هذا التقدم التكنولوجي والتطور المجتمعي في العالم أجمع أنتج جملة من التعقيدات في المجال الفقهي؛ إذ وضع العقل الفقهي المسلم أمام تحدٍّ حقيقي لمواكبة هذه المستجدات المعاصرة، وذلك في عدد من القضايا خاصة مسألة العقود الجديدة التي ظهرت والتي تختلف بشكل كبير عن العقود الموروثة في الفقه الإسلامي. فنحن أمام تطور يقتضي أن نكون على قدر التحديات التي تواجهنا. د. شوقى علام مفتى مصر
الاجتهاد: أكد الدكتور شوقي علام – مفتي مصر – أن الدعوة الإسلامية ومواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا التي أصبحت تجتاح العالم تحتاج لعقول مدركة لكيفية توصيل رسالة الإسلام السمحة على الوجه الصحيح ومراعاة خصوصية هذه المجتمعات.
وأوضح فضيلته – في حلقة الأسبوع من برنامج “من ماسبيرو” الذي يذاع على القناة المصرية الأولى – أن المسلمين الأوائل أدركوا هذه المسألة، فكان النسق الإسلامي مستوعبًا لكل الحضارات الأخرى.
وأشار إلى أن من يقرأ مسيرة المسلمين الأوائل يجد أن الإسلام وصل إلى الآخرين عن طريق التفاعل والتواصل، وليس عن طريق الصراع والصدام مع تلك الحضارات، ولذلك نرى أن هناك تماسًا وتشاركًا بين ما عند المسلمين وما عند غيرهم من الحضارات، ظهر ذلك عندما فتح المسلمون الأوائل البلاد المختلفة فلم يقفوا موقف الرافض لأفكار تلك البلدان والحضارات ونظامها آنذاك، بل تفاعلوا معه وأفرزوا نسقًا متوازنًا.
وأضاف، أنه رغم تعقد البيئة قديمًا وصعوبة التواصل، فإن المسلمين كانوا حريصين على أن ينفتحوا على العالم بأسره، ولم يكن القصد أبدًا الصدام ولكن إيصال رسالة الإسلام بأسلوب ينبئ عن حقيقة الإسلام وأنه جاء لصالح البشرية جمعاء.
ولفت مفتي الجمهورية إلى أنه فى العصور الزاهرة للمسلمين كان هناك الْتقاء كبير للحضارات في كافة المجالات خاصة العلمية، ونجد ذلك واضحًا في تاريخ الدولة العباسية؛ حيث حدثت طفرة كبيرة في ترجمة العلوم المختلفة مما يدل على التواصل الفكري بين المسلمين وغيرهم من الحضارات، بل كان الكِتاب المترجَم يُثمَّن بوزنه ذهبًا؛ مما يدل على عناية المسلمين بالانفتاح على الآخرين والعلوم الأخرى، وإيجاد قنوات رئيسية للتواصل مع الجميع ليس في العلوم فحسب بل في كافة المجالات.
وأوضح، أن دولة الأندلس كذلك شهدت تأثيرًا كبيرًا للمسلمين في الحضارة الغربية خاصة في المجال التشريعي والقانوني، وتمثل ذلك في تأثير المذهب المالكي في القانون الفرنسي، الذي جاء إلينا مرة أخرى خاصة القانون المدني على وجه الخصوص، ويظهر التشابه الكبير بينه وبين الفقه المالكي، وهذا يدل على أن العالم قبل هذه الثورة التكنولوجية الهائلة كان يتواصل ويتبادل النفع فيما بينه.
وأكد مفتي الجمهورية أن التواصل الآن مع الدول والحضارات الأخرى أصبح فريضة دعوية، خاصة في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة التي قرَّبت المسافات وعددت من طرق التواصل ونوَّعتها، وهو ما يمثل تحديًا أمام المسلمين في إظهار الوجه الحقيقي للإسلام.
وأضاف علام أن هذا التقدم التكنولوجي والتطور المجتمعي في العالم أجمع أنتج جملة من التعقيدات في المجال الفقهي؛ إذ وضع العقل الفقهي المسلم أمام تحدٍّ حقيقي لمواكبة هذه المستجدات المعاصرة، وذلك في عدد من القضايا خاصة مسألة العقود الجديدة التي ظهرت والتي تختلف بشكل كبير عن العقود الموروثة في الفقه الإسلامي. فنحن أمام تطور يقتضي أن نكون على قدر التحديات التي تواجهنا.
وأشار إلى أننا أمام تطور جديد نتيجة التواصل مع العالم، فلم تعد فكرة تقسيم العالم إلى دار إيمان ودار كفر فكرةً صالحة لزماننا؛ لأنه بالنظر الفقهي القديم نلحظ فيها نوعًا من الارتياب ضد العالم الإسلامي ولم يكن الإسلام قد انتشر بشكل كبير، ولكن الآن نلحظ وجود المسلمين في كل دول العالم.
وأوضح أن الإمام النووي تكلم عن هذا التقسيم واعتبر أن هذا التقسيم كان حيث يوجد الخوف وعدم الأمن لدى المسلمين، ولكن بما أن المسلم صار آمنًا في إقامة شعائره وقد أمنوا على أنفسهم في تلك البلاد، فلم تعد هذه الفكرة الآن محل اعتبار، بل ينبغي ألا تطرح وأن يعاد النظر في الموروث الفكري لهذا التقسيم، بل إن الإمام الرازي رحمه الله أنكر هذا التقسيم وقال إنه الآن أصبح أمة دعوة وأمة إجابة.
وقال فضيلة المفتي: “للأسف الشديد فإن الجماعات المتطرفة لا زالت ترى هذا التقسيم الذي يقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وأنها الوحيدة التي على صواب وما عاداها يجب أن يقصى ويفنى، وهم مع ذلك يقتلون حتى المسلمين فأصبحوا في تناقض عقلي”.
وأكد مفتي الجمهورية أن لغة الحوار مع الآخر تقتضي أن يكون هناك تواصل حقيقي بأسلوب حضاري يسعى للسلام الذي هو هدف الإسلام.
وأوضح أن دار الإفتاء أدركت كل هذه التحديات فسعت للتواصل مع دول العالم بعدة وسائل وطرق منها الجولات التي يقوم بها علماء الدار في قارات العالم أجمع لتصحيح صورة الإسلام، وكذلك التواصل مع الجاليات المسلمة وتدريب أئمة مساجد الجاليات المسلمة في الخارج، وإنشاء مرصد للإسلاموفوبيا لتحليل هذه الظاهرة ومحاولة مواجهتها بطريقة فكرية منظمة.
وأضاف أن الدار سعت للاستفادة بشكل كبير من الثورة التكنولوجية الهائلة والفضاء الإلكتروني في التواصل مع العالم، فأنشأت صفحات بلغات مختلفة على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، فضلًا عن الموقع الرسمي لدار الإفتاء الذي يتلقى الفتاوى ويعرض الأحكام الشرعية بوسائل حديثة وبأكثر من 11 لغة.
وأكد أن اللقاء بين المسلمين وغيرهم يعطي تقاربًا وتبادلًا للرؤى ويفسح المجال لإظهار الوجه الحقيقي للإسلام، وهي ضرورة ملحة على كافة المستويات وفي كل المجالات، بل هي خطوة ينبغي أن تستمر ويظهر من خلالها الدور الحضاري للإسلام.