تأريخ حصر الاجتهاد

تأريخ حصر الاجتهاد في المذاهب الأربعة .. الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي

الاجتهاد: ذكر المقريزي في خططه: بعد سنة (170هـ) تولى القاضي ابو يوسف (تلميذ ابي حنيفة) القضاء من قبل هارون الرشيد، فكان لا ينصب للقضاء في خراسان والعراق والشام وغيرها الا من كان مقلدا لابي حنيفة، فهو الذي تسبّب بنشر مذهب الحنفية في تلك البلاد. وبلغ التعصب بهم لأبي حنيفة الى حد أن الخليفة العباسي سنة (393هـ) نقل القضاء عن الحنفية الى الشافعية.

يتناول البحث الأسباب التي أدّت الى حصر الاجتهاد عند أهل السنة في أربعة مذاهب، كما يستعرض المراحل التأريخية التي مرّت بها عملية الحصر، ويخلص الباحث الى ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد حسب منظور أهل السنة أنفسهم .

المذاهب الأربعة: المذاهب الأربعة، هي أربعة مذاهب فقهية من بين سائر المذاهب الفقهية، والتي كانت متداولة منذ أواخر القرن الاول حتى حدود منتصف القرن السابع الهجري ، وقد عرفت المذاهب الفقهية ومنها المذاهب الأربعة منسوبة الى أئمتها الفقهاء والمتفقهين، والأربعة منها حسب التوالي الزمني لتواريخ وفيات أئمتها كالتالي :

1 ـ المذهب الحنفي، منسوب الى ابي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي الكابلي، كان جده زوطي من سبي كابل، اُتي به الى الكوفة. قيل: كان من غلمان أمير المؤمنين علي عليه‏السلام(1)، ولد ابو حنيفة النعمان في الكوفة سنة ثمانين للهجرة، وتوفي سنة (150 هـ) في بغداد ودفن بها، لُقّب بالامام الاعظم، والى لقبه هذا نسبت المحلة التي فيها قبره فسميت بالأعظمية، والى جانب قبره جسر الاعظمية؛ لم يُعرف له كتاب، وانما انتشرت آراؤه وفتاواه من خلال تلميذيه القاضي ابي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني ، كما سيأتي .

2 ـ المذهب المالكي، منسوب الى مالك بن انس بن مالك المدني، ولد بها سنة (93 هـ) وتوفي فيها سنة (179 هـ) ودفن بالبقيع ، وله كتاب « الموطأ » .

3 ـ المذهب الشافعي، منسوب الى محمد بن ادريس بن شافع المطّلبي القرشي(2) ولد في الحجاز سنة وفاة أبي حنيفة واقام أعواما في بغداد، ثم هاجر الى الفسطاط في مصر ـ سميّت بعد ذلك بالقاهرة ـ وهناك انتشرت آراؤه وفتاواه، وتوفي في سنة ( 204 هـ) ودفن فيها، وقبره معلوم ، له رسالة في اصول الفقه قيل انها أول رسالة في ذلك . وله كتاب « الام » .

4 ـ المذهب الحنبلي،منسوب الى احمد بن حنبل الشيباني المروزي، ولد سنة (164 هـ) وتوفي سنة (241 هـ) في بغداد(3) .

ليس له كتاب في الفقه، وله كتاب في الحديث يُدعى « مسند الامام احمد» عُدّ في المسانيد دون السنن وهي دون الصحاح، لتساهله وتسامحه في أوصاف الرواة ، وعدم تشدّده كأصحاب الصحاح أو السنن .

المذاهب المهجورة :

في سنة ( 1359 هـ) تلقى المرحوم العلامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني وهو في النجف الاشرف، رسالة من مدينة الموصل ( نينوى ) قال عنها : « أيها السيد جعفر الاعرجي الموصلي، سألتني ان اكتب لك شيئا في بيان سبب اختلاف مذاهب العامة في فروع احكام الدين ، وبيان بدء المذاهب الأربعة، وبيان وجه التمذهب بها ، والانحصار فيها ، وذكر بدء تأريخ الانحصار … »(4) .

وقال: «يظهر الجواب عن جملة ما وقع في السؤال بالرجوع الى كثير من كتب العامة، ونحن نشير الى بعضها، دلالة للسائل الى محل ذكر الأجوبة اجمالاً » .

ثم ذكر عددا من الكتب والرسائل والمقالات، منها مقالة صاحب السعادة احمد تيمور باشا، بعنوان «نظرة تأريخية في حدوث المذاهب الأربعة » ، طبعت ونشرت في القاهرة سنة (1344 هـ) .

ذكر هذا في مقالته المذاهب الأربعة المعوّل عليها عند جمهور المسلمين حتى اليوم، ثم قال: « واما المذاهب المتروكة ، فمنها :
1 ـ مذهب البصري : الحسن بن يسار ( 21 ـ 110 هـ ) .
2 ـ مذهب الاوزاعي : عبد الرحمن بن عمرو ( 88 ـ 157 هـ) .
3 ـ مذهب الثوري : سفيان بن سعيد ( 97 ـ 161 هـ ) .
4 ـ مذهب الكلبي : ابراهيم بن خالد ( ت 246 هـ) .
5 ـ مذهب الظاهري : داود بن علي الاصفهاني ( 210 ـ 270 هـ ) .
6 ـ مذهب الطبري : محمدبن جرير بن يزيد بن رستم المؤرخ المفسّر (224 ـ 310 هـ) »(5).

واستدرك عليه العلامة الطهراني من الخطط للمقريزي اربعة اخرى هي :
7 ـ مذهب التيمي : عثمـان بن عمـر بن مـوسى قـاضي المدينـة على عهـد المنصور ( ت 145 هـ ) .
8 ـ مذهب ابن جريج : عبد الملك بن عبد العزيز امام الحجاز ( 80 ـ 150 هـ ) .
9 ـ مـذهب ماجشـون المدني الاصفهـاني عبد العـزيز بـن عبـد اللّه‏ الفقيـه الحـافظ ( ت 164هـ ) .
10 ـ مذهب الفهمي الخراساني : ليث بن سعد ، امام مصر في الفقه والحديث ( 94 ـ 175 هـ )(6) .

جواز التقليد :

مدخل (جهد) في الجزء الثالث من « دائرة معارف القرن العشرين » لمحمد فريد وجدي يستغرق ستين صفحة، بسط القول فيها في الاجتهاد والتقليد، وحصرهما في المذاهب الأربعة، أورد في ضمنها رسالتي: «الانصاف في بيان سبب الاختلاف» و « عقد الجيد في احكام الاجتهاد والتقليد» من الشاه ولي اللّه‏ احمد بن عبد الرحيم العمري الدهلوي المولود سنة (1114 هـ) والمتوفى في سنة ( 1180 هـ ) .

وفي الرسالة الثانية قال هذا المولوي :

« اجتمعت الاُمة على ان يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة، فالتابعون اعتمدوا على الصحابة، وتبع التابعين اعتمدوا على التابعين … وهكذا فالرجوع الى السلف ـ مع أنه اجماعي ـ يدل العقل على حسنه »(7) .

وقال في الرسالة الاولى : « ان الناس في المائة الاولى والثانية كانوا غير مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه ، بل كان العوام يأخذون الاحكام عن آبائهم، أو عن علماء بلدتهم ، الذين حصلت لهم قوة الاستنباط ـ كلاً أو بعضا ـ عن الكتاب والسنة »(8) .

وقبل هذا قال المقريزي ما لفظه: « ثم بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة، وكانوا لا يتعدون عنها غالبا … لما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الامر الى فقهاء الأمصار: ابي حنيفة وسفيان وابن ابي ليلى بالكوفة، وابن جريح بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان التميمي وسوار بالبصرة، والاوزاعي بالشام ، والليث بن سعد بمصر .

فكان هؤلاء الفقهاء يأخذون عن التابعين وتابعيهم ، أو يجتهدون »(9) .

ومن هذا الذي تقرّر نقلاً عن المقريزي والمولوي الدهلوي تلخص :

أن المسلمين في عصر الخلفاء وبعده كانوا يتلقون احكام الدين من علماء الصحابة وقرّائهم النازلين في بلدانهم ، وهم كانوا يفتون الناس بما رووا عن النبي “صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله”، أو رأوه باجتهادهم ؛ وبعد الصحابة كانوا يأخذون من التابعين والامراء المبعوثين اليهم فتاواهم ،

فكانت هذه سيرة هؤلاء المسلمين في طول المائتين الاولى والثانية، ولم يكونوا مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه ، ولكنهم اجتمعوا على ان يعتمدوا في معرفة الشريعة على السلف … وعليه فالرجوع الى السلف اجماعي … بل يدل العقل على حسن رجوع الجاهل بشيء الى العالم به(10) .

مقدمات حصر الاجتهاد :

ان هؤلاء الأئمة المذكورين مع اختلافهم في الفتاوى والاقوال كانوا متفاوتين فيما كان لهم من الحظّ والنصيب من مراتب التعالي ودرجات التقدم ، ومن حصول انتشار الصيت وارتفاع الذكر في اطراف البلاد وعدمه، وذلك لمساعدة بعض الامور ومصادفة جملة من الاحوال لواحد منهم دون غيره، ولموافقة الاوقات والظروف لامام ومذهبه، وعدم موافقتهما لامام ومذهب آخر.

ومما كان يؤثر في ذلك على سبيل الاتفاق كثرة الأصحاب والتلامذة، وازدحام الأعوان والمروّجين، ووفود الحماة والمتعصبين، وعظمة شوكتهم وشدة سطوتهم واقتدارهم على نشر المذهب .

كما ان نقائض هذه الامور كانت تؤثر عدم النشر والتقدم والتعالي، وتنتج اخماد ذكر امام ومذهبه، والاعراض عنه قليلاً قليلاً  وتدرّجه في الاندراس شيئا فشيئا ، حتى ينتهي الى انقراض مذهبه رأسا ، وانسائه من الوجود كأن لم يكن شيئا مذكورا .

فأسباب الانقراض هذه قد اثرت بالنسبة الى اكثر المذاهب التي برزت في أواخر القرن الثاني وما بعده ، وعوامل الانتشار والارتقاء ، وأسباب الاستمرار والبقاء تلك قد أثرت بالنسبة الى خصوص هذه المذاهب الأربعة من بين تلكم المذاهب بما نراه الى يوم الناس هذا ، الا وهي قوة التلاميذ والاتباع ، وسلطة الخلفاء والامراء(11) .

هذا ، وقد احتفظ لنا التأريخ على آثار تلك العوامل اشارة فيما يلي :

ذكر المقريزي في خططه: بعد سنة (170 هـ) تولى القاضي ابو يوسف (تلميذ ابي حنيفة) القضاء من قبل هارون الرشيد، فكان لا ينصب للقضاء في خراسان والعراق والشام وغيرها الا من كان مقلدا لابي حنيفة، فهو الذي تسبّب بنشر مذهب الحنفية في تلك البلاد(12) .

وبلغ التعصب بهم لأبي حنيفة الى حد ان الخليفة العباسي سنة (393 هـ) نقل القضاء عن الحنفية الى الشافعية(13) فكتب أبو حامد الاسفرائيني بذلك الى السلطان محمود الغزنوي، فثارت الفتن العظيمة بين اصحابيهما ( الحنفي والشافعي )(14) حتى انجر الأمر الى رجوع الخليفة عن رأيه وردّه الحنفيين الى ما كانوا عليه من قبل(15) .

قال: « وفي أوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق، نشر مذهب مالك في افريقية المغرب بسبب زياد بن عبد الرحمن، فانه أول من حمل مذهب مالك اليها ؛ وأول من حمل مذهب مالك الى مصر هو عبد الرحمن بن القاسم سنة ( 163 هـ)

وانتشر مذهب محمد بن ادريس الشافعي في مصر بعد قدومه اليها في سنة (198 هـ)… فكان المذهب في مصر لمالك والشافعي الى ان أتى القائد جوهر بجيوش مولاه المعز لدين اللّه‏ الخليفة الفاطمي الى مصر سنة ( 358 هـ) فشاع بها مذهب الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه »(16) .

الدولة الأيوبية وحصر المذاهب بدمشق :

استقرت الدولة الفاطمية في مصر بأول خلفائها المعز لدين اللّه‏ في حدود سنة (360 هـ) وبعد مائتي سنة وبالضبط في سنة ( 556 هـ) استخلف آخر خلفائهم عبد اللّه‏ بن يوسف العاضد لدين اللّه‏،

وكان له وزير يدعى شاور وأمير يُدعى ضرغام يضار شاور الوزير على وزارته، في سنة (559 هـ) ضاق الوزير شاور بالامير ضرغام فالتجأ الى اميرهم في دمشق نور الدين واستجار به وطلب منه ارسال عسكر معه الى مصر ليعود الى منصبه، فجهّز معه جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه، فساروا حتى وصلوا مدينة بلبيس، فخرج اليهم ضرغام بعسكر المصريين، فقُتل وانهزموا، فخلع الخليفة على شاور وأعاده الى وزارته .

ثم غدر شاور بما وعد به اسد الدين شيركوه فخرج اليه شيركوه في سنة ( 564 هـ) حتى قتل الوزير شاور ، وتوفي شيركوه في السنة نفسها ، فأرسل العاضد الى صلاح الدين يوسف ابن ايوب بن شاذي (الكردي العراقي الشافعي ) وهو ابن اخ أسد الدين شيركوه، فأحضره عنده وخلع عليه وولاّه الوزارة بعد عمه، ولقّبه الملك الناصر، فأخذ صلاح الدين يبذل الأموال حتى استمال قلوب الناس عن الخليفة العاضد الى نفسه .

وفي سنة ( 566 هـ) مرض الخليفة العباسي المستنجد باللّه‏، وكان قد امر بقتل قطب الدين قايماز واستاذ الدار ، فدخل المذكوران عليه بأصحابهما فحملوه الى الحمام فالقوه فيه واغلقوا عليه الباب وهو يصيح الى ان مات ، فاحضروا ابنه المستضيء باللّه‏ وبايعوه .

وفي سنة (567 هـ) ضعف أمر الخليفة الفاطمي العاضد لدين اللّه‏ ، وقوى قدم صلاح الدين ، فعزم على ان يقطع الخطبة للعاضد ويخطب للعباسيين ! فلما كان أول جمعة من المحرم صعد الأمير العالم الأعجمي المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء ، فتبعه الخطيب ، وتبعه الخطباء بمصر فقطعوا الخطبة للعاضد وخطبوا للمستضيء ، والعاضد في قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه الامير قراقوش الاسدي ، ولم يعلم العاضد بذلك حتى مات يوم عاشوراء في السنة نفسها(17) .

وبعد اثنين وعشرين عاما في سنة (589 هـ) توفي صلاح الدين يوسف بن ايوب بن شاذي بدمشق. وفي سنة (592هـ ) تسلّم الملك العادل ابو بكر بن ايوب اخو صلاح الدين، تسلّم مدينة دمشق. وكان قد استولى على مصر الملك العزيز ابن صلاح الدين فمات في (595 هـ) فسار عمه الملك العادل من دمشق الى القاهرة فاستولى عليها(18) واستولى على دمشق ابنه الملك الأشرف (ت 635 هـ)(19) .

وكان صلاح الدين قد بنى بدمشق مدرسة أسماها « دار الحديث » ونصب الاشرف عليها الشيخ عثمان بن صلاح الدين الشهرزوري الكردي العراقي الشافعي (643 هـ) وهذا هو أول من أصدر فتوى : بحرمة الخروج عن تقليد المذاهب الأربعة ، مستدلاً له بـ (اجماع المحققين) كما ذكره الشيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمد مصطفى المراغي في مقال له بعنوان « بحث في التشريع الاسلامي »(20) .

آخر الخلافة العباسية وحصر المذاهب في بغداد :

انّ اقرب الكتب التأريخية لحوادث التأريخ المعهود في بغداد ، وأقدمها وأقومها كتاب « الحوادث الجامعة في المائة السابعة » لكمال الدين عبد الرزاق الفوطي المروزي البغدادي المتوفى سنة ( 723 هـ ) وقد كتب هذا بشأن المدرسة المستنصرية ببغداد ما يلي :

وكان الشروع في بنائها بأمر المستنصر باللّه‏ في سنة ( 625 هـ ) وقد تولى عمارتها استاذ الدار مؤيد الدين محمد بن العلقمي .
ويوم افتتاحها سنة ( 631 هـ ) قسمت على أربعة اقسام :
فسُلّم الربع القبلي الأيمن الى الشافعية .
والربع الايسر الى الحنفية .
والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة .

والميسرة للمالكية .
واختير لكل مذهب اثنان وستون نفسا من الذين يقرؤون الفقه والأحكام .
ورُتّب لهم مدرّسان : أحدهما من الشافعية ، والثاني من الحنفية .
ونائبا مدرّس ، أحدهما : حنبلي ، والآخر : مالكي .

وفي سنة ( 645 هـ) احضروا المدرسين الأربعة الموظفين لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة في دار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي ، وألزموهم أن لا يذكروا شيئا من تصـانيف أنفسهم للطلبة المتفقهين عندهم وأن يقتصروا على ذكر كلام المشايخ القدمـاء ( الأربعة ) تبركا بهم وتأدّبا لهم !

وكان مدرس الحنابلة في المدرسة المذكورة محيي الدين ابن الجوزي ، وكان ابنه جمال الدين ابن الجوزي محتسبا ، ثم قام مقام والده في التدريس ، فكان أول من أجاب بالسمع والطاعة .
ثم اجاب مدرّس المالكية الشيخ عبد اللّه‏ الشرماحي ( المصري ) .
وامتنع الشيخ شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية …

وقاضي القضاة الشيخ عبد الرحمن اللمغاني مدرس الحنفية ، واجابا بما معناه : انّ المشايخ ( الأربعة) كانوا رجالاً ونحن رجال ، ونحو ذلك من الكلام الموهم للمساواة بينهم وبين المشايخ القدماء ( الأربعة ) .

« فأنهى الوزير صورة الحال الى حضرة الخليفة المستعصم باللّه‏ ، فتقدم الخليفة بأن يلزموا المدرسين بذكر كلام المشايخ واحترامهم ، فالزموا بذلك ، فأجابوه جميعا بالسمع والطاعة »(21) .

وهذا من وقائع سنة ( 645 هـ) أي قبل انقراض بني العباس باحدى عشرة سنة على عهد الخليفة العباسي الاخير المستعصم باللّه‏ الذي قتله هولاكو سنة ( 656 هـ) .

ويظهر من التأريخ أن هذا التأريخ (645 هـ) لم يكن بداية الالزام بل التشديد عليه، وأن الالزام بدأ من قبل أو من حين افتتاح المدرسة المستنصرية ( 631 هـ) وأنه سرى مع حكم الخليفة حتى في الحجاز في المدينة ومكة في جوار دار اللّه‏ ،

وهناك في جواره جار اللّه‏ محمود ابن عمر الزمخشري توفي سنة (538 هـ) وله مذهبه في الفقه، فأبان أنه التزم أن لا يبوح بمذهبه وأن يكتمه طلبا للسلامة من غضب الخليفة كرها لا طوعا ولا اقتناعا ، اذ قال شعرا :

و ان سألوني مذهبي  لم ابح به         و اكتمه، كتمانه لي أسلم
فان حنفيا قلت، قالوا بأنني            اُبيح الطلا، و هو الشراب المحرّم
وان شافعيا قلت قالوا بأنني          ابيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ
وان مالكيا قلت قالوا بأنني           ابيح زواج البنت ، والبنت محرم
وان حنبليا قلت قالوا بأنني       ثقيل حلوليّ بغيض مجسّم !(22) .

ثم حصر المذاهب في مصر :

مرّ أن صلاح الدين الأيوبي في حدود منتصف القرن السادس ، وبالضبط في آخر سنة (567 هـ) قطع الخطبة للخليفة الفاطمي الاخير واستبدل عنه بالخطبة للخليفة العباسي (الشافعي) في بغداد . وفي ( 595 هـ) استولى على دمشق الشام ابن اخيه الملك الاشرف ، ونصب لرئاسة « دار الحديث » الشيخ عثمان بن صلاح الدين الشهرزوري الشافعي ،

وقبل وفاة الملك الاشرف ( 635 هـ) أو قبل وفاة ابن الصلاح نفسه أصدر فتواه بتحريم الخروج عن تقليد هذه المذاهب الأربعة بإجماع المحققين ، كما قال .

وفي أواخر سنة (658 هـ) استولى على مصر من المماليك الأتراك بيبرس البندقداري ، وبعد سبع سنين من حكمه وفي سنة ( 665 هـ) أي بعد ثلاثين عاما تقريبا من صدور فتوى ابن الصلاح الشامي، وافتتاح المدرسة المستنصرية وتوزيع جوانبها الأربعة على المذاهب الأربعة ، اقتدى بيبرس البندقداري بهما فوزّع القضاء في مصر على اربعة قضاة من المذاهب الأربعة « فأستمرّ ذلك من سنة ( 665 هـ) حتى لم يبق في مجموع امصار الاسلام مذهب يُعرف من مذاهب الاسلام سوى هذه الأربعة ،

وعودي من تمذهب بغيرها واُنكر عليه( ! ) ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة احد ما لم يكن مقلّدا لاحد هذه المذاهب( ! ) وفي طول هذه المدة افتى فقهاؤهم في الأمصار بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها( ! ) والعمل على هذا الى اليوم »(23) .

هذا من كتاب « المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار » وهو في تأريخ مصر للشيخ تقي الدين ابي العباس احمد بن علي بن عبد القادر بن محمد القاهري البعلبكي المقريزي نسبة الى حارة المقارزة في بعلبك، ولد بها سنة ( 766 هـ) وتوفي في القاهرة سنة ( 845 هـ )(24) وخطّ كتابه الخطط في حدود سنة ( 804 ه )(25) .

ولا يغيب عنا أن هولاكو المغولي حاصر بغداد في سنة ( 656 هـ ) واستسلم له الخليفة العباسي الأخير المستعصم باللّه‏ فقتله وانتهت الخلافة العباسية ، فكان هذا الملك التركي بيبرس البندقداري أراد بعمله هذا أن يحمل لواء المركزية لحماية المذاهب الأربعة الرسمية بدلاً من بغداد وعوضا عن الخلافة العباسية المُنهارة .

حجة هذه الاحكام وتلك الفتاوى :

سبق قول المقريزي : « إن بيبرس البندقداري ولّى مصر أربعة قضاة : شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي … واستمر ذلك من سنة ( 665 هـ ) حتى اليوم » ثم قال : « وفي طول هذه المدة أفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها » ولم ينقل دليلاً لهذه الفتاوى سوى أنها لحقت حكم البندقداري، وعليه فحكم البندقداري كان سابقا لهذه الفتاوى ، الا انه كان لاحقا لفتوى ابن الصلاح الشهرزوري ، وهو افتى بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة ، مستدلاً له « باجماع المحققين » كما ذكره شيخ الأزهر الاسبق الشيخ محمد مصطفى المراغي في مقاله بعنوان « بحث في التشريع الاسلامي » كما مرّ .

ومرّ أيضا عن رسالة « الانصاف … » للمولوي شاه ولي اللّه‏ : « ان الناس في المائة الاولى والثانية كانوا غير مجتمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه »(26) .

وعنه أيضا في رسالته الاُخرى « عقد الجيد … » : « اجتمعت الاُمة على ان يعتمدوا في معرفة الشريعة على السلف »(27) .
وقد نقل محصّل قوله العلامة الطهراني فقال: قسّم المسلمين من لدن رحلة النبي “صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله” الى عصره الى ثلاث طبقات :

فالطبقة الاولى : هم الناس في المائة الاولى والثانية ، وهم الذين مرّ كلامه في تكليفهم آنفـا .
والطبقة الثانية : هم الذين نشؤوا بعد المائتين الى رأس المائة الرابعة ؛

فصنّفهم الى ثلاثة اصناف :
أ ـ صنف منهم المجتهد المطلق المستقل ، وهو المقتدر على امور ثلاثة :
1 ـ التصرف في الاصول والقواعد .
2 ـ الجمع بين الأحاديث .
3 ـ تفريع التفاريع .

ب ـ الصنف الثاني: المجتهد المنتسب، وهو الذي تنتسب فتواه الى واحد من المجتهدين المستقلين ولا يتجاوز عن رأيهم من علماء الطبقة الاولى .

ج ـ الصنف الثالث : العامي الجاهل .

ومن لم يكن من الصنف الاول فلم يقدر على تلك الامور الثلاثة ، يجب عليه تقليد المجتهد المستقل ، سواء كان من الصنف الثاني ، أو كان من الصنف الثالث .

والطبقة الثالثة : من نشأ من المسلمين من رأس المائة الرابعة ، فمن هذا التأريخ امتنع وجود المجتهد المستقل حتى اليوم ، وانما يوجد المجتهدون المنتسبون الى اولئك المجتهدين المستقلين ( الأربعة ) فحسب ، فيجب على العامي تقليد هؤلاء لا غير ، ثم قال :
« ان قلت : كيف صار التمذهب بعد مائتي سنة بمذهب معين واجبا ، مع أنه لم يكن واجبا أولاً ؟
قلت : الواجب الاصلي ان يكون في الامة من يعرف جميع الاحكام بأدلّتها ، ومقدمة الواجب واجبة ، فان تعددت الطرق الى الواجب تخيّر في أ يّها ، واذا انسدّت الطرق الا واحدة تعين هو »(28) .

وذكر مسألة حصر الاجتهاد والتقليد في المذاهب الأربعة في رسالة « عقد الجيد » في « باب تأكيد الأخذ بهذه الأربعة والتشديد في تركها والخروج عنها » فقال: « اعلم ان في الأخذ بهذه المذاهب الأربعة مصلحة عظيمة ، وفي الاعراض عنها كلها مفسدة كبيرة ، نحن نبيّن ذلك بوجوه » ثم ذكر وجوها :

منها : أنه لما طال العهد وضُيّعت الامانات ، لم يجز الاعتماد على اقوال علماء السوء وقضاة الجور ، والمفتين بالاُصول والأهواء .
ومنها : أنه لما اندرست سائر المذاهب تدريجا مال السواد الاعظم الى هذه الأربعة ، وقد قال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « اتبعوا السواد الاعظم »(29) .

ومنها : انه اجتمعت الامة على ان يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة ، فلابد لنا من الرجوع اليهم ، ولا يُرجع الا الى المروي عن السلف بسند صحيح مدوّن في الكتب المشهورة مع بيان الأرجح من دلالتها وتخصيص عمومها أو تقييدها والجمع بين مختلفاتها ، ولا توجد هذه الخصوصيات الا في المذاهب الأربعة ، وليس مذهب آخر بهذه الصفة الا الامامية والزيدية ، وهم اهل بدعة لا يجوز الاعتماد على اقاويلهم ، فتعيّن الأخذ بأحد المذاهب الأربعة(30) .

ردود المجتهدين على هذا الحصر :

في استعراضنا لحصر المذاهب في بغداد مرّ عن ابن الفوطي ان شهاب الدين الزنجاني مدرّس الشافعية ، وقاضي القضاة عبد الرحمن اللمغاني مدرّس الحنفية امتنعا عن الالتزام بالاقتصار على ذكر فتاوى الأئمة الأربعة وأجابا ما معناه : ان اولئك المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال ، ونحو ذلك من الكلام الموهم للمساواة بينهم وبين المشايخ القدماء أئمة المذاهب الأربعة … الى ان الزمهم الخليفة المستعصم بذلك(31) .

ومرّ هناك كذلك موقف جار اللّه‏ محمود بن عمر الزمخشري ( ت 538 هـ ) من المذاهب الأربعة .

وقد بلغ الضغط على الناس والفقهاء بتبعية المذهب الشائع عندهم، الى حد ان اضطر احمد بن تيمية الحنبلي (ت 728 هـ) ومعه كثير من اتباعه ان يشهدوا على انفسهم انهم تركوا المذهب الحنبلي الى المذهب الشافعي ، في حين ان فتاواه الخارجة عن المذاهب الأربعة والمعمول بها لدى الوهابيين ما زالت تشهد باستقلاله(32) .

وفي سنة ( 1296 هـ) طبع في الاستانة كُتيب « حصول المأمول من علم الاصول » للشيخ صديق حسن خان البخاري القنوجي ( ت 1307 هـ) فتح فيه باب الاجتهاد وأنكر حصره على المذاهب الأربعة فقال ما لفظه :

« ان مَن حصر فضل اللّه‏ على بعض خلقه وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره ، فقد تجرأ على اللّه‏ عز وجل ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ثم على عباده الذين تعبدهم بالكتاب والسنة … فان كان التعبد بالكتاب والسنة بمن كانوا في العصور السابقة ، ولم يبق لهؤلاء المتأخرين الا التقليد لمن تقدمهم ، ولا يتمكنون من معرفة احكام اللّه‏ في كتاب اللّه‏ وسنة رسوله ، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة ؟!

وهل النسخ الا هذا ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم ! »(33) .

ومن المتأخرين قال محمد فريد وجدي: « لما طرأ على المسلمين الجمود الاجتماعي، وتولاّهم القصور عن فهم اسرار الشريعة، ستروا ذلك القصور بدعوى انسداد باب الاجتهاد والاستنباط. والحقيقة أنه مفتوح بنص الكتاب والسنة (كذا) الى يوم القيامة»(34) .

ومنهم الشيخ محمد عبده ، وتلميذه وصاحبه السيد رشيد رضا صاحب « المنار » والشيخ محمود شلتوت ، والسيد سابق فقيه الاخوان المسلمين في مقدمة « فقه السنة » .

 

الهوامش

(*) في أوائل عام (1359 هـ. ق) أرسل السيد جعفرالاعرجي من الموصل (نينوى) في العراق، رسالة الى العلامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني في النجف الأشرف ، يسأله أن يكتب له رسالة في بيان بدء المذاهب الأربعة ، ووجه التمذهب بها ، وتأريخ بدء الحصر فيها . فكتب له الشيخ العلامة رسالة حقّقها أخونا الفاضل الشيخ محمد علي الانصاري ونُشرت سنة (1401 ه . ق ). ورأيت أن الرسالة بحاجة‏الى ترتيب في نظام الكلام ومل‏ءٍ لبعض الفراغات واستغناء عن بعض نوافل القول ، وأصبح حصيلة العملية ما قدّمته في هذا المقال .
(1) اجوبة مسائل موسى جار اللّه‏ ، للامام شرف الدين الموسوي .
(2) هدية الاحباب ، للمحدث القمي : 179 .
(3) هدية الاحباب : 64 .
(4) تأريخ حصر الاجتهاد : 61 ، واسماها هو توضيح الرشاد في …
(5) تأريخ حصر الاجتهاد : 96 عن نظرة تأريخية في حدوث المذاهب .
(6) تأريخ حصر الاجتهاد : 96 ، 97 عن الخطط المقريزية 2 : 332 .
(7) دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 245 عن : عقد الجيد …
(8) دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 221 عن الانصاف …
(9) تأريخ حصر الاجتهاد : 92 و 94 عن الخطط المقريزية 2 : 332 .
(10) تأريخ حصر الاجتهاد : 92 ، 93 .
(11) تأريخ حصر الاجتهاد : 98 ، 99 .
(12) تأريخ حصر الاجتهاد : 99 عن الخطط المقريزية 2 : 333 .
(13) وذلك إذ مال العباسيون من الحنفية الى الشافعية ، ذلك لاستناد الشافعي القرشي المطّلبي الى الحديث النبوي الشريف : « الائمة من بعدي اثنا عشر وكلهم من قريش » وفتواه باشتراط القرشية في الخليفة ، على عكس ابي حنيفة .
(14) ومن كثرة التعصب بين الشافعية والحنفية في هذا الوقت فشا الحرب في اصفهان ، فكلما غلبت طائفة نهبت محلة الاخرى وخرّبتها واحرقتها حتى فشا الخراب فيها ؛ لا يأخذهم في ذلك الاّ ولا ذمة ـ معجم البلدان ـ مادة اصفهان .
(15) تأريخ حصر الاجتهاد : 110 عن الخطط المقريزية 2 : 333 .
(16) تأريخ حصر الاجتهاد : 99 ، 100 عن الخطط المقريزية 2 : 334 .
(17) تأريخ مختصر الدول : 212 ـ 215 للعلامة غريغوريوس الملطي (ابن العبري) .
(18) المصدر السابق : 223 ـ 225 .
(19) المصدر السابق : 250 .
(20) تأريخ حصر الاجتهاد : 108 عن بحث في التشريع الاسلامي : 17 .
(21) تأريخ حصر الاجتهاد : 105 ـ 107 عن الحوادث الجامعة : 216 وقائع عام (645 ه) .
(22) تنظر ترجمته في آخر الجزء السابع من تفسيره الكشاف الطبعة المصرية الاولى .
(23) تأريخ حصر الاجتهاد : 101 عن الخطط المقريزية 2 : 344 .
(24) تأريخ حصر الاجتهاد : 85 .
(25) المصدر السابق : 102 .
(26) تأريخ حصر الاجتهاد : 93 عن دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 221 .
(27) المصدر السابق : 93 عن دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 245 .
(28) تأريخ حصر الاجتهاد : 116 ـ 118 عن رسالة الانصاف في دائرة معارف القرن العشرين 3 : 221 ـ 227 .
(29) بحار الانوار 68 : 289 .
(30) تأريخ حصر المذاهب : 119 عن رسالة عقد الجيد في دائرة معارف القرن العشرين 3 : 245 .
(31) تأريخ حصر المذاهب : 107 عن الحوادث الجامعة في المائة السابعة لابن الفوطي : 216 .
(32) تأريخ حصر المذاهب : 112 .
(33) تأريخ حصر الاجتهاد : 113 ، 114 عن حصول المأمول من علم الاصول : 187 .
(34) تأريخ حصر الاجتهاد : 114 عنه دائرة معارف القرن العشرين 3 : 197 .

 

المصدر: مقالة بعنوان تأريخ حصر الاجتهاد / مجله الفكر الاسلامي، عدد 12- ص 223، شوال-ذوالحجة الحرام 1416 هـ، 1996م./ قم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky