الشيخ البناي.. دور فاعل وتربية فاضلة وعلوّ في الهمّة / حسين منصور الشيخ

الاجتهاد: فجعنا أمس الأحد، 22 شوال 1446ﻫ: 20 أبريل 2025م، بنبأ رحيل أستاذنا سماحة الشيخ محمد عيسى البناي أبي جعفر، رحمه الله بواسع رحمته.

فقد كان نبأً صادمًا ومفجعًا، وبخاصّة أننا كنّا في اليوم السابق نتداول مع الأصدقاء رسائل خبر إجرائه لعملية القلب المفتوح مشفوعة بالدعاء له بالسلامة والشفاء، على ترقّب لزيارته لاحقًا مع بعض الإخوة. وإذا بنا نصدم صباح الأحد بهذا الخبر الأليم جرّاء عملية كان من المتوقّع نجاحها بنسبة 95%، حسبما علمتُ لاحقًا.

إنه رحيل مؤلم جدًّا لأهل بلدته والمنطقة عمومًا، ولمجموعة طيبة ممّن تشرّفوا بالتلمذة على يديه منذ بدايات تعرّفهم على الحالة الدينية في البلدة، على نحوٍ خاصّ، إذ لا يزال معظم أفرادها على تواصل دائم معه وفيما بينهم، تجمعهم المحبّة والتقدير لأستاذهم الذي عرفوه مربيًا فاضلًا وموجّهًا مخلصًا ترك بصماته على شخصياتهم وأثرى معارفهم في تلكم المرحلة العمرية الطريّة الوادعة من حياتهم، فكان لتلك اللمسات الحنونة والتوجيهات الهادية والدروس التأسيسية أثرها الفاعل والمحفورة في النفس، رغم طول المدّة وبُعْد الفترة، فكم يعتزّ كلٌّ منهم بتلك التلمذة ويفخر بتلك العلاقة الفريدة في نوعها وطبيعتها، النادرة في صورتها، وبخاصّة في هذا الزمان.

البدايات الأولى.. البيئة والفاعلية:
وإطلالًا على مفاصل هذه التجربة الخاصّة بين سماحة الشيخ الراحل وبين هذه المجموعة، أجد من المناسب التقديم لذلك بالحديث عن بعض جوانب البيئة الراعية لهذه العلاقة، وذلك كالتالي:

تعدّ القديح إحدى بلدات القطيف التي انتشر فيها تلقي الشأن الديني، كما بقية البلدات المجاورة، انطلاقًا من مشارب عدّة:

1. يتقدّمها الحضور المسجدي، إذ يواظب أبناؤها على صلاة الجماعة، بما يرافق ذلك من طرح للمسائل الشرعية، إمّا انطلاقًا من المصلين أنفسهم، حيث يبادرون إمام الجماعة بعد انتهاء الصلاة ببعض المسائل التي يحتاجون فيها إلى معرفة الحكم الشرعي الموافق لفتاوى الفقيه الذي يرجعون إليه في التقليد. وإما انطلاقًا مما يلتزمه إمام الجماعة، وخصوصًا بعد صلاة العشاءين، بشرح للمسائل الشرعية، ما يستدعي تساؤلات جديدة من المصلين حول ما ذكره أو غيره من المسائل. فهذا مَشْرَب من مشارِب تلقّي هذه العلوم والمعارف الدينية.

2. ولا تقل الحسينيات دورًا عن المسجد، إذ تتنوع المحاضرات التي تلقى فيها في المناسبات الدينية انطلاقًا من طرح المسائل الشرعية أو القضايا التاريخية أو العقائدية، وهي تمثّل رافدًا مهمًّا من الروافد الثقافية والدينية في المنطقة في حينها، ولا تزال تمارس الدور والعطاء ذاتهما.

3. وتتعاضد معهما «المسجد والحسينية»: الحلقات الدراسية فيهما. فقد وعيتُ وأنا في المرحلة المتوسطة على حضور هذه الروافد بصورة واسعة، وتدرّجت في الاتصال بها وببقية الروافد الأخرى بصورة تتابعية.

فأوّل صلتي كانت بمسجد العبّاس الذي كان ولا يزال بإمامة ابن عمّي سماحة الشيخ عبد العظيم الشيخ، الذي كنتُ أواظب على حضور الجماعة فيه، وما يرافق ذلك كل ليلة من حديث فقهي أو عقائدي أو تفسيري بعد صلاة العشاءين.

إذ بدأتُ في الانتظام فيه عام 1408ﻫ عندما كنت لا أزال في الصفّ السادس الابتدائي، لقربه من منزلنا القابع في أقصى غرب البلدة في حينها، قريبًا من عين الجميمة. وبعد انتظام دام لقرابة العام، عرفني مجموعة من الملازمين للمسجد، كان من بينهم ابن خالي السيد أحمد السيد علي الخضراوي «والده السيد علي «المعلم» خال جدّتي من أمي». حيث تنبّه لاهتمامي بحضور البحث بعد العشاءين بصورة منتظمة، وقد دفعه هذا إلى أن يقترح عليّ حضور الحلقة الدراسية التي تقام في مسجد السدرة عصر كلّ يوم. وكنت حينها قد انتقلت للتوّ إلى المرحلة المتوسّطة، وذلك عام 1409ﻫ.

أخذت بنصيحته، وتوجّهت في اليوم التالي إلى مسجد السدرة، وأنا لا أعرف أحدًا هناك. دخلتُ المسجد، وإذا بي أجد حلقات ثلاثًا، يتعلّم أفرادها أداء الصلاة اليومية، وكان ممّن يتناوبون على تعليمهم: سماحة السيد صالح الخضراوي، وسماحة السيد حسن الخضراوي «اللذان لم يتوجّها بعدُ حينها لطلب العلم»، ومعهما محمد العنكي وأحمد صالح الجنبي والسيد محمود الخضراوي «أخو السيد حسن»، وناصر العوامي، وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم.

ولم يكن من الطبيعي أن ألتحقمع هذه الحلقات، لذلك وجهني أحدهم للصعود إلى الطابق الأعلى.

صعدتُ إلى الأعلى، وإذا بالمسجد ينشطر شطرين، يمينًا ويسارًا، في كل جانب منهما فرقة «حلقة» دراسية، ينتظر بعض أفرادها المبكّرين في الحضور قدوم أستاذهم. أخذتُ أطالع في الوجوه، وإذا بي أجد زميلي في الصفّ الأول المتوسّط: ميثم أحمد علي البشراوي أول الواصلين في الفرقة اليمنى من المسجد. توجّهتُ إليه، وأبلغته برغبتي في الالتحاق بالحلَقَة، فرحّب بي، وأبلغني بأن الأستاذ على وشك الوصول، فهو دقيق في مواعيده ومن النادر أن يتغيّب أو يتأخّر.

وما هي إلّا لحظات، وإذا بأستاذ الحلَقَة محمد عيسى البنّاي يُقْبِل. وأخذ الزملاء بالحضور الواحد تلو الآخر، إلى أن اكتملت الحلقة، والتي كانت تضمّ ما يقرب من 20 طالبًا يزيدون أو ينقصون، ويتفاوتون في الأعمار، فبعضهم في المرحلة الابتدائية «ربمّا في الخامس أو السادس» والبقية في المرحلة المتوسّطة. وقد تنبّه منذ قدومه إلى قادم جديد، بدأ بأن تعرّف إليّ وأبلغته بأني زميل ميثم في المدرسة، فرحّب بي طالبًا جديدًا في الحلقة.

أخذ أستاذنا أبو جعفر باستكمال ما كان بدأه من أيام، حيث كان شرحًا للمسائل الفقهية التي تتناسب مع أعمار الطلبة الموجودين، وكان أكثرها من كتيب «الأحكام الشرعية» المطابقة لفتاوى السيد الخوئي «ره» «ت 1413ﻫ»، وبعد الانتهاء من الأحكام الفقهية، ينتقل للحديث عن أحد الموضوعات الدينية المتفرّقة: بين التفسير والأخلاق والسيرة.

وكان يقابل هذه الحلقة في الجهة اليسرى حلقة يدرسها الأستاذ سعيد عبد الكريم العبيدان «الخطيب الحسيني حاليًّا».

الرِّفقة المصاحبة للدرس:
كان الدرس في جميع حلقات المسجد يبدأ وينتهي في وقت محدّد، وفي أحيان كثيرة ينتهي قريبًا من وقت أذان المغرب، لذا كان من المعتاد أن يبقى مجموعة من الطلاب يتحدّثون مع الأستاذ بعد الدرس، ثمّ يرافقونه إلى المسجد للصلاة جماعة، فليس من المناسب أن نتوجّه لمنازلنا في وقت نقترب فيه من أداء الصلاة، لذا يأخذ كلٌّ منّا في الأحاديث الجانبية في المسجد قليلًا، وفي الطريق إلى المسجد الذي نؤدي فيه الصلاة جماعةً، إذ كنّا ملتزمين تقريبًا بأدائها في مسجد آخر، هو مسجد الإمام علي .

وهو الوضع الذي صنع أجواءً من الألفة والصداقة بين الجميع تتجاوز الجانب العلمي والمعرفي، وبخاصّة أن مجموعة جيّدة من هؤلاء كانوا رفقة في المدرسة، إما في صفّ واحد أو في المدرسة ذاتها. ولأنّي كنتُ في مدرسة محمد بن مسلمة المتوسّطة التي كانت في ذات المبنى مع مدرسة القديح الثانوية، فكانت فرصة لأن نلتقي بزملائنا في المسجد، وكذلك ببعض الأساتذة أو القائمين على شؤون التعليم بالمسجد، إذ كنّا نلتقي بالأستاذين محمد البناي وسعيد العبيدان ومعهما السيد عقيل الخضراوي، الصديق الأقرب لأبي جعفر، وأحد أبرز القائمين على شؤون التعليم في المسجد.

وفي تلك الفترة، رجع إلى البلدة سماحة الشيخ عبّاس العنكي، قادمًا من مدينة قم المقدّسة، وبدأ في الصلاة في مسجد الإمام علي ، وكان، كما بقية طلبة العلوم الدينية، ملتزمًا بإلقاء الدروس الليلية بعد صلاة العشاءين، ولكنه لم يلتزم بشرح المسائل الشرعية فقط، وإنما وضع جدولًا متنوّعًا، بحيث خصّص كل ليلة لأحد الفروع العلمية، فليلتان أو ثلاث «الترديد منّي» للمسائل الشرعية، وليلة للتفسير، وليلة للبحث العقائدي، وهكذا. وقد كان تتناوله لهذه الموضوعات بأسلوب جديد غير تقليدي بسيط في طرحه قريب من أفهامنا، ممّا دفع الإخوة في مسجد السدرة إلى أن يواظبوا بصورة ليلية على حضور الجماعة في مسجد الإمام علي طمعًا في الاستماع للبحث الذي يلقى عقب صلاة العشاءين من قبل الشيخ العنكي.

وفي الوقت الذي يسبق وقت الصلاة بقليل، كنّا في أحيانٍ كثيرة نلتزم بحضور مجلس الملا حسن المقيلي «ره» «ت 1413ﻫ» الذي كان قريبًا جدًّا لمسجد الإمام علي ، وكنّا نحضر ما يدور فيه من موضوعات اجتماعية ومِلَح بين حضوره، وما يذكر من بعض المسائل الشرعية أو الأدبية.

تعمّق العلاقة:
كان الانتظام في الحلقة الدراسية مدخلًا لعلاقات أعمق أخذت تتشكّل بأنواع مختلفة وبصور عديدة، إذ كان التوجّه إلى المسجد عصرًا يمتدّ إلى ما بعد المغرب بصورة يومية، ويضاف إلى ذلك لقاءات يقترحها علينا الأساتذة لبعض المجالس العلمائية، ومعها حضور المجالس الحسينية، لبعض الخطباء خارج البلدة، حيث كان أبرزهم في حينها: منبر سماحة العلَّامة السيد منير الخبّاز، وبعض الدروس العامّة التي كان يلقيها في البلدة الشيخ عبّاس العنكي في حسينية الخاطر، إذ كان يلقي دروسًا من تفسير البيان للسيد الخوئي «ره»، وكذلك ما كان يلقيه السيد منير الخبّاز من دروس عامّة، من قبيل: شرح دعاء الصباح في شهر رمضان بمسجد الإمام علي في القطيف. وقبل ذلك: انتظم أكثرنا بحضور دعاء كميل الذي كان يؤديه بصوت خاشع مجموعة من الأساتذة، على رأسهم صالح الفرج «الشيخ حاليًّا» والأستاذ سعيد الخويلدي، أبو مهدي «ره» وغيرهما، وهو حضور لا يُكتَفى فيه بقراءة الدعاء، وإنما تتخلّله بعض البرامج الثقافية والتعوّد على إلقاء بعض الموضوعات الدينية من قبل أكثر الحضور، وبخاصّة ما يرتبط بالجانب الروحي وثقافة الدعاء والمناجاة في مدرسة أهل البيت . ويضاف إلى ذلك جلسة أسبوعية كانت تعقد في منزل والدة الشيخ محمد البناي «منزل أبي علي آل عبد الحي» القريب جدًّا من منزله، وهي جلسة من المهم إفراد حديث خاصّ حولها، أذكره أدناه.

الدور المحوري للشيخ البناي «ره»:
شكّلت هذه اللقاءات المتنوّعة والمتقاربة، التي أعقبت التزام الدراسة المسجدية، عنصرًا مهمًّا في بناء شخصيّاتنا وطبيعة العلاقات فيما بيننا، وكان لسماحة الشيخ محمد البناي دور مهمّ في صياغتها وبنائها البناء المتين والقويم. ويمكن بيان ذلك انطلاقًا من عدّة جهات، يمكن بيانها انطلاقًا من العناوين التالية:

1» القدوة الصالحة:
لم يكن سماحة الشيخ البناي يعمل بصورة منفردة، وإنما كان عنصرًا فاعلًا مع مجموعة طيّبة متقاربة في العمر، تعمل بإخلاص من أجل بناء معرفيّ وديني وأخلاقي واعٍ، وقد توزّعت هذه المجموعة العديد من الأدوار والفاعليات التلقائية فيما بينها، كان هدفها الرئيس العناية بتدريسنا وفق منهجية صحيحة ومتينة، وكان من أبرزهم: المرحوم أبو مهدي سعيد الخويلدي، والسيد محمود الخضراوي وأخوه سماحة السيد حسن، وسماحة السيد صالح الخضراوي، والسيد عقيل الخضراوي «الشخصية الملازمة لأبي جعفر» والأستاذ علي طحنون، والأستاذ محمد علي المطرود. ومعهم مجموعة أخرى لست محيطًا بطبيعة حضورهم بصورة تفصيلية، وذلك لصغر سنّي حينها.

وكانوا يعملون بروح أخويّة تلمس فيها الإخلاص والتفاني والانسجام والتوادّ فيما بينهم. ولذلك كانت هذه المجموعة تمثّل لنا عنصر قدوة نتلمس خطواتها، وتدفعنا إلى أن تتكون بيننا علاقات متحابّة وبأن نكون على الطبيعة ذاتها في العمل والانسجام والتآلف وخدمة الهدف الواحد واستثمار العلاقة فيما من شأنه تطوير الواقع الذي نعيشه وتنمية ذواتنا في الميادين العلمية والمعرفية والروحية، وكذلك التكامل فيما بيننا أخويًّا وعمليًّا. ولذلك تعدّ هذه البيئة كفيلة بالتنشئة المستقيمة والهادية بما فيها من هذه الروح الإيمانية العالية دون حاجة ملحّة للكثير من التوجيهات والإرشادات المتنوعة.

وكان هذا في مجال العلاقات الأخوية التي انتظم أستاذنا البناي ضمنها، أمّا على المستوى الشخصي، فقد كنّا نلمس في أبي جعفر «ره» العديد من عناصر الاقتداء، إذ كان شخصًا منظّمًا إلى حدّ كبير، لديه من الدفاتر المرتّبة ترتيبًا أنيقًا، يظهر من خلالها اهتمامه الشخصي بالتدوين المنظّم والمرتّب. ويضاف إلى ذلك دقّته في المواعيد وانتظامه اليومي في الحضور والتدريس، إذ قلّما يتغيّب أن يتأخر في حضور الدرس اليوميّ. ونجد لديه سعة الاطلاع في الثقافة الدينية، وهو ما يظهر جليًّا فيما يلقيه علينا من دروس يوميّة في المسجد، إذ لم تكن الدراسة في ذلك الوقت تعتمد على مناهج أو مقرّرات محدّدة، وإنما تعتمد على ما يبذله الأستاذ من اطلاع وقراءة، وبعد ذلك من تنظيم جيد لهذه المعلومات وحسن اختيار لها وتقديمها لطلاب حلقته. وهو أمر كان يتطلّب جهدًا وعناية ليستا بالقليلتين.

ولأنّ الأستاذ أبا جعفر كان قريبًا نسبيًّا من أعمارنا، وكان على هذا المستوى من الشخصية المتّزنة والمتطلّعة والمنظّمة وذات الروحية العالية في التعامل معنا، كان عنصر اقتداء لأكثرنا، ولهذا كان موئلًا لمجموعة جيدة منّا في الاستشارة والبوح ببعض المشكلات التي يمرّ بها من كان في أعمارنا في ذلك الوقت. حيث لم يكن يبخل علينا بما يراه الموقف الصحيح والسديد، أو التوجيه المناسب.

2» المربّي الفاضل:
لم تكن المرحلة التي ارتبطنا فيها بالأستاذ أبي جعفر تسمح لأكثرنا باقتناء الكتب أو تعرّفها أصلًا، ولذلك كانت مثل هذه العلاقات معه ومع الأساتذة، من أمثال: المرحوم أبي مهدي سعيد الخويلدي، والأستاذ علي طحنون، النافذة التي تعرّفنا منها إلى العديد من عوالم الكتاب وأبرز المؤلّفين. وكان ذلك قد بدأ مع الحلقات المسجدية، إذ كان بعضهم يأتي إلى المسجد بمجموعة جيدة من الكتيبات الثقافية التي ينثرها أمامنا بعد انتهاء الدرس، ويعرفنا على بعضها، مقترحًا علينا استعارة بعضها.

ولكن البداية الفعلية كانت من اقتراح أبي جعفر «ره» أن نلتزم بالدراسة الحوزوية بالإضافة إلى حضور الحلقة المسجدية، إذ فاتحنا بخصوص الفكرة ونحن في طريقنا من مسجد السدرة متّجهين قبيل أذان المغرب إلى مسجد الإمام علي ، عارضًا علينا دراسة متن الآجرومية بشرح محمد محيي الدين عبد الحميد «ره» المعروف ب «التحفة السنية». وكان ذلك في أخريات سنة 1410ﻫ، وهو ما تحقّق بالفعل، إذ شرعنا في درس هذا المتن النحوي، الذي يمثّل فاتحة دروس الحوزة، فكان الدرس الأول بتاريخ: 25 من شهر ذي الحجة سنة 1410ﻫ، واستمر حتى شهر صفر من العام التالي: 1411ﻫ. وكان الغرض من ذلك إعداد هذه المجموعة إعدادًا علميًّا جيدًا، لتتمكّن من القيام بدورها الفاعل لاحقًا انطلاقًا من قاعدة قويّة وواعية.

وخلال الدروس اليومية، كان الأستاذ البناي كثيرًا ما يرشدنا إلى مجموعة من الشروح للكتاب الذي ندرسه، ويعرفنا على مجموعة من الكتب الثقافية التي من شأنها بناء شخصياتنا المعرفية والثقافية بصورة متوازنة، فكان يعيرنا بين الفينة والأخرى بعض الكتيّبات النافعة، ويعرّفنا إلى مؤلفيها ويستعرض ما يعرفه عنهم. بل كان يصطحبنا معه إلى بعض المكتبات. وممّا أتذكره بهذا الخصوص أن أحد طلبة العلوم الدينية كان يقيم ما يشبه معرض الكتاب الموسمي في القطيف، وكان يقيمه في منزله، ويأتي بآلاف المطبوعات، وبخاصّة الدينية منها، فكان الأستاذ أبو جعفر يصحبنا معه في زيارات متكرّرة إلى ذلك المعرض، وأثناء التجوال فيه يعرفنا على بعض الكتب والمصادر العلمية التي كان يحرص على اقتناء مجموعة منها، وبعد ذلك يحدّثنا عمّا قرأه فيها، وأتذكر بعضًا من تفاصيل ذهابنا مرتين بصحبة الصديق العزيز ورفيق الدرب الأستاذ سعيد المطرود إلى ذلك المعرض المليء بالكتب في جميع جنبات البيت، إذ كان الأستاذ المطرود هو من أقلّنا بسيارته استجابة لرغبة الأستاذ أبي جعفر «ره».

إن تشجيع الطالب نحو الاهتمام بالدرس تحضيرًا ومراجعةً، وبعد ذلك تحفيزه باتجاه تنويع مصادر المعرفة حول هذه العلوم من خلال ما يكتب حولها، من شأنه أن يعمق فهمه لها، ويعوّده على توسيع المدارك حول هذه العلوم، وهذا من شأنه تنمية الملكة العلمية والفكرية لدى الطالب، وبخاصّة عندما يكون ذلك منذ بواكير انتظامه الدراسي.

كما أنه كان يرحّب بتساؤلاتنا البسيطة ويجيب عنها بكل أريحية تدفعنا إلى المزيد من التساؤلات والرغبة في المعرفة. وفي بعض الأحيان نتوجه معه ويسأل بعض طلبة العلوم، الذين يعدّون في مرتبة أساتذته، عمّا طرحناه عليه من تساؤلات أمامنا، ويشير إلى أنه من تساؤلاتنا، ليستحثّ الشيخ الذي يسأله في الإجابة عنها.

3» الاستمرارية في العطاء:
من بين سمات شخصية أستاذنا أبي جعفر: الجدّية والاستمرارية، فبمجرّد أن انتهينا من درسنا الأول: «التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية»، شرعنا في درس آخر، كان هو مَنْ وضَعَ مقرّره الدراسي، إذ كتب ملزمة من تأليفه سمّاها: «عقائدنا»، بسّط لنا فيها أهم المسائل التي تطرق في أصول الدين الخمسة: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد. وكان قد كتبها على الآلة الكاتبة، وصورها لنا على عددنا. ولعلّ ما اضطره لذلك أنّ المقرّرات الخاصّة بعلم الكلام لم تكن في معظمها موجهة في أسلوبها لمن هم في أعمارنا، لذلك فضّل أن ييسّر لنا هذه المفاهيم بلغة يمكننا فهمها واستيعاب ما تحويه من مبادئ وأسس.

إلى أن وصلنا إلى شهر رمضان من ذلك العام 1411ﻫ، فبدأنا معه درسًا جديدًا، وهو: خلاصة المنطق للدكتور عبد الهادي الفضلي «ره» «ت 1434ﻫ»، وما انتهى الشهر الفضيل، حتّى انتهينا من دراسته بالكامل. ولم يكن أيٌّ منّا يعرف الدكتور الفضلي، ولأنه كان من أهم الشخصيات العلمائية الفاعلة في المنطقة حينها، وبالخصوص في شهر رمضان المبارك، أحبّ الأستاذ أبو جعفر أن يربطنا بهذه الشخصية انطلاقًا من كتابه الذي شرعنا في دراسته للتوّ، إذ شوّقنا في إحدى ليالي الشهر الفضيل، بأن سألنا: «ما رأيكم أن تتعرّفوا إلى شخصية المؤلّف لكتاب الخلاصة؟»، فأجبناه برغبتنا في ذلك، فأبلغنا بأن الشيخ الفضلي لديه محاضرة مهمّة في تلك الليلة، وأخذ يحدّثنا عن برامج المحاضرات الدينية التي تقام في أكثر من بلدة في المنطقة، وأنّ من أبرز المحاضرين فيها الدكتور الفضلي، واقترح علينا أن ننتهي من الدرس ونتوجه لحضورها. وهذا ما حدث فعلًا، إذ توجّهنا متشوقين للقاء مؤلّف الكتاب عيانًا، وحضرنا محاضرته في بلدة الجارودية على ما أظن، وكانت حول الإعلام، وربما كانت محاضرته التي بعنوان: «الإعلام وأثره السلبي في المجتمع».

وأخذنا ندرس الكتاب تلو الكتاب، فمن ذلك أنه شرع في تدريسنا الرسالة العملية لمرجع التقليد في حينها، وهو السيد أبو القاسم الخوئي «ره»، وقد وصلنا فيها إلى أحكام الصلاة فقط. وقد كان ذلك في عام 1412ﻫ.

وبعد ذلك بدأنا في دراسة كتاب «شرح قطر الندى وبلّ الصدى» في النحو لابن هشام. وكان في كلّ درس يستحثّنا على أهمية التحضير وبعد ذلك المراجعة، كما أنه كان يجري لنا الاختبارات بصورة مرحلية، سواء في المسجد أو في الدروس الحوزوية ليتعرّف مستويات كلٍّ منّا.

4» حرصه في أداء الأمانة الشرعية:
مع نهاية عام 1412ﻫ، قد أتممت ثلاث سنوات وأنا أدرس في المسجد، وإلى جانبه حضرت العديد من الدروس الخاصّة والعامة، وقد مررت بتجربة جيدة كانت كفيلة بأن ألمّ معها بالعديد من نواحي المعارف الدينية والثقافية، وقد كان ذلك دافعًا ليرشّحني الأستاذ أبو جعفر للتدريس والانخراط في لجان الإعداد للدورات المسجدية. وما أتذكّره أنه استأذنني في أحد الأيام في أن يطرح عليّ بعض الأسئلة التي كان يدور معظمها حول الصلاة وكيفية أدائها وبعض المسائل حولها من الطهارة وما شابه ذلك، وكان يطمئنني بين الفين والأخرى بأنه يعلم بأنني أتقنها، ولكن زيادة التأكد أفضل. ولم أعلم بأنه كان يجري نوعًا من الاختبار لي، قبل أن أبدأ مرحلة جديدة هي تعليم الناشئة للصلاة وأحكامها، وأن الأمانة تقتضي منه التأكد من إتقاني للمسائل التي سأدرسها قبل أن أتسلّم هذه المهمّة. وإلى الآن تحضرني تلك المشهدية التي كان فيها في غاية الأدب ومعه الحرص على المواءمة بين أداء الأمانة في طرح الأسئلة وبين إساءة الفهم التي قد تحدث من قبلي. إلى أن شعر بأنه تأكد من كلّ شيء تقريبًا، وأبلغني برغبة الإخوة في المسجد بأن أشاركهم في تعليم الأطفال أداء الصلوات اليومية، وكان معي معظم رفقاء الحلقة، حيث انضممنا للتدريس في وقت واحد تقريبًا.

خميسية الأستاذ البناي ودورها المحفّز:
لم يقتصر دور الأستاذ البناي على تأهيل ثلّة من الناشئة لمواصلة ما بدأه البُناة من قبلهم من اهتمام بالناشئة وتعريفهم بالمعارف الدينية الأساسية، وإنما كان له دور في استضافتهم أسبوعيًّا، كل ليلة خميس، حيث كان ملتقى هذه الثلّة الطيبة، التي كان يتواصى أفرادها فيما بينهم على أن يستثمروا هذه اللقاءات فيما من شأنه تطوير ذواتهم على مستوى المهارات وعلى المستوى المعرفي. فلم تكن هذه اللقاءات تخلو من إلقاء لمجموعة من الموضوعات الدينية، وكان ذلك على شكل مجلس حسيني، يرتقي فيه المنبر أحد أفراد هذه المجموعة، وكان من أبرزهم الأستاذ سعيد عبد الكريم العبيدان «الخطيب الحسيني حاليًّا»، وإلى جانبه مجموعة جيّدة من المشاركين، أذكر منهم التالية أسماؤهم:

– الخطيب علي مهدي المطاوعة.

– الخطيب علي مهدي آل درويش.

– الخطيب عبد العزيز آل درويش.

– الأستاذ محمد عبد الجليل البشراوي.

– المهندس علي حسين آل مرار.

إذ كان هؤلاء يتناوبون على ارتقاء المنبر، الذي لم يكن سوى كرسي متواضع يتناسب وبساطة المجلس وصغر حجمه، ويلقون بعض الموضوعات التي يحضرونها ممّا يقرؤون حولها من المصادر المتوفرة، وكان يُراعى في هذه الموضوعات أن تتناسب والمستوى الثقافي للحضور، وكذلك مناسبة عناوينها مع المناسبات الدينية في حال اقتربت ليلة الخميس تلك من إحداها، إذ يخصّص المجلس لتلكم المناسبة.

علوّ الهمّة والتطلّع العلمي العالي:
كان معظم المحيطين بالأستاذ أبي جعفر يعلمون مدى توقه لذلك اليوم الذي يرتحل قاصدًا الدراسة الحوزوية متفرّغًا لها ناهلًا من نمير أعلامها، وقد حان ذلك اليوم الذي قرّر فيه أستاذنا أبو جعفر البدء بتلكم المرحلة الفاصلة في حياته، حيث أنبأنا بذلك بعد رحيل المرجع الديني السيد أبي القاسم الخوئي «ره» بمدة قصيرة، إذ كانت وفاة السيد الخوئي في العاشر من شهر صفر 1413ﻫ، ويوم مغادرة أستاذنا أبي جعفر في الثامن من شهر ربيع الأول من ذلك العام، حسب ما دوّنته في الصفحة الأولى من كتاب «شرح قطر الندى». وكم كان رحيله حدثًا فارقًا في حياتنا، لقد كان يومًا مشهودًا، توجهنا جميعنا نودّعه في ساحة سفريات الرضا، يغالبنا في ذلك اليوم البكاء وألم الفراق، راجين له ولرفيقه في تلكم الرحلة ابن خالي سماحة السيد أنور هاشم الخضراوي كل التوفيق والحياة العلمية الواعدة.

اللقاءات المتقطّعة لاحقًا:
لم يكن تعلّق أستاذنا أبي جعفر بالدراسة الحوزوية أمرًا عابرًا أبدًا، وإنما كنّا نلمس فيه تلكم الرغبة الجامحة نحو التفرّغ للعلم والتحصيل والانقطاع التام لهما، ولذلك لم يكن مستغربًا أن يكون نزوله إلى البلد محدودًا ولما هو ملحّ وضروري وحسب. ولذلك لم يكن اللقاء به لاحقًا أمرًا ميسورًا، إذ قلّما ينزل، وعندما ينزل من النادر أن يبقى لمدّة طويلة، ولذلك قد أسمع بعدة من قدومه أنه نزل لأيام قلائل وسرعان ما رجع قافلًا إلى مقصده الأمّ والأساس: الحوزة.

ولذا لم أوّفق للقائه إلَّا قليلًا بعد توجهه للحوزة في قم. كانت أولاها عندما سافرتُ أنا إليها سنة 1418ﻫ، حيث كان من أهم أولياتي ترتيب زيارة له، وقد وفّقت لذلك، حيث كنت متشوّقًا جدًّا للقائه، وكم سرّني أن استضافني في مجلسه العامر بخزائن الكتب المحيطة بالزائر من كل مكان. وهو ما توقّعت أن أجده عليه، إذ لم أعرفه إلَّا شغوفًا بالقراءة والاطلاع والمدارسة والمباحثة. ولأنّ زيارتي كانت في فترة الصيف، كان معظم من التقيتهم من الطلبة غير ملتزمين بالدروس، وهو على خلاف ذلك، إذ كان معظم أيام الصيف تلك ملازمًا لأحد الدروس الخاصّة التي تقام في هذه الفترة.

وبعد لقائي هذا به، التقيته مرات قليلة بعدها، أتذكّر أنني سألته في إحداها عن التزاماته في مدينة قم غير الدرسية، فأجابني بأنه يعمل في إحدى المؤسسات البحثية في مجال التحقيق، وأثناء الحديث عن تلك المؤسسة أبلغني بأنه لا يتقاضى أجرًا على عمله ذاك، وأن قصارى ما كان قد طلبه منهم أن يؤمنوا له قيمة تذكرة السفرة ذهابًا وعودة، في حال أراد النزول إلى البلد.

ولك أن تتصوّر ما تعنيه هذه الحال، فاسمه لن يظهر على أغلفة الكتب التي تصدرها تلك المؤسسة لأن التحقيق جماعي وليس فرديًّا، وكان يعمل كل ذلك بمقابل مادّي بسيط جدًّا، فكم ستكون قيمة التذكرة ذهابًا وإيابًا مرة واحدة في العام على الأكثر؟، لله درّه من عالم لم تُغْرِهِ يومًا المادة أو الجاه أو المنزلة الاجتماعية!، لله درّه من عالم لم يسعَ يومًا خلف جاه أو مكانة!، لله درّه من عالم أفنى جلّ عمره في سبيل العلم، تقريرًا وتحقيقًا وتأليفًا وتنقيبًا عن المعلومة والفائدة والنكتة العلمية!

رحمك الله يا أبا جعفر، وحشرك مغفور الذنب طاهر الثياب نقيّ السيرة، مع العلماء الأتقياء الورعين والشهداء الصالحين.

إنا لفراقك ووداعك لمحزونون، وإنا لحقّك لمقصرون،

أرجو أن تفي هذه الكلمات بعضًا من حقّك، وأن تروي جانبًا من سيرتك العطرة والمباركة.

والسلام عليك يوم ولدت، ويوم جاهدت طالبًا ومعلمًا، ويوم أفجعتنا برحيلك، ويوم تبعث حيًّا 

 

هذه صور من مشاركته العام الماضي في أسبوع الإمامة الذي تقيمه العتبة العلوية المقدّسة

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky