الاجتهاد: تعتبر مسألة موت الدماغ دون القلب والحكم بموت صاحبه من أهم المسائل الحديثة في المجال الطبي، التي يمكن تخريج القول فيها على دليل الاستصحاب، وقد ثار حولها خلاف كبير وجدال مستفيض، ليس بين الفقهاء وأهل العلم فقط، بل شمل غيرهم من الأطباء وسائر الناس،
ولا يزال هناك خلاف في القوانين الطبية الدولية حول هذه المسألة، فهناك بلدان تعتبر موت الدماغ دون القلب موتاً، فتجيز أنظمتها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض، ولو لم يأذن أهله، وهناك بلدان تعتبر هذا العمل إجراماً، وتعد المريض حياً في هذه الحالة، فلا تجيز سحب الأجهزة عنه مطلقا.
وهناك بلدان تجيز سحب الأجهزة بشرط إذن المريض أو ذويه دون النظر إلى كونه ميتاً أو حياً (1) وسأعالج – إن شاء الله هذه المسألة من خلال النقاط التالية:
النقطة الأولى : تعريف الموت في اللغة والاصطلاح.
تعريف الموت لغة: ضد الحياة، وأصله في لغة العرب السكون، وكل ما سكن فقد مات، يقال: ماتت النار موتاً : إذا برد رمادها، فلم يبق من الجمر شيء، ومات الحر والبرد إذا باخ، وماتت الريح: ركت وسكتت، وماتت الخمر: سكن غليانها، والموت ما لا روح فيه (2) يقول ابن الأثير: والموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة:
فمنها : ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى:( يحيى الأرض بعد موتها)
ومنها: زوال القوة الحسية، كقوله تعالى: ( ياليتني مت قبل هذا) ومنها زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه و ” إنك لا تسمع الموتی)
ومنها : الحزن والخوف المكدر للحياة، كقوله تعالى: ( ويأتيه الموت من كل مکان وما هو بميت) .
ومنها : المنام كقوله تعالى: ( والتي لم تمت في منامها)
وقد قيل: المنام الموت الخفيف، والموت: النوع الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة: كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك (3)
تعريف الموت في الاصطلاح:
عرّف القرطبى الموت في التذكرة: فقال: قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار.
وتعلق الروح بالبدن على خمسة أحوال، لكل حال أحكام خاصة بها، تختلف عن غيرها منها: تعلقها به في بطن الأم جنيناً، ومنها: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، ومنها: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه، ومنها تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن قارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه قراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه.
وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة، ومنها تعلقها به يوم بعت الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل الين معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً، فالنوم آخر الموت.
فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة (4).
النقطة الثانية: أمارات الموت عند الفقهاء والأطباء.
اصطلح العلماء – قديما وحديثاً – على أمارات يعرف بها مفارقة الروح للجسد، ومن ثم يُحكم بموت الإنسان، وقد تنوعت هذه الأمارات بين الفقهاء والأطباء، وإن كانوا قد اتفقوا على البعض منها، لذا أذكر هذه العلامات؛ حتى تتجلى مسألة البحت بوضوح للقارئ.
أولا : أمارات الموت عند الفقهاء:
لاشك أن علماء الفقه الإسلامي اعتنوا عناية فائقة بذكر أمارات الموت، وذلك لما يترتب على الموت من أحكام هي من الخطورة بمكان، وفي هذا الشأن يقول الكمال ابن الهمام: والجنازة بالفتح الميت، ويالكسر السرير، وعلامات الاحتضار أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، ويتعوج أنقه، وتتخسف صدغاه، وتمتد جلدة خصييه، لانشمار الخصيتين بالموت، ولا يمتنع حضور الجنب والحائض وقت الإحتضار. (5) ، ويقول ابن عابدين في حاشيته: الجنازة من إضافة الشيء إلى سيببه وهي بالفتح الميت، وبالكسر السرير، وقيل : لغتان.
والموت صفة وجودية خلقت ضد الحياة، وقيل: عدمية، يوجه المحتضر القبلة، وعلامته: استرخاء قدميه، واعوجاج منخره، وانخساف صدغيه (6) ، ويقول الخرشی: وعلامات الموت: انقطاع نفسه، وإحداد بصره، وانفراج شفتيه، فلا ينطبقان ، وسقوط قدميه فلا ينتصبان، ومن علامات البشري للميت أن يصفر وجهه، ويعرق جبينه وتذرف عيناه دموعاً، ومن علامات السوء أن تحمر عيناه، وتربدّ شفتاه، ويغط كغطيط البكر. (7)
ويقول الإمام النووي: وذكر الشافعي والأصحاب للموت علامات وهي : أن تسترخي قدماه، وينفصل زنداه، ويميل أنفه، وتمتد جلدة وجهه، زاد الأصحاب: وأن ينخسف صدغاه، وزاد جماعة منهم: وتتقلص خصياه مع تدلى الجلدة، فإذا ظهر هذا علم موته فيبادر حينئذ إلى تجهيزه. (8)
ويقول الشيخ الشربيني. ويبادر بغسله إذا تيقن موته، بظهور شيء من أماراته: کاسترخاء قدم ، وميل أنف وانخساف صدع . (۹)،
يقول ابن قدامة – رحمه الله -: وإن اشتبه أمر الميت، اعتبر بظهور أمارات الموت، من استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه.
إن مات فجأة كالمصعوق، أو خائفاً من حرب أو سبع، أو تردى من جبل، انتظر به هذه العلامات، حتى يتيقن موته (10).
ويمكن تعداد ما ذكره الفقهاء من علامات وأمارات للموت فيما يلى :
١- تقليص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة
٢- برودة البدن
۳- إحداد بصره
4- انفراج شفتيه فلا ينطبقان
5- غيبوبة سواد عينيه في البالغين
6- انقطاع النفس.
7- امتداد جلدة الوجه
8- انخساف الصدغين
9- استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما
۱۰- انفصال الكفين من الذراعين
11- ميل الأنف (11)
ثانيا : أمارات الموت عند الأطباء:
يعتمد الأطباء، بالإضافة إلى العلامات التي نصّ عليها الفقهاء والتي تبتت بالأدلة الشرعية على ما يسمونه في العصر الحاضر بموت الدماغ، وهي حالة دماغية تبعث على اليقين عند الأطباء بانحدار حالة المريض إلى الموت، بمعنى انقطاع أمل الحياة عنه انقطاعاً تاماً في يقينهم العلمي ، مع احتمال استمرار لدقات القلب وحرارة أو حركة في النبض. (12)
والمقصود بموت الدماغ عند الأطباء: تلف دائم في الدماغ يؤدي إلى توقف دائم لجميع وظائفه، بما فيها وظائف جذع الدماغ أو هو: توقف الدماغ عن العمل تماما و عدم قابليته للحياة (13)
ويمكن تعداد ما ذكره الأطباء من العلامات والأمارات الدالة على موت الدماغ فيما يلي:
1- عدم التنفس لمدة ثلاث أو أربع دقائق
۲-عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ بعد إمراره بطريقة معينة معروفة عند الأطباء ٣-الإغماء الكامل وعدم الاستجابة لأي مؤثرات لتنبيه المصاب مهما كانت قوية
4- عدم الحركة التلقائية
5- انعدام الانفعالات المنعكسة من جذع الدماغ، الدالة على نشاط الجهاز العصبي، مثل عدم حركة حدقتي العينين للضوء الشديد وعدم الرمش بالعين رغم وضع قطعة من القطن على قرنية العين، وعدم تحريك مقلة العين، رغم إدخال ماء بارد في الأذن، وكونه لا يقطب جيينه رغم الضغط على الجبين بالإبهام، وعدم التحكم أو الكحة عند لمس الحنك وباطن الحلق بالإبهام، وعدم استجابة عضلات الحنجرة لتحريك أنبوب بالقصبة الهوائية.
ويمكن تعداد ما ذكره الأطباء من علامات وأمارات للموت فيما يلي:
١- تغيرات تحدثت في الجسم مثل: عتامة قرنية العين – نقص الضغط داخل العين- برودة الجسم – ارتخاء الأطراف – الزرقة الرمية وهي: زرقة ناتجة عن توقف الدورة الدموية – التيبس الرمي – التعفن الرمی وهو: تحلل أنسجة الجسم بواسطة ميكروبات التعفن وخاصة في الأحشاء – وغيرها من التغيرات.
٢- عدم قدرة الجهاز العصبي في السيطرة على الجسم ، ومن أماراته : الارتخاء الأولي للعضلات ، وعدم استجابة الجثة لأي تنبيه حسي ، وتوقف جميع الأفعال المنعكسة، وتكون حدقة العين ثابتة ، ولا تتأثر بالضوء الشديد.
٣- توقف القلب والدورة الدموية، ومن علاماته توقف النبض في الشرايين وتوقف القلب بعد سماعه أصواته بالسماعة الطبية، وموت القلب يتبعه لا محالة موت الدماغ ، إذ إن الدماغ يموت إذا انقطع عنه الدم لمدة أربع دقائق.
4- انقطاع التنفس انقطاعا تاما، ومن أماراته، توقف حركة الصدر والبطن، وعدم سماع أصوات النفس بالسماعة الطبية.
درجات الموت عند الأطباء :
الموت عند الأطباء على ثلات درجات:
1- الموت الخلوي النهائي: حيث تموت خلايا أعضاء وأنسجة الجسم شيئا فشيئا وتدريجياً، فيحدث ما يسمى بالموت الخلوي .
٢-الموت الإكلينيكي: حيث يتوقف جهاز التنفس والقلب عن أداء وظائفهما.
٣-الموت البيولوجي : حيت يتوقف فيها الدماغ بموت خلايا المخ بعد بضع دقائق من توقف دخول الدم المحمل بالأكسجين للمخ مالم تستعمل وبسرعة أجهزة الإنعاش الصناعي(14)
النقطة الثالثة : هل موت الدماغ دون القلب يوجب الحكم بموت صاحبه أو لا؟
قبل ذكر أقوال العلماء في هذه المسألة وبيان أثر الاستدلال بالاستصحاب فيها، وجب لزاما علىَّ أن أُحرر النزاع في المسألة، فأذكر محل الاتفاق ثم محل الاختلاف فيها.
أولا : محل الاتفاق .
1- اتفق أصحاب الأقوال في هذه المسألة على أنه لو مات الدماغ، وتوقف القلب عن الحركة والنبض ، أن الشخص يعتبر ميتاً.
۲- وكذلك اتفقوا على أن الأسباب المؤقتة التي قد تؤدي لتوقف وظيفة جذع الدماغ مؤقتا مثل بعض العقاقير والتسمم ونقص السكر أو زياده في الدم، وحالات الغرق والأخماج الفيروسية وغيرها – لا تعتبر محلاً للخلاف بينهم، والتي لم يمت فيها الدماغ وفق الشروط الطبية.
ثانيا : محل الاختلاف .
يتمحور محل الخلاف بين العلماء فيما إذا تم تشخيص موت الدماغ وفق الأصول المشروطة طبياً وتبت على هذا الوجه (15)، فقد اختلف العلماء في اعتبار موت الدماغ دون القلب علامة على موت صاحبه أو لا ، فذهبوا في ذلك إلى مذهبين:
المذهب الأول : ولا يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتاً، ولا يحكم بموت المتوفي دماغياً، بل لابد من توقف قلبه وهذا القول لطائفة من العلماء ، من أبرزهم: الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله- والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ عبد الله البسام، والدكتور محمد المختار السلامي، والدكتور محمد البوطي، الدكتور توفيق الواعي، والدكتور عبد الفتاح إدريس، والدكتور على محمد أحمد ، وغيرهم (16)،
وبهذا صدر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، حيت نص المجلس : أنه لا يجوز شرعا الحكم بموت الإنسان الموت الذي تترتب عليه أحكامه الشرعية بمجرد تقرير الأطباء أنه مات دماغياً حتى يعلم أنه مات موتا لا شبهة فيه، تتوقف معه حركة القلب والنفس، مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته يقينا، لأن الأصل حياته فلا يعدل عنه إلا بيقين(17).
المذهب الثاني: يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتاً حقيقياً، ويحكم بموت صاحبه ولا يشترط توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموته.
وهذا ما أقتی به جمهور العلماء المعاصرين (18)، وصدر به قرارات المجامع الفقهية، منها قرار مجمع الفقه الإسلامي حيث جاء ما نصه: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالت بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-۱۳ صفر 1407 هـ 11-6 تشرين الأول (أكتوبر) 1986م، وبعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع أجهزة الإنعاش، واستماعه إلى شرح مسفيض من الأطباء المختصين ، قرر ما يلى:
يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
١- إذا توقف قلبه وتنقسه توققاً تاماً وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه
۲- إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً ، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل. وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، وإن كان بعض الأعضاء، كالقلب مثلاً، لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة (19).
بيان أثر الاستدلال بالاستصحاب في النازلة:
لكل فريق من العلماء أدلته فيما ذهب إليه من ترجيح في هذه المسألة، واقتصر في البحت
على ذكر أدلة المذهب الذي احتج بالاستصحاب، مبيّنا وجه هذا الاستلال، حتى تظهر الفائدة التي قصدها البحث، وهي بيان مدى تأثير الاستدلال بالاستصحاب في حكم النوازل المعاصرة.
استدل المذهب القائل بأن موت الدّماغ دون القلب لا يعدُّ موتاً، ولا يجوز شرعاً الحكم بموت الإنسان بمجرد تقرير الأطباء أنه مات دماغياً، حتى يعلم أنه مات موتاً لا شبهة فيه، تتوقف معه حركة القلب والنفس، مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته يقيناً بما يلي:
الدليل الأول: القرآن الكريم.
ومنه قوله تعالى : (فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) (20)، فقوله تعالى (بعثناهم) أي أيقظناهم من نومهم، وهذه الآيات فيها دليل واضح على أن مجرد فقد الإحساس والشعور لا يعتبر وحده دليلاً كافياً للحكم بكون الإنسان میتاً. لأن هؤلاء النقر فقدوا الإحساس والشعور، ولم يعتبروا أمواتاً، والحكم باعتبار موت الدماغ موتاً، مبني على فقد المريض للإحساس والشعور، وهذه وحده لا يعتبر كافياً للحكم بالموت، لأن الآية الكريمة دلت على عدم اعتباره مع طول الفترة الزمانية التي مضت على أهل الكهف ثلاثمائة عام وزيادة تسع، فمن باب أولى ألا يعتبر في المدة الوجيزة المشتملة على بضعة أيام يزول فيها الشعور والإحساس بسبب موت الدماغ وتلفه (21).
الدليل الثاني: الاستصحاب
استدل أصحاب هذا القول بالاستصحاب، فقالوا إن الأصل هو الحكم باستمرار الحياة إلى أن يرد دليل قطعی يرفع هذا الأصل، وهو مستند أقوى من الدلالة الطبية على الموت أو قرب حلوله.
وصورة الاستصحاب : أن المريض قبل موت دماغه متفق على اعتباره حياً؛ لبقاء الحياة فيه بيقين، فنحن نستصحب الحكم الموجود في هذه الحالة إلى الحالة التي اختلفنا فيها، ونقول إنه حي وروحه باقية لقاء نبضه؛ وذلك لاعتبار الاستصحاب من مصادر الشرع قال بحجيته الحنابلة، والمالكية، وأكثر الشافعية، والظاهرية سواء كان في حالة النفي أو الإثبات، وهذا القول هو ما حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين.
قال الآمدي في الإحكام: (ذهب جماعة من أصحاب الشافعي – کالمزني، والصيرفي، والغزالي – وغيرهم من المحقق إلى الاحتجاج به، وهو المختار، وسواء كان ذلك الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي، أو عقلي، أو شرعي؛ وذلك لأن ما تحقق وجوده أو علمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه، والظن حجة متبعة في الشرعيات.
وقال ابن قدامة الحنبلي: (فالاستصحاب إذا عبارة عن التمسك بليل عقلي أو شرعی، وليس راجعا إلى عدم الدليل، بل إلى دليل ظن مع انتفاء المغير أو العلم به.
وقال الإمام القرافي: الاستصحاب ومعناه: أن اعتقاد کون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب الظن بثيوته في الحال أو الاستقبال، فهذا الظن عند مالك، والإمام المزني، وأبي بكر الصيرفى رحمهم الله حجة.
وقال الفاسي: والحقيقة أن الفطرة تدل على قبول هذا الدليل بجميع أنواعه، لأنه يفتح للاجتهاد أيواباً.
وقال الخوارزمي في الكافي: وهو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله فالأصل عدم ثبوته، فمثلاً الأصل في الفتاة: البكارة حتى تتيت الثيوبة بدليل، والأصل: بقاء الملكية حتى يثبت نقلها بدليل، والأصل براءة الذمة عن الواجبات (22).
الدليل الثالث : القواعد الفقهية
يدعم هذا القول فيما ذهب إليه القواعد الفقهية التي بُنيت على الاستصحاب كأحد الأدلة الشرعية، التي استند إليها الفقهاء – قديما وحديثا- في الفتوى، وذلك على النحو التالي:
أولا : قاعدة اليقين لا يزال بالشك
وجه الاستدلال بهذه القاعدة – التي بناها الفقهاء على قاعدة الاستصحاب الأصولي – على أن موت الدماغ دون القلب لا يُعدّ موتاً : أن حياة المريض التي سبقت قبل هذه الحالة متيقن من ثبوتها، وأن موته الآن مشكوك فيه، لأن قلبه ما زال ينبض مع موت دماغه، وهو ما جعلنا في حالة التردد والحيرة، والقاعدة تقول اليقين ( وهو حياته السابقة على هذه الحالة ) لا يزول بالشّك. فوجب علينا اعتبار اليقين الموجب للحكم بحياته، حتى نجد يقيناً مثله يوجب علينا الحكم بموته (23).
ثانيا: قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان.
وجه الاستدلال بهذه القاعدة – التي بناها أيضا الفقهاء على قاعدة الاستصحاب الأصولي- على أن موت الدماغ دون القلب لا يُعدُّ موتاً أن المتقرر عند علماء الأصول والفقه- رحمهم الله- أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، أي أن ما كان الأصل انتفاؤه في الماضي، فهو منتف الآن؛ حتى يثبت خلاف ذلك، وما كان الأصل ثبوته في الماضي فهو ثابت الآن، حتى يثبت خلاف ذلك يقيناً، والأصل في الماضي ثبوت حياته، فكذلك يحكم الآن أن حياته ثابتة؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فلما كانت حياته ثابتة في الماضي فهي ثابتة الآن، ومن هذا المنطلق نقول: الأصل بقاء الروح و عدم خروجها فنحن نبقى على هذا الأصل ونعتبره حتى يرد الدليل المغير لهذا الأصل.
وحقيقة الموت، وهي خروج الروح من الجسد تعارض القول بعدم حياته وتؤكد هذه القاعدة وتعضدها؛ لأن الروح اذا خرجت من الجسد تعطلت كل منافعه ولا يبقى فيه شيء يعمل ويكون جثة هامدة، والمريض في حالة موت الدماغ لا يزال قلبه ينبض أي لا تزال الروح فيه بدلیل وجود هذا النبض، فكيف يقال:- قد مات ولا تزال روحه فيه؟ فميت الدماغ وإن كان فيه شبه كبير بالميت إلا أنه لا يحكم عليه بالموت الذي تترتب عليه أحكامه إلا بوقوف القلب عن النبض فما دام القلب ينبض فهو حي وإن مات دماغه لأن هذا النبض علامة على وجود الروح في بدنه (24).
الدليل الرابع : المعقول.
وهو من وجهين :
الوجه الأول : أن أحكام الموت ، أيا كانت ، إنما تترتب على وقوعه الفعلي التام، لا على توقعاته ، مهما كانت يقينية جازمة.
الوجه الثاني : أن هذه الدلالات أو التوقعات، مهما استندت إلى اليقين العلمي، فإن انتعاش المريض وتوجهه مرة أخرى إلى الحياة ليس مستحيلاً عقلياً، ومن ثم فليس مستحيلاً شرعياً. ذلك لأن الموت الحقيقي التام لم ينزل به بعد، ومقدمات الموت وأسبابه التي لم تشذ قط، ليست أسباباً موجبة بطبعها، وإنما بجعل الله إياها علامات على قربه، وله – سبحانه وتعالى – أن يبطل دلالتها ويلغي سببيتها للموت عندما يشاء.
ومن ثم فإن قرار الموت بناء على مجرد هذا الذي يسمونه الموت الدماغي، لا يرقى إلى يقين علمی جازم بأن الروح قد فارقت الحياة أو ستفارق البدن، كما هو الشأن في الموت الحقيقي التام المصطلح عليه لغة وشرعا (25)
هذه أبرز الأدلة التي استدل بها أصحاب الاتجاه الذي يرى بأن موت الدماغ دون القلب لا يصلح أن يكون دليلاً قطعيّاً على الموت، ولهم في هذا الشأن كثير من الأدلة مبسوطه في الكتب والمؤلفات التي دوّنت حول هذه القضية لم أتطرق لها، كما لم أتطرق للكلام عن أدلة المذهب الثاني المعارض، الذي يرى أصحابه أن موت الدماغ أمارة وعلامة على الموت التام؛ لأن القصد الذي رمى إليه البحث، هو بيان أثر الاستدلال بالاستصحاب في النوازل والقضايا المعاصرة، وقد تحقق ذلك فيما ذكرناه من أدلة القول الذي ذهب أصحابه إلى أن موت الدماغ لا يعد دليلا على الموت التام.
الهوامش
1- الشنقيطي، محمد المختار، أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها (۳۱۹)
2- ابن منظور، لسان العرب (3 / 547) ، الكفوي، الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) (857) وما بعدها.
3- ابن الأثير ، النهاية في غريب الحديت (۳6۹/4 ) ، این منظور، لسان العرب (۹۲/۲) مادة (موت).
4- القرطبي ، التذكرة في أحوال الموتى وأمور الأخرة ، (۱۰)، ابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية (۳۹۹).
5- ابن الهمام، شرح فتح القدير (2 / 67 – 68)
6- ابن عابدين، حاشية رد المحتار علی الدر المختار (2 / 189)
7- الخرشي ، الخرشي على مختصر سيدي خليل (۱۲۲/۲)
8- النووي ، المجموع شرح المهذب (۱۲۵/۵)
9- الشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (۳۳۲/۱)
10- ابن قدامة ، المغنی (3 / 367) بتحقيق : د. عبد الله الترکی و د. عبد الفتاح الحلو .
11- سعيد، أحمد، دراسة شرعية لبعض النوازل الفقهية المعاصرة (104). النفيسة ، مدى شرعية إيقاف أجهزة الإنعاش الطبي في حال الأمراض المستعصية (261) ضمن مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ، العدد (63) ، السنة (16) ربيع الآخر 14۲۵ هـ.
12- البوطی ، محمد ، قضايا معاصرة (۱۲۹)
13- أبو زيد ، بكر ، فقه النوازل (۲۲۰/۱) نقلا عن : سعيد، أحمد، دراسة شرعية لبعض النوازل الفقهية المعاصرة (۱۰۷)
14- سعيد، أحمد، دراسة شرعية لبعض النوازل الفقهية المعاصرة (۱۱۳)
15- الشنقيطي ، محمد، أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها (۳۲۲-۳۲۳)
16- الشنقيطي ، أحكام الجاحة الطبية والآثار المترتبة عليها (۳۲۱) البوطي ، قضايا فقهية معاصرة (۱۲۹) سعيد ، أحمد ، دراسة شرعية لبعض النوازل الفقهية المعاصرة (۱۱۳).
17- قرار هيئة كبار العلماء رقم (۱۸۱) في ۱4۱۷/4/۱۲ هـ انظر: الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرضى، من فتاوى: ۱-سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ۲- سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ۳- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 4- هيئة كبار العلماء. اشراف: الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان. تقديم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، الجزء الأول/۳۳ 4
18- الشنقيطي ، أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها (۳۲۲)
19- انظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة(36) للدورات (۱-۱۰) والقرارات (۱- 97)
20- قرآن کریم ، سورة الكهف ، الآيات (۱۱-۱۲)
21- السعدي ، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (471)
22- يراجع الأمدي ، الأحكام في أصول الأحكام( 4: ۱۱۱)، ابن قدامة، روضة الناظر وجنة المناظر (۸۰) القرافي، شرح تنقيح الفصول في الأصول: (۱۹۹)، القاسی، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”( ۱۲۸)، الزحيلي الوسيط (546)، البوطي، قضايا فقهية معاصرة (۱۳۰). الشنقيطي ، أحكام الجراحة الطبية (325)
23- أبو زيد، بكر، فقه النوازل (۲۳۱-۲۳۲). الواعی، توفيق، حقيقة الموت والحياة (478) نقلاً عن: الشنقيطي، أحكام الجراحة الطبية والاثار المترتبة عليها (۳۲۳-۳۲۵)
24- السعيدان ، وليد راشد، الإقادة الشرعية في بعض المسائل الطبية ، ( 86).
25- البوطي، محمد سعيد، قضايا فقهية معاصرة (130)
المصدر: مجلة كلیة الشریعة والقانون بتفھنا الأشراف – دقھلیة – مصر – العدد الثالث والعشرون لسنة ٢٠٢١م الجزء الرابع. / مقتطف من مقالة بعنوان: دراسة في الاستصحـاب، قواعده وتطبیقاته المعاصرة / إعداد: د/ السيد أبو المجد عرابي؛ أستاذ أصول الفقه المساعد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بقنا.
تحميل المقالة