الاجتهاد: نـدوة: المنبر الحسيني.. الخصائص والأُسلوب والآفات وفق النص الديني وتوصيات العلماء بحضور { د. الشيخ ناصر رفيعي – خطيب حسيني، وأُستاذ في الحوزة العلمية والجامعة، من إيران. / ترجمة: د. الشيخ ميثم الربيعي – عضو هيئة تحرير مجلّة الإصلاح الحسيني}
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّي العظيم، الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظمته، ثمّ الصلاة والسلام على حبيبه، وخيرته، وحافظ سرّه، ومبلّغ رسالاته، سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد(صلى الله عليه واله)، وعلى آله الطيبين الطاهرين، سيمّا بقيّة الله في الأرضين.
قال الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[3].
تتضمّن هذه الآيات المباركة أربعة مطالب هي غاية في الأهمّية فيما يرتبط بالتبليغ، وهي: مميّزات الخطاب والتبليغ، وأُسلوب التبليغ، وخصائص المبلِّغ، وآفات التبليغ. وسأقوم هنا ببيان تلك المطالب باختصار.
1ـ مميّزات الخطاب والتبليغ
فيما يرتبط بالخصائص التي ينبغي أن يتحلّى بها الخطاب الموجّه إلى الجمهور يقول تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ).إنّ حُسن الخطاب إنّما يتحقّق باشتماله على ثلاث خصائص:
أوّلاً: الدعوة إلى الله: فقد جاء في الحديث الموجّه إلى النبيّ موسى(عليه السلام): (حبّبني إلى خلقي)[4]، وقال تعالى مخاطباً نبيّنا(صلى الله عليه واله): (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ)[5]، و(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ)[6]، فعلينا أن نُحبّب الخلق وندعوهم إلى الله تعالى.
إنّها لمسؤولية شاقّة جدّاً، لا سيّما في الظروف غير العادية، ففيما لو حلّت بالناس مصيبة ما، أو ابتلاء معيّن، أو كارثة طبيعية، تكون مهمّتنا الأساسية ـ نحن المبلّغين ورجال الدين ـ أن نوطّد العلاقة بين الناس وبين الله تعالى، وأن نُحبّب الله إلى خلقه. إنّني ـ وبصفتي معنيّاً بهذه المسؤولية ـ أُدرك جيّداً مدى صعوبة هذه المهمّة، وأرى من الضروري أن أُبيّن لكم بعض تجاربي في هذا المجال فيما لو أُتيحت لي الفرصة في وقت آخر، ولكنّني لست بصدد ذلك حالياً.
ثانياً: ينبغي للمبلّغ أن يكون عاملاً، يقول تعالى: (وَعَمِلَ صَالِحًا).
ثالثاً: ينبغي له التسليم إلى الله، يقول تعالى: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
فالخطاب الحسن هو كلّ خطاب تضمّن هذه الخصال الثلاثة.
2ـ أُسلوب التبليغ
ربّما يواجه المبلّغ في مهمّته بعض الأُمور التي تخالف رغباته، وفي هذا المجال يوضّح القرآن الكريم للنبيّ(صلى الله عليه واله) الأُسلوب الذي ينبغي أن يتّبعه، حيث يقول تعالى(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[7]،
فعلينا دائماً أن نقابل الإساءة بالإحسان، وأن نردّ بما هو أحسن، إنّنا ـ وبمثل هذا النحو من التعامل ـ نتمكّن من إقامة علاقات طيّبة مع الآخرين، ولولا مراعاة الاختصار لذكرت العشرات من القصص التي تُبيّن مدى التأثير الذي كان يتركه تعامل الأئمة(عليهم السلام) بالحسنى في نفوس المخاطبين، فهذا هو الحسين(عليه السلام) تمكّن من تغيير موقف (الحرّ الرياحي) وغيره، كما يذكر لنا التاريخ أنّ شخصاً جاء ليقتل النبي(صلى الله عليه واله) في وقعة حنين؛ انتقاماً لأبيه الذي قُتل في معركة سابقة، ولكنّ نظرةً حانية من الرسول(صلى الله عليه واله)، ويداً لامست صدره، استطاعتا أن تتركا فيه من التأثير ما جعله يعتنق الإسلام[8]، وهناك العشرات من الأمثلة المشابهة، فإنّ فتح مكّة ـ مثلاً ـ يُعدّ في حدّ ذاته نموذجاً للدعوة إلى الإسلام بالتي هي أحسن.
3ـ خصائص المبلِّغ
بعد أن يدعو المبلّغ إلى الله تعالى بالتي هي أحسن، ينبغي له ـ ثالثاً ـ أن يتّصف بصفتين أساسيتين، لا يمكنه مواصلة العمل من دونهما، لا سيّما ونحن الآن نتمتّع بظروف مؤاتية أفضل ممّا سبق، فقد كانت القرى توصد أبوابها بوجه المبلّغين بحسب التجارب الماضية، ولكنّنا حالياً نعيش ظروفاً مناسبة، وعلى حدّ تعبير الشيخ قراءتي: بينما تحمّل بلال وسمية وياسر السياط والتعذيب، ننعم نحن الآن بثمار تلك الجهود. فإذا أراد المبلّغ أن يكون ناجحاً فلا بدّ أن يتحلّى بهاتين الصفتين: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[9]، فالصبر وسعة الصدر والتحمّل هي صفات تمثّل ذلك الحظ العظيم.
4ـ آفات التبليغ
ما من عمل إلّا وقد تسلّلت إليه خطى الشيطان؛ من هنا جاءت الآية التالية متضمّنة النقطة الرابعة: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[10]، فوساوس الشيطان تتمثّل في المال والمنصب وأُمور أُخرى، فلا ينبغي للمبلّغ أن يُلقي سمعاً لتلك الوساوس، ولينظر إلى المستوى الذي يمكن أن يبلغه نفوذ الشيطان، كما في قوله تعالى على لسان النبي يوسف(عليه السلام): (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)[11].
هذا فيما يرتبط ببعض مضامين هذه الآيات الكريمة باختصار، أمّا فيما يرتبط بتجاربي مع المنبر الحسيني، فسأتحدّث عنها بانسياب أكثر.
تجربتي الأُولى مع المنبر
لقد ارتقيت المنبر سنة (1362هـ.ش)، أي: قبل أربع وثلاثين سنة، وما زلت أتذكّر أوّل منبر ارتقيته، كنت حينها قد درست (جامع المقدّمات)[12] في الإعدادية، وبدأت بكتاب السيوطي[13] في مدرسة الإمام في قم المشرّفة، وقد اتّفق في تلك السنة أنّ أيام التبليغ (محرّم الحرام) قد تزامنت مع بداية السنة الجديدة، كنت أحضر حينها على مدى ستة أيام أو سبعة في درس أحد الأساتذة، ذات يوم وقف ذلك الأُستاذ في فناء المدرسة، ووجّه إلينا الخطاب قائلاً:
ماذا تدرسون أنتم وليس هناك مَن يعلّم الشباب الأحكام الشرعية؟! حسبكم أن تنقلوا لهم بعض أحاديث الإمام الصادق(عليه السلام)، عليكم بالتبليغ. فقلنا له: نحن لا نعلم شيئاً، إنّنا ندرس كتاب السيوطي. فقال: يكفي أن يعلموا أنّكم طلبة علوم دينية.
كنت حينها في الثامنة عشرة من عمري، وقام ذلك الأُستاذ بحمل عشرين طالباً منّا بحافلة إلى مدينة (أُرومية)[14]، ومنها إلى مدينة (ميروان)[15]، وفي مدينة (ميروان) قام بتقسيمنا إلى عدّة مراكز، وقال لي: إنّك سترتقي المنبر هنا في شهر محرّم الحالي، مع أنّي لم أكن سوى طالب مبتدئ، ولم يكن معي حينها سوى (كتاب الخصال) للشيخ الصدوق(رحمه الله)، و(منتهى الآمال) للشيخ عبّاس القمّي، فكنت يومياً أقوم بتدوين رواية من الخصال، وأُلحقها بمصيبة من مصائب كتاب منتهى الآمال، حتّى أنّني أتذكّر ما طرحته في أوّل مجلس، حيث قلت:
بسم الله الرحمن الرحيم، قال (صلى الله عليه واله): (علامة الشقاوة أربعة…)، فأخذ الشباب ـ الواحد تلو الآخر ـ يخرجون أقلامهم وأوراقهم من جيوبهم، وبدأت أقرأ الحديث: (نسيان الذنوب الماضية وهي عند الله تعالى محفوظة، وذكر الحسنات الماضية ولا يدري قُبلت أم رُدّت، ونظره إلى مَن هو فوقه في الدنيا، وإلى مَن هو دونه في الدين)[16].
وهكذا تألّف أوّل مجلس لي من هذه الرواية ذات الموادّ الأربعة، وفي الليلة التالية قرأتُ لهم رواية أُخرى… ومرّت عشرة أيام تدبّرت الأمر فيها بكتاب الخصال، وقد طلبوا منّي أن أُوافيهم في شهر صفر، فاستجبت لهم وقدِمت إليهم في آخر شهر صفر، وهكذا واصلت الذهاب حتّى سنة (1366هـ.ش)، ثمّ ذهبت إلى مكتب الإعلام الإسلامي، وتزوّدت منهم بكتاب، وطلبت إليهم أن يرسلوني إلى مكان آخر بعد أن أكملت مرحلة السطوح في الحوزة العلمية سنة (1367هـ.ش) في خمس سنين.
ارتقائي للمنبر بشكل رسمي
في سنة (1366هـ.ش) وبعدما حصلت على كتاب من قِبل مكتب الإعلام بالتوجّه إلى مدينة (سمنان)[17]، التقيت هناك بمدير الحوزة العلمية آية الله نصيري وآية الله عالمي عضو مجلس خبراء القيادة، وقد توفّيا كلاهما (رحمهما الله)، فطلب منّي آية الله عالمي أن ارتقي المنبر، ففعلت، فاستحسن منبري، ثمّ طلب منّي أن ارتقي المنبر في المسجد الجامع، فارتقيت المنبر هناك، ومن ذلك المسجد كانت انطلاقة مجالسي الرسمية في سنة (1366هـ.ش).
وقد رافق مجالسي دائماً حضور بعض العلماء طوال هذه الفترة التي استغرقت ثلاثين سنة، أمّا السنوات الأربعة السابقة فإنّني أعتبرها مقدّمة لارتقاء المنبر، وقد تنقّلت خلال هذه الأعوام الثلاثين بين إنجلترا (لندن) والسويد وبلغاريا والنمسا وألمانيا وإيطاليا، وكثير من الدول الأجنبية الأُخرى، وقد ارتقيت المنبر في حرم الإمام الحسين(عليه السلام) مرّات عديدة، حيث كان هناك مجلس يقام صباحاً للزائرين الإيرانيين، وكنت أيضاً مبلّغاً في حملات الحج.
وفي سنة (1378) و(1379) و(1380هـ.ش)ارتقيت المنبر أكثر ممّا سبق، ومن سنة ثمانين وما يليها كنت بخدمة المراجع العظام، ومنزل السيّد الخامنئي (حفظه الله)، وحرم الإمام الرضا(عليه السلام) والسيّدة معصومة(عليها السلام)، وتصدّيت لإحياء مراسم كبيرة، كإحياء مراسم ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان، حيث يُعدّ مجلسها أهمّ منبر طيلة أيّام السنة، وفي عشرة محرّم كنت في هيئة المقاتلين.
هذه هي مجموعة المجالس التي أقمتها بصورة مكرّرة خلال هذه السنوات.
الكتب التي ألّفتها في هذا المجال
لقد قمت بتدوين تجاربي ابتداءً في كتاب (گفتار رفیع)[18]، وقد طُبع منه جزءان، وستكون له تتمّة إن شاء الله، أمّا بقية الأجزاء الثمانية أو التسعة التي تضمّنت خطبي فلم أقم بكتابتها، وإنّما قام أحد السادة بجمهعا وتدوينها.
توصيات العلماء وتوجيهاتهم
لقد تضمّن كتابي ـ آنف الذكر ـ ثلاثين إلى أربعين تجربة مع العلماء أدرجتها في بدايته، استفدت من خلالها الكثير من التوصيات والتوجيهات القيّمة، وإليكم بعض تلك التجارب، علماً بأنّ لي تجارب كثيرة مع مراجع الدين العظام، أنتقي لكم منها التجارب والتوصيات الأكثر أهمّية:
1ـ توصيات آية اللّه السيّد الخامنئي (حفظه اللّه)
إنّ المجالس التي أُلقيها بمحضر السيّد الخامنئي (حفظه الله) على قسمين:
الأوّل: مجالس خاصّة يدعوني فيها إلى منزله في كافة المناسبات، يحضر سماحته فيها وجمعٌ آخر يتراوح بين سبعين أو ثمانين أو مائة شخص، ويشارك فيها أعضاء الحكومة، وأُسرة السيّد كذلك.
الثاني: هو مجلس رسمي يقام في مكتب السيّد الخامنئي في مناسبتين فقط، هما أيام الفاطمية، والأُخرى عشرة محرّم الحرام، وقد كانت لي معه عدّة تجارب، وبما أنّ السيّد نفسه كان خطيباً منبرياً وأديباً، كان يشير عليّ ببعض النقاط، فكنّا نجلس مع سماحته عشرين دقيقة وربّما نصف ساعة بعد المجلس، نتجاذب معه أطراف الحديث، وفي جميع تلك اللقاءات لم أطلب من سماحته شيئاً، ولم أطرح موضوعاً سياسياً، فلم نتحدّث إلّا عن المنبر،
ويمكنني أن أُلـخّص لكم تأكيدات سماحته في مجال المنبر في عدّة مطالب:
1ـ التأكيد على محورية النّص: قال لي سماحته ذات مرّة: إنّي أُحبّ تمسكّك بمحورية النصوص، إنّك تقرأ الكثير من الآيات والنصوص الروائية، وتُجيد توظيفها وتقسيمها، هكذا ينبغي أن يكون المنبر.
2ـ عدم الإكثار من المجالس: ففي إحدى السنوات قال لي في الفناء بعدما انتهيت من المجلس: كم مرّة ترتقي المنبر كلّ يوم؟ فقلت لسماحته: مرّة أو مرّتين. فقال لي: هناك من الخطباء مَن يرتقي المنبر سبع مرّات أو ثماني مرّات في اليوم الواحد، وهم يستغلّون الطريق أحياناً للتفكير في اختيار الموضوع الذي سيتناولونه بالحديث.
فقلت له: سيّدنا، إنّني أُخصّص للمجلس أحياناً عشر ساعات، ولمجالس الحادي والعشرين التي تقام في مشهد أحياناً خمس عشرة ساعة، وليس هذا دأبي في جميع المجالس، ففي بعض المجالس أكتفي بساعتين أو ثلاثة. فقال لي: حسنٌ ما تفعله، فإنّ رمز الموفّقية في المنبر: قلّة المجالس، ومحورية النصّ.
3ـ موضوع البحث: المطلب الثالث الذي أكّده سماحته ضمن المباحث التي طرحها، هو موضوع البحث، وإليكم هذه النقطة:
في جميع هذه السنوات التي ارتقيت فيها المنبر تقريباً كان سماحته يُبدي بعض الملاحظات التي ترتبط بموضوع الخطبة، ففي ذكرى شهادة الإمام السجاد(عليه السلام) مثلاً تناولت بالحديث موضوع إعداد الكوادر، فقلت: كان للإمام السجاد(عليه السلام) مائة وسبعون تلميذاً، فلم يكن كالإمام الصادق(عليه السلام) الذي تتلمذ على يديه أربعة آلاف طالب، وقد استغرق هذا الإعداد ثلاثاً أو أربعاً وثلاثين سنة، فـ(أبو حمزة) الذي كان يفسّر القرآن في عهد الإمام الصادق(عليه السلام) هو نتاج تلك التربية التي تلقّاها على يد الإمام السجاد(عليه السلام).
فقال لي سماحته: هذا الموضوع في غاية الأهمّية، وراح يتحدّث لي عن هذا الموضوع خمس عشرة دقيقة تقريباً قائلاً: إنّ الموضوع الذي انتخبته يرتبط بإعداد الكوادر في سيرة أهل البيت(عليهم السلام).
وفي ليلة التاسع من محرّم لهذه السنة (1396هـ.ش) تحدّثت عن المسؤولية، وقمت بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام، الأول: مَن يتحمّل المسؤولية، والثاني: مَن يتملّص من المسؤولية، والثالث: مَن يواجه المسؤولية، ثمّ قلت: كان العبّاس(عليه السلام) ممّن يتحمّلون المسؤولية، وقد جاء في زيارته(عليه السلام) «أشهد لك بالتسليم والتصديق)[19]، وبعد انتهاء المجلس قال لي سماحته في الفناء: ما أروع مجلسك هذه الليلة! وكرّر ذلك ربّما خمس مرّات، فعندما خرج من الغرفة أعاد عليّ عبارته، وهكذا ونحن جلوس حول المائدة.
وقبل سنتين أو ثلاثة تزامنت ليلة الفاطمية مع الانتخابات، ولا أتذكّرجيّداً أيّ انتخابات كانت، فاخترت موضوعاً عنوانه (الانتخابات الفاطمية)؛ لأُسلّط الضوء على الخيارات التي انتخبتها الزهراء(عليها السلام) في حياتها، فبدأت بانتخابها رضا الله الخالق على رضا المخلوق، فعندما تقدّم القوم لخطبتها لم تسأل عن ثروتهم وأموالهم، بل اختارت ما اختاره الله ورسوله(صلى الله عليه واله)، اختارت إمام النور على غيره، ووظّفت كلّ وجودها للدفاع عن الإمام علي(عليه السلام)، واختارت الكلام على الصمت، واختارت الحياة المتواضعة على الرخاء والثراء… وهكذا استوفيتُ سبعة موارد أو ثمانية، وفي تلك الليلة قال سماحته أيضاً: ما أروع هذا البحث! ثمّ تلا سبع آيات أو ثمانية، وقال: إنّ لهذه الآيات صلة بالبحث، وطلب منّي أن أُضيفها إلىه.
4ـ الدقّة في النقل: ومن تجاربي مع سماحته ما يرتبط منها بتذكيري ببعض الأخطاء، ففي هذه السنة مثلاً كنت أتحدّث عن شهادة الزهراء(عليها السلام)، وذكرت أنّ النبي(صلى الله عليه واله) كان يقوم بأربعة أعمال حينما تقدم عليه فاطمة(عليها السلام)[20]، الأوّل: أنّه كان يقوم إليها، وأوضحت أنّه كان يقف احتراماً لها، والثاني: أنّه كان يجلسها في مجلسه، أي: يجلسها في مكانه، وهكذا، وعندما ترجّلت من المنبر وذهبت إليه لأُودّعه، قال لي سماحته: إنّ جملة (قام إليها) لا تعني: وقف ونهض، بل أسرع إليها، وهبّ لاستقبالها، فقد كان النبي(صلى الله عليه واله) يخفّ ويُسرع لفاطمة(عليها السلام)، أمّا القيام والنهوض فيعبّر عنهما بـ(قام لها).
وقرأت مرّة أبياتاً لأحد الشعراء، وكانت الأبيات تتضمّن كلمة (اُذْكُرَنْ)، وأنا قرأتها (اُذكُرْنَ)، وسماحته ظليع في المجال الأدبي؛ فصحّح لي سماحته الكلمة بعد نزولي من المنبر، مبيّناً أنّ الصحيح فيها (اُذْكُرَنْ).
وتلوت مرّة آية من آيات القرآن، فقال لي: إنّ هذه الآية تتضمّن كلمة (فيه)، ولكنّك أسقطتها. فقلت له: أتصوّر أنّها ليست من الآية. فنادى سماحته صبيّاً كان حاضراً حينها، وطلب إليه أن يحضر مصحفاً، ففتحه باحثاً عن سورة الشورى الآية الثالثة عشرة، ثمّ قال لي اُنظر: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، وأضاف قائلاً: إنّك فسّرت الآية من دون لفظ (فيه)، وتفسيرها مع هذه الكلمة يختلف عن تفسيرها مجرّدة منها، فكلمة فيه تعود إلى الدين، وهذا مطلب مهمّ.
2ـ توصيات آية اللّه الشيخ فاضل اللنكراني (رحمه الله)
ويروق لي هنا أن أذكر لكم تجربة مع الشيخ فاضل اللنكراني(رحمه الله)، وقد كنت أرتقي المنبر لديه كثيراً، فقال لي ذات مرّة: يا شيخ رفيعي، لا ينبغي أن تخضع مطالعاتك المنبرية لتأثير المخاطب، فلا تقل مثلاً: هؤلاء قرويّون، ولا يملكون مستوىً عميقاً من الفهم، بل ينبغي لك أن تطالع وتستعدّ بنسبة مائة بالمائة، وإن كان ما تلقيه على المتلقّي بنسبة عشرين بالمائة، ولا تتمكّن من عرض نسبة الثمانين المتبقية.
3ـ توصيات آية اللّه السيّد علي السيستاني (حفظه اللّه)
زرت آية الله العظمى السيّد علي السيستاني (حفظه الله) في النجف الأشرف، ولم يكن سماحته يعرفني على ما يبدو، ولكن قد قيل له: إنّي خطيب في إيران، فغمرني بالتقدير والاحترام، ولم يكن معنا في اللقاء شخص آخر، كنت أنا وإيّاه فقط، وكان وقت الزيارة المحدّد عشرين دقيقة، ولولا ذلك لكان من المحتمل أن يستغرق اللقاء ساعة كاملة.
نقل لي سماحته بعض تجاربه قائلاً: في فترةٍ ما كانت إيران ولم يكن فيها من الخطباء سوى الشيخ فلسفي، وكان العراق ولم يكن فيه سوى الدكتور الشيخ الوائلي، ونحن الآن نفتقر إلى مثل هذه المنابر، فكم من المنابر في إيران تتناول النصوص القرآنية؟ وكم منها تشتمل على تفسير الآيات القرآنية؟ وكم منها تتناول نصوصاً من نهج البلاغة؟
إنّني على علم بأنّ بعض المجالس تُدار بالأحلام، أو العرفان المزيّف، كلّ هذا على خلاف ما أراده منّا أهل البيت(عليهم السلام)[21]، ثمّ قال سماحته: ينبغي أن يتحلّى المنبري بالشكل المناسب والوجه المقبول. ثمّ أخذ يتحدّث عن المضمون ممثلاً ببعض العلماء والعظماء في مدينة قم، فقال: لقد كان أمثال الشيخ فاضل اللنكراني يبيّن للناس نهج البلاغة، فلا بدّ أن تنحو المنابر الآن هذا المنحى.
4 ـ توصيات آية اللّه السيّد الشبيري الزنجاني (حفظه اللّه)
كنت أرتقي المنبر عند آية الله السيّد الشبيري كثيراً، وذلك في منزله أو في أماكن أُخرى، وسأنقل لكم بعض تجاربي معه: كان سماحته يهتمّ بتوثيق المطالب، وذات مرّة نزلت من المنبر، وقد ذكرت رواية عن عبد الله بن سنان، ففتحت السين من (سنان)، فقال لي: سِنان (بالكسر) هو الصحيح، وذكرت مرّة (الزُّهري)، ففتحت الهاء، فقال: الصحيح هو الزُّهْري (بسكون الهاء) نسبة إلى بني زُهْرَة، وذكرت مرّة ما فعله الإمام السجاد(عليه السلام) خلال خمس وثلاثين سنة، فسألني سماحته: متّى بلغ الإمام السجاد(عليه السلام) الإمامة؟ فقلت: سنة إحدى وستين هجرية، ثمّ سألني مرّة أُخرى: ومتى استُشهد(عليه السلام)؟ فقلت: سنة خمس وتسعين. فقال: كم سنة استغرقت إمامته؟ فقلت: أربعاً وثلاثين سنة. فقال: ولكنّك قلت: خمس وثلاثين سنة.
هذه بعض تجاربي مع سماحته، فإنّ مثل هذه التنبيهات مهمّة جدّاً؛ فإنّها ترتفع بمستوى الخطاب، وتزيد في دقته.
5 ـ توصيات آية اللّه الشيخ نوري الهمداني (حفظه اللّه)
ومن تجاربي الأُخرى تجربة مع آية الله الشيخ نوري الهمداني (حفظه الله)، فقد تحدّث إليّ ذات يوم على انفراد زهاء عشرين دقيقة، وذكر لي عدّة مطالب مفيدة، وقد كان سماحته خطيباً في الماضي.
قال لي سماحته: كنت أنا والشيخ فلسفي نرتقي المنبر في مدينة طهران، وكنت أحضر مجلسه ويحضر مجلسي، ولم أكن أُبدي تجاه مجالسه أيّ ملاحظة، فقد كان خطيباً كبيراً قلّما يستطيع شخص أن يوجّه إليه نقداً، ولكنّني كنت أتعمّد أن أطلب منه انتقاد مجالسي. وذات يوم بعدما ترجّلنا من سيارته ونحن في طريقنا إلى منبره، قلت له: كيف كان مجلسي؟
فقال لي: لم يكن جيّداً. فقلت: لماذا ذلك وقد قرأت كلّ تلك الآيات والروايات؟! فقال: إنّ مَثَلَ مجلسك كشخص يضع ثلاثة كيلو جرامات من اللحم في مقلاة ويضع عليها غطاءها بلا ماء ولا موادّ أُخرى، فمثل هذا اللحم لا ينضج؛ لأنّ نسبة اللحم كبيرة جدّاً، فلا ينبغي تكديس هذا الحجم من الآيات والروايات، فإنّ الإكثار من الروايات بعضها ردف بعض يُربك المخاطب، فلا ينبغي أن تتجاوز نسبة الآيات والروايات في المجلس الثلاثين بالمائة، أمّا النسبة المتبقّية فللشرح والتعليق، وتنظيم النصوص وتقسيمها.
ثمّ تطرّق سماحته إلى مثال قال فيه: إنّ أحد الخطباء قد ارتقى المنبر في الحادي والعشرين من شهر رمضان، وكان المجلس حافلاً بالحضور، وكنت حاضراً أيضاً، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، في الليلة الماضية قد أغمضت عينان طالما فاضتا بالدموع من خشية الله تعالى، وتوقّفت عن الحركة يدان كانتا تُمسكان بأيدي الأيتام، وقدمان كانتا تتسللان في ظلام الليل إلى بيوت الفقراء والمساكين، ولسان كان يلهج بذكر الله تعالى. هكذا كان يصف علياً(عليه السلام)، فهذا هو البيان والتوسّع في طرح المطالب، أعني طريقة الدخول في المباحث.
فهذه تجربة أُخرى من التجارب نقلتها عن سماحته فيما يرتبط بطريقة بيان البحث، وتنظيم مطالبه، وأُسلوب إلقائه.
من خلال ما تقدّم؛ أجد أن تجاربي قد ازدادت في هذا المجال، وأنّني أتمكّن من القيام بالخطابة بشكل أفضل من السابق.
خصائص المنبر الناجح
من خلال التوصيات العلمائية السابقة يمكنني أن أذكر لكم أنّ المنبر الناجح لا بدّ أن تُلحظ فيه أربعة محاور:
الأوّل: معرفة المخاطب
فإنّ أغلب المنابر التي تعاني الإخفاق لا يتحلّى أصحابها بمعرفة المخاطب، فلا بدّ
أن يُدرك الخطيب مثلاً أنّ مخاطبيه طلّاب في المرحلة الابتدائية أو الثانوية، وأنّ المجالس العامّة أكثر صعوبة، حيث يشارك فيها مختلف طبقات المجتمع، من الشباب والشيوخ، فلا ينبغي أن يكون المجلس كما فعل أحد الخطباء إذ تحدّث عن الأشرار عشرة ليالٍ، فقال له الحاضرون في الليلة الحادية عشرة: ومتى تحدّثنا عن المحسنين؟! فلا بدّ أن يكون الحديث بصورة يفهمها المتلقّي ويستوعبها ويتفاعل معها.
أتذكّر أنّني كنت حاضراً في أحد المجالس، فقال الخطيب: لا بأس بالرياء في التوصّليات بخلاف التعبّديات. فلم يفهم أحد ما قاله الخطيب، وكان في المجلس معلّماً أكثر ثقافة من غيره، فانفرد بي بعد المجلس قائلاً: ماذا قال الخطيب؟!
إنّنا طوال حياتنا تعلّمنا أنّ الدعاء ينبغي أن يكون مع الإخلاص، فهل دعاء التوسّل يختلف، ولا حاجة إلى الإخلاص فيه؟! فقلت له: ومَن الذي ذكر دعاء التوسّل؟ فقال: لقد ذكره الخطيب الآن، فتبيّن لي أنّه لا يفرّق بين التوصّل (بالصاد) والتوسّل (بالسين)[22]، من هنا ينبغي للخطيب أن يكون منتبهاً لذلك، وأن يكون مطّلعاً على مستوى مخاطبيه.
الثاني: الاهتمام بالموضوع
فأنا شخصياً أُخصّص أحياناً خمس إلى ستّ ساعات للتأمّل في الموضوع، بينما هناك مَن يتّصل بي من الخطباء في غروب الليلة الأُولى من شهر محرم ليقول لي: لديّ مجلس في المركز الإسلامي بلندن يبتدئ من الليلة القادمة إلى عشر ليالٍ، ويطلب منّي أن أُقدّم له موضوعاً يتناوله في تلك الليالي، فقلت له: وهل من المناسب أن تتّصل قبل ليلة واحدة فقط لمثل هذا الموضوع المهم؟! وآخر كان في طريقه إلى المنبر في إمارة (دبي) ـ وكنت حينها حاضراً هناك ـ فقال له أحد المصوّرين: أرجوا من سماحتكم أن تزوّدنا بموضوع البحث، لندرجه في شريط البث، ويتمّ الإعلان عنه سابقاً،
فقال له: إنّني أبدأ بالتفكير في الموضوع وأنا في الطريق إلى المنبر بعدما ترتفع الأصوات بالصلوات على محمد وآل محمد إلى أن أصل إليه، فليس لديّ موضوع قبل ذلك. وقال آخر: أنا لا أفكّر في الموضوع إلّا عندما أجلس على المنبر. علماً بأنّ الناس يغدقون على الخطيب بالتكريم، ويساعدونه مادّياً، وينفقون الملايين، ويعدّون الطعام بغية إنجاح المنبر، كلّ هذا وبعض الخطباء لا يقابلون كلّ هذا العطاء الكبير بساعة واحدة ينفقونها في إعداد موضوع ما.
الثالث: المضامين القيّمة
إنّ المنبر ما زال الوسيلة التي لا بديل لها في مجال التبليغ، وما زال يؤدّي دوره برغم انتشار وسائل الإعلام الحديثة، إلّا أنّ الناس يتوقّعون منّا أن نوثّق المطالب التي نذكرها على المنابر، وأن لا نتناول بالحديث أُموراً تفتقد الأُسس والجذور العلمية.
يقول أحد الخطباء: كان لديّ مجلس في أمريكا في شهر رمضان فسافرت إلى هناك، وذكرت أنّ أحد المجاهدين قد قُطعت يده في إحدى المعارك، فوضعها تحت قدمه وقطع ما بقي عالقاً من الجلد، ثمّ راح يقاتل بيده الأُخرى، وبعد المعركة عاد إلى النبي(صلى الله عليه واله) فأثنى عليه.
وهي قصة تذكرها بعض المصادر التاريخية، وعندما ترجّلت من المنبر أقبل عليَّ شاب وقال لي: أنا طبيب أخصائي في الجراحة، إنّ إصبعاً من أصابع الإنسان لو بُترت فإنّ النزيف لا يمهله سوى دقيقتين أو ثلاثة حتّى يخرج جميع الدم من جسمه، أمّا أن يتمكّن شخص من مواصلة القتال بعد أن تُقطع يده فهذا الكلام مدعاة للسخرية، فمثل هذا العمل لا يمكن من الناحية العلمية، فرأيت أنّ ما يقوله صحيح.
وقد تضمّن كتاب الشيخ السبحاني (الحديث النبوي بين الرواية والدراية) سبعة محاور لتقييم الكلام الذي يريد المتكلّم أن يتفوّه به، وقد أدرجت هذه المحاور في كتاب (دروس في وضع الحديث) الذي تُرجم إلى اللغة العربية، ومنها: القرآن، والسنّة، والعقل، وإجماع المسلمين، والعلوم المعاصرة.
من هنا؛ ينبغي مراعاة الدقّة في الكلام، فإنّ الخطيب اليوم لو تحدّث في قرية ما، ربّما يجد مجموعة من حملة الشهادات يجلسون تحت منبره.
يُنقل أنّ منشداً حسينياً في مدينة قم ذكر للحضور أنّ رأس الحسين(عليه السلام) كان يتلو سورة الحمد وهو على رأس الرمح، فقال له أحد الشيبة من الحاضرين: لم يكن الرأس يتلو سورة الحمد، بل كان يتلو قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)[23]، فمن أين جئت بهذا الكلام؟!
لذا؛ قلت مرّة في جمع من المنشدين: لدينا اليوم نسبة كبيرة من المخاطبين الشباب؛ من هنا ينبغي أن توثّقوا كلّ كلمة تقولونها، أو تشيروا إلى جذورها وأُسسها العلمية.
وكذلك كان أحدهم يذكر حادثة ولادة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهو يقرأ للحضور قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)[24]، ممّا يُثير تساؤلاً لدى المخاطب، مفاده أنّ ولادة الإمام علي(عليه السلام) سبقت نزول القرآن بعشر سنين، فكيف يستشهد الخطيب بالقرآن في حادثة سبقت نزول القرآن، ولا أروم هنا تكذيب هذا الحديث، مع أنّ الدكتور صادقي في تفسيره للقرآن قد ادّعى أنّه موضوع، ولست ممّن يؤيّده في ذلك، فليس من السهل أن ننسب الوضع للحديث، ولكن ينبغي أن نبيّن للمخاطب المباني التي تقوم عليها عملية الربط بين آيات القرآن الكريم والحوادث الماضية.
وفي حادثة أُخرى ذكر أحد الشخصيات الكبيرة في مدينة مشهد المقدّسة على المنبر أن نساء (نوغان)[25] حضرن لدفن الإمام الرضا(عليه السلام)، فسألته عن مصدر هذه الحادثة؟ فقال لي: يا شيخ رفيعي، إنّنا سمعنا هذه الحوادث على مدى ثلاثين أو أربعين عاماً من على المنابر. فقلت له: إنّك تُعدّ شخصية مهمّة، وأنت في حرم الإمام الرضا(عليه السلام)، وأمامك زهاء خمسين ألف مستمع أو أكثر، فلا بدّ أن تعرف مصدر هذه الحادثة!
أنا لست معنياً الآن بتصديق هذه الأحاديث أو تكذيبها، وإنّما أقول للمنشد: عندما تذكر للناس أنّ جسد الإمام الجواد(عليه السلام) وضِع على سطح الدار، فجاءت مجموعة من الطيور وراحت ترفرف فوقه بأجنحتها، ينبغي لك أن تذكر مصدر هذه المعلومة. فهذه بعض الأمثلة لا أدّعي صدقها ولا كذبها، وإنّما أُطالب المتحدّث أن يستعدّ للإجابة فيما لو سئل عن مصادرها.
إنّ إسناد المطالب إلى مصادرها، واختيار المضمون الجيّد والموضوع المناسب، ومعرفة المخاطب، وسلامة القراءة للروايات، كلّ ذلك من الأُمور التي ينبغي للخطيب أن يخصّها بمزيد من العناية والاهتمام، فممّا يؤسف له أنّ بعض المنابر ربّما لا تكون بهذا المستوى أحياناً، فقد كنت أستمع ذات يوم إلى شخص كان يتحدّث في أحد برامج التلفاز التي تبثّها قناة القرآن، فقرأ عبارة تضمّنت ستة أخطاء أو سبعة، فاتصلت بالقناة، وحصلت على رقم المتحدّث، وحاولت الاتصال به، ولكنّي لم أُوفّق لذلك، فإنّ الدقّة في قراءة النصوص مطلوبة من قِبل المتحدّث، ولا سيّما النصوص العربية التي تحتاج إلى الحركات الإعرابية، فإنّكم بصفتكم تتحدثون بالعربية تراعون مثل هذه القواعد، أما غير الناطقين بالعربية فعليهم الاهتمام بها.
الرابع: طريقة الإلقاء
ويمكنني أن أذكر مثالين لذلك:
1ـ هناك نقطة مهمّة ينبغي بيانها، وهي: أنّني قرأت مجلساً لدى آية الله الشبيري، حضره جماعة من العلماء، وفيهم أُستاذي آية الله صلواتي، وقد درست عنده(المكاسب)[26]، فتناولت بالحديث الإمام السجاد(عليه السلام) والصحيفة السجادية بالتفصيل، واستعرضت مضامينها وأدعيتها، وبعد طول ثنائي عليها ذكرت أنّ البعض أشكل ـ جهلاً ـ على الصحيفة السجادية، مدّعياً أنّها تفتقد الإسناد المطلوب في النصوص الروائية، وذكرت أنّ هذا الكلام ليس له أيّ قيمة علمية، وبعد المجلس استوقفني الشيخ (صلواتي) وقال لي:
هناك رجل ارتقى المنبر في مدينة مشهد المقدّسة، وأراد أن يُثني على إمام الجماعة، وكان إمام الجماعة قد نال منه ببعض الكلمات كما يبدو، فقال الخطيب عنه: إنّه رجل ملتزم دينياً، وهو مؤمن وعالم وفاضل، وإنّه ممّن يقومون الليل. وهكذا تابع الثناء والمدح، ثمّ قال:
ولكن قد أُشيع عنه مؤخّراً أنّه بهائي، وهو كلام عارٍ عن الصحّة، فهو ليس بهائياً. فراح الناس يتساءلون بعد ذلك: وهل كان بهائياً؟ فجرى ذلك على ألسنتهم. ثمّ قال لي: إنّك أطلت الحديث في الثناء على الصحيفة السجادية، فما بالك ذكرت بعض المستشكلين؟! فلو أنّك أهملت ذلك لكان أفضل، إنّ ذكر هذه النقطة يُربك المخاطب.
2ـ على الخطيب أن يكون منتبهاً في حديثه، فيعمد أحياناً إلى التعريض بدلاً من التصريح، ففي هذه السنة مثلاً تعرّضت لتجربة في شهر رمضان المبارك، وقد تمكّنت ـ بحمد الله ـ من معالجتها بظرافة، فقد كنت في منطقة ما، فرأيت ظاهرة متفشية هناك تتمثّل في عدم العناية بالحجاب،
وقد كان البعض يرتدي أزياء غير مناسبة، وربّما أنّكم قد رأيتم مثل هذه المظاهر، أو سمعتم بها، فتطرّقت في أوّل مجلس لي في الحرم الشريف إلى موضوع سفري إلى تلك المدينة، وانتقدت تلك الظاهرة، فانزعج من كلامي بعض أهلها، واتخذ كلٌّ من إمام جمعتها وعضو مجلس الشورى الإسلامي موقفاً منّي، وانتشر الخبر على مواقع الإنترنت، وقد كلّفني هذا الموضوع الكثير، وحاولت الدفاع عن موقفي طبعاً، وقام الناس بالدفاع عنّي كذلك،
مع ذلك لم يكن من الضروري أن أذكر اسم تلك المدينة، فقد كان يفي بالغرض أن أُشير إلى بعض المناطق مثلاً، فتحديد اسم المدينة ربما يُتّهم من خلاله الخطيب بتوجيه إهانة إلى قومية ما كالفرس أو العرب أو الترك بلا فرق بينهم، فلا ينبغي إطلاقاً أن يوجّه الكلام بصورة مباشرة إلى جهة معيّنة، فقد روي عنه(صلى الله عليه واله) أنّه: (إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا؟)[27]، فيُبدي نصائحه وإرشاداته بصورة غير مباشرة.
هذه مجموعة من التجارب ذكرتها باختصار، سائلاً الله تبارك وتعالى لكم التوفيق والسداد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصادر والمراجع
* القرآن الكريم.
تاريخ الأُمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة، 1403هـ/1983م.
سنن أبي داوود، سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق وتعليق: سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأُولى، 1410هـ/1990م.
مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري، تحقيق: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى المحقّقة، 1408هـ/1987م.
مصباح المتهجّد، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسّسة فقه الشيعة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1411هـ/1991م.
المواعظ العددية، علي المشكيني، تعليق وشرح: الشيخ علي الأحمدي الميانجي، نشر الهادي، الطبعة السادسة، 1419هـ.
[3] فصّلت: آية33ـ 36.
[4] النوري، حسين، مستدرك الوسائل: ج12، ص240. وإليك نصّ الرواية: «قال علي بن الحسين(عليهما السلام): أوحى الله تعالى إلى موسى(عليه السلام): حبّبني إلى خلقي، وحبّب خلقي إليّ. قال: يا ربّ، كيف أفعل؟ قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبّوني، فلئن تردّ آبقاً عن بابي أو ضالّاً عن فنائي، أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها. قال موسى(عليه السلام): ومَن هذا العبد الآبق منك؟ قال: العاصي المتمرّد. قال: فمَن الضالّ عن فنائك؟ قال: الجاهل بإمام زمانه تعرّفه، والغائب عنه بعد ما عرفه، الجاهل بشريعة دينه تعرّفه شريعته، وما يعبد به ربّه، ويتوصّل به إلى مرضاته».
[5] الأحزاب: آية46.
[6] النحل: آية125.
[7] فصّلت: آية34.
[8] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج2، ص348.
[9] فصّلت: آية35.
[10] فصّلت: آية36.
[11] يوسف: آية100.
[12] كتاب جُمعت فيه مؤلّفات عدّة في النحو والصرف وشيء من المنطق.
[13] كتاب نحوي، وهو عبارة عن شرحٍ لألفية ابن مالك، وعنوانه: (البهجة المرضية في شرح الألفية)، لمؤلّفه جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911هـ).
[14] مدينة تقع في الشمال الغربي لإيران، وهي مركز محافظة آذربيجان الغربية.
[15] مدينة تقع في القسم المركزي من مقاطعة ميروان في محافظة كردستان الإيرانية المحاذية للحدود مع كردستان العراق.
[16] لم نعثر على هذه الرواية ـ حسب تتبّعنا ـ في كتُب الحديث المعتبرة، وقد ذكر البعض أنّها من مرويات العامّة. اُنظر: المشكيني، علي، المواعظ العددية: ص209ـ210.
[17] مدينة تقع شرق العاصمة الإيرانية طهران، وهي مركز محافظة سمنان.
[18] أي: القول الرفيع.
[19] الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص725.
[20] حيث روي أنّ فاطمة(عليها السلام) «كانت إذا دخلت عليه [أي: النبي(صلى الله عليه واله)] قام إليها، فأخذ بيدها، وقبّلها، وأجلسها في مجلسه…». السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داوود: ج2، ص522.
[21] لم يكن معي جهاز تسجيل لأُسجّل كلمات سماحته، كما لم أُسجّل أيّ كلمة في لقاءاتي مع السيّد الخامنئي وبقية العلماء الذين التقيت بهم، وإنّما أستعين فيما أذكره لكم بما تسعفني به ذاكرتي، من هنا ربما قدّمت أو أخّرت في بعض الكلمات، أو كان هناك تصرّف ما.
[22] علماً بأنّ حرف (الصاد) يلفظ (سيناً) باللغة الفارسية.
[23] الكهف: آية9.
[24] المؤمنون: آية1.
[25] حيّ من أحياء مدينة مشهد المقدّسة.
[26] وهو كتاب فقهي في أحكام المكاسب لمؤلّفه الشيخ مرتضى الأنصاريرحمه الله (ت1281هـ).
[27] السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داوود: ج2، ص434.
المصدر: مؤسسة وارث الأنبياء / مجلة الإصلاح الحسيني » العدد الخامس والعشرون