الملا آقا الدربندي وتدوين المقتل / الشيخ رسول جعفريان

الاجتهاد: زخرت المدرسة العلمية في كربلاء بعلماء أضحوا علامات فارقة في تاريخ هذه المدينة المقدسة، وليس من شك ان ذلك يعد دلالة على مكانة هذه المدرسة وأهميتها وسعتها إذ برع أساطينها في مختلف العلوم وشتى الاختصاصات.

ومن هؤلاء العلماء برز الشيخ الملا آقا الفاضل الدربندي عالماً اقتحم أبواب الفقه والأصول دراسة وتدريساً، وتأليفاً لبعض الكتب في هذا المجال، لكن انتقاله من الإختصاص بالعلوم التقليدية الى الاقتصار على القضية الحسينية والمقتل وما طرح فيها من آراء وأفكار جعله يستقطب اهتمام من نظر في شخصيته وآرائه، ومنها قوله البين الجلي: «لا يجوز نقل الأمور التي لا أصل لها في الآثار والأخبار وكتب العلماء وأهل التواريخ والآداب والسير من الخاصة أو العامة – في مجالس عزاء سيد الشهداء، ومآدب مصائب آل محمد، طمعاً في كثرة بكاء الناس وشدّة نوحهم وضجتهم وصيحتهم، فكيف لا؟! فإن ذلك في الحقيقة من قبيل إحباط الحسنات بالسيئات، فإن إبكاء أحد الناس على سيد الشهداء وعترته وأصحابه المظلومين من أفضل العبادات وأقرب الطاعات وأعظم القربات، فكيف يُجوّز العاقل أو يرضى بأن يُخرب بنيان ذلك بتعمد الكذب والافتراء ووضع الأحاديث من عند نفسه، أو بتعمد نقل ما هو يعلم كذبه ووضعه».

والكتاب الذي بين يديك – أيها القاريء الكريم – إطلالة على سيرة حياة هذا العالم الذي توطن في كربلاء سنين من عمره، وترك أثراً في تاريخها من خلال ما تناوله وأدلى به في القضية الحسينية، وبما قدمه لخدمة مذهب أهل البيت ليلا، وبما أن مركز كربلاء للدراسات والبحوث قد أخذ على عاتقه مهمة التقصي والتحري عن كل ما يتعلق بكربلاء وتاريخها وتراثها، لا سيما علماءها وآثارهم، فقد انبرى لترجمة هذا الكتاب ووضعه بين أيدي القراء الكرام ليكون محطة فائدة ومنفعة للباحثين والمحققين ومصدر معلومات لكل من يتوق لها، وإن المركز إذ يقدم هذا الكتاب فهو ليس في موقع تبني آراء الشيخ الدربندي أو نقضها بل هو مجرد نتاج علم لإثراء المكتبة ويبقى التقييم للقاريء اللبيب، ومن الله نستمد العون والتوفيق. (مركز كربلاء للدراسات والبحوث)

مدخل البحث

القرن الثالث عشر هو قرن ولادة الأفكار الحديثة في إيران الشيعية، ولادة بطرز شتى تستخدم في انتاج مدارس جديدة ويمكن تعرف النصوص المنتجة من خلال البحث الدقيق. يأتي بعض تلك التطورات في سياق العرف الاجتهادي العتيد في التشيع في تجديد الدين خلال مسيرة التاريخ وفي مقدمة هذه التطورات في هذا القرن ما قدمه الوحيد البهبهاني، الذي سعى إلى تمهيد الطريق للتغيير في المذهب الشيعي من خلال خلق ثورة حديثة. أما القسم الآخر من هذه الأحداث، فتنطوي على حالات إبداع وابتكار جديدة وهي بحكم أفكار جديدة تعمل على خلق بناء جديد من الدين والمذهب.

إن أشخاصا من هذا القبيل موجودون في هذا القرن بإيران والعراق وربما بالهند هم أكثر شبها بشخصيات ترى رسالتها في الكشف عن الآراء والأفكار الجديدة من أعماق النصوص مع زيادات عليها، ويتقدمون باختراع فرقة أو نحلة صغيرة وحتى إلى الادعاء بامتلاكهم دينًا جديدًا ومستحدثًا.

ليس معنى هذه العبارة أن هذه الطريقة بالحداثة ليست مسبوقة بوصفها آيديولوجيا خاصة تتلاءم مع البيئة السياسية للمجتمع فقد اتفق وجود نماذج مثلها من قبيل الحروفية والنقطوية في القرون السابقة، ولكن على أي حال، برزت في القرن الثالث عشر الهجري على نحو صريح ظاهرة معينة تنسجم مع الأفكار الحاكمة في النجف، أو طهران، أو بعض المدن الأخرى، وكذلك إثر حروب إيران والروس، التي كان لها تأثير مهم في الإيرانيين معنويا ونفسيا ناهيك عنها اقتصاديًا واجتماعيا، من هذا القبيل شخصيات مثل الشيخ أحمد الأحسائي (١٢٤٣م)، والميرزا محمد الأخباري (۱۲۳۲م)، والسيد كاظم الرشتي (١٢٥٩م)، والسيد علي محمد باب (١٢٦٦م)، والحاج محمد كريم خان كرماني ((۱۲۸۸م) وأشخاص من قبيل الملا آقا الدربندي.

وعدة من أشخاص من آل البرغاني والنراقي، وكذلك علماء في تبريز هم في عداد الذين كان لهم دور في المؤلفات المدونة على وفق طبائع معينة، ولعل هذا البحث جدير بالتفصيل أكثر، ولكن الغرض هو كتابة سطور للولوج في موضوع الملا آقا الدربندي، فنكتفي بهذا المقدار.

على العكس من التصور الموجود في المحافل الإعلامية الدينية بإيران خلال العقود الأخيرة عن الملا آقا الدربندي والناجم على الأغلب عن الموضوعات التي نقلها بشأنه الميرزا حسين النوري في اللؤلؤ والمرجان ثم نقلها عنه الشيخ المطهري، فإن هذا الرجل من الشخصيات البارزة، وكان مقتدرًا في تأسيس مباني فكرية حديثة في القرن الثالث عشر وفي مقدمة ذلك أنه نهض بدوره منتهلا من بحر الإمام الحسين وعاشوراء. الواضح إننا لسنا بصدد الحكم بصحة أفكاره أو سقمها، وإنما نبحث في الأغلب في مستوى تأثيره في الرأي العام الشيعي في إطار عالم مختلف، يحمل رسالة نبوية ليحول عاشوراء إلى مشروع عظيم ومختلف.

حري بالانتباه أن الأفكار الشيعية الحديثة التي ظهرت في القرن الثالث عشر منوطة بقدرتها على أن تكون مصدر تغيير فكري، بل حتى سياسي في المجتمع الإيراني الذي كان يدور في فلك أفكاره الموروثة، وما وقف بوجه ذلك ومنع من حدوثه حتى جرَّ البابوية والبهائية نحو مسار آخر، هو ظهور تجديد قد سد الطريق أمام تسلل تلك الأفكار، بل حتى أن أفكارًا كالبابية والبهائية، وهي أفكار ناشئة وتحمل نتاجات القرن الثالث عشر، من قبيل نظريات الأحسائي، والميرزا محمد الأخباري والسيد كاظم الرشتي قد ساقها مرغمة إلى أن تتغير من صورتها التقليدية إلى التجدد، في حين أن الكثير من هؤلاء الأشخاص والتيارات التي صنعتهم قد خرجوا هم ومؤلفاتهم عن فلك الفكر في إيران في صراعهم مع الحداثة التي شهدها العصر القاجاري الأخير، ومن بعده العهد البهلولي، وإن كان لا يمكن القول: إن هذه الأفكار قد زالت من الوجود ولم يعد لها مقومات الحياة بين أوساط العامة من الناس.

الأمر المهم هنا هو أن مزية الكثير من الأفكار التي صنعت هذه التيارات في القرن الثالث عشر خاصة، هي التأكيد على أهمية الولاية، وعلى نافذة عاشوراء وواقعة كربلاء كما في مورد الملا آقا الدربندي الذي يتحدث عنه هذا الكتاب.

إن أهمية هذه القضية للمجتمع الإيراني، الذي تم العمل على أفكاره الشيعية منذ بداية العصر الصفوي، وأصبحت دائرة نفوذ عاشوراء والمحرم معروفة أكثر فأكثر، هي في محورية الولاية وعاشوراء والتأليف بشأنها، وكان أمراً طبيعياً في المجتمع الإيراني الذي ابتعد عن سائر بقاع العالم الإسلامي خلال قرنين أو ثلاثة. كان المهم أن الشخصيات التي تلج هذه الموضوعات، وتبادر لتأليف الكتب، تكون قادرة على استخراج فلسفة من أعماقها، وتخلق نظريات حديثة تمتاز بالجاذبية والسليقة والتي تلائم المشاعر الدينية للمجتمع.

كانت تشاهد في تلك البرهة كتابة شروح متعددة على زيارة الجامعة، وكذلك التطرق المسهب لموضوعات تتعلق بعاشوراء على وفق توجهات جديدة تحت عنوان (الأسرار) وغير ذلك، وقد سبق أن أوضحت في بحث آخر، الأفكار المغالية التي ظهرت في تبريز في القرن الثالث عشر، وبعض التيارات الفكرية، أما هذا الكتاب فسينحصر بالملا آقا الدربندي.

الملا آقا من العلوم الدينية التقليدية إلى تدوين المقتل

إن الدربندي قد تحدث في طيات كتاباته عن نفسه وعلاقاته الفكرية، وفضلا عن ذلك، قام بصراحة ببيان آرائه التي من الممكن على أساسها تحديد خطه الفكري. بعبارة أخرى: إن من أنفس المصادر بشأنه هي مؤلفاته التي ينبغي أ أن تحظى بالتأمل والعناية.

قد تقدمت الإشارة، أنه أورد في مقدمة (سعادات ناصرى) نكانا في هذا الصدد، ومنها إنه أوضح علة اهتمامه بروايات عاشوراء، وكتب مؤلفات بهذا المجال. فنحن تعلم أنه كان شديد الميل للفقه والأصول حتى أنه انشغل بهذه العلوم خلال مدة إقامته في طهران، لكنه ركز على قضايا عاشوراء أكثر من غيرها خلال العقدين الأخيرين من حياته، وإن الرجوع إلى مؤلفاته يؤكد أن عددًا منها كان في العلوم الحوزوية المتداولة مثل الفقه والأصول والرجال والدراية، لكن شهرته كانت بالمؤلفات التي كتبها عن الإمام الحسين (ع)، ومن بين ذلك مؤلفاته الثلاثة إكسير العبادات، وسعادات ناصری وجواهر الإيقان، التي ألفها بهذا الشأن خاصة.

لقد ذكر في مقدمة (سعادات ناصرى) التغيير الذي حصل في مساره من تأليف الكتب الحوزوية إلى تأليف الكتب عن الإمام الحسين(ع)، ويقول: إنه لما بلغ المراتب العلمية، بدأ بتأليف الكتب، ولكن بعد مدة تأمل بأنه لو كانت الكتابة عن الإمام الحسين(ع) بدلا من هذه الأعمال العلمية، لكانت أفضل بكثير من هنا فقد قام بتغيير مسيره بهذا الاتجاه، وكتب كتاب (إكسير العبادات في أسرار الشهادات). وذكر في مواضع متعددة من هذا الكتاب أوضاعه العاطفية في التوجه نحو هذه الموضوعات. ونحن نعلم أن الآخرين تحدثوا كثيرًا عن أحاسيسه العاشورائية، وكتبوا عن حالات الحرقة والذوبان التي كان يبديها خلال إدلائه بالمضامين.

كتب الملا آقا في مقدمة (سعادات ناصرى) وهي ترجمة له من كتاب إكسير العبادات: إن هذا الأحقر خادم العلوم، آقا بن عابد بن رمضان بن الزاهد الشيرواني الدربندي منذ أوائل نشأته وترعرعه وصغر سنه في السادسة أو السابعة ما وجدت نفسي إلا في موقع الدرس والتدريس، والتعلم والتعليم، ولم يصدر مني تقصير في خدمة الأساتيذ الكرام، والأساطين الفخام، ومن بعد ذلك كرست ما يناهز ثلاثين سنة من حياتي في المؤلفات ومنها الكثير من المصنفات التي جاءت في العلوم والفنون الحقة من معقول ومنقول مثل (خزائن الأحكام في شرح الدرة النجفية) في الفقه، و(خزائن الأصول) في الأصول، والفن الأعلى في العقائد، و(فن ثمر البينات وقواميس الصناعة) في فنون الأخبار والرجال، وغير ذلك من الكتب المطولة والمختصرة بما يخمن مجموعها بثلاثمئة ألف بيت، ومن ثم انتبهت إلى أمر حساس وهو أن ركوب الصعاب، وتحمل المتاعب والمشقات خلال هذه المدة الطويلة، وإن لم يكن دون ثواب ولكن ليتني كرست نصف هذه المدة لعمل هو أعظم أجرًا، وأكثر ثوابا، ومنزها في نفسه من الشوائب والمعايب والأهواء النفسية، ألا وهو تأليف كتاب جامع في معرفة الأسرار وغوامض الأخبار، والآثار الدالة على فواضل وفضائل ومناقب آل الله تعالى، وأهل بيت رسول الله، ولاسيما كتاباً يكون شارحًا لأسرار، وكاشفًا لوجوه شهادة خليفة الله سيد الشهداء (ع)، ويكون مبينا وموضحًا الجميع المتعلقة بهذه الشؤون أيضًا، لأن معرفة أسرار فواضل سيد الشهداء(ع) وفضائله ومناقبه، ومعرفة الأسرار الغامضة والخواص الدقيقة للندبة والبكاء على ذلك المظلوم، وكذلك معرفة الأسرار والحكمة في زيارة قبره الشريف بمنزلة الميزان الأقوم.
فألهمتُ بالعزيمة على تأليف كتاب (إكسير العبادات في أسرار الشهادات)، وما أكد وسدد هذا الإلهام الغيبي بما فيه من وارد وشارد لا تعتريه الريبة، الرؤيا الصادقة، ولقد ذكرت تفاصيل هذه الرؤيا الصادقة في بداية كتاب (إكسير العبادات في أسرار الشهادات).

كتب ملا آقا في موضع: والله العظيم لقد كانت تحصل موارد وحالات غريبة فيما سلف من أوقات حين تدوين هذه الموضوعات، وفي المقام بالذات، أي: في كتاب إكسير العبادات في أسرار الشهادات، إذ تعتريني حالة من الأسى والحزن بنحو لم تعد لدى القدرة والتحمل، ويسقط القلم من يدي في أكثر الأحيان، ولم يعد بإمكاني كتابة أي شيء، وأصبح مبهوتا ومتحيرًا ومضطربًا، بل لم أعد أشعر في داخلي بوازع الرحمة … وربما استولت على الأوهام فأتصور أن أصابعي ستحترق مع قلمي إن أنا دونت المضامين في تلك الأثناء». (سعادات ناصری، ص۹۱).

وفي موضع آخر: «وأنا اكتب هذا المقال الآن فإن النار تستعر في جوانحي من قلب و كبد و دماغ وغيرها من الجوانح واويلاه وامصیبتاه هاي هاي آه آه ليت قلمي وأناملي تحترق كما يحترق فؤادي (سعادات، ص ۱۰۰ ) . هذا ما سطره حين كتابته عن شهادة الإمام الحسين علام و هي أصعب اللحظات يوم عاشوراء.

وفي موضع آخر كتب عن حالاته النفسية هذه لدى كتابة روايات شهادة الإمام الحسين للام والهجوم على خيام الحرم فيقول : لا يخفى على المؤمنين المخلصين أنني حين الكتابة عن كيفية استشهاد سيد الشهداء(ع)، والله العظيم، وبالله الكريم فإنها من الصعوبة علي وكأن قواي وقدراتي تُنتزَعُ عني كليًا، وأشاهد العجائب والخوارق من أوضاعي، كما أشرت لذلك في حينه. وإن الكتابة عن الوقائع والأحداث بهذا الشأن في غاية الصعوبة والشدة عليَّ، ولقد مضى عليَّ اثنا عشر يوما وأنا أحاول المباشرة بالكتابة عن أحداث هذا الأمر، لكنني كلما أضع الكتاب أمامي وأفتحه، تعرض لي حالات أدناها الشعور وكأن الآلاف من العقارب والحيات تريد لدغي، فأغلق الكتاب وأنحيه جانبا، وفي تلك الليلة، وكانت ليلة جمعة عرضت لي حالات تعجبتُ لها كثيرا… ففي ليلة الجمعة أردتُ البدء ولكن استولى على الاضطراب والحيرة، واقشعر بدني، وغلبته الرجفة، ولم استطع الكتابة، وكأن القدرة والقوة قد سلبت مني كليا» (سعادات ناصری،ص۱۳۸-۱۳۹).

فهرس المحتويات 

تحميل الكتاب

الملا_آقا_الدربنديّ_وتدوين_المقتل_رسول_جعفريان

 

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky