يمكن القول: إذا كانت عملية فهم الدين ليست مستوحاة من التفكير العقلاني، فهذا يعني: أنها أصبحت مستوحاة من فكر جامد وسطحي، وإذا كانت مستوحاة من فكر جامد وسطحي، فهذا يعني: أن الدين سيفقد وظائفه وأدائه في خلق الوحدة الاجتماعية وإيجاد المواقف الأخلاقية في المجتمع، بل الأكثر من ذلك يعني: هو يمكن أن يصبح عاملاً يسبب العنف في المجتمع.
الاجتهاد: بحضور عدد من الأساتذة البارزين من جامعة طهران وأساتذة الحوزة العلمية وأصحاب الديانات الأخرى وبرعاية مركز الدراسات العليا للثورة الإسلامية في جامعة طهران وبالتعاون مع المؤتمر العالمي لمواجهة التيارات المتطرفة التكفيرية، انعقدت قبل أيام ( 31 / 12 / 2018م ) في جامعة طهران جلسة علمية تحت عنوان: ظاهرة التكفير من منظور الأديان.
وألقى الشيخ الدكتور أحمد مبلغي في هذه الجلسة كلمة التي أكد فيها أن التكفير وليد “التفكير اللاعقلاني”، و إن العقلانية الدينية لا تتفق ولا تجتمع مع الاتجاه التكفيري وممارسة العنف الديني.
لا يتجلى الدين ولا يؤدي دوره الا اذا تم فهمه بالاعتماد على التفكير العقلاني
تعريف التفكير العقلاني:
التفكير العقلاني هو اعتبار “ثبوت شيء مّا لشيء مّا” إذا كان بينهما تناسب عقلي، وإنكار “ثبوت شيء ما لشيء مّا” اذا لم يكن بينهما تناسب عقلي.
وأما التفكير العقلاني الديني هو أن يتم كل من أخذ أو رفض نسبة شيء ما الى الدين بالانطلاق من التركيز على التناسب وعدم التناسب؛ بمعنى أنه هل بينهما تناسب عقلي فيؤخذ بها او لا يوجد فلا يؤخذ بها. وهذا التفكير ما يمكن أن نسميه بالعقل التناسبي.
🔵 ضرورة انبثاق عملية فهم الدين من التفكير العقلاني:
🔸التفكير العقلاني هو عنصر ضروري من أجل الحصول على الفهم الديني الصحيح.
🔸لذلك، يعتبر التفكير العقلاني طريقة يمكن أن تلعب الدور الأساسي في الحصول على الدين في مختلف زوایاه وابعاده وجوانبه.
🔸ولذلك أيضا، أمكن القول: إذا كانت عملية فهم الدين ليست مستوحاة من التفكير العقلاني، فهذا يعني: أنها أصبحت مستوحاة من فكر جامد وسطحي ، وإذا كانت مستوحاة من فكر جامد وسطحي ، فهذا يعني: أن الدين سيفقد وظائفه وأدائه في خلق الوحدة الاجتماعية وإيجاد المواقف الأخلاقية في المجتمع، بل الأكثر من ذلك يعني: هو يمكن أن يصبح عاملاً يسبب العنف في المجتمع.
إن طريقة فهم الدين بداية من معرفة توحيده إلى معرفة بقية عقائده، ومن معرفة ثقافته إلى معرفة فقهه و …. كل هذه المعارف يتم تحققها وحصولها بصورة صحيحة فيما اذا تنبثق وتنطلق عملية الفهم هذه، من التفكير العقلاني.
لتوضيح واثبات دور التفكير العقلاني في فهم الدين ، اذكر نموذجين، أحد النموذجين يعكس ويثبت لنا حقيقة أن الوصول إلى التوحيد كيف يمكن أن يتم عبر التركيز علي التفكير العقلاني، والنموذج الثاني يعكس لنا حقيقة أن فهم “نمط الحياة الإسلامي” كيف يمكن أن يتم عبر التركيز علي التفكير العقلاني.
🔸النموذج الاول: الوصول الى التوحيد عبر التفكير العقلاني:
حاول إبراهيم (ع) أن يُظهر لقومه أن فعل “سؤال الأصنام عن شيء ما” ليس مناسبًا مع حقيقة الصنم (التي هي أنه حجر لا أكثر، وأنه فاقد للوعي تماما).
وكانت محاولته عليه السلام هذه، ترمي الى أن يجعل القوم ينتبهوا الى ان المناسبة العقلية بين الالوهية وبين الصنم منتفية بطريق اولى، اي: أن يدركوا أنه اذا كان الصنم لا يتناسب مع وضعه الجمادي اللاشعوري أن يتوجه اليه السؤال، فهو بطريق اولى لا يتناسب مع وضعه هذا أن يصبح الهاً، وكلا العدمين عقليان.
والمقصود من العدمين: 1. عدم التناسب بين الصنم وبين صيرورته مسؤولا ( فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون) 2. عدم التناسب بين الصنم وبين صيرورته الها بيده النفع والضرر (لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ).
وليس المقصود من التفكير العقلائي إلا إدراك وجود المناسبة بين شيئين في مورد، أو عدمها بينهما في مورد آخر.
🔸النموذج الثاني: الوصول الى نمط الحياة من منظور الاسلام عبر التفكير العقلاني:
سمع الإمام علي عليه الصلاة والسلام، شخصاً وضع -بحجة الزهد وتحت هذا العنوان- حياته وحياة زوجته وأطفاله في ضيق وصعب، فقال: “أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك”.
وكلام الامام علي (ع) هذا، يستبطن التفكير العقلاني حيال قضية الزهد الاسلامي، وتوضيح ذلك: إنه لا تتناسب ولا تتوافق فكرة “أن الله أحل الطيبات للانسان ومنحها له” مع فكرة “أن الله يكره – في نفس الوقت – تمتع الإنسان بتلك الطيبات”.
والاذعان بعدم تناسب هذه الفكرة مع تلك الفكرة، هو ما يشكل الواقع التفكير العقلاني الديني القائم على “العقل التناسبي”، و اذا قبلنا ان هذا التفكير، عقلاني، نحصل علي نتيجة مهمة، وهي أن الانسان بحاجة في عمليته للكشف عن النمط الاسلامي للعيش والحياة الى التركيز على هذا التفكير، وأن التفكير العقلاني ليس اهماله فقط منتهيا بالانسان الى حرمانه من واقع الدين ومن النمط الاسلامي للحياة، بل يجعله يتخذ موقفا جسورا وجاهلا تجاه ربه (أنت أهون على الله من ذلك).
في الأساس ، قد أشار القرآن إلى ذلك، وقد أخذه الإمام علي بن أبي طالب (ع) من القرآن؛ حيث قال الله سبحانه:
“قل من حرم زينه الله التي اخرج لعباده”.
وهذه الآية ترشدنا وتنبهنا الى أن قضيتي “اخراج الزينة للعباد” و”تحريم الزينة على العباد”، أمران لا يتناسب ولا يتلائم أحدهما مع الأخر.
وبما أن الزينة اخرجها الله للعباد، فلا تحريم لها (قل من حرم زينه الله التي اخرج لعباده).
والدليل على اخراجها للعباد اثنان: اولا: أن نظام التكوين بني واستقر على هذا الاخراج، وأنه تحقق عمليا وأنه من أبرز الظواهر الكونية. وثانيا: ان الله سبحانه صرح بذلك في الاية (زينة الله التي اخرج لعباده).
🔵 لزوم توفير التفكير العقلاني الديني في عملية الاستنباط:
يمكن للتفكير العقلاني أن يلعب دوراً مهماً في عملية الاستنباط، تاركاً تداعيات وآثاراً مهمة في الفقه.
وهذا بحث مهم أتركه الى مجاله، ولكن اطرح أمرين فقط:
🔸🔸أولا: إن أحد الفقهاء عندما أراد أن يناقش القول بالحرمة المطلقة للاستفادة من الصوت الحسن ، فقال المشكلة حينئذ هي صيرورة تشريع الله تعالى لا يتناسب مع تكوينه، حيث نجد (على اساس القول بالحرمة المطلقة) من ناحية، خلق الله عز وجل جهاز الصوت الحسن في الإنسان ومن ناحية أخرى حرم مطلق الاستفادة منه، هذا لا يتناسب مع ذاك، ومثل هذا التفكير هو ما نسميه “التفكير العقلاني الاستنباطي”
🔸🔸ثانيا: هناك قاعده في علم الاصول اسمها قاعده مناسبات الحكم والموضوع، والذي اريد أن اقوله، هو أنه هذه القاعدة مهمة، ولكن يجب ان تكون لنا الى جانب هذه القاعدة، قاعدة اخرى، وهي قاعده “مناسبات الحكم والدين”، بمعنى اننا عندما ندرس حكماً مّا، يجب ان نتحرك ونتردد ما بين هذا الحكم والدين راصداً للمناسبات القائمة بينهما، حتى نصل الى الحقيقة بالنسبة لهذا الحكم، فهل الحقيقة أن وجود هذا الحكم هو الذي يتناسب مع الدين أو عدمه؟
وعلى اي حال تأصيل هذه القاعدة موكول الى علم الاصول حتى يقوم الاصوليون بطرحها بشكل علمي وقطعي.
🔵 حل مشكلة التكفير المذهبي عبر التفكير العقلاني:
🔸إذا أردنا مكافحة التكفير وأسبابه وأجواءه ومجموعاته بطريقة أساسية، فإن أفضل وأنجع طريقة للقيام بذلك، هي تعزيز وتعميق وتوسيع التفكير العقلاني في المجتمع.
🔸التكفير وليد “التفكير اللاعقلاني”، إن العقلانية الدينية لا تتفق ولا تجتمع مع الاتجاه التكفيري وممارسة العنف الديني.
أولئك الذين يرتكبون التكفير أو العنف الديني لا يمتلكون العقلانية الدينية.
🔸بدون “التفكير العقلاني الديني” يصبح دين الرحم والرحمة دين القساوة والعنف، وتصبح الأمة الواحدة أمة متفرقة.
🔸يعتبر تبني التفرقة، والتكفير والعنف من أبرز مصاديق فقدان العقلانية الدينية.