الاجتهاد: لعل من بين البحوث التي لم تحظ بالاهتمام المطلوب والعناية الكافية في التنظير الإسلامي المعاصر، قضايا الفقه السياسي الإسلامي حيث ظلت الكثير من بحوث الفقه السياسي حبيسة النظرة التقليدية والمنهج التبريري، بعيدة عن إعادة القراءة والفهم المتجدد، وهذا أحد الأسباب التي فتحت الطريق للرؤية العلمانية، ولمناهج الفكر الغربي لتتسرب إلى نظامنا المعرفي وإنتاجنا السياسي. بقلم: الشيخ عباس كاشف الغطاء،
ان إدارة أمور المسلمين من أهم الفرائض، فإنها الوسيلة الوحيدة لإجراء العدالة وتنفيذ سائر الفرائض الإسلامية. فالانزواء عنها وإحالة شؤون المسلمين وإدارة أمورهم وبلادهم إلى أصحاب التيارات السياسية والأحزاب ظلم كبير على الإسلام والمسلمين. ما أصاب العراق خير شاهد ودليل.
ففي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم. ([1])
وفي صحيحة زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) قال بني الإسلام على خمس أشياء، على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال زرارة فقلت أي شيء من ذلك أفضل؟ فقال الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن). ([2])
فأوجب الفرائض تعيين الوالي الذي هو مفتاح سائر الفرائض وبيده إجراؤها وتنفيذها. وقد ذكر الفقهاء أمور حسبية لا يرضى الشارع الحكيم بإهمالها وتركها كحفظ أموال القُصَّر والغائبين واليتامى وغير ذلك، فيجب على الفقهاء التصدي لها وهي أمور جزئية، فمن باب أولى ان يقوم بالأمور العامة للمسلمين وأهمها الأمور السياسية والاقتصادية للبلد و غيرهما.
لقد بلغت أهمية الدولة والحكومة في نظر الإسلام حداً جعلت هي السبب الأساسي في إصلاح وإفساد الأمة، حيث قال النبي الأكرم (ص) (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي قيل يا رسول الله ومن هم؟ قال الفقهاء والأمراء). ([3])
ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة يتعين على علماء الاسلام ان يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.
ان شكل الحكومة أيام زمن الغيبة لم تذكر تفاصيلها في الكتاب والسنة فمثلاً من يوضع في رئاسة الدولة، وهل ينتخب من قبل الأمة أو التعيين وهل ينتخب مجلس واحد للتقنين والتنفيذ أو أكثر؟
وهل تأخذ أراء الناس الاعتياديين بعين الاعتبار وتجعل ذات أثر في القوانين؟ وفي أي دائرة من الدوائر تطرح الأمور للمشورة، وهل تعتزم الحكومة بعد المشورة بتتبع أراء المستشارين، والى أي مدى يكون هذا الإتباع؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.
والجواب ان الاسلام لم يحدد نوع الحكومة، ويختلف الأمر باختلاف الزمان والمكان والظروف. وولي الأمر هو الذي يحدد في أي زمان أو مكان الشكل المناسب للبنود والنظم التي تعمل بها الحكومة، وعدم تحديد هذا من قبل الإسلام ليس نقصا للإسلام بل حسنة، وتعبير عن مرونة الإسلام التي تجعله صالحاً لكل زمان ومكان.
ان الفكر الشيعي يهتم في مشروعية السلطة أهم من الدولة، فالمشروعية لازم ان تكون ثابتة فالسلطة تعود إلى المشروعية اما الدولة فتعود إلى الآليات والمؤسسات والوظائف والأحزاب والإعلام. فالفكر الشيعي اهتمامه منصب على المشروعية أكثر مما منصب على الآليات للدولة. لذلك نشأت الإشكالية بين الفقيه والسلطان أي بين الواقع الراهن بتحولاته الاجتماعية و السياسية و الثقافية و غيرها و بين الإطار الفقهي التاريخي لتطور إشكاليات السلطة، فالفقيه رمزاً للتأصيل والأمة رمزاً للتحديث
وبما ان الدولة والسلطة ليست من الثوابت الدينية، فان الاجتهاد الفقهي فيهما لا ينحصر في عملية إطار علم الأصول وحده ولا هما وليد عملية ذهنية مجرّدة، بل ثمة اطر عقدية واجتماعية تمارس تأثيراتها في عملية إنتاجه. نعم هنالك تمييز بين المحددات والمؤثرات في استنباط الأحكام، إذ ان مرجعية الفقيه الأساسية تبقى النصوص الدينية فهي تؤدي دور المحددات، اما الأطر المعرفية والواقعية للفقيه فتؤدي دور المؤثرات في طبيعة الاستنباط الفقهي وتجديد وجهته.
ولابد من التنويه عن حقيقة تاريخية هي ان الحاكمية الفعلية غالباً في يد مدرسة الخلفاء بينما كان أتباع مدرسة أهل البيت (ع) معارضة للسلطة، وهذا الأمر كان طوال فترة الحكم الأموي ثم العباسي ثم العثماني وقد انعكس ذلك على دائرة الاهتمام الاجتهادي الفقهي عند الفقهاء الشيعة الذين صبوا جل اهتمامهم على الفقه الفردي بعيداً عن البحث والاهتمام بنفس المستوى بالفقه الجماعي الذي لم يكن مورد ابتلاء لهم، فبقيت الأبحاث الفقهية والاجتهادية في الدائرة الفردية غالبة على أبحاثهم في الدائرة الاجتماعية.
ان فقهاء مدرسة أهل البيت (ع) لما كانوا يمثلون جبهة المعارضة للحكومات الجائرة، فانهم كانوا بسبب ذلك يعانون اشد أنواع الاضطهاد والملاحقة فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة ان يتحدثوا عن صيغة الحكومة الإسلامية أو يتفرغوا للكتابة عنها وتوضيح ملامحها ورسم خطوطها ويؤلفوا فيها كما ألفوا في أبواب الفقه الأخرى.
واما كتابات مدرسة الخلفاء في مجال الحكومة الإسلامية، فان كتاباتهم لم تشرح إلا الحكومات السائدة حينذاك في مجتمعاتهم الإسلامية من دون ان ترفع النقاب عن وجه الحكومة الإسلامية الواقعية، كما تحدث بها القران الكريم والسنة المطهرة ودل عليها العقل السليم.
ان نظام الحكم الإسلامي – الخلافة -رغم ارتكازه نظرياً من حيث المبدأ على قواعد الشريعة الإسلامية، وإلا انه قد اعتراه على مدى فترات طويلة العديد من مظاهر الاختلال في الشرعية من حيث الجوانب البنوية والأدائية، قياساً على نسق الإسلامي الشرعي المفترض في مجال الحكم، مما يشير بصورة ما إلى وجود أزمة في شرعية النظام.
ان المسألة الأولى التي تطرح أمام الباحثين وهي الأهم من مسائل الفقه السياسي – أيا كان اتجاهه وميله هي للبحث الموضوعي في موقف الإسلام من الحكم والدولة – فهل الإسلام في ذاته وفي أصل تعاليمه ومتطلباته يقضي من المؤمنين به إقامة دولة إسلامية.
والملحوظ ان الفقه السياسي لمدرسة أتباع أهل البيت (ع) مرَّ بعدة مراحل ابتداء بمرحلة النص والتعيين ثم التمهيد للسفراء ثم الرجوع إلى الفقهاء ثم الشورى ثم الانتخاب وبعبارة أخرى ان تطور الشرعية للحكم الإسلامي في مدرسة أتباع أهل البيت (ع) من المبلغ من الله الرسول الأعظم ثم النص من المبلّغ على الأئمة المعصومين (ع) ثم إرجاع الأئمة المعصومين إلى الفقهاء العادلين المجتهدين أي لطبقة معينة من الشعب بمواصفات معينة، ثم بعد ما أصبح الناس فی وقتنا الحاضر قادرون علی تحمل المسؤولية أصبحت الشرعية بيدهم.
في هذه المرحلة تطرح على الأحزاب والحركات الإسلامية سؤالين سواء كانت الحركات والأحزاب والتيارات تدعو لدولة الأمة أو الدولة القطرية أو الوطنية أو القومية.
السؤال الأول: يتعلق بصيغة الحكم الإسلامي في العصر الحاضر.
السؤال الثاني: يتعلق بمصدر الشرعية للحاكم الإسلامي.
ولا بد لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) ومدرسة الخلفاء ان يجيبا عن السؤالين معا ليمكن القول بإمكانية تطبيق مشروع سياسي إسلامي في العصر الحاضر على مستوى تكوين دولة إسلامية، ومن دون ذلك يستحيل من الناحية النظرية وضع مشروع من هذا القبيل، وفي هذه الحالة فان المشروع يكون مستحيل من الناحية العملية أيضاً، وقصارى ما تسفر عنه حينئذ هذه الحركة الإسلامية أو تلك، سيكون مشروعاً سلطويا على صيغة الدولة الحديثة الغربية يحمل اسم الإسلام.
لقد مرت هذا الدراسة بمراحل عدة اكتنفها الكثير من المعاناة الفكرية والبحثية للوصول إلى حلول العديد من المشكلات البحثية، ومن تلك المشكلات التعامل مع الفقه السياسي والكتابات التراثية، والتمييز بين ما يدخل منها في المعايير الشرعية وما يعبر عن الظروف التاريخية للعصر الذي عاش فيه الفقيه والكاتب.
كما هنالك مشكلات استخدام المنهجيات الغربية للتحليل وتطويعها لفهم ظاهرة إسلامية خاصة عبر الوعي بالإنحيازات الأيديولوجية المسبقة التي قامت عليها.
هنا علينا ان نحدد ضوابط معينة منها دعوتنا في الوقت الحاضر إلى بناء حكم فقهي سياسي قطري ونترك الدعوة إلى فقه سياسي أممي فان الأمة الإسلامية غير مهيأة الآن للمسلمين.
ثم هنالك مشكلات قراءة مصادر التاريخ الإسلامي ومقاومة عناصر الاستهواء والاستيعاب الكامنة في القراءات المختلفة قديمة ومعاصرة. والبحث يتناول نقطة مهمة ما يصلح من الحكومة للعراق الجريح،
ان فهم الإسلام من خلال فهم النظريات والنظم الأجنبية ومن خلال تطبيقاتها ومفاهيمها ومصطلحاتها، ومحاولة التوفيق بين هذه النظم وأساليبها ونظام الإسلام بطريقة تلفيقية لا تعتمد على الأصالة والذاتية ولا على التحديد التاريخي من مشكلات البحث.
لقد أغفلت بعض البحوث المعاصرة في الفقه السياسي أهم عنصرين هامين لهما أكبر الأثر في تشخيص أساس الحكم وشكله وهما السعادة في الحياة الأخرى وتحقيق رضا الله تعالى. لهذا بات من الضروري الالتفات إلى المشروع السياسي الإسلامي قراءةً وفهماً وتحليل وإعادة بناء، وليس عيبا ان تعدد الاجتهادات وان تختلف الآراء وتتنوع المداخل والمقاربات، فكل ذلك قابل، ولا شك بان يكون زاداً لإثراء هذا الفكر، وشاهد على استعادة الأمة لفاعليتها وتجديد نهضتها.
الهوامش:
[1] – كتاب سليم بن قيس /182.
[2]- الكافي / الكليني / 2/18، كتاب الإيمان والكفر باب دعائم الإسلام، الحديث 5.
3- حلیة الاولیا / ابونعیم الاصبهانی ( ت430 ه ) /
لتحميل المقالة أضغط على الصورة
الحجم 1.13 MB