الاجتهاد: تعرّض الكاتب في هذا البحث إلى إشكاليّة فصل السّياسة عن الدين الّتي يطرحها بعض العلمانيّين، مستدلّين على فكرتهم بحديث الغدير وغيره، وقد عرض الكاتب أوّلاً فكرتهم الّتي يريدون تصويرها بشكل مستقلّ، وذكر الشّواهد عليها بشكل موضوعيّ، ثمّ قام بنقدها ومناقشتها بشكل مفصّل وتجزيئيّ.
مقدّمة: يعتبر حديث الغدير من أقوى الأحاديث الدّالّة على إمامة وخلافة الإمام علي “عليه السلام” بعد النّبيّ “صلى الله عليه وآله وسلم” سنداً ودلالةً، وكان هذا الحديث وما زال هو المعضلة لدى علماء العامّة في كيفيّة الجمع بين خلافة الخلفاء الثّلاثة وبين هذا الحديث؛ إذ إنّ هذا الحديث يرفض فكرة خلافة غير الإمام علي “عليه السلام” بعد النّبيّ “صلى الله عليه وآله وسلم”، ولكن الواقع الذي حصل هو خلافة الخلفاء الثّلاثة،
فمن هنا ومن أجل تبرير خلافة الثّلاثة جاءت التّشكيكات والتّأويلات لحديث الغدير بما يتناسب مع الأهواء والمصالح والاعتقاد، فمن هؤلاء العلماء مَن شكّك في تواتر حديث الغدير، ومنهم من حاول تأويل معناه بما لا يخدش معتقده في الخلفاء الثّلاثة، وهكذا.
وقد انبرى علماؤنا الأبرار للرّدّ على هذه التّشكيكات والتّأويلات في كتبهم بما لا مزيد عليه، حتّى صار الأمر واضحاً وضوح الشّمس لكلّ متأمّل منصف.
إلّا أنّه في الآونة الأخيرة ظهرت مجموعة أخرى تشكّك في حديث الغدير أو تحاول تأويله بما يتناسب مع منهجهم، وهم مجموعة الحداثيّين والعلمانيّين، سواء كانوا منتسبين إلى مذهب التّشيّع أم لا، فيحاول هؤلاء تأويل حديث الغدير بما يتناسب مع فكرهم ومنهجهم وهو فصل السّياسة والدولة عن الدين، فهؤلاء يحاولون التّمسّك بكلّ فكرة تؤيّد هذا المعنى، فنلاحظ أنّهم قد يتمسّكون مثلاً ببعض إشكالات علماء العامّة القديمة الّتي يمكن أن تخدم فكرتهم كما سيتّضح، وكذلك يضيفون بعض الإشكالات الأخرى.
من هنا نحاول أن نطرح فكرتهم وإيراداتهم وإشكالاتهم على حديث الغدير بما يوضّح الهدف الّذي يريدون الوصول إليه، من دون حاجة إلى التطرّق إلى أسمائهم؛ فالمهمّ هو الفكرة، ثمّ نقوم بالرّدّ على تلك الإشكالات بما يسعه المقام.
فيقع البحث في قسمين:
القسم الأول: توضيح فكرة عدم دلالة حديث الغدير على الجمع بين الدّين والسّياسة
سوف نقوم في هذا القسم بعرض فكرتهم وأدلّتها من دون المناقشة فيها؛ حتّى تتشكّل الصّورة بشكل واضح، ومن ثمّ سنقوم بالرّدّ والمناقشة في القسم الثّاني.
حاصل الفكرة: أنّه من الواضح أنّ الدّين لا يخالف حقوق الإنسان الفطريّة؛ لأنّ مخالفتها تعدّ ظلماً للإنسان، والظّلم لا يصدر من الدّين والشّريعة؛ لأنّه أمر قبيح، بل الدّين جاء ليعزّز هذه الحقوق الفطريّة للإنسان.
ومن جملة الحقوق الفطريّة للإنسان هو حقّ اختيار الحاكم، وهو حقّ ندركه بالوجدان؛ إذ من الواضح وممّا ندركه بالوجدان أن ليس لأحد حقّ السّلطنة على الآخر إلّا إذا خُوّل بذلك، فإذا أدركنا هذا الحقّ الفطريّ فإنّه تتمحّض وظيفة الدّين حينئذٍ في إرشاد النّاس إلى اختيار الأفضل من الحكّام، ولا يمكن أن يُجبر الدّينُ النّاسَ على اختيار حاكم معيّن،
ولذا يقول الإمام علي”عليه السلام” نفسه حول هذا الموضوع: الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يُقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدّم أو حرام الدّم، أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رِجلاً، ولا يبدؤا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسّنّة، يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظّالم([1])، فالإمام “عليه السلام” يقرّر أنّ حقّ اختيار الإمام والحاكم هو من حقوق النّاس، فهم الّذين لهم الحقّ في اختيار الحاكم، لا أنّه يُفرَض عليهم فرضاً.
إذا اتّضح ذلك، فلا بدّ -إذا أردنا أن نفهم حادثة الغدير فهماً صحيحاً- ألّا نفصل بين حادثة الغدير وبين ما أثبتناه قبل قليل من أنّ الدّين لا يخالف الحقوق الفطريّة للإنسان، وإلّا كنّا بعيدين عن الفهم الحقيقيّ لحادثة الغدير. فكيف يمكن لنا أن نفهم حادثة الغدير فهماً صحيحاً عميقاً؟
للإجابة عن هذا التّساؤل ينبغي الالتفات إلى مجموعة من الأمور قبل الخوض في دلالات حديث الغدير؛ بحيث تعيننا هذه الأمور على فهم حديث الغدير فهماً صحيحاً:
الأمر الأوّل: هو ما قرّرناه سابقاً، من أنّ حقّ انتخاب الحاكم هو من الحقوق الفطريّة للإنسان الّتي ندركها بالوجدان، والدّين لا يمكن أن يخالف الحقوق الفطريّة؛ لأنّه ظلم قبيح.
الأمر الثّاني: إنّ الطّريقة العقلائيّة الّتي يمكن من خلالها انتخاب الحاكم هي الّتي تسمّى بالشّورى، وهي ما يُصطلح عليه في العصر الحديث بالدّيموقراطيّة، أي: حكم الأغلبيّة، أو الأخذ برأي أغلبيّة الشّعب؛ إذ إنّ هذه الطّريقة هي المتناغمة مع فطرة الإنسان في اختيار الحاكم.
الأمر الثّالث: إنّ النّظريّة الّتي يطرحها الشّيعة في تنصيب الحاكم هي نظرية تخالف الدّيموقراطيّة، والّتي هي طّريقة عقلائيّة لاختيار الحاكم، بل تخالف الحقّ الفطريّ للإنسان في انتخاب الحاكم؛ لأنّها تفرض على الشّعب حاكماً معيّناً من دون أن تكون للشّعب يدٌ في ذلك، بحيث يكون هناك تجاهل لآراء الأمّة، وهذا ممّا لا ينسجم مع الدّين كما أوضح سابقاً.
الأمر الرّابع: إذا لاحظنا أهداف الدّين نجدها تتقاطع مع أهداف الحكومة والدّولة ولا يمكن الجمع بينها؛ حيث إنّ أهداف الدّين تنصبّ حول هداية النّاس، وشدّهم نحو الله تعالى، وإعمار الآخرة، والتّحلّي بالفضائل الأخلاقيّة، بينما أهداف الحكومة تنصبّ حول إقامة العدل والقسط بين النّاس وإعمار الدّنيا، ومن الواضح أنّ إقامة العدل والقسط بين النّاس تُخلِّف حَنَقاً وأثراً سيّئاً لدى المحكوم عليهم بالأحكام القضائيّة وإن كان حكماً حقّاً وعادلاً، فإذا كان الدّين هو من يقوم بهذه الوظيفة -وهي إقامة القسط بين النّاس- فسوف ينفرُ النّاسُ منه ولن يحقّق أهدافه في هداية النّاس.
بعد أن اتّضحت هذه الأمور نأتي إلى حديث الغدير، ونرى هل يمكن أن يدلّ على ما تذهب إليه الشّيعة من أنّ الإمامة تكون بالتّنصيب الإلهيّ أو لا؟
فنقول: إنّ حديث الغدير ليس صريحاً في تنصيب الإمام علي”عليه السلام” خليفة للمسلمين، بل إنّ كلمة (المولى) لها عدّة معانٍ كما هو مقرّر في محلّه، وبالتّالي لا ينبغي حمله على ما يخالف الحقوق الفطريّة للإنسان من حقّ انتخاب الحاكم، فغاية ما يدلّ عليه قوله “عليه السلام”: >من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه” هو أنّ الإمام علي”عليه السلام” هو مولاكم في أمور الدّين، أي: هو المرجعيّة الدّينيّة لكم بعد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ؛ لأنّه أفضل النّاس من بعد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” في هذا الأمر، أمّا أنّه “عليه السلام” هو الحاكم السّياسيّ من بعد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” فلا دلالة فيه على ذلك، فيبقى حقّ اختيار الحاكم متروكاً للنّاس.
نعم، من خلال الملازمة العقليّة نستكشف أنّ الدّين قد أرشد النّاس إلى اختيار الإمام علي “عليه السلام” حتّى في الإمامة السّياسيّة، ولكن هذا ليس بالإلزام الدّينيّ والتّنصيب الإلهيّ، فلا يوجد هناك تنصيب فعليّ للإمام علي “عليه السلام” في أمر الحكم والدّولة، بل للنّاس أن يأخذوا بهذا الإرشاد ولهم أنّ يتركوه، ولا تدخل مخالفة إرشاد النبي”صلى الله عليه وآله وسلم” في هذا الأمر في عداد المعصية.
إذاً، المشكلة الّتي وقع فيها الشّيعة في فهم حديث الغدير هي أنّهم قد تصوّروا بأنّ هذا التّنصيب على نحو الإلزام الشّرعيّ، متغافلين عن أنّ الإلزام الشّرعيّ يعدّ مخالفاً للحقّ الفطريّ للإنسان في انتخاب الحاكم، كما أنّهم تصوّروا بأنّ أمر الأمّة الإسلاميّة لا يستقيم إلّا إذا تمّ تعيين الحاكم من قبل الله ، والحال أنّ المسألة ليست كذلك، ولذا ذهبوا إلى تفسير حديث الغدير بتفسير خاطئ وهو التّنصيب الإلهيّ للحاكم السّياسيّ.
وإلّا لو ربطوا حديث الغدير بما قدّمناه سابقاً من نقاط لاتّضح لهم بشكل جليّ أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” إنّما قام فقط بترشيح الإمام علي “عليه السلام” للخلافة، كما تفعل ذلك سائر الأحزاب والشّخصيّات السّياسيّة عند تقديم مرشّحيها للانتخابات من أجل انتخاب النّاس لهم، فهذا مجرّد ترشيح واقتراح، لا أنّه على نحو الإلزام.
ويشهد لهذا المعنى مجموعة من الشّواهد المهمّة:
الشّاهد الأوّل: أنّ صحابة النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” قد سمعوا حديث الغدير وحضروا الواقعة، ومع ذلك خالفوا إرشاد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، ومن المستبعد جدّاً -بحسب سيرة العقلاء، وبحسب طبيعة سلوك النّاس عامّة- أن يكونوا قد خالفوا أمراً إلزاميّاً من النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، بل الصّحيح أنّ الصّحابة لم يفهموا من حديث الغدير إلّا ما فهمناه، وهو أنّ الإمام علي “عليه السلام” هو الإمام في أمور الدّين فقط، وأمّا الرّئاسة الدّنيويّة واختيار الحاكم للدّولة فهو يبقى حقّاً للنّاس، يختارون من يشاؤون بحسب ما يرونه من مصلحة.
الشّاهد الثّاني: أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم يأخذ البيعة من المهاجرين والأنصار للإمام عليّ”عليه السلام” بعد حادثة الغدير، وإنّما هناك مجموعة منهم بادروا بأنفسهم لتهنئة الإمام عليّ “عليه السلام” على هذه المكانة الّتي احتلّها من رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” ، وأنّه أرشد النّاس لاختياره، وهذا شاهد على أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” إنّما نصّب الإمام عليّ “عليه السلام” إماماً في الدّين وليس في الحكم.
الشّاهد الثّالث: أنّ الإمام عليّ “عليه السلام” عندما طُولب بالبيعة لأبي بكر لم يستشهد بحديث الغدير في مقام احتجاجه، وإنّما كان يحتجّ عليهم بكمالاته الذّاتيّة وأنّه الأصلح لتولّي الخلافة، وكذلك لم يفهم المسلمون من حديث الغدير أنّه يتنافى مع بيعة أبي بكر، وهذا شاهد على أنّ حديث الغدير لا يدلّ إلّا على الإمامة الدّينيّة فقط، ولا يدلّ على الإمامة السّياسيّة.
الشّاهد الرّابع: أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” يعلم بأنّ في تنصيب الإمام عليّ “عليه السلام” خليفة على المسلمين خطراً كبيراً، وأنّ هذا التّنصيب سوف يؤدّي إلى الخلاف والشّقاق بين المسلمين، وأنّ جملة منهم سوف يخالفون هذا الأمر، وبالتّالي يذهب المخالفون لأمره إلى النّار بسبب عصيانهم لأوامر النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، وهذا خلاف الغرض الّذي جاء به النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” وهو هداية النّاس وتقريبهم إلى الله عزّ وجلّ.
فهذا شاهد على أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم ينصّب الإمام علي “عليه السلام” أصلاً خليفة على المسلمين، بل أرشدهم لاختياره من دون إلزام، وبالتّالي لا يترتّب على مخالفة هذا الإرشاد أيّة معصية، ولا يذهبون إلى النّار.
الشّاهد الخامس: تهاون الإمام “عليه السلام” في استلام مقاليد الخلافة بعد أن بُويع أبوبكر، فهو “عليه السلام” بعد رحيل النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” اشتغل بتجهيز النّبيّ ولم يذهب إلى السّقيفة، ثمّ بعد السّقيفة لم يبادر للثّورة وجمع الأصحاب واسترداد حقّه -لو كان له حقّ-، بل نجده قد رفض الخلافة بعد مقتل عثمان، فلو كان الإمام “عليه السلام” مُنصَّباً من قبل النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” فهل له أن يرفض البيعة والخلافة؟
بل نجد أنّ الإمام “عليه السلام” يستهين بهذا المنصب غاية الاستهانة؛ وذلك فيما رواه ابن عباس حيث يقول: دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: >ما قيمة هذا النّعل؟< فقلت: لا قيمة لها! فقال “عليه السلام” : >واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم<([2])، فهذا كلّه شاهد على أنّ النّبيّ لم ينصّبه أصلاً للخلافة الدّنيويّة السّياسيّة.
الشّاهد السّادس: أنّ أصحاب الإمام عليّ “عليه السلام” قد تولّوا المناصب في فترة خلافة الخلفاء الثّلاثة، مثل: عمّار بن ياسر الّذي كان والي الكوفة، وسلمان الفارسيّ الّذي كان والي المدائن، وكانوا يشاركون القوم في حروبهم كما في فتح بلاد فارس وأفريقيا، هذا مضافاً إلى أنّ الإمام عليّ “عليه السلام” كان يقدّم المشورة والنّصيحة للقوم، ويتعاون معهم، وهذا شاهد على أنّ الإمام “عليه السلام” كان موافقاً لهم في سياستهم، وأنّ الأصحاب لم يفهموا من حديث الغدير إلّا الإمامة الدّينيّة، دون الإمامة الدّنيويّة السّياسيّة.
الشّاهد السّابع: أنّ سيرة الأئمّة كانت قائمة على الرّفض من تولّي الخلافة، فأمّا الإمام علي”عليه السلام” فهو إنّما قبل بالخلافة بعد إلحاح النّاس عليه من بعد مقتل عثمان، وأمّا الإمام الحسن “عليه السلام” فهو أيضاً لم يكن يريد الخلافة من الأساس، بل كان يريد الصّلح مع معاوية منذ أن تولّى الخلافة،
ولكن لكون رفضه للخلافة وتسليمه إيّاها لمعاوية منذ البداية سوف يؤجّج الموتورين من أصحابه ويُشعل أزمة داخليّة بين الشّيعة، قام “عليه السلام” أوّلاً بتولّي الخلافة لمدّة يسيرة، ثمّ سرعان ما تخلّى عنها بعد أن اتّضح لأهل الكوفة مقدار الخيانات الّتي حصلت في جيش الإمام الحسن “عليه السلام” ، وبالتّالي خفّ الضّغط على الإمام الحسن “عليه السلام” ، وهكذا سائر الأئمّة كانوا يرفضون القيام من أجل الأخذ بالخلافة، فهذا شاهد على أنّهم لم يكونوا يرون أنّ الخلافة الدّنيويّة حقّ لهم ليطالبوا بها.
إذاً، نكتفي بهذه المجموعة من الشّواهد الّتي تؤكّد على أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم ينصّب الإمام عليّ”عليه السلام” خليفة على المسلمين في حادثة الغدير، وإنّما جعله إماماً في الأمور الدّينيّة فقد، وأرشد النّاس إلى اختياره حاكماً سياسيّاً ولكن لا على نحو الإلزام، فتبقى إمامة الإمام رهينة ببيعة الأمّة له، فما لم تنعقد البيعة للحاكم من قبل النّاس لن تقوم له الحجّة في أعناقهم، ولكن ما إن يبايعوه حتّى يكون حكمه ملزماً لهم، وتغدو سلطته شرعيّة، وتجب عليهم الطّاعة شرعاً.
هذا تمام الكلام في بيان فكرة ونظرة بعض العلمانيّين لحادثة الغدير، وكيف أنّهم يؤوّلون الحديث بما يتوافق مع نظريّتهم من فصل السيّاسة عن الدّين.
وهم لديهم كذلك مجموعة أخرى من الرّوايات -غير حديث الغدير- يستندون إليها في تدعيم فكرتهم، ولكن اقتصرنا على ما يقال في حديث الغدير؛ لأهمّيته وتواتره.
القسم الثّاني: نقد ومناقشة هذه الفكرة
لنأتي الآن لمناقشة هذا الطّرح بشكل تفصيليّ، وبالنّحو الّذي يرتفع به أيّ إشكال قد يعلق في الذّهن:
المناقشة الأولى: وهي ترتبط بالأساس الّذي بنيت عليه هذه الفكرة والنّظريّة، وهو أنّ حقّ انتخاب الحاكم هو من الحقوق الفطريّة للإنسان الّتي ندركها بالوجدان، فلا يجوز على الدّين مخالفة هذا الحقّ الفطريّ.
فنقول:
أوّلاً: إنّ القول بأنّ انتخاب الحاكم هو من الحقوق الفطريّة للإنسان هو أوّل الكلام، فمن أين نعرف أنّ هذا من الحقوق الفطريّة؟! والوجدان لا يحكم بشيء هنا.
ثانياً: إنّ المسلَّم بالوجدان هو ألّا سلطنة لأحدٍ من البشر على أحدٍ من البشر، ولكن هذا لا يعني ألّا سلطنة لله تعالى على مخلوقاته، بل الله تعالى هو المالك لكلّ شيء، وكلّ مالك فإنّ له التّصرّف في ملكه؛ كما يقرّره العقلاء أنفسهم، فالله تعالى له الحقّ في تنصيب الحاكم بما يراه من مصلحة للعباد، ولا يكون في ذلك منافاة لحقّ النّاس؛ إذ لا حقّ في قبال حقّ الله عزّ وجلّ.
ثالثاً: إنّ المتكلّمين قد أثبتوا في كتبهم أنّ الإمامة تجب عن الله تعالى بقاعدة اللّطف العقليّة([3])، فالعقل هو الّذي يحكم بلزوم تنصيب إمامٍ على الأمّة، فكيف يقال بأنّ مسألة اختيار الحاكم ترجع لأمر البشر وأنّه حقّ من حقوقهم الفطريّة؟!
رابعاً: بالنّسبة للحديث الّذي تمّ الاستشهاد به والمرويّ عن أمير المؤمنين “عليه السلام” والّذي جاء فيه: >.. أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسّنّة<، فإنّه لو نُقلت الرّواية بتمامها لانتفى الإشكال، حيث يصرّح الإمام “عليه السلام” بعد ذلك بأنّ الله تعالى قد اختاره إماماً للنّاس وكفى المؤمنين مؤونة الاختيار، حيث قال”عليه السلام” : >وأنّ أوّل ما ينبغي للمسلمين أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخيرة إلى الله وإلى رسوله فإنّ الله قد كفاهم النّظر في ذلك والاختيار، ورسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتّباعه<([4])، فهل هناك ما هو أصرح من هذا الكلام في كون الإمام عليّ”عليه السلام” قد اختاره الله تعالى ورسوله لمنصب الخلافة؟!
خامساً: ما هي الإمامة المقصودة والّتي نبحث عنها؟ يمكن تقسيم الإمامة إلى إمامة واقعيّة وإمامة ظاهريّة: أمّا الإمامة الواقعيّة، فقد بيّنها الإمام الرّضا”عليه السلام” في رواية طويلة عن عبد العزيز بن مسلم، نذكر شيئاً منها:
>يا عبد العزيز … هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم، إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها النّاس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم… إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرّسول”صلى الله عليه وآله وسلم” ومقام أمير المؤمنين “عليه السلام” وميراث الحسن والحسين “عليهما السلام” ، إنّ الإمامة زمام الدّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدّنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النّامي، وفرعه السّامي، بالإمام تمام الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصّدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثّغور والأطراف… فمن ذا الّذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب… وكيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا كيف وأنى؟ وهو بحيث النّجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟! أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرّسول محمّد؟ كذبّتهم والله أنفسهم، ومنتهم الأباطيل، فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً، تزلّ عنه إلى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضلّة، فلم يزدادوا منه إلّا بعداً، …<([5])، فالإمامة الواقعيّة ثابتة للمعصوم “عليه السلام” ، قبِل النّاس به أم لا، طالب بها الإمام أم لا، فهذا لا يغيّر من الواقع شيئاً.
وأمّا الإمامة الظّاهريّة، فقد عرّفها المشهور من المتكلّمين -من العامّة والخاصّة- بأنّها: “رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا”([6])، فالعامّة إذا قالوا بإمامة شخص فهم يقولون بإمامته في الدّين والدّنيا، والخاصّة إذا قالوا بإمامة شخص فهم يقولون بإمامته في الدّين والدنيا، وبالتّالي فإنّ القول الّذي يقول بالفصل بين الأمرين -أي بين الدّين والدّنيا- مخالف لما فهمه كثير من المسلمين من الإمامة.
المناقشة الثّانية: وهي ترتبط بقولهم بأنّ نظرية الشّيعة الإماميّة تتعارض مع الدّيموقراطيّة الّتي هي الطّريقة العقلائيّة لتنصيب الحاكم.
فنقول:
أوّلاً: لا نريد هنا الخوض في ثغرات الدّيموقراطيّة الّتي يعترف بها حتّى الغربيّين أنفسهم، حيث بحثوا طويلاً في كيفية تبرير حكم الأكثريّة على الأقلّيّة، وغيرها من الثّغرات المذكورة([7])،
إلّا أنّنا نقول: ما هي قيمة الديموقراطية في قبال الحقّ الإلهيّ حتّى نقول بوجود التّعارض بينهما؟! إنّ الدّيموقراطيّة نتاج بشريّ وفيها الكثير من الثّغرات والنّواقص الحقوقيّة والإنسانيّة كما يقول معتنقوها، فكيف يمكن لمؤمن بالله تعالى أن يجعل الحقّ الإلهيّ في مصافّ هذا النّتاج البشريّ؟! نعم، “نحن قد نؤمن بالدّيموقراطيّة عمليّاً بلحاظات موضوعيّة معيّنة، ولكن هذا لا يعني أن نحتضنها ديناً، وألّا نناقشها فكراً، وألّا نحاسبها منطلقاً ونتيجةً، وألّا نردّ منها ما يردّه العقل والدّين”([8]).
ثانياً: إنّ الإمامة مسألة جعليّة إلهيّة، فالله تبارك وتعالى هو الّذي يجعل الإمامة عند من يشاء ويراه الأصلح لذلك، فبالإضافة إلى دليل العقل على ذلك -وهو دليل قاعدة اللطف- فقد دلّ النّقل على ذلك، كما في قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}([9])، فالله تعالى هو الّذي يجعل الأئمّة لا النّاس، وكذلك قوله تعالى على لسان موسى “عليه السلام” : {واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي}([10])، فالنّبيّ موسى”عليه السلام” لم يجعل أخاه هارون وزيراً من تلقاء نفسه، وإنّما طلب من الله تعالى أن يجعله وزيراً؛ لأنّ هذا الجعل لا يكون إلّا من الله تعالى، وكذلك النّبيّ إبراهيم “عليه السلام” حينما قال: {قال ومن ذرّيتي، قال لا ينال عهدي الظّالمين}([11])، فقد طلب من الله تعالى أنّ يجعل الإمامة في ذريّته، ولم يجعلها هو “عليه السلام” فيهم من تلقاء نفسه؛ وذلك لأنّ الإمامة عبارة عن جعل إلهيّ.
ثالثاً: يمكن النّقض عليهم بأنّ ما تُشكلون به على الإمامة يأتي حتّى على النبوّة، فهل نبوّة النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” تتعارض مع الدّيموقراطيّة عندكم؟ لا تلتزمون بذلك.
رابعاً: هل الدّيموقراطيّة هدف أم وسيلة؟ لا شكّ أنّ الدّيموقراطيّة في نظر المفكّرين هي وسيلة لإقامة العدل والقسط بين النّاس وليست هدفاً في حدّ ذاتها، ولذا لو جاءت نظريّة أخرى تضمن تحقّق العدل بين النّاس لأُخذ بها، ولذا نقول بأنّ التّنصيب الإلهيّ يضمن للإنسان سعادته وإقامة العدل، وبالتّالي لا معنى للتّمسّك بالدّيموقراطيّة.
المناقشة الثّالثة: وهي المرتبطة بقولهم إنّ أهداف الدّين تتعارض مع أهداف الحكومة، فهدف الدّين هداية النّاس وإعمار الآخرة، بينما هدف الحكومة هو إقامة العدل والقسط بين النّاس وإعمار الدّنيا، فلو تولّى الدّين إقامة العدل والقسط بين النّاس لتنفّر النّاس من الدّين؛ باعتبار أنّ طبيعة إقامة العدل تخلّف سخطاً وأثراً سيّئاً لدى المحكوم عليهم بالأحكام القضائيّة، وهذا يتنافى مع أهداف الدّين.
فنقول:
أوّلاً: لا نرى أيّ تعارض بين الأهداف، بل العكس من ذلك؛ فإنّ إقامة العدل والقسط بين النّاس يعتبر طريقاً لهداية النّاس وقبولهم الدّين الحقّ، فالنّاس كلّما رأت العدل انشدّت واقتربت نحو الدّين أكثر.
ثانياً: أمّا بالنّسبة لامتعاض بعضهم وحَنَقهم على بعض الأحكام القضائيّة الصّادرة في حقّهم فهذا لا يعني رفض حكومة الدّين كما هو واضح، فإنّ هذا الامتعاض منهم من غير وجه حقّ، وإلّا فلازم ذلك إلغاء كلّ المحاكم؛ لأنّه ليس من مصلحة أيّ حكومة أن تجمّع النّاقمين عليها، وهل يقول بذلك عاقل؟!
المناقشة الرّابعة: وهي الّتي ترتبط بقولهم بأنّ حديث الغدير ليس صريحاً في التّنصيب الإلهيّ، وأنّ كلمة (المولى) لها أكثر من معنى في اللغة، ولذا لا ينبغي حمل حديث الغدير على ما يخالف الحقوق الفطريّة للإنسان، بل ينبغي حمله على ما يتوافق معها، وهو الّذي بيّناه من أنّ الإمام عليّ”عليه السلام” مولاكم في أمور الدّين فقط.
فنقول:
أوّلاً: لا ننكر وجود أكثر من معنى للفظ المولى، فهو تارة يستعمل بمعنى الأولى، كقوله تعالى: {مأواكم النّار هي مولاكم}([12])، وثانية يستعمل بمعنى النّاصر، كقوله تعالى: {ذلك أنّ الله مولى الّذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم}([13])، وثالثة بمعنى الوارث، كقوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون}([14]) أي ورثة، ورابعة بمعنى العصبة، كقوله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي}([15])، وخامسة بمعنى الصّديق، كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولاً عن مولاً شيئاً}([16])، وسادسة بمعنى المحبوب والنّاصر، وسابعة بمعنى الأولى بالتّصرّف، كما تقول: (فلان ولي القاصر)،
ولكن نقول: من أيّ معنى من هذه المعاني يمكن استفادة الولاية في أمور الدّين فقط؟! لا يوجد أي معنى يدلّ على ذلك.
ثانياً: إنّ المستشكل يدّعي بأنّه لا ينبغي فصل حديث الغدير عن القرائن وعن الأمور الفطريّة الّتي ذكرها، فنقول له: إنّه أيضاً لكي نعيّن المعنى المراد من كلمة (المولى) ينبغي عدم إغفال القرائن المحتفّة بحديث الغدير، فإنّنا إذا دقّقنا في هذه القرائن بإنصاف ومن دون تعصّب سنجد بكلّ وضوح أنّ المراد من كلمة (المولى) هو معنى الأولى بالتّصرّف، وهو المعنى الّذي تقول به الشّيعة.
فمن ضمن تلك القرائن ما يلي:
القرينة الأولى: خشية النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” من إبلاغ هذا الأمر، حتّى نزلت الآية {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين}([17])، فلو كان النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” سيبلّغ النّاس بأنّ الإمام عليّ”عليه السلام” هو محبّكم، أو ناصركم، فلماذا كلّ هذه الخشية؟!
فهل كان هذا أمراً خافياً على النّاس أصلاً؟! وهل يكون عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ الرّسالة؟! فهذه القرينة تعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتّصرّف، أي الخليفة.
القرينة الثّانية: يأس الكفّار وإكمال الدّين، فقد قال تعالى في هذا الشّأن: {اليوم يأس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}([18])،
فلو كان معنى (المولى) هو حبّ الإمام علي”عليه السلام” فكيف نفسّر يأس الكفار من القضاء على الدّين؟ ثمّ إنّه أين الملازمة بين حبّ الإمام”عليه السلام” وبين إكمال الدّين وإتمام النّعمة؟! فلا يصحّ تفسير هذه الآية إلّا إذا قلنا بأنّ ما حدث كان في غاية الخطورة وهو تنصيب الإمام عليّ”عليه السلام” خليفة على المسلمين.
القرينة الثّالثة: فهم الحضور من أنّ كلمة (المولى) قد استعملت بمعنى الأولى بالتّصرّف، أي أنّ أمير المؤمنين”عليه السلام” هو الإمام والخليفة بعد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، ومنهم الشّاعر حسّان بن ثابت في شعره الّذي رواه اثنا عشر راوياً من العامّة في كتبهم كما ذكر العلّامة الأمينيّ([19])، حيث وصف أمير المؤمنين”عليه السلام” بالإمام والهادي، يقول:
إلهك مولانا وأنت نبيّنا ولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا فقال له: قم يا علي فإنّني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا وقد علّق عليه العلّامة الأمينيّ بقوله: “هذا أوّل ما عرف من الشّعر القصصيّ في رواية هذا النّبأ العظيم، وقد ألقاه في ذاك المحتشد الرّهيب، الحافل بمائة أو يزيدون، وفيهم البلغاء، ومداره الخطابة، وصاغة القريض، ومشيخة قريش العارفون بلحن القول ومعارض الكلام، بمسمع من أفصح من نطق بالضّاد (النّبي الأعظم) وقد أقرّه النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” على ما فهمه من مغزى كلامه، وقرّظه بقوله: >لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك”.
القرينة الرابعة: إنّ قراءة الأحداث التي حصلت في يوم الغدير والأفعال التي صدرت من النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” تعيّن بما لا شكّ فيه أنّ معنى (المولى) هو الأولى بالتّصرّف، أي: الخليفة والإمام.
ولا بأس هنا من نقل بعضٍ من كلام العلّامة السّيّد شرف الدّين في المقام لتتّضح القرائن الّتي كانت محتفّة بحادثة الغدير، حيث قال: “وأنّكم تقدّرون رسول الله في حكمته البالغة، وعصمته الواجبة، ونبوّته الخاتمة، ..
فلو سألكم فلاسفة الأغيار عمّا كان منه يوم غدير خمّ، فقال: لماذا منع تلك الألوف المؤلّفة يومئذ عن المسير؟ وعلى مَ حبسهم في تلك الرّمضاء بهجير؟
وفيم اهتمّ بإرجاع من تقدّم منهم وإلحاق من تأخّر؟ .. ثمّ خطبهم عن الله عزّ وجلّ في ذلك المكان الّذي منه يتفرّقون، ليبلغ الشّاهد منهم الغائب، وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهلّ خطابه؟
إذ قال: >يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول، وإنّكم مسؤولون<، وأيّ أمر يسأل النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” عن تبليغه؟ وتسأل الأمّة عن طاعتها فيه، ولماذا سألهم فقال: >ألستم تشهدون ألّا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ وأنّ البعث حقّ بعد الموت؛ وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور<،
قالوا: بلى نشهد بذلك، ولماذا أخذ حينئذ على الفور بيد علي فرفعها إليه حتّى بان بياض إبطيه؟ فقال: >يا أيّها النّاس إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين<، ولماذا فسّر كلمته ـ وأنا مولى المؤمنين ـ بقوله: وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ .. ولماذا أشهدهم من قبل، فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه، فعليّ مولاه، أو من كنت وليّه، فعليّ وليّه، .. وفيمَ هذا الاهتمام العظيم من هذا النّبيّ الحكيم؟ ..
وما الشّيء الّذي أمره الله تعالى بتبليغه إذ قال عزّ من قائل {يا أيّها الرّسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من النّاس}، وأيّ مهمّة استوجبت من الله هذا التّأكيد؟ واقتضت الحضّ على تبليغها بما يشبه التّهديد؟ وأيّ أمر يخشى النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلى عصمة الله من أذى المنافقين ببيانه؟ أكنتم -بجدك لو سألكم عن هذا كلّه- تجيبونه بأنّ الله عزّ وجلّ ورسوله، إنّما أراد بيان نصرة عليّ للمسلمين، وصداقته لهم ليس إلّا؟! ما أراكم ترتضون هذا الجواب، ولا أتوهّم أنّكم ترون مضمونه جائزاً على ربّ الأرباب، ولا على سيّد الحكماء وخاتم الرّسل والأنبياء..”([20]).
القرينة الخامسة ولعلّها الأقوى: وهي فهم الإمام عليّ”عليه السلام” نفسه، حيث فهم من حديث الغدير تنصيبه للخلافة، ولم ينكر عليه أحد هذا الفهم، وسيأتي ذكر بعض كلماته في هذا الشّأن عند مناقشتنا للشّاهد الثّالث.
المناقشة الخامسة: وهي ترتبط بمجموعة الشّواهد الّتي تمّ ذكرها على مدّعاهم:
أمّا الشّاهد الأوّل: وهو أنّ الصّحابة فهموا من حديث الغدير أنّ تنصيب الإمام عليّ”عليه السلام” كان للأمور الدّينيّة، وأمّا أمر الخلافة السّياسيّة فهو متروك للنّاس، ومن البعيد جدّاً -بحسب طبيعة سلوك النّاس- أن يكونوا بأجمعهم قد خالفوا أمر النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” في هذا الشّأن.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: إنّ هذا الشّاهد يرتبط ببحث عدالة الصّحابة، وقد أشبع علماؤنا هذا البحث في كتبهم، فنحن لا نقول بعدالة الصّحابة حتّى يكون فعلهم حجّة علينا بحيث نضطرّ إلى تأويل النّصّ الصّريح في خلافة أمير المؤمنين “عليه السلام” .
ثانياً: إذا كان الأصحاب قد فهموا من حديث الغدير الولاية والإمامة الدّينيّة فقط، فلماذا لم يجعلوا الإمام عليّ “عليه السلام” إماماً لهم في أمر الدّين؟ ولماذا لم يرجعوا إليه في أمر السّقيفة ليعرفوا موقف الدّين في مسألة تنصيب الحاكم؟!
ثالثاً: من قال بأنّ جميع الأصحاب فهموا من حديث الغدير الإمامة الدّينيّة؟ ألا ترون المعارضين لموقف السّقيفة من أمثال أبي ذر الغفاريّ، وسلمان الفارسيّ، وعبد الله بن عباس، وأبي أيوب الأنصاريّ، وعمّار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وعثمان بن حنيف، وغيرهم؟! فمعارضتهم لم تكن إلّا لأنّهم قد فهموا من حديث الغدير وغيره من الأحاديث أنّ الإمام عليّ “عليه السلام” هو الخليفة بعد النّبيّ “صلى الله عليه وآله وسلام” دون غيره.
ثمّ إنّه كيف تفسّر نظريّة عدالة الصّحابة هذا الموقف منهم؟! ألم يكن هؤلاء من الصّحابة أيضاً؟!
وأمّا الشّاهد الثّاني: وهو أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم يأخذ البيعة من المهاجرين والأنصار للإمام عليّ “عليه السلام” ، وإنّما بادرت مجموعة منهم لتهنئته”عليه السلام” .
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: لا نسلّم بأنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم يأخذ البيعة للإمام عليّ”عليه السلام” ، بل الوارد أنّه بعد خطبته يوم الغدير “نَزَل -وكان وقت الظّهيرة- فصلّى ركعتين، ثمّ زالت الشّمس، فأذَّن مُؤَذّنُه لصلاة الفَرْض، فصَلّى بهم الظّهر، وجلس في خَيمته، وأمَر علياً أن يجلس في خيمةٍ له بإزائه، ثُمّ أمَرَ المسلمين أن يَدْخُلوا عليه فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنّؤوه بالمقام، ويُسلِّموا عليه بإمْرَة المؤمنين، ففعل النّاسُ ذلك كلُّهم، ثمّ أمَرَ أزواجَه وجميعَ نِساء المؤمنين معه أن يَدْخُلن عليه ويُسَلِّمن عليه بإمْرَة المؤمنين ففَعلنَ.
وكان ممّن أطْنَبَ في تهنئته بالمقام عُمَر بن الخطّاب، فأظْهَر له المسَرّة به وقال فيما قال: بَخٍ بَخٍ يا عليّ، أصبحتَ مَولاي ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ”([21])، فهل هناك من داعٍ لكلّ هذه المبالغة في التّهنئة من وجوه القوم لو كان المراد من أمر النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لهم مجرّد الأمر بالمحبّة؟!
ثانياً: هل أنّ البيعة تمنع من تخلّف القوم بعد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” عن أمير المؤمنين “عليه السلام” ؟! ماذا فعلت البيعة لأمير المؤمنين”عليه السلام” بعد مقتل عثمان؟ ألم ينكث طلحة والزّبير البيعة بعد أيّام من وقوعها؟!
وأمّا الشّاهد الثّالث: وهو أنّ الإمام عليّ”عليه السلام” عندما طُولب بالبيعة لأبي بكر لم يستشهد بحديث الغدير في مقام احتجاجه، وكذلك لم يفهم المسلمون من حديث الغدير أنّه يتنافى مع بيعة أبي بكر.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: لو سلّمنا بأنّ الإمام عليّ “عليه السلام” لم يحتجّ بحديث الغدير حينما طولب بالبيعة لأبي بكر، إلّا أنّه لا ينفي أنّه احتجّ بحديث الغدير في مواطن أخرى، ولا ينفي أنّه احتجّ بأحاديث أخرى تدلّ على تنصيبه للخلافة.
ثانياً: إنّ الإمام علي “عليه السلام” قد احتجّ بحديث الغدير في مواطن متعدّدة، منها أثناء مطالبته للبيعة من أبي بكر، ولكنّه “عليه السلام” رفض البيعة وقال: “>يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمّد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، وتدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في النّاس، يا معاشر الجمع إنّ الله قضى وحكم، ونبيّه أعلم، وأنتم تعلمون أنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، أما كان منّا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرّعية، والله إنّه لفينا لا فيكم، فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعدا، وتفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم<. فقال بشير بن سعد الأنصاريّ الّذي وطّأ الأمر لأبي بكر،
وقالت جماعة الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعتْه الأنصار منك قبل الانضمام لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان. فقال عليّ”عليه السلام” : >يا هؤلاء، أكنت أدع رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” مسجّى لا أواريه، وأخرج أنازع في سلطانه؟ والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” ترك يوم غدير خمّ لأحد حجّة، ولا لقائل مقالاً، فأنشد الله رجلاً سمع النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” يوم غدير خمّ يقول: (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، أن يشهد بما سمع<، قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدريّاً بذلك، وكنت ممّن سمع القول من رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” فكتمت الشّهادة يومئذٍ فذهب بصري، قال: وكثر الكلام في هذا المعنى، وارتفع الصّوت، وخشي عمر أن يُصغى إلى قول عليّ “عليه السلام” ففسخ المجلس، وقال: إنّ الله تعالى يقلّب القلوب والأبصار، ولا يزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك”([22]).
ومنها: ما ورد أثناء الشّورى المقترحة -وهي شورى السّتة- من عمر بن الخطاب، حيث احتجّ “عليه السلام” عليهم في حديث طويل بقوله: >نشدتكم بالله، هل فيكم أحد نصبه رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” يوم غدير خم بأمر الله تعالى فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟ قالوا: لا<([23]). وغيرها كثير من الرّوايات.
ثالثاً: لا نسلّم بأنّ المسلمين فهموا عدم المنافاة بين حديث الغدير وبين البيعة لأبي بكر، بل الكثير منهم فهموا بأنّ الإمام عليّ “عليه السلام” هو الخليفة بعد النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” دون غيره، وقد ذكرنا بعضهم في مناقشة الشّاهد الأوّل.
رابعاً: إنّ دواعي إخفاء مثل هذه الاحتجاجات الصّادرة من أمير المؤمنين “عليه السلام” موجودة بشكل قويّ؛ حيث إنّ هذه الاحتجاجات مخالفة لرأي الحكّام آنذاك، فعدم وصول شيء منها -لو سلّمنا بعدم وصولها- لا يعني عدم صدورها منه “عليه السلام” ، ولا يعني عدم دلالة حديث الغدير على الخلافة.
وأما الشّاهد الرّابع: وهو أنّ تنصيب الإمام عليّ “عليه السلام” سوف يسبّب الخلاف والشّقاق بين المسلمين، وأنّه بسبب ذلك سوف يدخل جملة من المسلمين النّار لعصيانهم أوامر النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، وهذا يتنافى مع هدف النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” وهو هداية النّاس والذّهاب بهم إلى الجنّة، وبالتّالي لا يصحّ أن يصدر من النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” هذا التّنصيب السّياسيّ.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: يمكن النّقض عليهم بجميع التّكاليف الإلهيّة الّتي جاء بها النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، فينبغي ألّا يأتي النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” بالتّكاليف كالصّلاة والصّوم والحجّ وغير ذلك؛ لأنّ هناك من سيعصي هذه التّكاليف ويذهب إلى النّار، وهذا يتنافى مع هدف النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” وهو هداية النّاس والذّهاب بهم إلى الجنّة! وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.
ثانياً: إنّ المسلم الحقيقيّ لا بدّ أن يُسَلّم بكلّ ما أتى به النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” من تكاليف، وينقاد للحكم الشّرعيّ، لا أن يُرجّح مصالحه الشّخصيّة على حساب الحكم الشّرعيّ، فالّذي يدّعي أنّ تنصيب الإمام عليّ”عليه السلام” خليفة على المسلمين يسبّب الخلاف والشّقاق فهو في الحقيقة لا يلتزم بالتّكليف الشّرعيّ.
ثالثاً: إذا لاحظنا مقام النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” وعظمته، وعلمه وإحاطته بجميع الأمور والخفايا، فهل يأتي مسلم بعد ذلك ويقول بأنّ في تنصيب النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” للإمام عليّ “عليه السلام” خطأ وأنّه يؤدّي للخلاف والشّقاق؟! هل علمُ هؤلاء ومعرفتهم أعلى من علم النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ومعرفته؟! وهل أنّ اختيارهم للحاكم سوف يكون أفضل من اختيار النّبيّ؟! ما لكم كيف تحكمون!
رابعاً: هل سلم المسلمون من الخلاف والشّقاق حتّى على القول بأنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم يُنصّب أمير المؤمنين “عليه السلام” خليفة وحاكماً على المسلمين، وإنّما جعله إماماً على أمور الدّين؟! بل الخلاف قد حصل ووقع سواء قلنا بهذا التّفسير أم ذاك.
خامساً: إنّ الدّنيا دار ابتلاء وامتحان، فليس المطلوب من النّبيّ أن يذهب بالنّاس إلى الجنّة بالإكراه، بل الإنسان مختار في أمره، فإمّا أن يطيع الله ورسوله ويمتثل التّكاليف الشّرعيّة فيذهب إلى الجنّة، وإمّا أن يعصي الله ورسوله فيذهب إلى النّار، فإنّ القول بأنّ بعض النّاس سوف يعصون ويذهبون إلى النّار لا يعدّ مبرّراً لردّ دلالة حديث الغدير.
وأمّا الشّاهد الخامس: وهو تهاون الإمام عليّ “عليه السلام” باستلام مقاليد الخلافة، وانشغاله بتجهيز النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” ، وعدم مبادرته لجمع أصحابه واسترداد حقّه -لو كان له حقّ-، بل ورفضه للخلافة بعد مقتل عثمان، واستهانته وتحقيره لهذا المنصب، وأنّ كلّ ذلك عبارة عن شواهد على أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم ينصّب أمير المؤمنين خليفة على المسلمين، بل جعله إماماً في أمور الدّين فقط.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: لا نسلّم بأنّ الإمام تهاون ولم يتحرّك نحو المطالبة بحقّه؛ فالشّواهد التّاريخيّة كثيرة في ذلك، نذكر منها:
1) اعتصام الإمام “عليه السلام” في بيته مع بعض أصحابه الّذين رفضوا البيعة لأبي بكر، وهذه الحادثة معروفة نقلتها كتب التّاريخ([24]).
2) ما رواه ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر “عليه السلام” : >أنّ عليّاً حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النّصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرّجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال عليّ”عليه السلام” : أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه وأخرج إلى النّاس أنازعهم في سلطانه! وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلّا ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه<([25]).
حتّى أنّ معاوية أخذ بتعيير الإمام في رسالته المشهورة، حيث قال: “وأعهدك أمس تحمّل قعيدة بيتك ليلاً على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصدّيق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسّوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله فلم يجبّك منهم إلّا أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقّاً لأجابوك، ولكنّك ادّعيت باطلاً، وقلت ما لا تعرف، ورُمت ما لا يدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك و هيّجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم، فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع”([26]).
3) عدم مبايعة الإمام عليّ”عليه السلام” لأبي بكر إلى أن مضت ستّة أشهر، وقيل إنّه لم يبايع مدّة حياة فاطمةj([27]).
ثانياً: وأمّا بالنّسبة لرفضه “عليه السلام” للخلافة بعد مقتل عثمان فهو من باب التّوطئة والتّمهيد لإتمام الحجّة على النّاس، فهو يريد أن يهيّئهم على أنّه لن يسير على سيرة الخلفاء السّابقين، بل سيسير على نهج الرّسول، وأنّ في ذلك فتناً ومصاعب، فعليكم أن تتحمّلوها.
ثالثاً: وأمّا بالنّسبة لاستهانته بمنصب الخلافة، فنحن لو أتممنا الخبر المنقول عنه “عليه السلام” لاتّضح لنا أنّ مقصود الإمام “عليه السلام” هو الاستهانة بمنصب الخلافة إذا كانت من مناصب الدّنيا والّتي لا تقيم عدلاً بين النّاس، حيث قال في تتمّة الخبر المتقدّم: >..واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً<([28]).
وأمّا الشّاهد السّادس: وهو أنّ أصحاب الإمام “عليه السلام” قد تولّوا المناصب الإداريّة فترة خلافة الخلفاء الثّلاثة، وكانوا يشاركون في حروبهم، بل أنّ الإمام “عليه السلام” بنفسه كان يتعاون مع الخلفاء ويقدّم لهم النّصيحة والمشورة، وهذا شاهد على أنّ أصحاب الإمام “عليه السلام” لم يفهموا من التّنصيب في يوم الغدير أنّه التّنصيب للخلافة.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: إنّ تولّي أصحاب الإمام عليّ”عليه السلام” بعض المناصب الحكوميّة لا يعني أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” لم ينصّب الإمام”عليه السلام” يوم الغدير خليفة على المسلمين، كيف وهؤلاء الأصحاب نفسهم كانوا قد اعترضوا على تولّي أبي بكر لهذا المنصب.
ثانياً: أمّا بالنّسبة لتعاون الإمام عليّ “عليه السلام” مع الخلفاء فهذا أيضاً لا يعدّ دليلاً على أنّ النبي”صلى الله عليه وآله وسلم” لم ينصّبه خليفة على المسلمين، بل إنّ مقتضى حكمة الإمام عليّ “عليه السلام” وحرصه على تثبيت دعائم الإسلام هو أن يتعاون مع الخلفاء بالمقدار الّذي يحفظ الإسلام، خصوصاً وأنّ الإسلام كان ما زال طريّاً، والأعداء يتربّصون به من كلّ جانب.
وإذا كان الإمام”عليه السلام” بنفسه يتعاون مع الخلفاء لحفظ الإسلام فبالتّبع فإنّ أصحابه سيقومون بنفس الدّور، ولا يُستبعد أن يكون ذلك بإذن منه”عليه السلام”.
وأمّا الشّاهد السّابع: وهو أنّ السّيرة العمليّة للأئمّةi كانت على الرّفض من تولّي الخلافة، ممّا يشهد على أنّ الخلافة لم تكن حقّاً لهم، فلا يكون تنصيب النّبي “صلى الله عليه وآله وسلم” للإمام عليّ “عليه السلام” يوم الغدير إلّا تنصيباً للأمور الدّينيّة.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: إنّ هذا يتعارض مع النصوص الصريحة الصادرة منهمi في أنّ الخلافة هي حقّ من حقوقهم، منها ما عن الإمام الصّادق “عليه السلام” : >إنّ الإمامة عهدٌ من الله عزّ وجلّ معهودٌ لرجالٍ مُسمّين، ليس للإمام أن يزويها عن الّذي يكون من بعده<([29])، وقوله”عليه السلام”: >نحن سادة العباد، وساسة البلاد<([30]).
ثانياً: إنّ ما ورد من رفض الأئمّةi الخروج والثّورة -كما في قضيّة سدير الصّيرفيّ والإمام الصّادق “عليه السلام” ([31]) وغيرها- إنّما كان لأجل عدم تحقّق شرائط الثّورة، وإلّا فلو تحقّقت الشّرائط لما وسعهم القعود كما في الرّواية.
ثالثاً: إنّ الأئمّة تعرّضوا إلى أنواع القتل، والسّجن، والنّفي، والتّشريد، والتّعذيب المعنويّ والجسديّ من قِبَل الحكّام وسلاطين الجور، وما ذلك إلّا لأنّهم لم يقبلوا بالظّلم ولم يساوموا عليه، فكانوا يشكّلون خطراً كبيراً على تلك الحكومات؛ حيث كانت تراهم يخطّطون لإقامة الخلافة الإسلاميّة الصّحيحة، فكيف يقال بأنّ الأئمّةi كانوا يرفضون تولّي الخلافة، وكانوا يحصرون وظيفتهم بالأمور الدّينيّة؟!
رابعاً: أنّ النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” قد عيَّن جميع الأئمّة من بعده، وهذا يدلّ على أنّ المسألة محسومة وليست هي شورى، كما في حديث النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” المتواتر: >لا يزال أمر أمّتي ظاهراً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش<([32])، فالإمامة حقّ من حقوقهم، وعدم النّهوض للمطالبة بها إنّما هو لموانع أخرى.
خاتمة
اتّضح بما لا مزيد عليه بأنّه لا يمكن استفادة الفصل بين الإمامة الدّينيّة والإمامة السّياسيّة من حديث الغدير، بل ولا من غيره، فكلّ المسلمين لم يكن لديهم هذا الفهم أساساً، فكيف يُحمل هذا الفهم على النّصوص الدّينيّة المرتبطة بالإمامة؟! فهذا الفكر الحداثويّ يراد منه تجريد الإمامة من أهمّ أركانها وهو الخلافة السّياسيّة، وبالتّالي تعود إمامة الإمام محصورة في المساجد، ومن ثمّ يتمكّن الظّالمون والعابثون من فعل كلّ ما يريدونه وكلّ ما يحقّق شهواتهم و ميولاتهم من دون رادع.
كما أنّه يمكن -من خلال المناقشات السّالفة الذّكر- الجواب عن الإشكالات الأخرى الموجّهة لبقيّة الرّوايات؛ فنحن قد ذكرنا أهمّ إشكالاتهم وأجبنا عليها، فما يأتي من إشكالات على بقية الرّوايات ليس بأهمّ ممّا ذكرناه، فيمكن الإجابة عليه بما تقدّم. والحمد لله ربّ العالمين.
الهوامش
([1]) بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج33، ص144، ط- دار إحياء التّراث.
([2]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص76.
([3]) راجع: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّيّ، ص490. اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة، المقداد السّيوريّ، ص323. حقّ اليقين في معرفة أصول الدّين، السّيّد عبد الله شبّر، ص184، ط-الأعلميّ.
([4]) بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج33، ص144، ط- دار إحياء التّراث.
([5]) الكافي، الكليني، ج1، ص199، ط-الإسلاميّة.
([6]) مناهج اليقين في أصول الدّين، العلّامة الحلّيّ، ص373. اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة، المقداد السّيوريّ، ص315.
([7]) راجع كتاب أجوبة الشّبهات الكلاميّة، الإمامة، محمد حسن قدردان قراملكي، ج4، ص130- 131، ط-العتبة العبّاسيّة المقدّسة.
([8]) أضواء على الفكر السّياسيّ الإسلاميّ، آية الله الشّيخ عيسى قاسم، ج1، ص267.
([9]) السّجدة: 24.
([10]) طه: 29- 30.
([11]) البقرة: 124.
([12]) الحديد: 15.
([13]) محمّد: 11.
([14]) النّساء: 33.
([15]) مريم: 5.
([16]) الدّخان: 41.
([17]) المائدة: 67.
([18]) المائدة: 3.
([19]) الغدير، العلامة الأميني، ج2، ص34.
([20]) المراجعات، السّيّد عبد الحسين شرف الدّين، المراجعة 58، ص299.
([21]) الإرشاد، المفيد، ج1، ص176.
([22]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ح28، ص186-188، ط. دار إحياء التّراث.
([23]) الاحتجاج على أهل اللجاج، الطّبرسي، ج1، ص 136.
([24]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج2، ص21.
([25]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج6، ص13.
([26]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص47.
([27]) قال ابن أبي الحديد: “الّذي يقوله جمهور المحدّثين وأعيانهم: فإنّه “عليه السلام” امتنع من البيعة ستّة أشهر ولزم بيته، فلم يبايع حتّى ماتت فاطمةj، فلما ماتت بايع طوعاً”. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج2، ص22.
([28]) تقدّم تخريج الخبر.
([29]) الكافي، الكليني، ج1، ص278، ط-الإسلاميّة.
([30]) بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج26، ص259، ط-بيروت.
([31]) عن سدير الصّيرفيّ قال: “… فقال: واللّه يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. ونزلنا وصلّينا، فلمّا فرغنا من الصّلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر”. الكافي، الكلينيّ، ج2، ص242- 243، ط-الإسلامية.
([32]) الأمالي، الصّدوق، ص 310.
المصدر: مجلة رسالة القلم/ العدد 64