خاص الاجتهاد: شهدت الحوزات العلمية في إيران والعراق مؤخراً حدثاً علمياً وسياسياً بارزاً تمثل في إقامة المؤتمر الدولي لتكريم آية الله الميرزا محمد حسين النائيني (ره)، تحت شعار محوري هو: «الميرزا النائيني؛ استوانه الفقاهة، والمعنوية، والسياسة».
وقد عُقد المؤتمر بمناسبة مرور قرن على واقعة نفيه وهجرته من العراق إلى إيران، وشكل منصة لإعادة قراءة وتبيين الأبعاد الفكرية والجهادية لهذه الشخصية التاريخية المؤثرة.
انطلقت فعاليات المؤتمر من مدينة قم المقدسة واختُتمت في مشهد المقدسة، في جوار مرقد الإمام الرضا (عليه السلام)، حيث أشار منظمو المؤتمر إلى أن هذا الاختتام في مشهد هو خطوة مباركة لجمع كبار العلماء والأساتذة والضيوف الكرام من حوزات قم، ومشهد، والعراق، والدول الأخرى.
أبعاد شخصية الميرزا النائيني في كلمات العلماء
أكد المشاركون في المؤتمر على أن الميرزا النائيني (ره) يُعد من أبرز الوجوه الفكرية والسياسية الشيعية في القرون الأخيرة، واصفين إياه بأنه فَقِيه استثنائي جمع ببراعة بين الأصالة والابتكار في العلم، وبين العبادة والجهاد في العمل.
1. الإسهام في الفقه والأصول: بناء الشاكلة والنظام
اعتبر القادة والعلماء أن الميرزا النائيني كان عموداً شامخاً في مدرسة فقاهة النجف، ووريثاً بارزاً لخط الشيخ الأنصاري. إلا أن إسهامه لم يقتصر على الاستمرار، بل تميز بالتجديد الثوري والتنظير الأصولي المنهجي.
وفي هذا الصدد، أشار قائد الثورة الإسلامية في إيران إلى أن الميزة التخصصية الأهم للمرحوم النائيني تكمن في “بناء الشاكلة” لعلم الأصول؛ أي إعادة تشكيل وبناء مباحثه وفق نظام فكري وعلمي جديد، مصحوباً بابتكارات قوية ومتعددة. إن هذا المنهج قد رفع من مكانة الأصول إلى مستوى الفقه، مقدماً مسائل ذات صلة مباشرة بالتطبيق الفقهي. وقد خرج من مدرسته أساطين المرجعية المعاصرة، مثل الآيات العظام: الحكيم، والميلاني، والحلي، والبجنوردي، الذين قاموا بإدامة وتطوير منهجه الفكري.
كما تناول العلماء ضرورة التزام الحوزات بمبدأين نادى بهما النائيني عملياً، وهما: أصالة الفقه ومراعاة مقتضيات العصر (المعاصرة)، مؤكدين أن التغاضي عن أي من هذين العنصرين سيؤدي إلى تضرر المسار العلمي للحوزة.
2. التنظير السياسي وفقه المقاومة: الربط بين الدين والعمل
إلى جانب مكانته العلمية الشاهقة، برز النائيني كـفقيه مجاهد في هيئة مُنظِّر سياسي. وقد شدد المتحدثون على أنه كان رائداً في تبيين فقه المقاومة ومؤسس النظرية السياسية الشيعية الحديثة، إذ جسدت حياته الجهادية توازناً فريداً بين السنّة الدينية الأصيلة الإبداعات المحدثة والمُحَوِّلة في الفكر الاجتماعي والسياسي.
من أبرز إسهاماته السياسية:
الدفاع عن مبدأ المشروطة: انخرط النائيني في دعم الحركة الدستورية (المشروطة)، مؤمناً بضرورة تقييد ظلم الحكام عبر وضع دستور وقوانين تضمن العدالة وتحول دون الاستبداد، مع إخضاع التشريعات لرقابة خمسة من الفقهاء.
فقه المقاومة ضد الاستعمار: كان النائيني من طليعة الفقهاء الذين أدركوا ضرورة الربط بين الدين والسياسة في مجال العمل الاجتماعي، وظهر ذلك جلياً في قيادته لحركة ثورية عظيمة ضد الاستعمار البريطاني في العراق عام 1920م، الأمر الذي انتهى بنفيه من قبل السلطات الاستعمارية إلى إيران.
النظرية القانونية للحكم: ناقش النائيني مفاهيم جديدة في الفقه السياسي والاجتماعي الإسلامي، مركزاً على أن الحكم والولاية هما لله تعالى أولاً، ثم للنبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام). وفي سياق الحكم الإسلامي غير المعصوم، شدد النائيني على مفهوم المساواة، معتبراً إياها أساس سعادة الأمة، وقام بتفصيلها إلى ثلاثة مستويات: المساواة في الحقوق، المساواة في القوانين، والمساواة في العقوبات، مؤكداً على أن الحاكم والمحكوم سواسية أمام العدالة والقانون.
3. البعد الروحي والأخلاقي
لم يكن الميرزا النائيني فقيهاً متعمقاً وناشطاً سياسياً فحسب، بل كان أيضاً صاحب مقام معنوي رفيع. فقد أثنى المتحدثون على سيرته الزهدية وعبادته وتهجده الليلي، مشيرين إلى أنه كان دائم الخوف والخشية من الله، ما يثبت قاعدة أن كلما ازداد علم الإنسان، ازدادت خشوعه وتواضعه. لقد كان النائيني نموذجاً للعالم الذي لا يغفل عن الشؤون السياسية والاجتماعية، ولكنه في الوقت نفسه لا يتخلى عن عمقه المعنوي والأخلاقي.
حصيلة المؤتمر وإرث النائيني
شملت الإنجازات المادية للمؤتمر نشر موسوعة ضخمة تضم 41 مجلداً من أعمال النائيني، بما في ذلك بحوثه الفقهية والأصولية وتقريرات درسه وأفكاره السياسية. بالإضافة إلى ذلك، تم نشر ستة مجلدات من مقالات وأبحاث المؤتمر.
وقد خلص المؤتمر إلى أن إحياء فكر الميرزا النائيني ليس مجرد تكريم لتاريخ عظيم، بل هو خارطة طريق ومدرسة ومنظومة فكرية كاملة يمكن للحوزات العلمية والأمة الإسلامية أن تستلهم منها الاستقلال والمقاومة في مواجهة الأزمات الحالية، مؤكدين أن فكر النائيني هو نقطة توازن تجمع بين العقلانية، والحرية، والمعنوية في إطار الدين.
الاجتهاد موقع فقهي