الاجتهاد: لا إشكال في وقوع التذكية بغير جنس الحديد في الجملة، كما في حال فقد الحديد، بقيد الاضطرار أو بدونه؛ وكما في السمك الذي ذكاته بإخراجه من الماء حياً. وإنما الكلام في جواز التذكية وصحتها في حال الاختيار، بالنسبة إلى الحيوانات البرّية القابلة للتذكية. فقد يفهم من كلمات الأصحاب الاتفاق على شرطية معدن الحديد في تذكية الحيوان. بقلم: السيد ماجد البوري تقريراً لأبحاث سماحة السيد علوي البلادي في مسألة التذكية بالحديد.
يتناول البحث المراد من لفظَيْ (الحديد) و(الحديدة) في روايات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، وذكر القرائن التي تدلّ على المختار، مع الوقوف عند بعض المناقشات والملاحظات التي يمكن أن توجه إلى هذه القرائن، والتعليق عليها.
فالبحث الذي أمامك حصيلة جهد السيد الأستاذ علوي البلادي البحراني في مسألة التذكية بالحديد. وقد بذل فيه ما تراه بين يديك، من إظهار قرائن وشواهد جديدة، وإبراز نكات تقوّي قرائن ذُكرت من قبل، ونوقشت؛ بغية إسقاطها، فأثبتها وأسندها، بردّ المناقشات، والإجابة عنها بما هو حقٌّ جلي.
وقد توخَّيْتُ في التقرير أن لا أحيد عمّا بيَّنه من مطالب عميقة، وردود أنيقة، إلا أن العصمة لأهلها؛ فإنْ كان فيها نقص أو قصور فهو راجعٌ إلى المقرِّر، وقصور باعه عن تقرير ما أفاده السيد الأستاذ من إفادات علمية دقيقة. وقد تعمَّدت فيه تبسيط العبارات بما يشبه الشرح؛ ليسهل الفهم، مع أني أذكر أحياناً عبارة مختصرة محكمة قبل الشرح المبسط، تكفي وحدها لفهم المطلب لمَنْ له معرفة جيدة بالاستدلال، ويدرك مغزى العبارات الفقهية في بحوث الخارج، ويكفيه المختصر منها.
وقد سعيتُ جادّاً أن يصل المطلب بدقّته للفهم لمَنْ يحتاجون لمثل هذا التبسيط؛ أملاً في إيصالهم لفهم ما هو أعقد عبارة من هذا التقرير، الذي يمكن أن يختصر في صفحات أقلّ ممّا هو عليه، لولا تعمّد بسط الكلام، وتكراره أحياناً بصورةٍ أخرى، وإعادة ترتيب المطلب الواحد.
ولا يعني ذلك أني لم أختصر أحياناً شرح الأفكار المعروضة، معتمداً على سهولة الفكرة بعد بسطها، وعدم الحاجة للإسهاب لمَنْ فهم مقدّماتها.
مقدّمة
وقع الخلاف بين الفقهاء المسلمين في عددٍ من شرائط التذكية، منها: التسمية، وإسلام الذابح، والاستقبال. وقد بُحثت هذه الشروط، ولا زالت. وغرضنا هو التعرُّض لشرطية (الحديد) في التذكية.
ولا إشكال في وقوع التذكية بغير الحديد في الجملة، كما في حال فقد الحديد، بقيد الاضطرار أو بدونه؛ وكما في السمك الذي ذكاته بإخراجه من الماء حياً. وإنما الكلام في جواز التذكية وصحتها في حال الاختيار، بالنسبة إلى الحيوانات البرّية القابلة للتذكية. فقد يفهم من كلمات الأصحاب الاتفاق على شرطية معدن الحديد في تذكية الحيوان. لذا لا يعتبر الحيوان مذكّى عندهم، وجائزاً أكله، إذا ذُبح بغير معدن الحديد، حال الاختيار.
فقد صرَّح الشيخ الطوسي (ره) باشتراط أن تكون آلة الذبح من معدن الحديد في حال الاختيار؛ إذ قال: كل محدَّد يتأتى الذبح به ينظر فيه؛ فإنْ كان من حديد أو صفر أو خشب أو ليطة ـ وهو القصب ـ أو مروة ـ وهي الحجارة الحادة ـ حلت الذكاة بكلّ هذا، إلا ما كان من سنٍّ أو ظفر، فإنه لا يحلّ الذكاة بواحدٍ منهما؛ فإنْ خالف وفعل به لم يحلّ أكلهما، سواء كان متصلاً أو منفصلاً.
وقال بعضهم في السن والظفر المنفصلين: إنْ خالف وفعل حلّ أكله، وإنْ كان متصلاً لم يحلّ. والأول مذهبنا، غير أنه لا يجوز عندنا أن يعدل عن الحديد إلى غيره مع القدرة عليه([1]). وقد تبعه في ذلك مَنْ تأخَّر عنه، فاشتهر هذا الأمر عند الشيعة الإمامية([2]).
إلاّ أن المعروف عن العامّة اتفاقهم على عدم شرطية معدن الحديد في التذكية، وأنها تقع بكلّ ما أنهر الدم وفرى الأوداج، واختلفوا في السن والظفر([3]).
ومن الناحية العملية لم يكن البحث عن هذا الموضوع إلى ما قبل القرن العشرين بتلك الأهمّية؛ إذ المتوفِّر والمستعمل من آلات الذبح، مثل: المدية والسكين والسيف ذاك الوقت، إنما كان يصنع من معدن الحديد في الأعمّ الأغلب، وإنْ وجد سواه فهو شاذّ ونادر.
وبعد شيوع وتداول السكاكين وآلات الذبح من غير جنس الحديد، أو ما يشك في حديديّته، وكثرة الابتلاء بها، صار لهذا البحث درجة عالية من الأهمّية.
صناعة السكاكين ونحوها في القرن العشرين وما قبله
الفقرة التالية هي مجرّد لمحة عن صناعة السكاكين اقتبسناها من كتاب بحوث فقهية، توضح تطوّر صناعة الحديد في القرن العشرين، وكيفية صناعة السكاكين من معدن الحديد.
«إن الحديد، ولا سيَّما الحديد الصلب، كان هو المعدن الرئيس الذي استخدمه الإنسان في صناعة السكاكين ونحوها من الآلات القاطعة إلى أوائل القرن العشرين، حين اكتشف المهندس (بريرلي) في عام (1913م) أنه يمكن إنتاج صلب لا يصدأ، بإضافة الكروم بنسبة 12% أو أزيد إلى الصلب، بعد صهره وقبل جعله سبيكة على شكل سكين أو نحوه. فحدثت بذلك نقلةٌ نوعية في صناعة السكاكين.
وتقول بعض المصادر: إن السكاكين الحديثة تصنع من الحديد الصلب المحتوي على 12% إلى 16% من الكروم. ويكتسب الصلب بذلك مقاومة شديدة للصدأ. كما يحتوي على نسبة تصل إلى 0.5% من الكربون، تتيح تصليد الصلب عند إجراء المعالجة الحرارية عليه.
…وأيضاً ربما كان هناك بعض السكاكين مطليّة بالنيكل والكروم، بدلاً من خلط عجينتها بهما؛ وذلك تقليلاً لكلفتها. وطريقة ذلك أن تصنع السكينة من الصلب القابل للصدأ، ثم تطلى بالنحاس بطريقة كهربائية، ويتبع ذلك ترسيب طبقة رقيقة من النيكل كواقٍ من الصدأ، قبل وضع الطلاء الأخير من الكروم»([4]).
فالفارق بين ما قبل أوائل القرن العشرين وما بعده هو أن القواطع كانت مصنوعة من الحديد، ثم تغير الوضع بعدما اكتشفت طريقة جديدة للتخلُّص من الصدأ، ثم شاعت هذه الصناعة بالتدريج في العالم.
وسواءٌ قبلنا بشرطية معدن الحديد في بحثنا أم لم نقبل بذلك فالذبح يتمّ في الأعمّ الأغلب في ذاك الزمان بآلةٍ من الحديد. واستعمال آلة ليست من معدن الحديد أمرٌ نادر. فمن الناحية العملية الابتلاء بهذه المسألة أمرٌ قليل، والاحتياط في تلك الأزمان باجتناب غير الحديد، واستعمال الحديد بدلاً منه، أمره سهلٌ ويسير.
إلاّ أنّ الشائع في عصرنا نوعان من السكاكين وأدوات القطع:
الأول: المخلوط بالكروم بنسبة 12% إلى 16%.
الثاني: المصنوع من الحديد الصلب الخالص القابل للصدأ، المطليّ بطبقة من النحاس، وبعدها ترسيب طبقة النيكل، وأخيراً الطلاء بالكروم.
لتحميل البحث كاملاً أضغط على الصورة
الحجم 2،72 م.ب