الاجتهاد: إن الغرض من المحاضرات الثلاث التي أتشرف بإلقائها عليكم هو أن أتحدث إليكم عن الطريقة التي يجري عليها العلم الأوربي في درس الشرع الإسلامي، وعن بعض النتائج الهامة التي أسفر عنها هذا الدرس.
وقد بدا لي أن هذا الموضوع خليق بأن يثير اهتمامكم من أكثر من وجهة واحدة، فأن مصر كبلد إسلامي حديث لا يمكن إلا أن تهتم ببحوث علمية ترمي إلى إظهار خاصة من خصائص الإسلام، والعلم الأوربي من جانبه ينبغي ألا يهمل الاتصال بالعلم الإسلامي المعنيّ بهذا الموضوع.
ورغم اختلاف المبادئ والطرق والمصالح التي تفصل هاتين المدرستين إحداهما عن الأخرى، فقد ألفت بين بحثيهما في الشرع الإسلامي آصرة مشتركة جوهرية، هي روح البحث العلمي الذي يحدو المستشرقين الأوربيين اليوم، كما كان يحدو علماء الإسلام من عهد القرون الوسطى.
هذا العتاد المشترك يبعث على أشد التفاؤل بتعاون مثمر قائم على الاحترام المتبادل بين العلماء الشرقيين والغربيين في هذا الباب، تعاون لا يوهن في تعلق فريق منهما بالتقاليد واستمساك الفريق الآخر بأساليبه العلمية، وإني لأرجو أن يكون في مقدوري المساعدة على تنمية التفاهم بين الفريقين؛ وليس في نيتي أن أعرض صورة عامة للشرع الإسلامي،
وأن أكرر كثيراً من الأشياء المعلومة لكثرتكم بلا شك، بل أتكلم عن مسائل خاصة في تاريخ هذا الشرع تناولها علماء أوربا متوخيا عرضها عليكم في صورة قد تثير اهتمام حتى غير الاختصاصين منكم
ولنبدأ بالمسألة العامة –
مسألة تاريخ الشرع الإسلامي؛
فهذه المسألة تمكنني من اطلاعكم على ما بين وجهتي النظر من اتفاق تام، فعلماء الإسلام يرون في الشريعة تعبيراً عن الإرادة الإلهية التي لا تبدل فيها؛ وقد كان مع هذا المبدأ من المسلَم به دائماً أن تعبير الفقه عن هذا القانون الإلهي مرّ بدور تاريخي حتى أن بعض المؤلفين المسلمين عنونوا مؤلفاتهم (بتاريخ التشريع الإسلامي)؛
وقد جهد علماء أوربا ببحث هذا التطور دون أن يكون لهم بمسائل العقائد شغل، وتناولوا بهذا الروح تاريخ الشريعة، والعلماء المسلمون أنفسهم، على الرغم من اعتقادهم بقدسية الشريعة وصبغتها الإلهية، يسلمون بأن أحكاماً من أحكامها كانت موجودة فعلا في شرائع أخرى قبل أن يقرها التشريع الإسلامي؛ ولنضرب لذلك مثلا واحداً هو القصاص، فأن مبادئه التي عدلها وأكدها القرآن والسنة ترجع إلى القوانين العرفية عند العرب قبل الإسلام.
فالعلم الأوربي يبحث فيما يسمى بالعلاقات بين الشريعة والشرائع التي سبقتها بهذا المعنى التاريخي المحض – ذلك المعنى الذي لا يضير ما في علم أصول الفقه الإسلامي من الحقائق، ومعلوم جيداً أن العلماء المسلمين أنفسهم يطبقون على الأسانيد قواعد نقدية، وهذا النقد الذي وسَّع النقاد من علماء أوربة دائرته، وذهبوا فيه بعيداً، قد بات أداة للعمل لا يستغني عنها العلم الأوربي – أداة ليست سلبية محضة، بل قد أعانتنا على تقرير صحة الكثير من الأحاديث.
في هذا كله يمكن أن يوجد، بل يوجد فعلا اختلاف كبير في الأساليب والنتائج بين علماء الشرق والغرب، ولكن لا وجود لخلاف جوهري، لأن مبادئ عقائد الإسلام لا تؤثر في دراستنا التاريخية للشرع الإسلامي.
هذه المدرسة الأوربية لا تقف عند حدود الشريعة، التي تلتزم غايتها الأساسية بطبيعة الحال، بل تتجاوزها أبحاثها إلى وجهات عدة، فتتناول القوانين الأخرى المتصلة بالشرع الإسلامي اتصالا مباشراً، سواء أكان ذلك باندماج سنن تلك القوانين في الشريعة الإسلامية بالمعنى الذي أسلفنا بيانه، أم كان بتأثير الشريعة في تلك القوانين والسنن، والمقصود بذلك قوانين العرب أيام الجاهلية من جهة، وقوانين الشعوب التي دخلت في دولة الإسلام من جهة أخرى؛ مثال ذلك هو التشريع الخاص بالأسبان المسيحيين الذين يتكلمون العربية وهم المسمون بالمستعربين.
ويتناول الدرس أيضاً موضوعاً واسعاً، هو العرف القائم بين الشعوب الإسلامية نفسها.
إننا نعلم أن هذا العرف الذي يطلق عليه أسماء مختلفة كالعادة والقانون والدستور الخ قد نشأ إلى حد ما في بلاد الإسلام تقريباً، إلى جانب الفقه المعترف به رسمياً؛ وشرح تاريخ هذا العرف وبيان علاقته بالشريعة أمر لا غنى عنه في تفهم جملة الحياة التشريعية عند الأمم الإسلامية تفهماً صحيحاً؛
وقد شهدنا في خلال السنوات الأخيرة تطوراً جديداً في العلاقات القائمة بين الشريعة والقانون بتلك التعديلات التي أدخلتها مصر على الأحوال الشخصية.
وأخيراً فالعلماء الأوربيون يعنون بالمظهر الاجتماعي للشرع الإسلامي، لأن الشريعة الإسلامية أحسن مثال وأهم مظهر لما يسمى (بالقوانين المقدسة).
وبهذا لا نريد مطلقاً أن نضع الشريعة في مستوى واحد مع سائر الشرائع، بل نحرص كل الحرص على إظهار خواصها الفردية ابتغاء الوصول إلى تقدير مركزها الفريد بين الشرائع والقوانين الأخرى.
فإذا كان علمنا يضع الشريعة في أفق أبعد زاعماً أن تلك الشريعة ليست حقيقية شاذة لا علاقة لها بما حولها، فإنما نفعل هذا لكي ندرسها أوفى درس ممكن من كل جهاتها.
كذلك لا يهمل العلماء في أوربا درس الشرع الإسلامي على طريقته التقليدية الخاصة، فإن هذه الدراسة شرط لازم يمهد لكل بحث تاريخي. ولعل في هذه الملاحظات التمهيدية ما ينيلكم فكرة عامة من هذه الوجهة الهامة من بحوثنا وغاياتنا
وقبل المضي في التفاصيل قد يحسن أن أقول كلمة عن تاريخ هذه الدراسة في أوربا.
فوجودها يرجع إلى عهد قريب لأنها مدينة بأصلها للنهضة العظيمة التي تناولتها البحوث الإسلامية في أوربا في النصف الثاني من القرن الماضي.
والمشجعان الكبيران على البحوث الإسلامية العامة هما في نفس الوقت واضعا أساس البحث العلمي في الشرع الإسلامي، وأعنى بهما الأستاذ المجري الكبير (توفي في سنة ألف وتسعمائة وواحد وعشرون) والأستاذ الهولندي المحترم الذي بلغ أخيراً الثامنة والسبعين من عمره، والى اسمي هذين الصديقين الجليلين يجب أن نضيف اسم عالم ألماني قضى قبل الأوان في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثلاثين في الخامسة والأربعين من عمره، واعني به المرحوم المأسوف عليه الأستاذ وإني لأعتبر نفسي تلميذا لـ , وأنا شاعر بجميلهما أعمق الشعور، فخور بهما حق الفخر
إن أولى المسائل الخاصة التي سأعالجها هنا تتعلق بالقانون العرفي عند العرب في زمن الجاهلية، وهو كالأرض التي كانت تنمو عليها شجرة الشريعة العظيمة، ولهذا السبب فإنه يدخل في نطاق أبحاثنا كما ألمعنا آنفاً.
هنالك رأي سائد إلى اليوم يعتبر الحياة القانونية في جزيرة العرب قبل الإسلام مما لا يمكن درسه لانتفاء المصادر المباشرة، ويزعم أن تلك الحياة كانت فطرية بسيطة بحتة. ولقد مكنتنا أبحاث السنوات الأخيرة القائمة على الانتفاع بمصادر غير مباشرة من تصحيح هذا الرأي.
فلم يكن فطرياً سوى أحوال البدو، يشهد بذلك الشعر القديم وأخبار القبائل ويؤيده ما يصادفه المرء عند البدو اليوم. أما المدن ومنها مكة التي كانت مركزاً تجارياً ذا صلة باليمن وسورية البيزنطية والعراق الساساني، والمدينة التي كانت مركز زراعة النخيل مركزاً يضم جالية كبيرة من اليهود –
نقول: أما المدن، ومنها ما ذكرناه، فكان لها بلا ريب قانون أكثر نمواً لم يمكن إلا أن يتأثر بالعوامل الخارجية التي ذكرناها، ويمكننا أن ننسب بالتفاصيل إلى الأصل البدوي أشياء منها النظام الاجتماعي وأحكام العائلات والمواريث وقانون القصاص – وكل هذا بقى سارياً على أهل المدن أيضاً – ويمكننا أن ننسب إلى التطور المدني الموافقة على قواعد مفصلة تطبق على العقود ووضع أشكال معينة للشركات واستعمال وثائق مكتوبة – كل هذا في مكة – ومعاملة بعض العقود الزراعية في المدينة.
فكل هذه العناصر لم تبق بمعزل بل اتسع تداخلها بتأثير العلاقات التجارية التي تساعد على نموها الأشهر الحرم والأسواق الكبرى، حتى أن بلاد العرب كانت في القرن السادس بعد الميلاد محكومة بقانون عرفي متشعب الأطراف، وهذا يطرح مسألة تحليل هذا القانون تحليلاً مفصلاً سأقدم لكم مثالاً منه
الحالة في الشرع الإسلامي هي أن العنصر الجوهري في كافة العقود يتألف من الإيجاب والقبول اللذين يعبران عن تراضي المتعاقدين، وهذا التركيب القانوني للعقود من إيجاب وقبول تجمع مذاهب الفقه على التسليم به كأنه أمر طبيعي دون أن يتناقض بعضها مع بعض، وهو لابد أن يكون سابقاً لتلك المذاهب فضلا عن أنه لا صلة له بالمبادئ الإسلامية المحضة كمنع الربا ومنع الغرر التي تبنى عليها كافة الأبواب المتعلقة بأحكام العقود من الشريعة.
وهذا كله ودلائل أخرى تحمل على الاعتقاد بأن تلك العبارة القانونية عن طبيعة العقود ترجع إلى القوانين العرفية فيما قبل الإسلام.
أجل إن هذه الفكرة القانونية تكاد تكون شاذة شذوذاً تاماً في تاريخ القوانين القديمة. فإن الأمر المعني هنا ليس بذلك الدور الطبيعي الواضح الذي كان للإيجاب والقبول دائماً في الحياة الاقتصادية باعتبار أنها مقدمة العقود المتواضع عليها بمحض التراضي؛
ولكن النقطة الحاسمة هي أن الإيجاب والقبول يعتبرهما النظر القانوني عنصراً جوهرياً في العقود، وأولئك الذين درسوا الشرع الإسلامي أو القوانين الحديثة فقط يمكن أن يلوح لهم هذا ضرورياً، بيد أن التاريخ يدلنا على أن الأمر ليس كذلك؛ لأن مثل هذا التركيب القانوني للعقود لم تعرفه القوانين القديمة اللهم إلا الشرع الإسلامي والقانون البابلي الحديث.
فإن هذا القانون يعطي نمطاً من صيغة تعاقدٍ يتفق تماماً ونظرية العقود التي أسلفنا بيانها، بحيث أن نفس العقود البابلية الحديثة لو ترجمت إلى العربية يمكن أن تبدو بين الوثائق الإسلامية القديمة المبنية على النحو الآتي: (هذا ما اشترى فلان من فلان. . . وباع هو إياه. . . بتراض منهما. . .).
هذه الحقيقة الواقعة تحدو بنا إلى التساؤل: أتوجد علاقة تاريخية بين هاتين الظاهرتين؟ إن الفارق الزمني ليس بكبير مهما يظهر منه عند اللحظة الأولى، فإن الوثائق البابلية الحديثة تبتدئ من أواخر القرن الثامن قبل الميلاد وتستمر إلى نهاية الآداب البابلية حول الميلاد، والقانون العرفي العربي كان قد اكتمل تطوره في القرن السادس بعد الميلاد.
بيد أن بعض خواصه قد يرجع إلى ما قبل ذلك. وليس يدعو إلى العجب أن تبقى صيغة وثائق جمدت خلال سبعة قرون لكافة الأعاصير السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق – نقول: ليس عجيباً أن تبقى مثل تلك الصيغة التعاقدية بعد ذلك زماناً، وإن كنا لا نستطيع الجزم بهذا لأننا لا نعلم شيئاً عن تلك الفترة.
على أن الاستمرار التاريخي للبيئة مؤكد على الأقل؛ ذلك أن العراق كان يسكنه منذ القرن الثامن قبل الميلاد وعلى الرغم من تبدل الأسر الحاكمة أولئك السكان الآراميون الذين لم يزالوا يسكنونه في خلال الفتح العربي والذين سماهم العرب بالنبطيين.
أما القانون المعرفي العربي فإن التأثر الذي يمكن أن يكون تناوله من جانب العراق ليس أقل احتمالا من التأثير الذي أصابه من ناحية سورية، وهذا مؤكد لأن التجارة العربية كانت تتجه نحو القطرين على السواء.
وصفوة القول أنه من الراجح رجحاناً كافياً أن صيغة العقود ذات الجانبين أي الإيجاب والقبول قد توورثت من القانون البابلي الحديث.
وقد ألمعنا إلى أن تلك الفكرة القانونية في انعقاد العقود ليست بالوحيدة الإمكان، فإن هنالك فكرة أخرى منتشرة انتشارا واسعاً في القوانين القديمة تعتبر العنصر الجوهري موجوداً في تصرف واحد من المتعاقدين.
مثال ذلك أن ينعقد البيع بنزول البائع عن حقه في الشيء المبيع للمشتري في مقابل ثمن معين. ويظهر من الاصطلاحات العربية أن القانون العرفي قبل الإسلام كان قد عرف هذه الفكرة في طبقة سابقة لدخول الصيغة التبادلية في العقود، وهذه الاصطلاحات بلا شك إلى الزمن الجاهلي أيضاً.
فبينما الاصطلاح الفني المقبول يعبر رأساً عن معنى العقل الذي يقع عليه فإن الاصطلاح الخاص بالعرض – وهو الإيجاب – يتناقض تناقضاً ظاهراً مع الدور المخصص لفعله لو اعتبر العقد، كما هو الواقع، آتياً من الجانبين.
فهو يصف العرض الذي هو فعل البائع في مثالنا السابق كأنه يجعل العقد واجباً نهائياً مختوماً عليه لا رجوع فيه، بدليل معنى كلمة الوجوب في شواهد كثيرة؛ منها حديث مشهور إذ يقول النبي عن رجل أسلم ثم استشهد على الأثر: وجبت له الجنة.
وعلى النقيض من ذلك فإن العقد ذا الجانبين لا يصير واجباً إلا بقول عرض سابق، بينما التصرف من جانب واحد على نحو ما أسلفنا يطابقه ذلك الاصطلاح تماماً. إن هذا العصر الجاهلي يكشف لنا عن أرض عذرية واسعة خصيبة لأبحاث مستقبلة
والمسألة الثانية التي أود أن أتناولها تتصل بعصر هو أحسم من غيره في تاريخ الشرع الإسلامي أعني عصر فقهاء المدينة السبعة.
وقد كان الاعتقاد إلى الآن أن عمل هؤلاء الفقهاء الأولين للإسلام كان وضع نظام للفقه يطابق حاجات عصورهم المختلفة. ولكن الأبحاث التي جعلتنا أكثر معرفة بحالة القانون العربي في العصر السابق للإسلام هي نفسها التي علمتنا أن نقدر عمل هذا العصر الآخر بأدق مما كنا نفعل، فهذا العمل قبل كل شيء إدخال المبادئ الإسلامية في قانون كان قد نما إذ ذاك نمو كافياً.
وأصحاب الفضل الأكبر في إدخال المبادئ الإسلامية في القانون العرفي الجاهلي كانت تضمهمّ دوائر الأصحاب والتَّابعين وتابعيهم في المدينة.
كانوا يعملون على نفاذ الحياة بأسرها ومنها الحياة التشريعية بقواعد دينية أخلاقية، وهذه القواعد كانوا يستمدّونها ويستنتجونها قبل كل شيء من الآيات القرآنية الشرعية ثم من الأحاديث. فالأحاديث التي كانوا يأخذون بها ترجع بلا شك إلى عصر قديم جداً.
ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث الحديثة أفضت بالعلم الأوربي إلى تعديل تشككه في صحة بعض الأحاديث – ذلك التشكك الذي كان يغالى فيه أحياناً.
فكثير من تلك الأحاديث لا يذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي كانت تصير قواعد جديدة، بل يذكر أن النبي قرر وأجاز عادات أصحابه باستصوابها صريحا أو ضمنياً دون أن يستنكرها. وهذا هو البرهان المباشر لما نسمّيه استمرار السنن القانونية السابقة في الشرع الإسلامي.
ولقد كان من نتائج هذا التطبيق المحتوم المنظم لأعمال القرآن والسنة أن اشتمل نظام من (الأوامر والنواهي) على جميع أبواب الحياة القانونيَّة حتى التي لم ينص القرآن عليها صراحة. وروح هذه (الشريعة المقدسة) تختلف أصلاً عن روح القوانين المدينة كالقانون الروماني مثلا.
فأن أمثال هذا القانون تتناول قبل كل شيء الحقوق المشتقة من أفعال معينة ذات قيمة قانونية، على حين أن الشرائع المقدسة تعني الحكم على الأفعال من حيث أنها مباحة أو محظورة. وهذا بيّن من الاصطلاحات الفنية: إن التدرج العام لأعمال الإنسان من واجبة أو مفروضة ومندوبة ومباحة أو جائزة ومكروهة ومحظورة تعبر عن صفاتها الدينية والأخلاقية.
ولكن كلمة الواجب لم تدل في الاصطلاح الجاهلي – كما رأينا – على المفروض بل دلّت على الصحيح وقد تستعمل في هذا المعنى أحياناً في كتب الفقه أيضاً: ونحن نشهد حقيقة على تراجع للعنصر القانوني المحض بتأثير القواعد الأخلاقية.
حتى نفس نظام المصطلحات الدالة رأساً على أنواع الصفات القانونية وهي مشروع وصحيح ومكروه وفاسد وباطل إلى غير هذا، تأثرت بتلك النظرية الدينية: فالصفة العامة وهي المشروعية، مشروعية البيع مثلاً، تشتمل حكما من هذا النوع الديني الأخلاقي؛ ثم إننا نجد صفة الكراهة تطلق على أفعال قانونية مشروعة صحيحة يليها شيء من المنهي عنه.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن هذا النظام المدرج الثاني أقل تفصيلاً من التدرج الأول، وأن بعض المصطلحات الدالة على الصفات القانونية المحضة كاللازم والنافذ والبات قد بقى بلا تحديد حاسم دقيق. وأخيراً فأن اصطلاح (الجائز) أصبح مترادفاً لاصطلاح (الصحيح) ويدل على أن الأفعال التي يطلق عليها لا بأس بها من حيث التقدير الديني الأخلاقي فهي بهذه المثابة صحيحة.
وإذا قيل إن أمان المسلم الواحد مثلاً جائز فمعنى ذلك من جهة أنه غير آثم في منحه هذا الأمان، ومن جانب آخر أنه لا اعتراض على هذا الفعل، وأنه من أجل ذلك يعتبر صحيحاً. ومن هذا كله يتضح ما للتقدير الديني الأخلاقي للأعمال من أهمية ومن أولوية على الصفات القانونية المحضة في الشرع الإسلامي.
وليس هذا بأقل وضوحاً في نظام الأحكام الشرعية نفسها. فإن الجانب الأكبر من أحكام المعاقدات مثلا يتسلط عليه الميل إلى استخلاص كل النتائج من تحريم الربا والميسر؛ أما أحكام العقوبات فأنها لا تتناول إلا جانباً بسيطاً من الأفعال المحرمة، بحيث يكون للأوامر والنواهي صبغة أدنى إلى أن تكون أخلاقية منها إلى الصبغة القانونية.
إن مصدراً من مصادرنا الكبرى فيما يتعلق بهذا العصر هو على الرغم من تاريخه الأحدث قليلاً كتاب الموطأ لمالك بن أنس.
إنه جدير بالذكر أن أقوال الفقهاء السابقين يتلو بعضها بعضاً في أبوابه التي تتصل بالأوامر الأخلاقية وبكافة الأحوال الشخصية والمواريث – تلك الأحكام التي ترى صبغتها الدينية بادية ظاهرة – في حين أن هذه الأقوال نادرة في كثير من الأبواب المتصلة بالقانون التجاري الذي كان بعيداً عن دائرة الأخلاق قليل الاكتراث له لا يثير مناقشات أهل الدين.
فهذه الأبواب من جهتها تمتاز بتغلب مصطلحين فيها وهما السنة والإجماع. فمعنى السنة في كتاب الموطأ هو العرف والعادة المسنونة في المدينة، لا سنة رسول الله فقط، والفرق بينهما من جهة الاصطلاح ظاهر. أما الإجماع فمقتضاه في كتاب الموطأ غالباً أن سنة من السنن القانونية لم يستنكرها واحد من الأئمة لأسباب دينية أخلاقية.
ويجب أن نذكر إلى جانب كتاب الموطأ لمالك بن أنس مصدراً آخر هاماً لذلك الدور من تاريخ الشرع الإسلامي، وهو كتاب اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري، فهو على الرغم من القليل الذي انتهى إلينا منه؛ أكثر دلالة من الكتاب الأول.
مثال ذلك أن الطبري يعلمنا أنه كانت هنالك عشرة اختلافات أساسية بين مذهب سعيد بن المسيب (أشهر فقهاء المدينة السبعة) وإجماع مذاهب الأجيال التالية، وهو شيء لا يظهر من المواضع العديدة التي أورد مالك فيها من هذا المرجع تأييداً لآرائه الشخصية.
وثمة مصدر ثالث رئيسي لدراسة هذا العصر، هو كتاب أخبار القضاة لأبي بكر وكيع القاضي (توفي سنة ثلثمائة وست) فهو جامع لأخبار قضاة الأمصار الكبرى في الدولة الإسلامية طائفة طائفة على الترتيب الزمني من الابتداء إلى عصر المؤلف مبيناً ظروف توليتهم وعزلهم مفصلاً الحوادث التي وقعت طوال ولايتهم مورداً قضاياهم الهامة وأحاديثهم وشعرهم إلى غير ذلك من المعلومات.
ويفيدنا هذا الكتاب عن مظهر آخر للحياة التشريعية وهو تطور بالعمل القضائي، فأن قضايا هؤلاء القضاة الأقدمين وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين قد ساهمت مساهمة كبيرة في نمو الفقه.
ولندع جانباً موادّ أخرى لم يتناولها البحث إلى الآن كتلك الموادّ التي يشتمل عليها تفسير ابن جرير الطبري الكبير، وننتقل إلى المصدر الهامّ الرابع لأبحاثنا عن ذلك العصر، ونعني به المعلومات الواردة في كتب الأحاديث وما يتعلّق بها.
فقد أسلفنا القول بأن الفقهاء الأقدمين كانوا يأخذون القواعد التي كانوا يطبقونها على القانون العرفي من القرآن والأحاديث التي كانوا يرونها صحيحة فلذلك ليس من العجب أن نجد إلى جانب الأحاديث كثيراً من القضايا والأحكام تتعلق بها لاسيما في الجامع الصحيح للبخاري.
فإن صاحبه في تراجم الكتب والأبواب كثيراً ما يذكر آراء الفقهاء التي تدخل في موضوعه حتى ولو لم تتفق والأحاديث المذكورة أو أعوزت الأحاديث كل الاعواز. وإن لنا الحق في أن نفترض أن كل حديث ذي صلة بمسائل الفقه كان يلازمه أصلا رأي فقهي مطابق له حتى ولو كان هذا الرأي قد اختفى.
والأحاديث – سواء أكانت صحيحة أم مطعونا فيها – هي في الواقع مصدر من الدرجة الأولى لفهم هذا التطور القديم للفقه، وعلى الباحثين أن يطابقوا بين الآراء الفقهيّة التي تعبر عنها الأحاديث وحالة الأشياء الحاصلة بعد استكمال الفقه على صورته النهائية.
وأود أن أورد لكم بضعة أمثلة لهذه الطريقة – طريقة المطابقة بين الأحاديث الشرعيّة والفقه
فالنص الأساسي للّعان، وهو مثالنا الأول، هو الآية الآتية: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)
هذا النص لا يفصل في مسألة النكاح: أيقتضي اللعان فسخه ضرورة أم لا. فجميع مذاهب الفقه تقول بالإيجاب، وتستند في ذلك إلى أحاديث. ولكن تلك الأحاديث تثبت هذا الرأي بصورة جازمة قوية حتى أن الرأي العكسي لابد أن يكون قد وُجد قبل تأليف المذاهب.
ويقال إن مصعب بن الزبير قد أخذ بهذا الرأي الآخر، لكن هذا القول لا أصل له؛ ولكن الخبر المنفرد عن عثمان البَتي أنه كان يرى ذلك فيؤكده متن الأحاديث نفسه.
فأما فسخ النكاح عند اللعان فقد يحتمل أن يكون على ثلاثة وجوه: أن يفسخ النكاح بالطلاق الذي يجب أن يصدر عن الزوج، أو أن يفسخه القاضي المشرف على أداء اللعان، أو أن ينفسخ بوقوع اللعان نفسه. والرأي الأول يطابق بلا ريب المعنى الواضح لطائفة كبيرة من الأحاديث،
بينما لم يبقَ له أثر ما في الأقوال المروية عن الفقهاء الأقدمين ماعدا جدال منفرد ضدّه؛ ولابد أن يكون قد اندثر من زمن بعيد، وقد فسّرت تلك الأحاديث على أنها مؤيدة للرأي الثاني، وهذا الرأي تشهد به أحاديث أخرى كثيرة، ويصفه الزهري بأنه سنّة، وهو مذهب الحنفية؛ ومن الراجح على الظن أن مالك بن أنس قد أخذ به شخصياً في حين أن المالكية قد آثروا عليه الرأي الثالث.
وهذا قد أخذ به الشافعي ومن بعده الشافعية أيضاً؛ لكننا لا نجد أحاديث تؤيده. وهكذا يظهر من مقارنتنا للأحاديث بالمذاهب الفقهية تطوّر بيّن يتجه اتجاها معينا
فأحكام القصاص – وهو مثالنا الثاني – مبنية على آيات عديدة، منها الآية التالية: (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقد فسرت هذه الآية تفسيرات مختلفة.
منها تفسير يلوح أنه مطابق لمعناه الظاهر، يفيد في الواقع أن رجلا حراً لا يمكن أن يُقتل إلا في رجل حرّ وفي المرأة امرأة فقط، وأنه في الحالات الأخرى يجب أداء الدية بدلا من القصاص.
ويزعم أصحاب ذلك التفسير في نفس الوقت أن هذه الآية قد نسختها آية أخرى تنص على القصاص العام وهي الآية الآتية: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).
كذلك أجمعت المذاهب الآن على أن الرجل يُقتصّ منه بالمرأة. وقد فسرت الآية الأولى أيضا بهذا المعنى استناداً إلى حديث لا شك في صحته مؤدّاه أن النبي أمر بقتل رجل في امرأة. ومع هذا كله فقد وُجد الرأي القائل بأنه لا ينبغي أن يُقتل رجل في امرأة،
ويُذكر من أصحاب هذا الرأي عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، ولكن لا يكاد يوجد حديث يؤيد هذا الرأي، وهذا المثال يفيدنا علماً بأنه – ولو أن كل حديث يطابق قولاً فقهياً – فالعكس ليس كذلك وأن بعض الآراء الفقهية يمكن أن يكون مستقلا عن الأحاديث.
ومثل هذا يُقال في مسألة العلم بهل يقتل كثيرون في شخص واحد إذا اشتركوا في قتله؟ ولما كان أصحاب هذا القول الذي أخذت به مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي يعوزهم حديث لا مطعن فيه، فقد كانوا مضطرّين أن يستندوا إما إلى حديث لم يكن دليلا قاطعاً وإما إلى آراء بعض القدماء، وهو مما أثار انتقادات خصومهم
ولعل هذا يكفي في وصف ذلك العصر الخصيب من تاريخ الفقه الإسلامي. وحسبنا أن نلاحظ ختاماً لهذه المسألة أنه يمكننا بالانتفاع بالمصادر الميسورة اليوم أن نفهم فهماً دقيقاً تلك الوظيفة التشريعية التي قامت بها شخصيّة قديمة كشخصية إبراهيم النخعي. وبهذه الإشارة إلى ميدان واسع لأبحاث مستقبلية عظيمة الشأن نختم هذا الحديث الأول.
المصدر: العدد 142 من مجلة الرسالة (وهي مجلة ثقافية ترأس تحريرها الأديب المصري أحمد حسن الزيات باشا (المتوفى: 1388هـ) عدد الأعداد: 1025 عددا (على مدار 21 عاما) وكتب فيها معظم المقالات عن رموز الأدب العربي آنذاك من مثل: زكي نجيب، محمود العقاد، سيد قطب، أحمد أمين، علي الطنطاوي، محمد فريد أبو حديد، أحمد زكي باشا، مصطفى عبد الرازق، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، محمود محمد شاكر والشابي.)
جوزف شاخت
جوزف شاخت
أثار شاخت حفيظة العلماء المسلمين لأنه يشكك في صحة الأحاديث النبوية ويرى أنها وضعت أو “لفقت” خلال الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث هجري.
ولد شاخت في مدينة راتيبور الواقعة في ألمانيا (حاليا ً بولندا). حاز على شهادة الدكتوراه من جامعة بريسلاو وانتقل بعدها للعمل في جامعة ليبزيغ ثم في جامعة فرايبورغ الشهيرة.
تمت ترقيته إلى منصب أستاذ كامل عن عمر 25 عاماً فقط. وعام 1932 تبوء شاخت منصب رئيس دائرة الدراسات الشرقية في جامعة كونينسبورغ حيث بقي هناك لحوالي السنتين قبل أن يستقيل بعد وصول الحكم النازي إلى السلطة في ألمانيا.
غادر شاخت بعد ذلك إلى مصر حيث عمل في جامعة القاهرة كأستاذ زائر وعام 1939 استقر في بريطانيا حيث عمل مع وزارة الإعلام لمدة خمسة سنوات، عاد بعدها للتعليم في جامعة اوكسفورد حتى عام 1954.
وخلال هذه الفترة وضع شاخت أشهر كتبه “أصول الفقه المحمدي” عام 1950. وعام 1954 انتقل شاخت إلى جامعة لايدن حيث شغل منصب رئيس دارة العربية قبل أن يغادر إلى جامعة كولومبيا عام 1959 حيث أمضى بقيت حياته.
توفي شاخت عام 1969 بجلطة دماغية في نيويورك. يعتبر شاخت من أكثر الوجوه الإشكالية في مجال الدراسات الإسلامية. رغم إتقانه اللغة العربية وسفره إلى عدد كبير من العواصم والمدن العربية والإسلامية كالقاهرة والجزائر وفاس وتونس وإسطنبول، فإن البعض يعتبره مستشرقا ً بامتياز بسبب مواقفه المشككة بركائز الفقه الإسلامي.
أما البعض الآخر فيعتبر أن معرفته الواسعة بالتاريخ الإسلامي سنحت له بتقديم مقاربة جيدة ونقدية لنشأة الإسلام. بدأ شاخت حياته الأكاديمية بالعمل على عدد من المخطوطات العربية لا سيما تلك منها الموجودة في القاهرة.
وفي هذا الإطار قام بتحقيق مخطوطة كتاب “الحيل والمخارج” للخصّاف في الفقه الإسلامي عام 1923. وفي منتصف العشرينات بدأ اهتمام شاخت بالفقه الإسلامي حيث استغل موقعه في جامعة فرايبورغ وعمل على تطوير معرفته بالقانون ومصطلحاته التقنية.
وفي مطلع الثلاثينيات كتب شاخت مقالات أكاديمية عدة في الفقه وعالج مسائل معاصرة في مقالته “الشريعة والقانون في مصر المعاصرة” 1936. غير أن اهتمام شاخت عاد ليتركز على نشوء الفقه حيث قام بدراسة مستفيضة حول محمد إدريس الشافعي تضمنها كتابه الأشهر “أصول الفقه المحمدي.”
ويعتبر شاخت في هذا الكتاب أن معظم الأحاديث النبوية تم “تأليفها” أو وضعها مع نهاية القرن الثاني هجري / بداية القرن الثالث. ويشكك بصحة عدد كبير من الأحاديث النبوية ويقول أنها وضعت لدعم حجج وأراء الفقهاء في ذلك الوقت.
ويرى شاخت أن الشافعي لعب دورا ً محوريا ً في ذلك لأنه كان في مواجهة أهل الرأي من جهة وأهل الأثر من جهة ثانية.
ومن هنا يعتبر شاخت أن الحاجة لإعطاء سلطة مطلقة غير قابلة للنقض أدت إلى إرجاع جميع الأحاديث إلى النبي محمد. وفي عام 1954 وضع شاخت كتابه “مقدمة للفقه الإسلامي” الذي مثل خلاصة فكره.(المصدر: أبجد)