خاص الاجتهاد: نذكر هنا تاريخا مختصرا من الفقه والفقهاء من زمن الغيبة الصغرى حتى العصر الحاضر، كي يتضح حظ الايرانيين منهم في خدمة فقه الشيعة ويتضح تسلسل هذه الحلقة الثقافية الاسلامية وانها استمرت بدون وقفة في طول ألف ومائة عام تقريبا.
الفقه من أهم علوم الإسلام وهو فن استخراج واستنباط الاحكام من مصادرها: الكتاب والسنة والاجماع والعقل. و هو علم نظري خلافا للحديث فهو علم حفظي لفظي.
مارس المسلمون الاجتهاد منذ القرن الأول والاجتهاد بمفهومه الصحيح من لوازم دين كالاسلام و هو دين عام لا يختص بقوم أو منطقة خاصة أو عنصر خاص و لا بزمان دون زمان و هو خاتم الشرائع و الاديان و هو حاكم في مختلف أوضاع العالم البشري.
وقد يظن بعضهم: أن الاجتهاد ظهر في أهل السنة في القرن الأول أما في الشيعة فقدظهر في القرن الثالث ويرون أن ذلك يرجع إلى استغناء الشيعة عن الاجتهاد لحظور الائمةعليهم السلام. ولكنّي اثبت خطأ هذه النظرية في مقالتي «الاجتهاد في الاسلام»[1] و «من وحي شيخ الطائفة»[2]
وكتب المرحوم العلاّمة السيد حسن الصدر يقول: «إن أول من دوّن علم الفقه علي بن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان من فقهاء الشيعة وخواص أمير المؤمنين وكاتبه، وشهد معه كل حروبه. . .»[3]
و يدعي أهل السنة أن أوّل من اجتهد من أصحاب رسول اللّه، هو معاذ بن جبل في سفره إلى اليمن.
وعلى أي حال فإن الفقه بمعنى الاستنباط و تطبيق الجزئيات على الكليات و الاصول كان موجودا منذ الصدر الأول بين الشيعة و السنة، مع اختلاف اساسي بين الفريقين من حيث المصادر و الاعتماد على الرأي والقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة.
ويذكر ابن النديم في الفهرست اسم عدد من الكتب الفقهية للشيعة من أصحاب الأئمة “عليهم السلام” تحت عنوان «فقهاء الشيعة» و بعضهم ايرانيون إلاّ أنهم أقل من غيرهم.
وبصورة عامة نقول: إن أكثرية فقهاء الشيعة في عصر حضور الأئمة أو غيبتهم حتى القرن السابع الهجري غير ايرانيين، وان أكثر قدماء فقهاء الشيعة الذين لا زالت كتبهم تقرأ و تدرس غير ايرانيين.
نرى من الايرانيين في الطبقة الاولى من القدماء: الصدوق الاول علي بن الحسين بن بابويه القمي والصدوق الكبير محمّد بن علي بن الحسين، بل كل آل بويه من قبيل الشيخ منتجب الدين الرازي من أحفاد الحسين بن علي بن بابويه القمي و هكذا شيخ الطائفة أبوجعفر الطوسي والشيخ سلاّر بن عبد العزيز الديلمي صاحب كتاب «المراسم» وتلميذ الشيخ المفيد والسيد المرتضي، وابن حمزة الطوسي صاحب كتاب «الوسيلة» والعياشي السمرقندي الذي سبق ذكره آنفا في عداد المفسرين، وقلنا ان ابن النديم ذكر له كتاب فقهيةكثيرة و قال انها شائعة في خراسان .
وأمام هؤلاء نرى عددا أكبر من فقهاء السنة حتى القرن السابع الهجري غير ايرانيين كابن الجنيد، وابن أبي عقيل والشيخ المفيد و السيد المرتضى علم الهدى و القاضي عبد العزيز بن البراج، و أبي الصلاح الحلبي، و السيد أبي المكارم ابن زهرة، و ابن ادريس الحلي، و المحقق الحلي و العلاّمة الحلي و الشهيد الأول و الشهيد الثاني.
وسبب ذلك واضح فالشيعة في ايران إذ ذاك كانوا أقلية، بل الظاهر أن شيعة لبنان و حلب و العراق، كانوا أكثر من شيعة ايران أو كانوا في حالة أفضل منهم في ايران.
وبعد القرن السابع ولا سيما في هذه القرون الاخيرة يشكل الايرانيون أكثرية فقهاء الشيعة و لا حاجة إلى ذكرهم هنا لكثرتهم. و في الوقت نفسه برز بعض فقهاء الشيعة من غير الايرانيين ولا سيما عرب العراق وممن لهم مقام شامخ في العلمية والمرجعية كالشيخ جعفر كاشف الغطاء و الشيخ محمّد حسن صاحب جواهر الكلام رضوان اللّه عليهم أجمعين.
ومن المناسب أن نذكر هنا تاريخا مختصرا من الفقه والفقهاء من زمن الغيبة الصغرى حتى العصر الحاضر، كي يتضح حظ الايرانيين منهم في خدمة فقه الشيعة ويتضح تسلسل هذه الحلقة الثقافية الاسلامية وانها استمرت بدون وقفة في طول ألف و مائة عام تقريبا.
علم الفقه،
أي الفقه المدوّن في مؤلفات خاصة لا زالت باقية ولها تاريخ ألف ومائة عام أي أن الحوزات العلمية الفقهية لا زالت مستمرة منذ أحد عشر قرنا حتى اليوم. فقد ربّي الاساتذة تلامذة أصبحوا أساتذة ربّوا بدورهم تلامذة، و هكذا حتى العصر الحاضر ولم تنقطع هذه الرابطة حتى اليوم.
نعم هناك علوم كالفلسفة والمنطق والرياضيات والطب لها تاريخ أطول و كتب أقدم إلاّأنها لم تكتب لها حياة مستمرة ومتصلة دون توقف أو انقطاع بين الاساتذة و الطلاب وعلى فرض وجوده فلا توجد هذه الحياة المستمرة إلاّ للعلوم في ظل الإسلام و سنبحث فيما بعد استمرار حياة الفلسفة في الإسلام و لو بصورة مختصرة.
و من حسن الحظّ ان ما أهتم به علماء المسلمين هو بيان طبقات أرباب العلوم، و قدتحقق هذا لأول مرة بالنسبة لعلماء الحديث ثم لعلماء سائر العلوم، و لنا كتب كثيرةبعناوين: طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي، و طبقات الأطباء لابن أبي اصيبعةو طبقات النحويين و طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي.
وحسب علمي ان كل ما كتب في طبقات الفقهاء هو لأهل السنة، و لم يكتب في طبقات فقهاء الشيعة كتاب خاص، و للكشف عن طبقات فقهاء الشيعة لابد من مراجعةكتب التراجم أو الاجازات أو كتب طبقات الرواة.[4]
و هنا لا نريد أن نفصل طبقات فقهاء الشيعة بل إنما نريد أن نذكر شيئا عن شخصيات مهمة من فقهائهم الذين لا زالت آراؤهم موضع بحث و دراسة مع ذكر كتبهم الفقهية، و في ضمن ذلك نشير إلى شي ء من طبقاتهم.
و نبدأ بتاريخ فقهاء الشيعة من زمن الغيبة الصغرى (260 329) بدليلين:
1- إن عصر ما قبل الغيبة الصغرى عصر حضور الأئمة الاطهار عليهم السلام و في عصر حضورهم و إن كان الفقهاء، أي المجتهدين و أرباب الفتوى موجودين.
وكانوا عليهم السلام يحثونهم على الفتوى والاجتهاد إلاّ أنهم كانوا تحت شعاع وجود الأئمة عليهم السلام أي أن الرجوع إليهم كان في صورة عدم إمكان الوصول إلى الأئمة عليهم السلام و كان الناس يحاولون الوصول إليهم عليهم السلام مهما أمكن ذلك. و الفقهاء أنفسهم كانوايراجعون الأئمة في كثير مما كان يشكل عليهم من الفقه و الفتوى.
2- ان فقهنا المدوّن ينتهي إلى زمن الغيبة الصغرى فيما نرى على الأقل أي ليس بأيدينا اليوم أثر فقهي من قبل دور الغيبة الصغرى من فقهاء الشيعة أو لم نجد شيئا منه على الأقل .
و على أي حال فقد كان للشيعة فقهاء كبار في عصر الأئمة الاطهار عليهم السلام يعرف مستواهم بقياسهم إلى الفقهاء المعاصرين لسائر المذاهب الإسلامية.
وقد خصص ابن النديم الفن الخامس من المقالة السادسة من كتابة النفيس«الفهرست» لفقهاء الشيعة، ويذكر بعد التنويه بأسمائهم بعض كتبهم في الفقه أو الحديث.
ويقول بشأن الحسين بن سعيد الاهوازي و أخيه: «أوسع أهل زمانهما علما بالفقه و الآثار و المناقب»و يقول بشأن علي بن إبراهيم القمي: «من العلماء الفقهاء» وبشأن محمّد بن الحسن بن الوليد القمي يقول:« وله من الكتب كتاب: الجامع في الفقه».
والظاهر أن كتبهم الفقهية كانت مبوّبة على بعض أبواب الكتب الفقهية يذكرون في كل باب منها ما كانوا يعتبرونه و يعملون به من الروايات و الأخبار و الأحاديث، فكان الكتاب كتاب أحاديث في الأحكام مع العمل بها.
ويقول المحقق الحلي (قده) في مقدمة المعتبر بهذا الصدد: «الفصل الرابع في السبب المقتضي للاقتصار على من ذكرناه من فضلائنا: لما كان فقهاؤنا رضوان اللّه عليهم من الكثرة إلى حد يتعسر ضبط عددهم و يتعذر حصر أقوالهم لا تساعها وانتشارها و كثرة ماصنفوه،
وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من فضلاء المتأخرين، اجتزأت بايرادكلام من أشتهر فضله و عرف تقدمه في نقل الأخبار و صحة الاختيار وجودة الاعتبار. واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم و عليه اعتمادهم.
فممن اخترت نقله: الحسن بن محبوب، ومحمّد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد، والفضل ابن شاذان، ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخرين: أبوجعفر محمد بن بابويه القمي«رض» و محمّد بن يعقوب الكليني.
و من أصحاب كتب الفتاوي: علي بن بابويه، و أبو علي بن الجنيد، و الحسن بن أبي عقيل العمّاني، و المفيدمحمد بن محمد بن النعمان: و علم الهدي، الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي«ره»[5]
فالمحقق مع أنه يرى الجماعة الأولى من المتأخرين من أهل النظر والاجتهاد والانتخاب مع ذلك لا يراهم من أصحاب الفتوي، وذلك لان كتبهم وإن كانت مظهر آرائهم الاجتهادية، ولكنها لم تكن بصورة الكتب الفقهية الاجتهادية، بل كانت بصورة كتب الاحاديث و الاخبار لا الفتوى وإظهار الآراء و الافكار.
و هنا نبدأ بحثنا الآن عن المفتين الاوّلين في الغيبة الصغري.
1 علي بن بابويه القمي المتوفى عام 329 هـ و المدفون بقم. هو أبو الشيخ محمّد بن علي بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق المدفون قرب الرّي، الابن كان محدثا أكثر مماكان فقيها بينما كان الاب فقيها صاحب فتوي. و يعرفان أحيانا بالصدوقين الاب و الابن.
2- العياشي السمرقندي صاحب التفسير المعروف كان أحد الفقهاء المعروفين في ذلك العهد، معاصرا للشيخ علي بن بابويه القمي بل متقدما عليه قليلا. كان رجلا جامعا وإن كان اشتهاره بالتفسير أكثر، له كتب كثيرة في علوم مختلفة منها في الفقه.
و يقول ابن النديم في«الفهرست» : كتبه كثيرة شائعة في أهل خراسان. و لم نر شيئا من آرائه ينقل في الفقه، و لعل كتبه بادت.
وكان العياشي عاميا ثم تشيع. وقد ورث من أبيه أرثا كثيرا، صرفه جميعه في استنساخ الكتب واستكتابها واقتنائها وشرائها وتجميعها والتعلم والتعليم، كل ذلك في داره ببغداد .
وقد عدّ بعضهم جعفر بن قولويه شيخ الشيخ المفيد، قرينا لعلي بن بابويه في الفقه، وعلى هذا فقد عدّه هؤلاء من فقهاء الغيبة الصغري، و قالوا: إن جعفر بن قولويه كان تلميذاعند سعد بن عبد اللّه الاشعري المعروف.[6]
ولا يمكن الموافقة على ذلك إذ هو شيخ الشيخ المفيد، وقد توفي 368 أو 367، وعلى هذا فلا يمكن أن يعد معاصرا لعلي بن بابويه، بل المعاصر هو أبوه محمّد بن قولويه.
3- ابن أبي عقيل المعاني: وقيل اليماني، وعمان من سواحل بحر اليمن، ولا يعرف تأريخ وفاته. عاش في الغيبة الصغري. قال السيد بحر العلوم: انه كان شيخ جعفر بن قولويه، هو شيخ الشيخ المفيد. و هذا أقرب إلى الحقيقة من القول السابق الذي عد جعفربن قولويه قرينا لعلي بن بابويه. و تنقل آراء ابن أبي عقيل في الفقه كثيرا.
4- ابن الجنيد الاسكافي: هو أيضا من شيوخ الشيخ المفيد، قيل: توفي في عام 381 هو قيل : ان آثاره بلغت الخمسين. و يذكر الفقهاء ابن الجنيد و ابن أبي عقيل بعنوان: القديمين، و تذكر آراء ابن الجنيد في الفقه كثيرا.
5- الشيخ المفيد: اسمه محمد بن محمد بن النعمان. متكلم فقيه. يذكره ابن النديم في الفن الثاني من المقالة الخامسد من«الفهرست»في متكلمي الشيعة بعنوان«ابن المعلم»ويثني عليه ولد عام 336 و توفي في عام 413 هـ كتابه المعروف في الفقه يدعي«المقنعة»، موجود مطبوع . كان الشيخ المفيد ينام قليلا من الليل ثم يقضي بقيته في الصلاة و القراءة و المطالعة و الشيخ المفيد من تلامذة ابن أبي عقيل.
6- السيد المرتضى المعروف بعلم الهدى: ولد عام 335 هـ وتوفي في سنة 436 هـ لقبه العلاّمة الحلي بمعلم الشيعة الامامية. كان رجلا جامعا أديبا متكلما فقيها يعني بآرائه الفقهاء كتابه المعروف في الفقه: الانتصار و جمل العلم و العمل. تتلمذ هو و اخوه السيدالرضي (جامع نهج البلاغة) على الشيخ المفيد (قده) .
7- الشيخ أبو جعفر الطوسي المعروف بشيخ الطائفة: من النجوم اللامعة في سماءالإسلام، له مؤلفات كثيرة في الفقه و الاصول و الحديث و التفسير و الكلام و الرجال.
والطوسي نسبة إلى طوس خراسان ولد عام385، هاجر إلى بغداد مركز علوم الإسلام آنذاك عام 408 وله ثلاثة وعشرون عاما وبقي في العراق إلى آخر عمره. وانتقلت إليه بعداستاذه السيد المرتضى الرئاسة العلمية والمرجعية.
درس على الشيخ المفيد خمس سنين، و استفاد مدة مديدة من محضر ابرز تلامذة شيخه السيد المرتضي، حتى توفي هذا الآخير عام 436 هـ و بقي هو على قيد الحياة بعد استاذه السيد أربعة و عشرين عاما بقي منها في بغداد اثنى عشر عاما ثم هجرها إلى النجف الأشرف اثر حوادث جرت إلى نهب بيته و مكتبته،
فأسس في النجف الأشرف حوزة علمية، و توفي فيها عام 460 (و دفن في بيته إلى جنب مسجده إلى جوار مرقد مولانا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، خلف جامع عمران بن شاهين المبني على عهد الدّيالمة البويهيين، ثم وسع المسجد فيما بعدفدخل قبره في المسجد المعروف باسمه، يزار و يتبرك به) .
و للشيخ الطوسي (قده) كتب في الفقه منها كتاب باسم: «النهاية في مجرد الفقه و الفتاوي»و قد أصبح كتاب التدريس على عهد الشيخ و بعده إلى مدة مديدة و كتاب آخر باسم: «المبسوط» و قد دخل بالفقه في كتابه هذا إلى مرحلة جديدة،
و كان أوسع كتاب للفقه الشيعي على عهده و كتاب آخر باسم: «الخلاف في الفقه»ذكر فيه اراء فقه الشيعة مقارنا إياها بآراء غيرهم (مشيرا إلى وجه الاستدلال غالبا) و له في الفقه كتب أخرى أيضا.
وكان القدماء حتى قبل هذا القرن إذا أطلقوا كلمة «الشيخ» قصدوا بها الشيخ الطوسي، وإذا اطلقوا «الشيخان» قصدوه هو و شيخه الشيخ المفيد (كما سبق من المحقق الحلي في مقدمة كتابه«المعتبر») بل ان الشيخ الطوسي هو أعرف الوجوه التي تذكرآراؤهم في مختلف الكتب و الأبواب الفقهية.
وكان ابنه الشيخ أبو علي أيضا فقيها مرجعاللشيعة بعد أبيه، يلقب بالمفيد الثاني جليل القدر، و قد نقل المرحوم الميرزا حسين النوري في كتابه (مستدرك الوسائل ج3 ص497): أن له كتاب «الآمالي» وشرحا على كتاب «النهاية» لوالده الشيخ الكبير.
و نقل الشيخ الدرازي آل عصفور البحراني في كتابه«لؤلؤة البحرين»: أن بنات الشيخ أيضا كنّ فاضلات بل فقيهات.
وكان للشيخ أبي علي بن الشيخ ولد خلفه في مرجعية الشيعة ورئاسة الحوزة العلمية، اسمه الشيخ أبو الحسن محمد بن الشيخ أبي علي بن الشيخ الطوسي.
وقد قال ابن العماد الحنبلي في كتاب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج 4 ص 126) : «. . . رحلت إليه طوائف الشيعة من كل جانب إلى العراق و حملوا إليه. و كان ورعا عالما كثير الزهد. و اثنى عليه السمعاني و قال العماد الطبري: لو جازت على غير الأنبياء صلاة صليت عليه»[7] توفي سنة 540 هـ
8- القاضي عبد العزيز الحلبي المعروف بابن البرّاج: تلميذ السيد المرتضى والشيخ الطوسي، بعثه الشيخ الطوسي إلى موطنه من بلاد الشام فاستمر قاضيا في طرابلس الشام عشرين عاما . مات سنة 481 هـ و أكثر ما يذكر من كتبه: المهذّب، و الجواهر.
9- الشيخ أبو الصلاح الحلبي الشامي: تلميذ السيد المرتضى والشيخ الطوسي عمّرمائة سنة. وكتب صاحب «ريحانة الأدب» يقول: كان تلميذ الشيخ سلاّر بن عبد العزيزو لو كان هذا صحيحا لأوجب أن يكون تلميذا لثلاث طبقات من الشيوخ!
و كتابه المعروف في الفقه يسمي«الكافي»مات عام 447 هـ، و لو كان عمره مائة سنة و كان قدتوفي في 447 لكان أكبر من كلا شيخيه. وكان المرحوم الشهيد الثاني يلقبه: «خليفةالمرتضى في البلاد الحلبية».
10- حمزة بن عبد العزيز الديلمي: المعروف بسلاّر الديلمي المتوفي بين عام 448و عام 463 هـ و هو تلميذ الشيخ المفيد و السيد المرتضي: كان ايرانيا توفي في خسرو شاه تبريز.
كتابه المعروف في الفقه يسمي«المراسم». و ان سلاّر و إن كان من طبقة الشيخ الطوسي و ليس من تلامذته مع ذلك نرى المحقق الحلي يعبر عنه مع ابن البراج وأبي الصلاح في مقدمة كتابه«المعتبر» بعنوان: «اتباع الثلاثة»أي يحسبهم من الاتباع، و الظاهر أنه يقصد من هذا أن هؤلاء الثلاثة اتباع للشيوخ الثلاثة: الشيخ المفيد و السيدالمرتضى و الشيخ الطوسي.
11- السيد أبو المكارم ابن زهرة: يروي بواسطة واحدة عن أبي علي ابن الشيخ الطوسي، و هو في الفقه تلميذ الشيخ الطوسي بوسائط. كان من أهل حلب توفي في عام 585 هـ كتابه المعروف في الفقه يسمي«الغنية»و حينما يطلق: «الحلبيان»يقصد به: أبوالصلاح الحلبي و ابن زهرة الحلبي. و حينما يطلق: «الحلبيون» يقصدون به بالاضافة إليهما ابن البرّاج فهو أيضا من حلب.
وجاء في (مستدرك الوسائل ج 3 ص 506) في أحوال الشيخ الطوسي: ان ابن الزهرة قرأ كتاب«النهاية»للشيخ الطوسي على أبي علي الحسن بن الحسين المعروف بابن الحاجب الحلبي، وهو قرأ الكتاب على أبي عبد اللّه زينوباري في النجف الأشرف وهو قرأ الكتاب على الشيخ رشيد الدين علي بن زيرك القمي والسيد هاشم الحسيني، وهما قد قرءا الكتاب على الشيخ عبد الجبار الرازي، وهو من تلامذة الشيخ الطوسي، وعلى هذا يكون ابن زهرة تلميذ الشيخ الطوسي بأربع وسائط.
12- ابن حمزة الطوسي: المعروف بابن عماد الدين الطوسي و هو من طبقة تلامذةالشيخ الطوسي . و لم يعرف تاريخ وفاته بصورة دقيقة توفي في حدود منتصف القرن السادس الهجري. و هو من أهل خراسان. كتابه المعروف يسمي«الوسيلة».
13- ابن ادريس الحلي: من فحول علماء الشيعة، و هو عربي و الشيخ الطوسي جدّه الاعلى لأمه . كان معروفا بالتحرر الفكري، فقد كسر طوق هيبة جدّه الشيخ و انتقد سائرالعلماء و الفقهاء انتقادا فقهيا علميا لاذعا يقرب من التوهين بمكاناتهم تهجم.
توفي في عام 598 وله خمس وخمسون سنة. كتابه المعروف في الفقه يسمي«السرائر»و قد قيل إن ابن ادريس كان من تلامذة السيد أبي المكارم بن زهرة، بينما لا تبيّن تعبيراته عنه في كتابيه: الوديعة و السرائر سوى أنه كان شيخا من معاصريه و كان يكاتبه في بعض المسائل الفقهية.
14- الشيخ أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلي، المعروف بالمحقق الحلي. له كتب كثيرة في الفقه منها: شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام، و المعارج، و المعتبر و المختصر النافع من كتاب الشرائع. كان بينه و بين ابن ادريس و ابن زهرة واسطة واحدة في المشيخة و التلمذة.
و قد كتب المحدث القمي عن أحوال ابن نما في كتابه «الكنى و الألقاب» يقول: «قال المحقق الكركي في وصف المحقق الحلي: ان اعلم اساتذةالمحقق في فقه أهل البيت هو الشيخ محمّد بن نما الحلي، و أجل اساتذته هو ابن ادريس الحلي (ره)
والظاهر أن مقصود المحقق الكركي هو أن أجل اساتذة ابن نما هو ابن ادريس إذ انه توفي في 589، و المحقق توفي في 676، فمن المقطوع به أن المحقق لم يكن ليدرك مجلس درس ابن ادريس.
و كتب في«ريحانة الادب»يقول: «إن المحقق الحلي كان تلميذ جده و أبيه و السيدفخار بن معد الموسوي و ابن زهرة»و هذا خطأ، إذ أن المحقق لم يدرك ابن زهرة المتوفي في سنة 585 هـ، نعم لا يبعد أن يكون أبو المحقق من تلامذة ابن زهرة.
و هو شيخ العلامة الحلي (قده) و لا يقدّم عليه أحد في الفقه. و إذا اطلق الفقهاء لقب المحقق بصورة مطلقة كان المقصود هو هذا الشيخ الكريم. وكان قد التقاه في الحلةالفيلسوف والرياضي الكبير الخواجة نصير الدين الطوسي و قد حضر مجلس درسه في الفقه.
و كتب المحقق في الفقه كانت و لا تزال كتبا دراسية و لا سيما«شرائع الاسلام»و قدشرح كتبه و علق عليها كثير من الفقهاء بعده.
15- الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي: المعروف بالعلامة الحلي. كان من أعاجيب الرجال الأفذاذ. كتب كثيرا في الفقه و الاصول والكلام و المنطق و الفلسفة والرجال و غيرها، يوجد الآن من كتبه ما يقرب من مائة كتاب مطبوع أو مخطوط، يكفي بعضها كتذكرة الفقهاء ليكون مرآة لنبوغ هذه الشخصية الفقهية النابغة.
له كتب كثيرة في الفقه شرحها و علق عليها كثير من الفقهاء بعده. كتبه الفقهية المعروفة هي: الارشاد تبصرةالمتعلمين، القواعد تذكرة الفقهاء، مختلف الشيعة، المنتهي، له اساتذة كثيرون، كان في الفقه تلميذ خاله المحقق الحلي، و في الفلسفة و المنطق، تتلمذ على الخواجة نصير الدين الطوسي و قد درس الفقه السني لدى علماء أهل السنة! ولد عام 648 و توفي 726 هـ.
16- فخر المحققين: محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلي ابن العلاّمة. ولدعام 682 و توفي في .771 ذكره العلاّمة الحلي في مقدمة كتابيه القواعد وتذكرة الفقهاءذكرا جليلا، بل تمنى في آخر القواعد أن يكون الولد مكملا لما لم يتمه والده العلاّمة. له كتبا اسماه «ايضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد»يعني الفقهاء بآرائه في هذا الكتاب.
17- محمّد بن مكي الجزيني العاملي: المعروف بالشهيد الأول، تلميذ فخر المحققين و هو من أعاظم فقهاء الشيعة بل هو من طراز المحقق و العلامة. من أهل«جبل عامل»في جنوب لبنان، و هي من أقدم مراكز الشيعة و لا زالت. ولد الشهيد الأول عام 734 و استشهدعام 786 بفتوي فقيه مالكي و تأييد فقيه آخر شافعي!
و هو من تلامذة العلامة و منهم فخرالمحققين . كتبه المعروفة في الفقه هي: اللمعة الدمشقية، التي ألفها في مدة قليلة في السجن نفسه الذي أودي بحياته أي نقل منه إلى المشنقة العثمانية و من الغريب أنه قد شرح هذاالكتاب بعد قرنين من الزمان فقيه كبير كتب له مصير المؤلف الأول نفسه أي أنه استشهد أيضا و لقب بالشهيد الثاني.
و الشرح هو «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»الذي كان و لا يزال من الكتب الدراسية للطلاب. سائر كتبه هي: الدروس، الذكري، البيان، الالفية، القواعد و جميعها من نفائس الآثار الفقهية. و قد شرح هذه الكتب و علق عليها بعدمؤلفها جماعة من الفقهاء.
إن كتب هؤلاء الثلاثة: المحقق الحلي و العلامة الحلي، و الشهيد الأول، من علماءالقرنين السابع والثامن أصبحت من متون الكتب الفقهية حيث شرحها وعلق عليها كثيرمن الفقهاء بعدهم، و لا نرى بين فقهاء الشيعة من عني الفقهاء هكذا بآثارهم كهؤلاء حتى اضيف رابع إلى هؤلاء الثلاثة في القرن السابق وهو الشيخ مرتضى الانصاري التستري بكتابيه: الرسائل و المكاسب يمضي اليوم على وفاته أكثر من مائة و ثلاثة عشر عاما.
أسرة الشهيد الأول كانت من بيوتات العلم و الفضل و الفقه في الشيعة و قد تمتعت بهذاالشرف أجيالا متعاقبة فان للشهيد الأول ثلاثة أبناء كلهم من العلماء و الفقهاء، بل كانت زوجته أم علي و ابنته أم الحسن أيضا فقيهتين بل كان الشهيد (ره) يرجع بعض النساء في بعض المسائل الفقهية إلى هاتين السيدتين يقول في«ريحانة الأدب»: «لقب بعض الاكابرفاطمة بنت الشهيد بالشيخة أو«ست المشايخ»أي«سيدة المشايخ».
18- الفاضل المقداد السيوري: من أهل سيور من قرى الحلة، كان من التلاميذالمبرّزين للشهيد الأول. كتابه المعروف في الفقه و المطبوع هو«كنز العرفان في فقه القرآن»و هو من كتب آيات الاحكام، أي انه في تفسير الآيات القرآنية الكريمة التي يستنبط منها مسائل فقهية.
و قد كتب في آيات الأحكام كتب كثيرة من الشيعة و السنةو كنز العرفان للفاضل المقداد من أجود ما كتب في هذا الموضوع توفي الفاضل المقداد سنة 826 فهو من القرن التاسع.
19- جمال السالكين أبو العباس أحمد بن الفهد الحلي الأسدي: ولد عام 757 و توفي في 841، و هو من طبقة تلامذة الشهيد الأول و فخر المحققين، و مشايخه في الحديث هم: الشيخ الفاضل المقداد و الشيخ علي بن الخازن الفقيه و الشيخ بهاء الدين علي بن عبد الكريم[8] و الظاهر أن هؤلاء هم شيوخه في الفقه أيضا.
له مؤلفات فقهية مهمة من قبيل: المهذب البارع في شرح المختصر النافع للمحقق الحلي، وشرح إرشاد العلاّمة باسم«المقتصر»و شرح ألفية الشهيد الأول. و أشتهر ابن فهد بالاخلاق و السلوك أكثر من الفقه، و كتابه المعروف في الدعاء«عدّة الداعي».
20- الشيخ علي بن هلال الجزائري: الزاهد المتقي جامع المعقول و المنقول. شيخه في الرواية ابن فهد الحلي و لا يبعد أن يكون شيخه في الفقه أيضا. قيل كان في عصره شيخ الإسلام و مرجع الشيعة العام. و كان المحقق الكركي من تلامذته و قد وصف شيخه هذابالفقه و أنه كان شيخ الإسلام. و قد تتلمذ لديه ابن أبي جمهور الاحسائي أيضا. و لم يعرف تاريخ ولادته و وفاته بالضبط.
21- الشيخ علي بن عبد العالي الكركي: المعروف بالمحقق الكركي أو المحقق الثاني. كان من فقهاء جبل عامل، و هو من أكابر فقهاء الشيعة.
أكمل دراسته في الشام و العراق ثم جاء إلى ايران (على عهد الشاه طهماسب) ففوض إليه منصب«شيخ الإسلام»لأول مرة في ايران،
ثم فوّض بعده تلميذه الشيخ علي المنشار أبي زوجة الشيخ البهائي، ثم فوّض بعده إلى الشيخ البهائي، و القرار الذي كتبه طهماسب باسم المحقق الكركي و فوّض إليه فيه اختيارات تامة، بل اعلن فيه أن المحقق هو في الواقع صاحب الاختيار، و إنما الملك هووكيل للمحقق و نائب عنه في إدارة شؤون البلاد السياسية و الاجرائية، قرار معروف مشهور.
كتابه المعروف الذي يذكر في الفقه كثيرا هو«جامع المقاصد في شرح القواعد»شرح لقواعد العلاّمة الحلي، و له حواش و شروح على المختصر النافع و الشرائع للمحقق و كتب أخرى للعلاّمة و كتب للشهيد .
إنّ مجي ء المحقق الثاني إلى ايران و تأسيسه الحوزة في اصفهان و تربيته تلامذةمبرّزين في الفقه اعطى لايران صفة مركزية للشيعة. و قد توفي المحقق فيما بين أعوام 937 إلى 941 هـ.
و هو من تلامذة علي بن هلال الجزائري وابن فهد الحلي، وكان ابن فهدتلميذ تلامذة الشهيد الأول من قبيل الفاضل المقداد السيوري، وعلى هذا يكون بينه و بين الشهيد الأول واسطة أو واسطتان.
و كان ابن المحقق: الشيخ عبد العالي بن علي ابن عبد العالي أيضا من فقهاء الشيعة، و له شرح لارشاد العلاّمة و ألفية الشهيد.
22- الشيخ زين الدين الجبعي العاملي: المعروف بالشهيد الثاني. هو من أعاظم فقهاءالشيعة، كان رجلا جامعا و كانت له يد في مختلف العلوم في عصره، و هو من أهل«جبل عامل»جده السادس«صالح» كان من تلامذة العلاّمة الحلي (ره) و الظاهر أنه كان في الأصل من أهل طوس خراسان و لذلك كان الشهيد الثاني يوقع أحيانا: «الطوسي الشامي».
ولد سنة 911 هـ و استشهد عام 966 هـ له أسفار كثيرة و اساتذة كثيرون، فقدسافر إلى دمشق و بيت المقدس و مكة و مصر و العراق و تركيا و استفاد من أسفاره، نرى في قائمة مشيخته اثنى عشر شيخا من العامة، و لذلك كان رجلا جامعا مطلعا على الفلسفة والعرفان و الطب و النجوم بالاضافة إلى الفقه و الاصول .
كان متقيا زاهدا، كتب تلامذته بشأنه: كان يذهب في الأمسيات يحتطب لأهله لقوتهم، و يجلس في الصباح للدرس، وكان في بعلبك يدرس مدة من الزمان على المذاهب الخمسة: الحنبلي و الحنفي و الجعفري و الشافعي و المالكي.
وله مؤلفات كثيرة أشهرها شرحه على اللمعة الدمشقية للشهيدالأول باسم «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية» ثم«مسالك الأفهام إلى شرح شرائع الإسلام»للمحقق الحلي (ره) . و كان الشهيد الثاني من تلامذة المرحوم المحقق الكركي قبل مجيئه إلى ايران، و هو لم يأت إلى ايران. ابنه الشيخ حسن صاحب«معالم الدين»من مشاهير المجتهدين عند الشيعة.
23- الشيخ أحمد بن محمّد الاردبيلي: المعروف بالمقدس الاردبيلي ضرب به المثل في الزهد والتقوى و هو من محققي فقهاء الشيعة. سكن المحقق الاردبيلي في النجف الأشرف وكان معاصرا للشاه عباس الصفوي الكبير، و أصر الشاه على مجيئه إلى اصفهان و لم يرض بذلك و كان الشاه عباس يحب أن يراجعه الشيخ المقدس في حاجة ليخدمه فيها،
حتى اتفق ان فرّ رجل مقصّر من عقوبة الشاه إلى النجف الأشرف و طلب من المقدس الاردبيلي أن يشفع له عند الشاه عباس، فكتب الشيخ إلى الشاه يقول: «ليعلم صاحب الملوكية العارية عباس : أن هذا الرجل و إن كان ظالما سابقا إلاّ أنه يبدو الآن مظلوما، فلو عفوت عن تقصيره عسى اللّه أن يغضي عن بعض تقصيراتك. عبدصاحب الولاية: أحمد الاردبيلي».
فكتب الشاه عباس جوابه يقول فيه: «اعرض عليكم: ان عباسا قدّم ما أمرتم به من الخدمة ممنونا لكم، و الرجاء أن لا تنسوا هذا المحب من دعاء الخير كلب الحضرة العلوية: عباس».
إن إياء المقدس الاردبيلي عن الذهاب إلى اصفهان كان السبب في إحياء صورةالنجف الأشرف بعنوان مركز علمي آخر للشيعة بعد اصفهان، كما أن امتناع الشهيد الثاني و ابنه الشيخ حسن صاحب «المعالم» و سبطه السيد محمّد صاحب «المدارك» عن الذهاب من الشام و جبل عامل إلى اصفهان كان هو السبب في دوام تلك الحوزة هناك و عدم انقراضها، و قد بلغ امتناعهم عن الانتقال من الشام و جبل عامل إلى درجة أنّهم انصرفوا عن زيارة حضرة الإمام الرضا عليه السلام مع شدة اشتياقهم إليها مخافة أن يضطروا إلى الاجابة فيما إذا دعوا من قريب!.
ولم أقف لحدّ الآن على مشيخة وأساتذة المقدس الاردبيلي، إلاّ أنا نعلم أنه تلقى الفقه لدى تلامذة الشهيد الثاني وأن ابن الشهيد حسن بن زين الدين صاحب «المعالم» وسبطه السيد محمّدا صاحب «المدارك» كانا من تلامذة المقدس في النجف الاشرف.
وقد كتب الفاضل الشيخ علي دواني يقول: «إن المولى أحمد الاردبيلي، والمولى عبد اللّه الشوشتري و المولى عبد اللّه اليزدي، والخواجه أفضل الدين تركه، و الميرزا فخر الدين هماكي، و الشاه أبا محمّد الشيرازي، و المولى الميرزاجان، والميرزا فتح الشيرازي كانوا من تلامذةالخواجة جمال الدين محمود و كان هو من تلامذة المحقق جلال الدين الدواني»[9]
و الظاهر أن تلمذته لدى المحقق الدواني كانت في العلوم العقلية فقط و قد توفي المقدّس الاردبيلي في النجف الأشرف عام 993 هـ له كتابان معروفان في الفقه أحدهما«شرح الارشاد»و الثاني«زبدة البيان في أحكام القرآن»و له نظريات دقيقة يعني بها الفقهاء».
24- الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي المعروف بالشيخ البهائي: و هو أيضا من أهل جبل عامل توجه في صباه مع والده الشيخ حسين بن عبد الصمد من تلامذة الشهيدالثاني إلى ايران .
كان رجلا جامعا له مؤلفات متنوعة، سافر إلى مناطق مختلفة و ادرك مختلف الشيوخ في مختلف الفروع و الفنون، و كان ذا ذوق و فكر نابغ، و كان أديبا و شاعراو فيلسوفا و رياضيا ومهندسا و فقيها و مفسّرا وله المام بالطب أيضا. و هو أول من كتب رسالة عملية فقهية غير استدلالية ودورة كاملة من الفقه عرفت باسم«الجامع العباسي»نسبة إلى الشاه عباس الصفوي.
وحيث لم يكن الشيخ البهائي متخصّصا في الفقه فلم يعد من الرتبة الأولى من الفقهاءإلاّ أنه ربّي تلامذة كثيرين، منهم المولى صدر الدين الشيرازي و المولى محمّد تقي المجلسي الأول و المحقق السبزواري و الفاضل الجواد صاحب كتاب«آيات الأحكام».
وكما قلنا سابقا، كان منصب«شيخ الإسلام»قد انتهى بعد المحقق الكركي إلى الشيخ علي المنشار أبي زوجة الشيخ البهائي ثم إلى الشيخ البهائي. و كانت زوجة الشيخ البهائي بنت الشيخ على المنشار امرأة فاضلة فقيهة. ولد الشيخ البهائي سنة 953 و مات عام 1030 أو 1031 هـ و قد سافر إلى آذربايجان و هرات و الشام و فلسطين و العراق و مصر.
25- المولى محمّد باقر السبزواري المعروف بالمحقق السبزواري: نسبة إلى مدينة سبزوار الخراسانية، و تربّى في مدرسة الحوزة العلمية باصفهان و احاط بالعلوم العقليةو النقلية فأصبح جامع المعقول و المنقول.
يذكر في الفقه كثيرا، له في الفقه كتابان معروفان أحدهما: «الذخيرة»و الآخر«الكفاية» و له حواش على قسم الإلهيات للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن علي بن سينا . مات عام 1090 هـ كان من تلامذة الشيخ البهائي و المجلسي الأول.
26- السيد حسين الخوانساري، المعروف بالمحقق الخوانساري: و هو أيضا ممن تربّى في مدرسة الحوزة العلمية باصفهان و أحاط بالعلوم العقلية و النقلية فهو أيضا جامع المعقول و المنقول و هو زوج أخت المحقق السبزواري.
كتابه المعروف في الفقه يدعي«مشارق الشموس في شرح كتاب الدروس»للشهيد الأول كان من معاصري المحقق السبزواري و المولى محمّد محسن الفيض الكاشاني و المولى محمّد باقر المجلسي. و قدسبق أن ذكرنا أن المحقق الخونساري توفي في سنة 1098 هـ
27- جمال المحققين: المعروف بالسيد جمال الخونساري بن السيد حسين الخونساري. و هو أيضا جامع المعقول والمنقول، له حاشية معروفة علي«شرح اللمعة» وحاشية مختصرة على قسم الطبيعيات من كتاب«الشفاء»للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن علي بن سينا طبعت في هامش الطبعة الحجرية في طهران.
و هو من شيوخ السيد إبراهيم القزويني و هو شيخ ابنه السيد حسين القزويني و هوشيخ السيد مهدي بحر العلوم.
28- الشيخ بهاء الدين الاصفهاني: المعروف بالفاضل الهندي، شرح كتاب«القواعد»للعلاّمة سماه«كشف اللثام عن قواعد الإسلام» و لهذا يدعي: كاشف اللثام، له في الكتاب آراء و نظريات يعني بها الفقهاء. مات الفاضل الهندي سنة 1137 في فتنة الافغان. و كان جامع المعقول و المنقول.
29- الشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل البهبهاني: المعروف بالوحيد البهبهاني كان من تلامذة السيد صدر الدين الرضوي القمي شارح «الوافية» و هو من تلامذة السيد جمال الخوانساري المذكور آنفا. عاش بعد الصفوية، و قد سقطت حوزة اصفهان عن مركزيتهابعد انقراض الصفوية،
فهاجر بعض العلماء و الفقهاء منهم السيد صدر الدين الرضوي القمي استاذ الوحيد البهبهاني إلى العتبات المقدسة في العراق، فاستقر الوحيد البهبهاني مع استاذه بكربلاء المقدسة و ربّى تلامذة عديدين منهم السيد مهدي بحر العلوم و الشيخ جعفر كاشف الغطاء و الميرزا أبو القاسم القمي صاحب كتاب«القوانين» و الحاج المولى مهدي النراقي و السيد علي صاحب الرياض و الميرزا مهدي الشهرستاني و السيد محمّدباقر الشفتي الاصفهاني المعروف بحجة الإسلام و الميرزا مهدي الشهيد المشهدي و السيد جواد صاحب «مفتاح الكرامة» والسيد محسن الاعرجي.
و فوق هذا أنه جاهد جهادا متواصلا في الدفاع عن الاجتهاد و مكافحة الاخبارية التي كانت قد راجت في ذلك العهد و ان هزيمة الاخباريين و تربية جماعة من المجتهدين البارزين كان السبب في تلقيب هذا الشيخ بلقب«استاذ الكلّ».
كان في التقوى إلى حدالكمال. و كان تلامذته يكنون له احتراما فائقا. و هو ينتسب إلى المحدّث المجلسي الأول فهو من أسباطه (بوسائط) و ان ابنة المجلسي الأول (آمنة بگم) كانت زوجة المولى صالح المازندراني صاحب الحاشية علي«معالم الدين»في الاصول و هي فاضلة فقيهة تحل أحيانا ما يشكل على زوجها الفاضل. و هي جدّة الوحيد البهبهاني.
30- السيد محمّد مهدي بحر العلوم: التلميذ الأكبر و الأكرم للشيخ الوحيد البهبهاني و هو من كبار الفقهاء، له منظومة في الفقه معروفة، و له آراء في الفقه يعني بها الفقهاء .
يحترمه علماء المذهب حتى أن بعضهم عدّة تالي تلو المعصومين عليهم السلام لما كان له من المكانة المعنوية والاخلاقية العالية، حتى كان الشيخ جعفر كاشف الغطاء الكبير كمايقال يمسح نعال السيد بحنك عمامته!ولد بحر العلوم عام 1154 و توفي سنة 1212 هـ
31- الشيخ جعفر كاشف الغطاء: كان تلميذ الوحيد البهبهاني و تتلمذ عليه السيدمهدي بحر العلوم. و كان فقهيا ماهرا له كتاب في الفقه معروف يدعي«كشف الغطاء»و هوعربي عاش في النجف الأشرف و قد ربّى تلامذة عديدين منهم الشيخ جواد صاحب«مفتاح الكرامة»و الشيخ محمّد حسن صاحب«جواهر الكلام»
كان له ثلاثة أولاد كلهم فقهاء. و كان كاشف الغطاء معاصرا للشاه فتح علي القاجاري، و قد اثنى عليه في مقدمةكشف الغطاء. توفي في عام 1228 هـ له في الفقه نظريات دقيقة و عميقة، تذكر مقرونةبتعظيم مقامه العلمي.
32- الشيخ محمّد حسن: صاحب«جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام»يمكن أن يوصف بأنه دائرة معارف للفقه الشيعي، فليس اليوم فقيه يستغني عنه، و قد طبع مرارا على الحجر، و أخيرا طبع على الحروف بالقطع الوزيري يقع في 40 مجلدا كل مجلد يشتمل على 400 صفحة أي يشكل الكتاب عشرين ألف صفحة كل سطر منه فيه معنى و بحث حول الفقه، مطالعة الكتاب تستغرق مدة من الزمان، فكم صرف على تحضيره و تأليفه من الجهد و الوقت؟ انه صرف ثلاثين عاما من عمره الشريف حتى أوجد هذا الاثر العظيم.
إن هذا الكتاب مظهر عظيم من مظاهر الإيمان و الرغبة و الهمة و النبوغ و الصبرو الاستقامة على العمل و المثابرة. كان صاحب الجواهر من تلامذة كاشف الغطاء و هوشيخ استاذ السيد جواد العاملي صاحب «مفتاح الكرامة» وكانت له حوزة درس كبيرة و تربّى لديه تلامذة كثيرون و كان عربيا و أصبح مرجعا علما للشيعة في عصره توفي أوائل ملك الشاه ناصر الدين عام 1266 هـ
33- الشيخ مرتضى الانصاري: من أحفاد جابر بن عبد اللّه الأنصاري من صحابةرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. ولد في دزفول و درس لدى والده حتى العشرين من عمره ثم سافر إلى النجف الأشرف فلما رأى علماء النجف نبوغه الخارق للعادة طلبوا من والده أن لا يرجع به إلى بلده، و قبل والده ذلك فتركه في النجف الأشرف و بقي الشيخ الانصاري في النجف أربع سنين مستفيدا من بحوث العلماء الاعلام، ثم رجع إلى بلده على أثر حوادث مؤلمة،
و مكث في دزفول عامين، ثم رجع مرة أخرى إلى النجف و حضرمجالس الدروس عامين ثم عاد إلى ايران. و صمم على الاستفادة من محاضر علماءايران و في طريق مشهد الإمام الرضا عليه السلام التقى في كاشان الشيخ المولى أحمد النراقي صاحب كتاب «مستند الشيعة» و«معراج السعادة» وهو ابن الشيخ المولى مهدي النراقي المذكور آنفا فعزم على الاقامة في كاشان و حضر ابحاثه ثلاث سنين.
ثم رحل إلى مدينة مشهد الامام الرضا (ع) و توقف فيها خمسة أشهر. ثم سافر إلى اصفهان و بروجردو كان هدفه التقاء الاساتذة و الاستفادة منهم. و رجع مرة أخرى الى النجف الاشرف عام 1252 و 1253 و أخذ يدرس هناك حتى اصبح مرجعا عاما للشيعة بعد الشيخ محمّدحسن النجفي صاحب«الجواهر».
لقّب الشيخ الانصاري: بخاتم الفقهاء و المجتهدين، و هو يكاد أن يكون عديم المثيل في الدقة و عمق النظر ادخل أصول الفقه و الفقه في مرحلة جديدة، له في الفقه و الاصول آراء جديدة لم يسبقه إليها أحد حتى أن كتابيه«الرسائل»و«المكاسب»أصبحا كتابين دراسيين.
و العلماء بعده من تلامذته و اتباعه، و قد علقوا على كتبه حواشي متعددة، و هوالوحيد بعد المحقق الحلي و العلامة الحلي و الشهيد الاول الذي، علق العلماء بعده على كتبه و شرحوها كثيرا، و كان يضرب به المثل في الزهد و التقوى و تنقل عنه أمور، توفي في سنة 1281 في النجف و دفن فيها.
34- السيد ميرزا محمّد حسن الشيرازي: المعروف بالميرزا الشيرازي الكبير المجدد. درس في اصفهان أولا ثم رحل إلى النجف الاشرف و حضر بحث صاحب الجواهر ثم دروس الشيخ مرتضى الانصاري وأصبح من تلامذته المبرّزين، و أصبح بعد مرجع الشيعةالعام طوال 23 عاما. و هو الذي ألغى بتحريم التبغ معاهدة التبغ الانجليزية الستعمارية«رژي».
و تربّى لدى تلامذة كثيرون كالشيخ الآخوند المولى محمّد كاظم الخراساني و السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي والشيخ الحاج آقا رضا الهمداني و الحاج ميرزاحسين السبزواري و السيد محمّد الفشاركي الاصفهاني و الميرزا محمّد تقي الشيرازي و غيرهم. لم يخلف أثرا مكتوبا إلاّ أن آراءه الفقهية تنقل شفويا ويعني بها الفقهاء. مات عام 1312هـ
35- الشيخ الآخوند المولى محمّد كاظم الخراساني: ولد في مشهد الامام الرضا عليه السلام من عائلة فقيرة غير معروفة سنة 1255، و هاجر إلى طهران و عمره 22 عاماو اشتغل فيها مدة قليلة بالفلسفة ثم هاجر إلى النجف الاشرف فادرك درس الشيخ الانصاري عامين و كان أكثر درسه لدى السيد الميرزا الشيرازي و رحل السيد الشيرازي من النجف إلى سامراء و اتخذها محلا لاقامته عام 1291، فبقي الشيخ الآخوند في النجف الأشرف و شكل حوزة خاصة لدرسه.
وكان أكثر المدرسين توفيقا و اطرادا، فكان يحضرمجلس درسه أكثر من ألف طالب، مئتان منهم بلغوا رتبة الاجتهاد. و كان أكثر الفقهاء في هذا العصر الاخير من تلامذته كالسيد أبي الحسن الموسوي الاصفهاني و المرحوم الحاج آقا حسين البروجردي و المرحوم السيد حاج آقا حسيني القمي و المرحوم آقا ضياءالدين العراقي و غيرهم.
و كان الآخوند شهيرا بالاصول، و كتابه«كفاية الاصول»أصبح كتابا دراسيا مهما، شرحه و علق عليه جماعة من العلماء. و آراؤه في الاصول تنقل في الحوزات العلمية و يعني بها الفقهاء الاصوليون. و هو الذي افتى بضرورة التزام السلطة في ايران بالنظام الدستوري «المشروطة» توفي عام 1329 هـ و دفن في النجف الأشرف.
36- الشيخ الحاج ميرزا حسين النائيني: كان من أكابر الفقهاء و الاصوليين في القرن الاخير، درس لدى السيد محمّد الفشاركي و الميرزا الشيرازي المذكور آنفا و أصبح من أعلى المدرسين منزلة و علما و كان أكثر اشتهاره في علم الاصول، عارض في آرائه آراءاستاذه الشيخ الآخوند الخراساني و ادخل آراء جديدة في الاصول، و أكثر فقهائناالمتأخرين من تلامذته.
له كتاب نفيس في مباني الحكومة في الاسلام و الدفاع عن النظام الدستوري القانوني اسماه «تنبيه الأمة في وجوب حكم المشروطة» توفي عام 1255 هو دفن في النجف الأشرف.
الخلاصة والنتائج
عرفنا هنا ستة و ثلاثين وجه من وجوه الفقهاء المعروفين من زمن الغيبة الصغرى أي من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر، و لهذه الوجوه شهرة تامة في علمي الفقه و أصوله، أي انهم و آراءهم لا زالت تذكر في الفقه و كتبه و دروسه.
و مما ذكرناه نصل إلى أمور:
أ – إن الفقه لا زال حيّا منذ القرن الثالث الهجري و حتى اليوم و لم تنقطع حياته المستمرة، و أن الحوزات الفقهية لا زالت نشطة من دون توقف طوال هذه القرون الاحدعشر، و لم تنقطع في هذه المدة علاقة الشيوخ و الاساتذة بالتلامذة و المتعلمين.
فمثلا لوبدأنا من استاذنا الكبير المرحوم آية اللّه البروجردي بتعداد المشايخ إلى الوراء لاستطعناأن نصل بهم إلى عصر الأئمة الاطهار عليهم السلام.
ولا نجد هكذا حياة مستمرة لثقافةمن الثقافات طوال أحد عشر قرنا من الزمان، بل لا يمكن أن نجد استمرارا ثقافيا بالمعنى الحقيقي و بروح و حياة واحدة بدون أي انقطاع تتوالي و تصل بالطبقات، طوال هذه القرون المتمادية إلاّ في الحضارة و الثقافة الإسلامية، أجل نرى في سائر الحضارات و الثقافات سوابق أطول و لكنها تنقطع و تتوقف ثم تجد حياتها مرة أخري.
و ذكرنا قبل هذا، أنا لم نبدأ بالفقه من القرن الثالث المقارن للغيبة الصغرى بمعني أن الفقه الشيعي بدأ من القرن الثالث، بل من حيث ان فقه الشيعة قبل هذا كان في عصرحضور الأئمة الاطهار عليهم السلام فلم يكن الفقه مستقلا و كان فقهاء الشيعة منضوين تحت شعاع أنوار الأئمة عليهم السلام، و إلاّ فان الفقه و الكتاب الفقهي في الشيعة بدأ من عهد الصحابة، فقد كتب أول كتاب في ذلك علي بن أبي رافع أو عبيد اللّه بن أبي رافع صاحب بيت المال و كاتب أمير المؤمنين عليه السلام.
ب- إن معارف الشيعة، و منها فقههم لم ينظم و لم يدوّن بأيدي الشيعة الايرانيين فقط كما زعم بعضهم بل اسهم فيه الايرانيون و غيرهم، بل كان الغالب منهم قبل الصفوية في القرن العاشر الهجري من غير الايرانيين و إنما بدأ دورهم من أواسط عهد الصفويين.
ج- لم يكن مركز الفقه قبل الصفوية ايران، بل بدأ الفقه الشيعي نضجه في بغداد ثم رحل إلى النجف الاشرف، ثم انتقل إلى جبل عامل، ثم عاد إلى الحلة الفيحاء في العراق ثم رجع إلى حلب في سورية ثم انتقل إلى اصفهان على عهد الصفوية، ثم رجع إلى النجف الاشرف على عهد المقدس الاردبيلي و غيره و استمر حتى إلىوم.
و كانت مدينة «قم»من المدن الايرانية التي عدّت من مراكز الحوزات العلمية للشيعة منذ القرون الأولى على يدفقهاء قدماء من قبيل الشيخ علي بن بابويه و الشيخ محمّد بن قولويه، و عادت إلى الحياة على عهد القاجار بيد الشيخ الميرزا أبي القاسم القمي صاحب كتاب«قوانين الاصول»ثم حددت حياتها على يد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي عام 1340 هـ و لا زالت هي إحدى الحوزتين الكبيرتين للشيعة، بل أكبر الحوزات.
و على هذا فقد كان مركز النشاط الفقهي بغداد حينا و النجف الاشرف و جبل عامل و حلب و الحلة و اصفهان و قم أحيانا أخري. و كانت قد تشكلت حوزات محلية قبل الصفوية، و لا سيما بعدها في مدن أخرى من قبيل مشهد و همدان و شيراز و يزد و كاشان و تبريز و زنجان و قزوين و تون (فردوس) إلاّ أنها لم تصبح مركزا للفقهاء، و لا حوزة من الدرجة الأولى إلاّ في اصفهان و قم و كاشان و خير، دليل على النشاط العلمي و الفقهي لهذه المدن وجود المدارس التاريخية في جميع هذه البلدان المذكورة.
د- لقد كان لفقهاء جبل عامل دور مهم في الخطوط العامة للدولة الصفوية الشيعية، فالصفويون كما نعلم كانوا صوفيين، فلو لم يعتدل خط الصفوية الصوفي الدروشي بسيرة فقهية عميقة من قبل فقهاء جبل عامل،
ولو لم تؤسس على أيديهم حوزة فقهية عميقة في ايران، لانتهى خط الصفوية إلى ما انتهى إليه العلويون في الشام أو تركية. و كان لهذا العامل أثر كبير في صيانة السيرة العامة للدولة و الامة الايرانية من تلك الانحرافات في الصوفية، و تعديل العرفان و التصوف الشيعي.
ومن هنا نقول ان لفقهاء جبل عامل، من قبيل المحقق الكركي و الشيخ البهائي و الآخرين بتأسيسهم الحوزة الفقهية في اصفهان حقا كبيرا على ذمة هذه الامة.
هـ إن التشيع في جبل عامل مقدم من حيث الظهور و الزمان على التشيع في ايران كما قال شكيب ارسلان[10] و هذا دليل قاطع على رد النظرية التي تقول بأن الشيعة هم الذين ابتدعوا التشيع.
و يذهب جماعة إلى أن التشيع ظهر في جبال بني عاملة على أثرإقامة أبي ذر الغفاري مدة في أراضي الشامات التي كانت يومئذ تشمل جبال عاملة أو مايقاربها. فكان إلى جانب مقاومته و نهيه لمنكرات معاوية و تكاثره في اكتناز ثروات الأمة و مع سائر الامويين يدعو الناس إلى مشايعة علي عليه السلام و متابعته و ولايته و محبته[11]
أما فقهاء أهل السنة،
فينبغي أن اذكر قبل ذكرهم مقدمة: كان الفقهاء العرب غير الشيعة يؤيّدون من قبل الامويين، أما على عهد العباسيين فقد كان الفقهاء غير العرب من غير الشيعة يلقون الدعم و التأييد.
يقول جرجي زيدان بشأن الخلفاء الأمويين: «قد علمت مما فصلناه في الجزأين الماضيين من هذا الكتاب: ما كان من تعصب بني امية للعرب و احتقارهم غير العرب من المسلمين و غيرهم، و أهل المدينة مع تحيزهم لاهل البيت و انكار الخلافة علي بني امية كان الامويون يسعون في ارضائهم و اكرامهم، و خصوصا أهل الورع من الخلفاء كعمر بن عبد العزيز، فانه كان لا يقطع أمرا مهمّا إلاّ بعد مشورتهم.
فلما افضي الامر إلى بني العباس اراد المنصور تصغير أمر العرب و اعظام أمرالفرس لانهم أنصارهم و أهل دولتهم، كان من جملة مساعيه في ذلك تحويل انظارالمسلمين عن الحرمين، فبنى بناء سمّاه (القبلة الخضراء) حجا للناس، و قطع الميرة عن المدينة و فقيه المدينة يومئذ الامام مالك الشهير فاستفتاه أهلها في أمر المنصور فافتى لهم بخلع بيعته فخلعوها و بايعوا محمّد بن عبد اللّه من آل عليّ.
و عظم أمر محمّد هذا، و حاربه المنصور و لم يتغلب عليه إلاّ بعد العناء الشديد. فرجع اهل المدينة الى بيعة المنصور قهرا وظل مالك ينكر حق البيعة لبني العباس، فعلم أمير المدينة يومئذ و هو جعفر بن سليمان عم المنصور بذلك فغضب و دعا بمالك و جرّده من ثيابه و ضربه بالسياط و خلع كتفه»[12]
وينقل ابن النديم في «الفهرست» في ترجمة محمّد بن شجاع المعروف بابن الثلجي من الفقهاء؛ قصة يكشف لنا سياسة الخلفاء العباسيين بشأن الايرانيين (غير الشيعة) : يقول:
«قرأت بخط ابن الحجازي أن: قال محمد بن شجاع [الثلجي ]قال لي إسحاق بن إبراهيم المصعبي و كان لي [أي الثلجي ]صديقا: دعاني أمير المؤمنين فقال لي: اختر لي من الفقهاء رجلا قد كتب الحديث و تفقه به مع الرأي، و ليكن مديد القامة جميل الخلقة خراساني الاصل من نشأة دولتنا ليحامي على ملكنا حتى اقلده القضاء.
فقلت: لا أعرف رجلا هذه صفته غير محمّد بن شجاع، و أنا افاوضه ذلك. قال: فافعل، فإذا أجابك فصر به إليّ فدونك يا أبا عبد اللّه. فقلت: أيها الأمير! لست إلى ذلك بمحتاج، و إنما يصلح القضاءلاجل ثلاثة: لمن يكتسب مالا، أوجاها، أو ذكرا. فأما أنا فما لي وافر و أنا غني. . . و الذكرفقد سبق لي عند من يقصدنا من أهل العلم و الفقه بما فيه كفاية. . . و توفي سنة 256 هـ»[13]
و بين فقهاء أهل السنة كما نعلم أربعة يعرفون بأنهم أصحاب مذاهب و ان عامة أهل السنة يتبعون أحد هؤلاء الاربعة؛ أبا حنيفة، و محمد بن ادريس الشافعي، و مالك ابن انس، و أحمد بن حنبل. و إن كان حصر المذاهب في مذاهب هؤلاء، ظهر في القرن السابع الهجري، و أما قبل ذلك فكانوا على أكثر من عشرة مذاهب.
و نحن نقسم بحثنا بشأن فقهاء أهل السنة إلى ثلاثة أقسام: قبل الأئمة، و عصر الأئمة، و في غيبة الامام.
و أما قبل هؤلاء الأئمة فكان دور التابعين الذين لم يدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن ادركوا صحابته.
فمن هؤلاء كان في المدينة سبعة و هم:
1 أبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي القرشي المتوفى 94 هـ
2 سعيد بن المسيب المخزومي القرشي أيضا العابد الزاهد الذي قيل أنه أحيا خمسين عاماليله إلى الصباح و كان يصلي الصباح بوضوء العشاء الآخرة. و قيل انه كان يتشيع. و عدّه العلامة المرحوم السيد حسن الصدر في«تأسيس الشيعة»[14] من الشيعة، مات عام 91 هـ
3 القاسم بن محمّد بن أبي بكر، حفيد الخليفة أبي بكر و جدّ الامام الصادق عليه السلام لامه و قد صرح السيد الصدر بتشيعه[15] و أم القاسم إحدى بنات يزدجرد الملك الساساني، فهو من قبل أبيه قرشي، و من قبل أمه ايراني . توفي بين المئة و المئة و عشرة.
4 خارجة بن زيد بن ثابت الانصاري المتوفى في حدود 99 هـ و هو ابن زيد بن ثابت الانصاري المعروف.
5 سليمان بن يسار، هو مولي، و الظاهر انه ايراني، مات عام 94 هـ
6 عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، المتوفي في حدود عام 98 هـ، و هو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود الصحابي المعروف.
7 عروة بن الزبير المتوفى في حدود 94 هـ، و هو ابن الزبير بن العوام الصحابي المعروف، عرف مما سبق أن واحدا من هؤلاء السبعة يحتمل فيه ان يكون ايرانيا، و الآخرمن طرف امه، و الآخرون عرب أما مكيون أو مدنيون. و هناك فقهاء غير هؤلاء السبعةبعضهم ايرانيون، منهم«ربيعة الرأي»الفقيه المعروف و هو استاذ مالك بن انس إمام المالكية و هو الذي ابتدع العمل بالقياس .
و أما أئمة المذاهب الاربعة فهم:
1 أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، أو النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، المتوفي في عام 150 هـ هو ايراني عدّ أعظم أئمة أهل السنة و لم يكرم عند أهل السنة بعد النبي و الخلفاء الراشدين و الحسنين عليهما السلام أحد كما كرم أبو حنيفة، يقلده اليوم من السنة أكثر من مئة مليون مسلم، و إن كان مقلدوه في ايران قليلين.
2 محمّد بن ادريس الشافعي المتوفي في سنة 204 هـ، و هو عربي قرشي و من حيث التقليد و الاتباع لا يقل عن أبي حنيفة لو لم يكن أكثر منه في ذلك.
3 مالك بن أنس المتوفي سنة 179 هـ و هو عربي قحطاني يتبعه أهل المغرب.
4 أحمد بن حنبل الشيباني، المتوفي في عام 241 هـ و هو عربي أيضا إلاّ أن أسرته سكنت في«مرو»خراسان، قال ابن خلكان: خرجت أمه من مرو و هي حامل به و وضعته في بغداد.
و على هذا فهو ايراني من أصل عربي. وعلى هذا فليس من هولاء الأئمةالاربعة ايراني في الاصل إلاّ أبا حنيفة، و الآخرون عدناني و قحطاني و شيباني.
و هناك أئمة مذاهب انقرضوا و انقرض اتباعهم من قبيل:
محمّد بن جرير الطبري المتوفي في عام 313 هـ، و داود بن علي الظاهري و الاصفهاني المتوفي 270 هـ، و هومؤسس المذهب الظاهري و هو مذهب حرفي جامد على ظواهر الأخبار فقط و كان ابن حزم الاندلسي الاموي النزعة و الهوي، و الذي لا يخلو من عداء لأهل البيت الطاهرعليهم السلام يتبع في الفقه داود الظاهري. و كلاهما ايرانيان من حيث المنشأ أو حتى الاصل.
و هناك من أهل السنة فقهاء آخرون كبار: بعضهم أرباب مذاهب و بعضهم لا. . . بعضهم ايرانيون و بعضهم لا. و من أجل أن نقدم نماذج تبيّن مدي اسهام الايرانيين في الفقه السنّي نذكر عددا منهم:
1 محمّد بن الحسن الشيباني الدمشقي تلميذ أبي حنيفة المتوفي في عام 189 ههاجر من العراق مع هارون الرشيد إلى إيران فلما بلغ الري مات و دفن بها.
2- القاضي أبو يوسف، تلميذ أبي حنيفة. تقلد منصب قاضي القضاة للمهدي و الهادي و هارون الرشيد و توفي في سنة 192 ه ـكان من أولاد الانصار.
3 زفر بن الهذيل المتوفي في سنة 158 هـ، و هو عربي عدناني من أتباع أبي حنيفة.
4 ليث بن سعد الاصفهاني، فقيه مصر المتوفي في سنة 175 هـ، و هو إمام مذهب و إن كان يتبع في الفقه أبا حنيفة كما قيل.
5 عبد اللّه بن المبارك المروزي، نسبة الى مرو خراسان، تلميذ ابي حنيفة و مالك و الثوري، توفي في سنة 181 هـ
6 أبو عمر عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي الشامي، المتوفي في عام 157 هـ تلميذ الزهري و عطاء بن ابي رباح. كان إمام أهل الشام في مذهبهم، و لا يعلم أهو عربي يمني أم حليف أم مولي. ؟
هؤلاء هم مشاهير فقهاء أهل السنة، و أما الفقهاء غير المعروفين فلا يحصون كثرة و في المشاهير ايرانيون و غير ايرانيين.
فطاووس بن كيسان مولى معتق معاصر للفقهاء السبعة في القرن الأول، و كذلك ربيعةالرأي الفقيه المعروف و شيخ مالك بن أنس و أول من أسس القياس و الرأي، و اليه نسب فقيل: ربيعة الرأي مات عام 136 هـ و عكرمة مولى ابن عباس البربري نال مقام الفقه و التفسير. و سليمان بن مهران الأعمش فقيه ايراني من القرن الأول.
و في القرون التالية، فقهاء ايرانيون نذكر منهم: ابن السريج الشافعي و ابا سعيدالصطخري و ابا اسحاق المروزي في القرن الرابع، و أبا حامد الاسفرائيني و ابا اسحاق الاسفرائيني و أبا اسحاق الشيرازي و امام الحرمين الجويني و الامام محمد الغزالي و اباالمظفر الخواني، وكيا الهراسي في القرن الخامس، وأبا اسحاق العراقي الموصلي في القرن السادس، وابا السحاق الموصلي في القرن السابع، و الامام الشاطبي الاندلسي في القرن الثامن.
و أما في القرون الاخيرة فكان فقهاء ايران من الشيعة، لتشيع أكثر الايرانيين.
الهوامش
[1] المنشور في الكتاب السنوي: مكتب التشيع العدد 2 بالفارسية.
[2] كتاب الذكرى الألفية للشيخ الطوسي ج 2، و ذكرى الشيخ الطوسي ج .3
[3] تأسيس الشيعة: ص 298 ط. بغداد.
[4] كتب المرحوم العلاّمة آقا بزرگ الطهراني كتابا في عدة مجلدات بعنوان: طبقات أعلام الشيعة، إلاّ أن الكتاب كما يحكي العنوان غير خاص بطبقات الفقهاء خاصة من أعلام الشيعة. و قد كتب المغفور له السيد محسن الامين العاملي كتابا آخر في مجلدات بعنوان: الذريعة إلى أعيان الشيعة، و لكنه كما يحكي العنوان يعني بتراجم أعيان الشيعة و ليس خاصا بتراجم طبقات أعلام و فقهاء الشيعة المترجم.
[5] «المعتبر»للمحقق الحلي: المقدمة ص .7
[6] الكنى و الالقاب . للشيخ عباس القمي (قده) .
[7] مقدمة العلاّمة السيد محمّد صادق بحر العلوم على رجال الشيخ الطوسي: ص 122، ط. النجف.
[8] الكنى و الالقاب: ج 1 ص .381
[9] حياة جلال الدين الدواني: تأليف علي الدواني
[10] يراجع كتاب: «جبل عامل في التاريخ».
[11] يراجع كتاب: «جبل عامل في التاريخ».
[12] «تاريخ التمدن»لجرجي زيدان: ج 3 ص 79 ط، د. حسين مؤنس نقلا عن ابن خلكان: ج 1 ص .439
[13] الفهرست: ص 219، ط. بيروت.
[14] تأسيس الشيعة: ص .298
[15] المصدر نفسه.
المصدر: كتاب: الإسلام و ايران للمؤلف: الشهيد آية الله مرتضى مطهري
المترجم: محمد هادي يوسفي الغروي
الناشر: رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية