، وهذه من لوازم الملكية فإذا كان من يملك بيتاً له الحق أن يسكنه أو يؤجره أو يبيعه ، فكذلك من يملك كتاباً فله الحق في طبعه ونشره وله الحق في منع ذلك .
فالكتاب العلمي لا يأتي عفواً إنّما هو ثمرة كفاح طويل ، ونتيجة جهد جهيد ، وسهر بالليل ، وعرق بالنهار لا يعرفه إلا من عاناه ، وربما استغرق الكتاب من صاحبه سنين حتى يبرز إلى حيزّ الوجود ، فهو إذن كسب من وراء عمل طويل مختزن في كتابه ، كما أن المصنع أو العمارة ثمرة جهد طويل ، اختزنه فيها منشئ المصنع أو صاحب العمارة .
وإن حياة المؤلّف ليست حياة سهلة ، كحياة سائر الناس ، إنّها حياة تتطلّب جهداً خاصاً زائداً على جهود العاديين من الناس ، كما تتطلّب نفقات خاصة زائدة أيضاً على نفقات الآخرين .
المؤلّف يحتاج إلى مكتبة غنية بالمصادر المهمّة ويحتاج إلى من يساعده في الاستنساخ أو التبييض أو الطباعة ، ويحتاج لمن يساعده في شؤون أسرته حيث لا يمكنه أن يتفرغ لأمورهم ورعايتهم كما يتفرغ سائر الناس ، وبدون هذا لا يستطيع أن ينتج علماً حقيقياً ، فأنّى له أن يغطي هذه النفقات ـ وإن كان موظفاً في جامعة أو وزارة أو مؤسسة ـ إن لم يكن له من مؤلفاته ما يدرّ عليه بعض العوض ؟
ثمّ إنّ المؤلّف قد يصدر طبعة من كتاب ثم يتراءى له بعد صدوره أشياء تقتضي أن يضيف أو يحذف أو يغيّر ، بناءً على اطّلاع جديد أو تغيّر اجتهاد أو اقتراح مقبول ، أو غير ذلك .
فإذا لم يعلم الطابع أو الناشر ماذا عند المؤلّف من تعديلات وتنقيحات ، فإنّه سينشر الكتاب على ما كان عليه ، ويلزم المؤلف ما لم يعد يلتزمه .
وقد كان علماؤنا قديماً لا يستبيحون رواية كتاب عالم ما إلا بإجازة منه ، وقد كان العلماء سابقاً يعطي بعض طلابه إجازة خاصة برواية كتاب معين وأحياناً يمنحه إجازة عامة برواية كتبه كلّها .
وهذه الإجازة تشبه حق الطبع أو النشر في زماننا ، أضيف إليها عنصر جديد وهو : أن المؤلف يتقاضى أجراً على جهده في التأليف ويشارك الناشر في جزء من الربح الذي يصيبه من وراء نشر الكتاب .
الأمر الخامس: إنّ الذي اشترى شيئاً من السوق فيه فنّ ودقّة مثل بعض الألبسة، لا يحق له تقليد وتكثير هذا الشيء الذي اشتراه حسب ما تعارف بين أهل الصنعة، إلاّ بإجازة من المبدع الأوّل، وذلك لأنّ هذا الشخص قد اشترى الشيء نفسه ولم يشتر الفنّ الفكري المبذول فيه وهذا أمر متعارف بين أصحاب كل فن .
وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الشيء المشترى فيه جانبان :
إحداهما : العمل الميكانيكي المبذول مع المادّة وهذا ماليّته قد استوفاها بالشراء .
ثانيهما : العمل الفكريّ المبذول والفن الفكري الجديد ، وهذا له ماليّة لكنّها لم تستوف بالشراء ، فيبقى ذلك الفنّ محفوظاً لصاحبه ولا يحقّ التقليد إلاّ بالإجازة من المبدع الأول .
ويرد عليه أنه لم يثبت مثل هذا الحق ولم يتعارف بين أصحاب الفنون كما ادعيت ، كما هو ظاهر من حال السوق العالمي .
الأمر السادس: حق الاختصاص .
وممّا يستدلّ به على جواز المنع من النشر والتكثير من قبل المؤلف الإلتزام بحق الإختصاص ، والمراد بذلك هو أنّ هذا الكتاب من مختصّاته ويحق له تكثيره ويحق له المنع من تكثيره ويحق له تكثير مئة نسخة أو أكثر من ذلك أو أقل من ذلك ، وبعبارة أدق : أنّ جميع اُمور وشؤون الكتاب موكولة إلى مؤلفه
يفعل بذلك ما يشاء فإنّه ثمار جهوده ، وثمار الجهود مملوكة لصاحبها ولا يستهان بها سواء قبل الطبع أو بعد الطبع .
ولا بأس بالإشارة إلى أنّ حق الإختصاص يمكن للمؤلف أن يعطيه إلى ناشر معين مجاناً ، أو مقابل مقدار من الثمن .
وقد يرد عليه أن حق الاختصاص ثابت ما دام الكتاب في حوزته ولا يعلم بقاء ذلك الحق بعد خروجه من يده إلى السوق .
ويجاب عليه أنّ الحق بعد ثبوته للمؤلّف بسبب الجهد الفكريّ الذي بذله في انتاج النسخة الاُولى من الكتاب واختصاصه بها نشكّ في زوال الحق عنه بعد طبع النسخة الاُولى ووقوعها بيد المشتريّ ، والاستصحاب يقول ببقاء الحق لصاحبه ولا يجوز لأحد الطبع والتكثير لغير صاحب الكتاب فإن أركان الاستصحاب هنا تامة وهي اليقين السابق بثبوت الحق للمؤلف والشك في بقاء ذلك الحق بعد عملية الطبع والنشر والاستصحاب يقول ببقاء ذلك الحق .
الأمر السابع: الحق لمن سبق
إن من جملة القواعد الفقهية عنه علماء المسلمين قاعدة الحق لمن سبق الدالة على ثبوت الحق بواسطة السبق في مكان في الأمكنة العامة .
وقد نطقت بهذه القاعدة الأدلة الروائية الكثيرة :
منها : رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : «سوق المسلمين كمسجدهم ، فمن سبق إلى مكان من سوق فهو أحق به إلى الليل» (13).
ومثلها مرسلةٌ عن ابن أبي عمير(14).
ومنها : النبوي المشهور «من سبق إلى مالم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به» (15)، فمثل هذه الروايات تدل على إثبات الأحقية للسابق .
ويتأيد مضمون القاعدة بالسيرة العقلائية القائمة على أن من سبق إلى مكان يكون أحق به من غيره وهذه السيرة العقلائية أفضل دليل على هذه القاعدة ؛ لعدم ردع الشارع عنها(16).
ونحن نحتاج هذه القاعدة لنستفيد منها بالأولوية حيث إنّ الحق لمّا كان ثابتاً لأجل السبق كان ثبوته بالأولى في عمل المؤلف الذي بذل جهداً في ذلك ؛ فإنه يكون أحق بما عمل ، خصوصاً وأننا نقول : إن عمل المؤلف له مالية وهذه المالية تحترم عند العرف ، والشارع لا يرى في ذلك باساً .
ويرد عليه ما في الأمر السابق ويجاب عليه بجريان الاستصحاب ، ومن المحتمل عدم جريان الاستصحاب فيسقط هذا الكلام عن دليليته .
وهذه الروايات ـ وإن كانت من حيث الدلالة تامة ـ لكن يشكل على سندها حيث إن رواية ابن أبي عمير مرسلة ، والرواية الاولى فيها طلحة بن زيد ولم يوثق ، وأمّا النبوي فطريقه غير معتبر كذلك .
لكن هذا الكلام بعيد عن الإنصاف حيث إنه يمكن لنا أن نقول بانجبار السند بمعنى أن بعض الروايات يعضد بعضها البعض الآخر ، كما أن العمل من مشهور العلماء بهذه الروايات يمكن أن يجبر السند مضافاً إلى أننا قلنا : إن السيرة العقلائية تدل على ذلك .
الأمر الثامن: ومن جملة ما يمكن أن يستدلّ به لعدم جواز طبع ونشر كتاب بدون رضا صاحبه بالأدلّة الآمرة بالإحتياط والصريحة بالوقوف عند الشبهة؛ فإنّ حق المؤلف إذا لم يثبت بالأدلّة المتقدّمة فإنّ المجال مفتوح للاحتياط .
الأمر التاسع: ويستدل على المطلب بالنصوص الناهية عن بخس حق الناس كقوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } (17)، فإنّه بعد تسليم أنّ الجهود الفكرية والأتعاب العلمية حق للمؤلف عرفاً فإنّه لا يحق لأحدٍ أن يبخس هذه الحقوق .
بعض الآثار المترتّبة على ثبوت حق النشر :
1 ـ إرث حق النشر
إنّه يلزم على القول بثبوت الحق لصاحب الكتاب بالمنع عن نشر الكتاب استمرار وبقاء هذا الحق له ، بل قد يصل للورثة فيما لو توفّي صاحب الكتاب على القول بأنّ مثل هذه الحقوق لها ماليّة محترمة عند العرف والعقلاء ، فإنّ المال المحترم عند العقلاء ، تصل نوبته للورثة فيما لو توفّي المالك الأصلي .
2 ـ حكم المعاملة على هذا الحق :
قد ذكرنا أنّ عمل المؤلّف مال عرفاً وشرعاً ، وعليه فيصح أخذ المال بإزاء إعطائه للغير ، كما هو الحال في إعطاء بعض المؤلّفين أعمالهم ونتاجاتهم الفكرية لبعض الناشرين مقابل مال معين وهذا واضح .
إنّما الكلام في أنّه هل يصح جعله مبيعاً أم لا ؟ أي : هل يصحّ أن نجعله عوضاً في معاملة البيع أم لا ؟
الأظهر عدم صحة كونه مبيعاً ، إذ يعتبر في البيع كون المبيع من الأعيان ، والمراد بالعين هو الموجود المتعيّن الخارجيّ ، وما لو وجد لكان من المتعيّنات الخارجيّة ، فتشمل الأعيان الخارجيّة ، والكلّي المشاع ، والكلّي في المعيّن ، والكلّي في الذمّة .
وأمّا المنفعة والحق فإنه لمّا لم يكن لهما وجود خارجي فإنّه لا يصح أن يقعا عوضاً في معاملة البيع .
ويشهد لاعتبار كون المبيع عيناً خارجية أنّ البيع من المفاهيم العرفيّة والإمضاء الشرعيّ متعلّق بتلك المفاهيم العرفية ، ولعلّ اختصاص البيع بنقل الأعيان من الاُمور الواضحة عندهم بحسب المتفاهم العرفيّ .
والظاهر إلى هذا نظر الفقهاء قدّس الله أسرارهم ، حيث استدلّوا لكون المنفعة والحق مما يختص بهما صاحبهما فيكون ، حق الاختصاص ثابتاً لهما ـ لا أنهما يقعان عوضاً في معاملة البيع ـ تارة بالتبادر حيث إنّ المتبادر من المبيع هو ما كان له وجود خارجي ، واُخرى بصحّة سلب البيع عن تمليك المنفعة بعوض ، فإن من يعطي منفعة داره للغير يصح لك أن تقول: إنه لم يبع منفعة داره ، وثالثة بانصراف الأدلّة إلى ما هو المعهود خارجاً من جعل المعوّض في البيع عيناً .
وقد يشكل بإنّ البيع بحسب متفاهم أهل هذا الزمان وإن اختصّ بنقل الأعيان إلاّ أنّ المعيار هو العرف ، والعرف يرى أنّ البيع يصدق على الأعيان ويصدق على الحقوق والمنافع .
ويندفع ذلك :
أولاً :إنّه إن ثبت ذلك في هذا الزمان فإنّه لا يُبنى على كونه كذلك في زمان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لأصالة عدم النقل المعبّر عنها بالاستصحاب القهقري الذي ثبت عدم جريانه ببناء العقلاء وسيرة العلماء .
وثانياً :إنّ الشكّ في شمول البيع لنقل غير العين مانع عن التمسّك بعمومات صحة البيع ، ويتعيّن البناء على أنّ المنافع والحقوق من المختصات لا من الاُمور التي يجوز بيعها . .
وقد ثبت من هذا الكلام أن المعاملة على الحقوق بعد ثبوتها للمؤلّف وإن كانت صحيحة إلا أنّها ليست بيعاً .
وثمرة ذلك أنّنا إن قلنا : إنّها بيع جرت عليها قوانين البيع وإن قلنا : إنّها صلح جرت عليها قوانين الصلح فتأمّل .
الهوامش
(1) مصباح الفقيه للهمداني 1 : 53 .
(2) مصباح الفقيه للهمداني 1 : 53 .
(3) بلغة الفقيه ( بحر العلوم ) 1 : 247 .
(4) انظر : مقدّمة ( دليل الناسك ، السيد محسن الحكيم ) بقلم السيد محمد باقر الحكيم :65 ـ 66 .
(5) الأصول العامة للفقه المقارن : 314 .
(6) البقرة : 159 .
(7) اُنظر : الغدير ( الاميني ) 8 : 153 .
(8) اُنظر : شرح اصول الكافي 3 : 180 .
(9) بحار الأنوار ( المجلسي ) 2 : 272 .
(10) الفقه 100 : 231 .
(11) قد فصّل الكلام في هذا الحديث السيد البجنوردي في القواعد الفقهية 3 : 247 .
(12) المائدة : 1 .
(13) الوسائل 12 : 300 ، ب 17 أبواب آداب التجارة ، ح 1 .
(14) الوسائل 12 : 300 ، ب 17 أبواب آداب التجارة ، ح 2 .
(15) مستدرك الوسائل 3 : 149 .
(16) انظر: القواعد الفقهية ( للشيخ مكارم الشيرازي ) 2 : 139 .
(17) الاعراف: 85 .
المصدر: مجلة فقه أهل البيت العدد:47
حقوق الطبع والنشر محفوظة أم لا ؟ / القسم الثاني.. الأستاذ عبد الحليم عوض الحلي