الاجتهاد: في القرن التّاسع عشر الميلاديّ في أوروبا ظهر الاهتمام بموضوع السّاميّة مع مورتس شتاين شنايدر وويلهيام مار، وقد كان موضوع السّاميّة قديما موضوعا تأريخيّا مرتبطا بالبعد اللّاهوتيّ، في الأصالة ارتبط بالعهد القديم في سفر التّكوين من حيث أبناء نوح، وارتباطهم بابنه سام، بيد أنّه لم يكن محصورا في بني إسرائيل، ولا عند السّامريين واليهود، عرقيّا يشمل العرب والآشوريين والبابليين والآراميين بما فيهم الفلسطينيّون ذاتهم، كما أنّه لا علاقة له بالدّين السّامريّ أو اليهوديّ، فيدخل فيه – حسب العرق – جميع الأديان الّتي ارتبطت بهذا العرق، وخصوصا المسيحيّة الشّرقيّة والإسلام والصّابئة المندائيّة، وفي الدّراسات الأكاديميّة الغربيّة ما بعد القرن الثّامن عشر الميلاديّ ارتبط مصطلح السّاميّة باللّغات القديمة باسم اللّسان أو العائلة السّاميّة، وهذا ليس محصورا في العِبريّة (بكسر العين) فيدخل فيه العَربيّة (بفتح العين) والآراميّة والسّريانيّة وغيرها من اللّغات القديمة وفق العائلة السّاميّة.
بعضهم يرجع العداء ضدّ السّاميّة إلى البعد الدّينيّ في الجانب المسيحيّ – اليهوديّ، خصوصا بعد اعتناق بولس للمسيحيّة، فأصبحت عالميّة بعدما كان التّكوّن المسيحيّ الأول في ذات الدّائرة السّاميّة اليهوديّة، بيد أنّ اليهوديّة ذاتها مع كونها ديانة عرقيّة إلّا أنّ العديد من الأعراق الأخرى انفتحت على هذه الدّيانة، ولم تعد محصورة في الجانب السّاميّ الإسرائيليّ، والصّراع اليهوديّ – المسيحيّ صراع لاهوتيّ أكثر منه صراعا عرقيّا، واشتدّ ظهور البعد العرقيّ في المسيحيّة قديما بسبب اعتناق الرّومان للمسيحيّة بعد قسطنطين الأكبر 313م، والرّومان لهم تعصبهم العرقيّ ضدّ الأعراق الأخرى، والّذين يرجعون إلى الهيلينيين القدامى في اليونان، هذا الأمر ذاته ظهر في أوروبا من حيث العائلات اللّغويّة المباينة للسّاميّة، ومن حيث الأعراق الأوروبيّة ذاتها، والّتي أظهرت تعاليا على غيرها من الأعراق، على رأسها العرق الآريّ والّذي ظهر في ألمانيا النّازيّة وارتباطها بهتلر (ت: 1945م).
إذا السّاميّة حتّى ما بعد القرن التّاسع عشر الميلاديّ لا علاقة حصريّة لها باليهود دينا، ولا ببني إسرائيل عرقا، ولا بالعِبريّة لغة، وارتباطها بشكل كبير في أوروبا بعد ما أثير من قضيّة الهولوكوست، أو الإبادة النّازيّة لليهود، وبعد تبلور فكرة المظلوميّة اليهوديّة، وتأسيس الصّهيونيّة العالميّة، سنّت القوانين المجرّمة لمعاداة السّاميّة، وأصبح من الصّعوبة محاولة مراجعة حقيقة الهولوكوست، والّذي ضخمّ إعلاميّا وسياسيّا وفنّيّا، وتمّ توظيفه معرفيّا وأكاديميّا، وربط باليهود، حتّى أصبح العقل الجمعيّ الغربيّ خصوصا لا يستطيع فصل مصطلح السّاميّة عن اليهود، لتوظيف هذه الفكرة سياسيّا بإقامة دولة إسرائيل في فلسطين، وتوظيفها سياسيّا ودينيّا وإعلاميّا، وإن كانت السّاميّة بهذا التّخصيص فكرة ساذجة لا قيمة معرفيّة لها، ولا تنبني على أصول تأريخيّة معرفيّة، ولا حتّى لاهوتيّة أو عرقيّة لغويّة.
على أنّ توظيفها في الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ، ومخاطبة العقل الجمعيّ الغربيّ وفق هذه الصّورة المتكرّرة لم تعد مجدية اليوم، فما أشار إليه نتنياهو مثلا في خطابه أمام الكونجرس الأمريكيّ 2024م يدل على تراجع جدوى استخدامها، ومن كلامه: «وتماما كما تمّ لصق أكاذيب خبيثة بالشّعب اليهوديّ على مدار مئات السّنين، فإنّه يتمّ لصق أكاذيب خبيثة بالدّولة اليهوديّة هذه الأيام، وتهدف كلمات التّشهير السّخيفة الّتي تسعى لطرح إسرائيل بمظهر الدّولة العنصريّة والدّمويّة إلى نزع شرعيّة إسرائيل، وشيطنة الدّولة اليهوديّة واليهود مهما كانوا، ولا مفاجأة فيما نشهده من تصاعد مفزع لمعاداة السّاميّة في الولايات المتحدة وحول العالم» -النّصّ منقول من ديوان رئيس مجلس الوزراء الإسرائيليّ بالعربيّة-.
يشير إسرائيل شاحاك في كتابه «الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل» بالتّعاون مع نورتون ميزفينسكي إلى تحكّم إسرائيل بما ينشر دوليّا، «وهذه الحقائق – أي تطرّف الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل- نادرا ما تذكر أو توصف بدقة في التّغطية الإعلاميّة الهائلة لإسرائيل في الولايات المتحدة، وفي أماكن أخرى»، فكان العقل الصّهيونيّ هو المتحكّم دوليّا في الإعلام الغربيّ فيما يتعلّق بالشّأن الإسرائيليّ، ومحاولة اقتراب العقل الغربيّ من تفنيد هذا الإعلام الممنهج يقودهم إلى متاهات «معاداة السّاميّة»، هذا اليوم مع الإعلام الجديد لم يعد مجديا، وظهر بشكل كبير بعد أحداث 7 أكتوبر 2023م، وما يحدث حاليا من تجويع ممنهج في غزّة، وما تعمله إسرائيل من خرق القوانين الدّوليّة المتعلّقة بحقوق الإنسان، يزيد من هشاشة فكرة معاداة السّاميّة.
فمقارنة بسيطة بين ما قام به هتلر – بعيدا عن التّضخيم الإعلاميّ- ضدّ اليهود، وبين ما قامت به الأصوليّة اليمينيّة المتعصّبة في إسرائيل، وما يقوم به نتنياهو حاليا ضدّ الفلسطينيين بأطيافهم، والجميع ساميّون – كما أسلفنا -، عرقا ودينا ولغة، فالّذي يعادي السّاميّة اليوم، ويسعى إلى نشر خطاب الكراهيّة وتمدّدها؛ هي إسرائيل ذاتها، ويفوق ما نسب إلى هتلر بمئات المرات، بل لا مقارنة بينهما.
إن كان هناك – تأريخيّا – صراع دمويّ في أوروبا بسبب ما بثته الكنيسة الكاثوليكيّة خصوصا ضدّ اليهود بسبب الخلاف اللّاهوتيّ القديم في قضيّة المسيح وصلبه، أو بسبب التّعصّب العرقيّ الأوروبيّ ضدّ الأعراق الأخرى؛ هذا لا علاقة له بالشّرق عموما، ولا بالعرب خصوصا، إذا ما استثنينا الأحداث الأولى في الإسلام المبكّر في المدينة المنورة حسب الرّوايات التّأريخيّة وقرأناها بعيدا عن ظرفيّتها؛ فقلّ ما يذكر التّأريخ صراعا بين العرب كانوا مسلمين أم مسيحيين أم غيرهم مع اليهود لأسباب لاهوتيّة أو عرقيّة، بل كان لليهود حواضرهم، ولهم حضورهم المعرفيّ والأدبيّ في الحضارة العربيّة والإسلاميّة، وكما اقتبست في أكثر من مقالة مقولة الكاتب اليهوديّ المعاصر أوري أفنيري (ت: 2018م): «كلّ يهوديّ مستقيم، يعرف تاريخ شعبه، لا يمكنه إلا أن يشعر بالعرفان تجاه الإسلام، الّذي حمى اليهود طيلة خمسين جيلا، في الوقت الّذي كان العالم المسيحيّ فيه يلاحقهم، وحاول في العديد من المرات إجبارهم على تغيير دينهم بالسّيف» يثبت ذلك تماما، فمعادة السّاميّة واقعا وإعلاميّا من يقودها اليوم إسرائيل ذاتها، ورميها التّهمة على الآخر من باب «رمتني بدائها وانسلّت».