خاص الاجتهاد: يتناول هذا البحث العلاقة المتشابكة بين الذكاء الاصطناعي والفتوى الشرعية، ويسعى إلى تحليل الأبعاد الفلسفية والأخلاقية التي تنتج عن هذا التداخل.
يبدأ البحث بمدخل مفاهيمي لتعريف الذكاء الاصطناعي، مع بيان تطوره التاريخي وأنواعه، ثم يستعرض أبرز تطبيقاته المحتملة في المجال الديني، مع التركيز على إيجابيات وسلبيات توظيفه في مجال الإفتاء.
بعد ذلك، يقدم البحث تعريفا شاملا لمفهوم الفتوى، مبرزا أهميتها وضوابطها في التصور الإسلامي، باعتبارها عملا اجتهاديًا مركبًا يتطلب تأهيلا علميا، وإدراكا للواقع، ومراعاة دقيقة للمقاصد الشرعية. وقد اهتمت الدراسة بوضع مقاربة فلسفية بين “العقل الأداتي الوظيفي” و”العقل القيمي الأخلاقي” في سياق الفتوى، مبرزا مخاطر اختزال الفتوى إلى مجرد عملية تقنية تفتقر إلى الأبعاد الإنسانية والأخلاقية.
كما يتناول البحث نقد الفكر الإسلامي للعقل الأداتي، مؤكدًا على مرونة الفقه في التفاعل مع الواقع، وتغير الأحكام بتغير الأحوال، ويتقاطع ذلك مع بعض أوجه النقد الذي قدمته مدرسة فرانكفورت للعقل الأداتي.
كما يستعرض البحث التحديات الأخلاقية والقانونية المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الإفتاء، مثل غياب الوعي المقاصدي، والتحيّز الخفي، وتسليع الفتوى وإشكالية تحديد المسؤولية عند الخطأ. ويخلص إلى ضرورة بلورة تصور لفتوى “رشيدة” في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعيد الاعتبار لمركزية المفتي البشري، ويحقق تكاملا متوازنا بين العقل الأداتي والعقل القيمي من خلال وضع ميثاق أخلاقي شامل لحوكمة استخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى.
ونظرا لطبيعة البحث المركبة، التي تجمع بين الفلسفة الأخلاقية، والإفتاء، وفلسفة التقنية، فقد اقتضى الأمر اعتماد منهج تكاملي يجمع بين عدد من المناهج العلمية، وفقًا لما تقتضيه طبيعة كل محور من محاور البحث، وتشمل: المنهج الوصفي، المنهج التحليلي، المنهج المقارن، المنهج الاستنباطي، والمنهج الاستقرائي.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بجلاله، كما يحب ويرضى، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن العالم يعيش اليوم تحوّلاً رقميًّا هائلًا، جعل من الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) فاعلا حاضرًا في مختلف المجالات ومنها المجال الديني والإفتائي، حيث ظهرت محاولات لاستخدام الخوارزميات والأنظمة الذكية في تقديم الفتاوى، أو على الأقل في جمعها وتحليلها وتقديمها بصورة ميسرة. إلا أن هذا الاستخدام يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة العقل المستخدم في هذه العملية: هل هو عقل وظيفي أداتي يسعى إلى الكفاءة والسرعة؟ أم عقل قيمي يراعي السياق، النية، والمقاصد الشرعية؟ يسعى هذا البحث إلى دراسة هذه الإشكالية من خلال المقارنة بين العقل” الأداتي” كما صاغته مدرسة فرانکفورت بوصفه عقلا حسابيًا منفصلا عن القيمة، والعقل “القيمي” الذي يُعدّ جوهر الفعل الإنساني، خاصة في المجالات التي تتعلق بالفتوى والدين.
إن دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال الإفتاء يفرض إعادة التفكير في العلاقة بين الإنسان والتقنية، بين الوظيفة والمعنى، وبين المعرفة المجردة والحكمة الأخلاقية، وهي قضايا تندرج في صلب الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، وتقتضي قراءة نقدية جادة، تستلهم التراث الإسلامي وتستفيد من أدوات التحليل الفلسفي المعاصر.
هذا، وقد اخترت هذا الموضوع للمشاركة في المؤتمر الدولي العاشر للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تحت عنوان: “صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي” والمنعقد .
تتمثل الإشكالية الرئيسة لهذا البحث في البحث عن الموازنة الرشيدة بين الاستفادة من الإمكانات التقنية الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في تسهيل عملية الفتوى، والحفاظ على جوهرها القيمي والأخلاقي والاجتهادي في المنظور الإسلامي. وتتجلى هذه الإشكالية في الأسئلة الآتية:
• إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاة العملية الاجتهادية المعقدة التي تتطلب فهما عميقا للنصوص الشرعية، ووعيا دقيقا بالواقع، ومراعاة للمقاصد؟ .
• هل تستطيع الفتوى الآلية الالتزام بضوابط الفتوى الشرعية، خاصة ما يتعلق بمراعاة تغير الأحوال، وضبط مناطات الأحكام، وتحقيق التوازن بين الحزم والرحمة؟
• ما أثر غياب البعد الإنساني والقدرة على التعاطف في الفتوى الصادرة عن أنظمة ذكية، خاصة في القضايا ذات البعد الوجداني أو الاجتماعي العميق ؟
• من يتحمّل المسؤولية الشرعية والأخلاقية والقانونية عند وقوع الخطأ في الفتوى الناتجة عن نظام ذكاء اصطناعي ؟
• كيف يمكن لمؤسسات الإفتاء والعلماء المتخصصين ضمان ألا يُستبدل المفتي البشري بالأنظمة الذكية، بما يؤدي إلى تراجع البعد الاجتهادي والروحي في الفتوى؟
أهداف البحث
يهدف هذا البحث إلى تحقيق ما يلي:
• تقديم تعريف شامل للذكاء الاصطناعي، وتحليل تطوره ومراحله وأنواعه، مع استكشاف تطبيقاته المحتملة في المجال الديني.
• توضيح مفهوم الفتوى في الإسلام، وبيان أهميتها، وضوابطها، وتحديد شروط المفتي، مع إبراز مكانتها في المنظومة الشرعية.
• التمييز بين “العقل الأداتي الوظيفي” و”العقل القيمي الأخلاقي”، وتحليل أثر كل منهما على الفتوى الرقمية، مع عرض نقد الفكر الإسلامي للعقل الأداتي في مجال الإفتاء.
• بيان إيجابيات وسلبيات استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى، وتسليط الضوء على التحديات الأخلاقية والفقهية المحتملة.
• اقتراح آلبات للحفاظ على روح الفتوى ومقاصدها في ظل التحول الرقمي، من خلال تعزيز مركزية المفتي البشري وتحقيق التكامل مع أدوات التقنية الحديثة.
• الدعوة إلى صياغة ميثاق أخلاقي شامل لحوكمة استخدام الذكاء الاصطناعي في الإفتاء، يضمن المسؤولية والشفافية ويحمي حقوق المستفتين.
• تقديم رؤية مستقبلية لفتوى ،رشيدة تجمع بين الأصالة الشرعية والفعالية الرقمية، وتُعزز دور مؤسسات الإفتاء في العصر الرقمي.
حدود الدراسة
تتحدد هذه الدراسة ضمن الأبعاد الآتية:
• الحدود الموضوعية: تركز الدراسة على الأبعاد المفهومية والفلسفية والأخلاقية والقانونية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى الشرعية، دون الخوض في الجوانب التقنية التفصيلية المتعلقة ببرمجة هذه الأنظمة أو تصميمها.
• الحدود الزمانية: تنصب الدراسة على التحولات المعاصرة في الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الفتوى، مع إشارة تأصيلية إلى الخلفيات التاريخية والفكرية ذات الصلة.
• الحدود المكانية: تتناول الدراسة الموضوع من منظور عام، مع التركيز على التجربة الإسلامية، دون الاقتصار على بلد أو مؤسسة بعينها، لكنها تستعرض نماذج تطبيقية من السياقات الإسلامية المختلفة.
خطة الدراسة:
اقتضت طبيعة البحث أن تكون خطة دراسته على النحو التالي:
المقدمة، وتحتوي على أهمية الموضوع، إشكالية البحث، أهدافه، حدوده، ومنهجه.
• المبحث الأول: مدخل مفاهيمي إلى الذكاء الاصطناعي والإفتاء.
المطلب الأول: الذكاء الاصطناعي – تعريفه، وتطوره، وأنواعه.
أولا : تعريف الذكاء الاصطناعي لغة واصطلاحًا:
ثانيا : مراحل تطور الذكاء الاصطناعي.
ثالثًا: أنواع الذكاء الاصطناعي.
المطلب الثاني: استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الديني:
أولا: توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال الديني.
ثانيا: إيجابيات وسلبيات استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى.
المطلب الثالث: التعريف بالفتوى، وأهميتها، وضوابطها.
أولا: التعريف بالفتوى لغة واصطلاحًا:
ثانيا : أهمية الفتوى.
ثالثًا: ضرورة تهيب الفتوى.
رابعا: ضوابط الفتوى
•المبحث الثاني: الفتوى بين الأخلاق العقل القيمي) والعقل الأداتي.
المطلب الأول: مفهوم العقل الأداتي ونقده الفلسفي
أولا: تعريف العقل الأداتي
ثانيا: هوركهايمر والعقل الوظيفي.
ثالثًا: ماركيوز ونقد التقنية الحديثة.
رابعا: هابرماس والعقل التواصلي.
المطلب الثاني : مظاهر العقل الأداتي في الفتوى الرقمية.
المطلب الثالث: الفتوى بين العقل الأداتي والعقل القيمي الأخلاقي.
المطلب الرابع: نقد الفكر الإسلامي للعقل الأداتي في مجال الإفتاء.
•المبحث الثالث: الفتوى بوصفها ممارسة عقل قيمي أخلاقي
المطلب الأول: الفتوى كأمانة ومسؤولية
المطلب الثاني: مركزية النية والرحمة في الفتوى
المطلب الثالث: الفتوى ومبدأ “رفع الحرج” كأصل قيمي.
المطلب الرابع : أثر القيم الروحية في عملية الإفتاء.
المطلب الخامس: أثر المقاصد في ضبط الفتوى.
المطلب السادس: نحو دمج التقنية بالعقل القيمي.
•المبحث الرابع: تحديات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الإفتاء.
المطلب الأول : غياب الوعي المقاصدي في الخوارزميات.
المطلب الثاني: التحيّز الخفي في تدريب الأنظمة.
المطلب الثالث: تسليع الفتوى وخطر الانقياد الجماهيري.
المطلب الرابع: مسؤولية الخطأ في الفتوى الرقمية : من يتحملها ؟
المطلب الخامس: اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي بديلًا عن العلماء المتخصصين.
المطلب السادس: الحاجة إلى ميثاق أخلاقي للإفتاء الذكي.
•المبحث الخامس: نحو فتوى رشيدة في عصر الذكاء الاصطناعي.
المطلب الأول: سمات الفتوى الرشيدة في السياق الرقمي.
المطلب الثاني: الإنسان أولاً : إعادة مركزية المفتي البشري.
المطلب الثالث: التكامل بين العقل الأداتي والعقل القيمي.
المطلب الرابع: صناعة المفتي الرقمي الرشيد.
المطلب الخامس: دور مؤسسات الإفتاء في حوكمة الذكاء الاصطناعي.
المطلب السادس: الفتوى في المستقبل: أخلاقية، رقمية، واعية.
الخاتمة، وتشمل أهم النتائج والتوصيات.
منهج الدراسة:
نظرا لطبيعة هذا البحث المركبة، التي تجمع بين الفلسفة الأخلاقية، والإفتاء، وفلسفة التقنية، فقد اقتضى الأمر اعتماد منهج تكاملي يجمع بين عدد من المناهج العلمية، وفقاً لما تقتضيه طبيعة كل محور من محاور البحث، وذلك على النحو الآتي:
• المنهج الوصفي: لتعريف المفاهيم الأساسية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والفتوى، ووصف مراحل تطورها وأنماطها المختلفة.
• المنهج التحليلي: لتحليل الظواهر المرتبطة بالعقل الأداتي والقيمي في سياق الفتوى الرقمية، وتشخيص التحديات والإشكالات المصاحبة.
• المنهج المقارن: لمقارنة نقد العقل الأداتي في الفكر الإسلامي بنظيره في مدرسة فرانكفورت الفلسفية.
• المنهج الاستنباطي: لاستخلاص النتائج والتوصيات بناءً على المعالجة التحليلية للنصوص والمفاهيم.
• المنهج الاستقرائي: لتتبع الآراء الفقهية والفكرية المتعلقة بالموضوع، وجمع المواقف
المختلفة لمقارنتها وتحليلها.
أسأل الله تعالى أن ينزل هذا البحث منزلا مباركًا، وأن يتقبله مني خالصًا، فما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه براء، أسأل الله تعالى أن يعفو عني، ويكتب لهذا البحث القبول في الأرض والسماء.
تحديات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الإفتاء
د. أحمد شوقي إبراهيم علي عبدالله