خاص الاجتهاد:: لم تكن فتوى الشيخ محمود شلتوت الشهيرة في جواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول، ومنها مذهب الشيعة الإمامية، إلا واحدة من إنجازاته الكبرى لجماعة التقريب، من موقعه في مشيخة الأزهر، وقد سبقها إنجاز آخر تمثل بإدخال فقه المذهب الشيعي في عداد المذاهب الفقهية التي تدرّس في الجامع الأزهر سنة ١٩٥٩م(١٥)، ثم إدخال المذهب الشيعي في عداد مذاهب “مجمع البحوث العلمية”، الذي تم إقراره في إصلاحات ١٩٦١م. بقلم الدكتور حسن سلهب
لم يكن الشيخ محمود شلتوت اوّل من دعا للوحدة الإسلامية، كما هو معروف، ولم يكن أوّل من كشف عن الحواجز الوهمية بين الطوائف والمذاهب في الإسلام، لکنه کان من أبرز الساعين ميدانیاً في هذا الاتجاه، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق.
توقفنا عند الشيخ جمال الدين الأفغاني، ورأينا في غموض مذهبه الديني، نوعاً من الدليل على رغبة في خروجه من المذهبية وقيودها وإذا كان الإمام محمد عبده قد اکتفی برفع شعار الوحدة، وتقديم البراهين المتوالية على ضرورة توحيد المسلمين، وكذلك فعل بحرارة أقل السيد محمد رشيد رضا، وبرؤیة أرحب الشيخ المراغي، ومن بعده الشيخ عبد المجيد سليم، وغيرهم من أعلام الدين في مصر وخارجها، فقد أراد الشيخ شلتوت أن یتوّج هذه الجهود المتوالية على مدی أكثر من نصف قرن بما یُکرس هذا الاتجاه، ويدخله في النظام العام للبلاد فضلاً عن المناهج العلمية التي يدرس فيها طلاب الأزهر، كما سنری في ما بعد.
يُمكن القول أنّ منطلقات الدعوة إلى الوحدة عند الشيخ شلتوت تأثرت كثيراً بواقع المسلمين السياسي في العالم المعاصر، بالإضافة إلى الآثار النفسية والعقلية التي نجمت عن التعصّب المذهبي في التاريخ والحاضر، فالدعوة إلى الوحدة تأتي إذاً في إطار النهوض والأصلاح بالدرجة الأولى.
أولاً : مقاربة الخلاف بين السّنة والشّيعة
يرى الشیخ شلتوت أنّ الخلاف بين الفرق الإسلامية، لا يتجاوز، في منهجه ونوعه، الخلاف في الأحكام الفقهية، ما يعني أنّ الاجهاد في المصادر الإسلامية يقف خلف التنوّع المذهبي في الأصول كما في الفروع(۱).
وتأسیساً على ذلك لا يجوز أن يرمي بالكفر كل من حاد عن أصول غيره؛ لأن الجميع متفقون في الأصول والفروع الرئيسية، التي تندرج في إطارها الخلافات، وليس خارجاً عنها، كما يعتقد بأنّ التراشق بالتّهم والترامي بالفسوق والضلال(٢)، قد فعل فعله في الانقسام الإسلامي في تاريخ، أكثر من التباين الفكري الوارد في الأصول او الفروع، فغدا المسلمون تحت وطأة تراكم طويل من التباعد والتباغض سجّلته كتبهم وسيرهم، ولم يعد يعرف أسباب الخلاف من نتائجه.
انطلاقاً مما تقدّم وجد الشيخ شلتوت أنّ الطريق الوحيد لثبوت العقائد هو القرآن الكريم(٣)، مع اشتراط نوع محدد من آياته أي ما هو قطعي الدّلالة لا يحتمل معنيين فأكثر »(٤).
أما ثبوت العقيدة من ناحية الحديث فإنّه يشترط أن يكون قطعياً في وروده وفي دلالته(٥)، وهو أمر نادر جداً برأيه في الحديث النبوي.
وفي أيّ حال عندما نصل إلى هذا النوع من الأحاديث لا يعود مع ذلك مجال للمذاهب والفرفة. لكن من غير المعروف إذا ما كان هذا الاشتراط يحظى بموافقة الجميع، لكن بالتأكيد يقضي تماماً على مصدر الانقسام في مجال العقيدة، وهذه هي غاية الشيخ.
لا يتوانى الشيخ شلتوت عن تعليل الانقسام بالسياسة، سواء في تطوره وتناميه في التاريخ على أيدي المسلمين، أو في تضخيمه وترویجه على أيدي المستعمرين في العصر الراهن(٦)؛ لذلك فإنّ آماله وتوقعاته في تجاوز الانقسام الحاد تكبر وتنمو كلما تقارب المسلمون سیاسياً.
من هنا كانت لحظة إعلان الجمهورية العربية المتحدة في رأيه، واحدة من إرهاصات الوحدة الحتمية بين المسلمين(٧). وقد عبّر عن إعجابه الشديد لاجتماع الوفود في المؤتمر الإسلامي بفلسطين في المسجد الأقصى في تلك الفترة، وقد صلّوا بإمامية أحد كبار مجتهدي الشيعة الإمامية الشيخ محمد الحسين آل كاشف العظاء، صفوفاً متراصة خلف إمام واحد(٨).
لم يكن ما تقدًم أبرز إسهامات الشيخ شلتوت في الوحدة الإسلامية، فقد دخل في تجربة توحيدية طويلة منذ أن كان أستاذاً بكلية الشريعة بالأزهر، في العقد الرابع من القرن العشرين، وقد أشار إلى ذلك، في سياق حديثه عن تدريسه لمادة الفقه المقارن بين المذاهب، أنه كان يعرض آراء المذاهب في المسألة الواحدة، بما فيها المذهب الشيعي وكثيراً ما كنت أرجّح مذهبهم خضوعاً لقوة الدليل(٩) ، وقد عرض أمثلة على ذلك تتعلق بالقدر المحرّم من الرضاع، أو الطلاق الثلاث بلفظ واحد، أو الطلاق المعلّق، وغير ذلك (١٠).
من الصعب أن نفهم هذا الانفتاح بغير البعد العلمي الشرعي المتجرد،لا سيما وأننا نعلم حساسية مثل هذا الاعتماد للآراء، إذا ما صدرت عن المذهب المخالف، وبين العلماء أكثر من غيرهم.
وإذا ما كان لنا أن نصف خلفية الشيخ في هذا المجال، فإنّنا نستطيع القول بأنها تنطوي على ثقة ما بالآخر، تجعل إمكانية الإفادة منه قائمة لمصلحة العلم أولاً، والغاية الأساسية للموضوع ثانياً.
لا أدري كيف تجاوز الشيخ قضية الجرح والتعديل في رواة الشيعة حتى استطاع ترجیح ما وصل إليه مجتهدوهم، كما لم يذكر وفق أي قاعدة من أصول الفقه تمَّ القبول، وهل كانت القاعدة نفسها عند من أخذ عنهم؟ أم أن للشيخ قواعدة الخاصة التي تتصل بمقاصد القرآن، كما رأينا في آرائه الخاصة بمنهج الاجتهاد؟ أسئلة عديدة، يمكن طرحها، لكن من المؤكد أنّ الشيخ قد خطا خطوة نوعية بوصفه فقيهاً.
لكن لن تتّضح الخلفية التوحيدية عند الشيخ شلتوت، إلا من خلال تتبّع مواقفه و آرائه في إطار جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، التي كان أحد مؤسسيها، إلى جانب نخبة من علماء الشيعة والسنة، داخل مصر وخارجها، سنة ١٩٤٨م. فقد كان يرى في دعوة التقريب بين المسلمين دعوة التوحيد والوحدة(١١)، ويفتخر بأنه مؤمن بفكره التقريب، وأنه أسهم في جماعتها منذ اليوم الأول، ونشر أعزّ أفكاره وأخلد آثاره على صفحات مجلتها نور الإسلام(١٢).
كما كان ينظر إليها بعد أربعة عشر عاماً من النشاط المتواصل، نظرة الحالم الطامح في مستقبلها، كما رأى الحرية المذهبية الصحيحة مجسّدة في برامجها وسيرة أعضائها(١٣).
لم تكن سيرة الشيخ شلتوت في جماعة التقريب عابرة أو هامشية، فقد قدّم فيها جهوداً عديدة، كان آخرها سعيه الدؤوب في مشروع إعداد مولّف يتضمن الأحاديث النبوية الصحيحة المشتركة بين السنة والشيعة(١٤). وقد بقي منذ تأسيسها إلى وفاته عضواً بارزاً في كل أنشطتها وبرامجها، ولم تكن مشيخة الأزهر لتمنعه عن متابعة السير في طريقها الطويل، بل إنّه استفاد من منصبه الجديده لخدمة أهدافها وغاياتها.
ولم تكن فتواء الشهيرة في جواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول، ومنها مذهب الشيعة الإمامية، إلا واحدة من إنجازاته الكبرى لجماعة التقريب، من موقعه في مشيخة الأزهر، وقد سبقها إنجاز آخر تمثل بإدخال فقه المذهب الشيعي في عداد المذاهب الفقهية التي تدرّس في الجامع الأزهر سنة ١٩٥٩م(١٥)، ثم إدخال المذهب الشيعي في عداد مذاهب “مجمع البحوث العلمية”، الذي تم إقراره في إصلاحات ١٩٦١م.
ثانياً : فتوى جواز التعبد على مذهب الشيعة الإمامية(١٦).
جاء النصّ الأساسي للفتوى عبارة عن سؤال موجّه للشيخ شلتوت من قبل شخص غير محدّد، يطلب فيه رأيه بخصوص اشتراط صحة العبادات والمعاملات بتقليد أحد المذاهب الأربعة الخاصة بالسّنة، دون غيرها من مذاهب الشيعة، وهل يوافق الشيخ على ذلك، وبالتالي لا يجیز تقلید مذهب الشيعة الإماعية الإثنا عشرية، على سبيل المثال :
أجاب الشيخ شلتوت على هذا السؤال عبر ثلاثة أفكار رئيسة:
أ) الفكرة الأولى: لا حصرية التقليد
فالإسلام برأيه لا يُلزم أحداً باتّباع أي مذهب خاص، وأنّ لكل مسلم الحق في أن يبدأ بتقليد أي من المذاهب المعروفة، شرط صحة النقل فيها، وتدوين الأحكام في كتب خاصة، واضحة ومعروفة.
وبالإمكان أيضاً الانتقال بين هذه المذاهب بعد البدء بالتقليد، من دول اي حرج في ذلك.
لقد تجاوز الشيخ بهذه الفكرة ثقافة متجذّرة في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية، تُحتَكَرُ فيها الحقيقة لدى فرقة واحدة، أو مذهب واحد، ولم يبن رأيه في ذلك على نقد خاص لمضامين أيّة فرقة أومذهب، بل ذهب رأساً إلى الفترة الأولى من الإسلام، وإلى المصادر الأولى في هذا الدين، المتمثّلة بالقرآن الكريم وسيرة النبي الصحيحة، الخالية تماماً من أية إشارة مذهبية.
إنّ الجميع اقتبسوا من هذه المصادر، والجميع انطلقوا من هذه القواعد، فلماذا يحقّ لأصحاب الفرق والمذاهب ما لا يحق لغيرهم، وهل ثمّة علاقة بين قرب المسافة الزمنية من فترة المصادر، وبين الحق بالاقتباس منها أو عدمه.
لا يظهر أن الشيخ في صدد إهمال كل المقاربات والتجارب العلمية السابقة، ولا يبدو أنه يقلّل من شأنها أو ينكر إسهامها في فهم الدين وبلورة تعاليمه وأحكامه ، وكل ما يودُّ ترسيخة في هذه الفتوى هو أن هذه المقاربات والتجارب يجب أن لا تحجب المصادر الأساسية عن أي مسلم، أو تحتكر الفهم والتفسير، وإنّ كل ما توصّلت إليه المذاهب والفرق من إضاءات قيّمة لا يخوِّلها حرمان المسلمين بعدها من إحداث إضاءات جديدة، أو البحث في ذلك على الأقل.
فالحرية أمام المصادر هي نفسها التي عاشها الأوائل، والمسؤولية هي نفسها التي تحمّلها هولاء، لا يغيِّر الزمان في الحقائق الثابتة أو الحقوق الواضحة، كما لا ينتهي الطريق إلى الله تعالى، في ختام أي تجربة أو مقاربة.
والشروط التي تسمح بإطلاق صفة “المذهب المقبول”، لا ترتبط بالنتائج التي توصّل إليها المذهب، بل لا تتعلق بأية طريقة سلكها في الفهم او الاجتهاد، إنّما تکتفي بصحة المادة المعتمدة، ومن ثم تدوينها في مصادرها الواضحة والمعروفة . فالإسلام روح منتشرة في كل آية وحديث صحيح، وأنّي توجهت فثمّ وجه الإسلام وروحه.
والانتقال بين المذاهب المقبولة في الشروط، مقبول وجائز في الواقع، ومن أراد إكمال طريقه باعتماد طريق جديد، لا إشكال عليه، ما دامت الطريق إلى الله، بهذا المجال تحديداً، غير محدودة أو معيّنة.
لقد وضع الشيخ شلتوت في هذه الفتوى المسلمين أمام حقوقهم الفطرية وحمّلهم المسؤولية الأساسية، وبالرغم من دقة الموقف وخطورته، إلا أنّ فيه من الحيوية الذهنية، والحرية النفسية، ما يعد بتجارب فكرية جديدة، تتجاوز قروناً متوالية من الانقسامات الموهومة.
ب) الفكرة الثانية : أصول الشيعة الإمامية صحيحة ومعروفة
إنّ الشرط الذي وضعه الشيخ في الفكرة الأولى، أظهر وجوده في بنية المذهب الشيعي الإمامي، فقرّر ترتيب الأثر الكامل عليه. فهو إذن مبني على مادة منقولة بشكل صحيح، وأحكامه مدوّنة بشكل معروف وواضح.
إنّ صدور هذا الحكم بحق مصادر المذهب الشيعي، وتجارب أعلامه، عن واحد من أبرز أعلام السّنة، يمثّل ما يمثّل، من مركز رسمي، ومنصب علمي، ومرجع ديني، مسؤولية كبرى، ومبادرة تنطوي على شجاعة وجرأة.
والشيخ شلتوت في كل مسيرته العلمية كان متشبّثاً إلى أقصى الحدود بأصول آرائه ومقدماتها النقلية والعقلية الصحيحة، وهو هنا في حكمه وإقراره لم يحد عن منهجه وطريقته هذه، وخبرته الرسمية بالمذهب الشيعي تعود إلى عشر سنوات على الأقل، تاريخ انطلاقة أعمال جماعة التقريب بين المذاهب عام ١٩٤٨م، أما خبرته الفعلية والعلمية، فتمتد إلى ما قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً، عندما كان يلقي دروسه في الفقه المقارن على طلبة كلية الشريعة.
طبعاً يجب أن لا نفهم من هذا الكلام أنّ الشيخ موافق شخصياً على كل ما يتضمنه المذهب الشيعي في أصوله وفروعه، فالموافقة محصوره بالمادة التي يعتمدها أعلام هذا المذهب، وبعد ذلك لكلّ طريقه ومنهجه. وإذا كان الشيخ شلتوت قد خرج من شرنقة المذهب الواحد، فمن المرجّح أنه خرج من هذه الوضعية كلياً.
الفكرة الثالث : الخروج من العصبية
أما في الفكرة الثالثة فتكمن بعض الخلفية والغاية معاً. فالشيخ يدعو إلى التخلّص من العصبية، لكونه يرى أن تجارب المذاهب في تاريخ المسلمين وحاضرهم غلبت عليها العصبيات، الحصيلة الكبرى ليست في النتائج العلمية التي توصّل إليها أعلام كل مذهب، بل في الأوهام النّفسية التي حملها أتباع كل مذهب عن الآخرين.
لقد دخل الدين في شرنقة المذهب، فلا دين بقي، ولا مذهب أستقام، والموقف يستلزم إعادة الأمور إلى نصابها. لذلك يتعين على الجميع الفصل بين الدين وصوره في أذهان العلماء. كما يتعين على الجميع إخراج الدين من وضعية الأسر والتحجيم والتحديد التي أرادها المذهب له.
وإذا كان لكل مجتهدين، فلا مانع من أن يكون الكل مقبولین، ولتبقي المسؤولية على عاتق المقلّدين، ولا تلقى تماماً على عاتق المقلّدين. وليكن للعامة من المسلمين دور أخر، غير التعصّب والتحزّب، وهو دور البحث عن الأعلم، وانتخاب الأعلم، وتقليد الأعلم، على مدى الحياة، وليس لمرة واحدة فقط. وليكن التقليد عملية غير خالية من العلم، على الاقل في حدود الحقائق والمبادئ الأولية.
إنّ من يتمعّن في الأفكار الثلاث التي تضمنها نص الفتوى: لاحصرية التقلید، أصول الشيعة الإمامية صحيحة ومعروفة، الخروج من العصبية يدرك بوضوح عدم اعتماد الشيخ شلتوت على أيّ من نتاجات الفقهاء السابقين، وأنّ قاعدته الرئيسة هي قاعدة عقلية، مدعومة بنصوص خاصة من المصادر الأساسية في الإسلام .
ثم إنّه في أحاديثه وتبريراته التي قدمها في سياق توضيح الفتوی، لم يستحضر الشيخ، كعادته، أي رأي مساعد او داعم له في هذا المجال. ما يؤكد الاجتهاد الشخصي بنسبة عالية، إن لم تكن كاملة.
وفي أكثر من ثلاثة عشر قرناً من النّتائج الفقهي والكلامي عند أهل السّنة، وما يوازي ذلك لدى الشيعة، لم يعثر الشيخ فيه على ما يدعم رأيه، أو يمكّن اجتهاده. لكن قيل إنّ الشيخ عبد المجيد سليم كان في صدد إصدار فتوى من هذا القبيل(۱۷) ، لكن أحداثاً حالت دون ذلك.
لا شك بأن الأحداث السياسية في زمن فتوى الشيخ شلتوت كانت مؤاتية، فقد شكّلت انطلاقة الجمهورية العربية المتحدة عام ١٩٥٨م، واحدة من أبرز المشاريع الوحدوية في تلك الفترة، لكن من غير الواقعية ربط هذه الفتوى بتلك الأوضاع العامة بصورة كلّية، ويكفي في هذا المجال القول بأنّها أسهمت بشكل جدّي، في هذا الاتجاه.
وأخيراً يذيّل الشيخ شلتوت وثيقة الفتوى بإحالة للعلامة محمد تقي القمّي يطلب فيها اخذ العلم، والاحتفاظ بهذه الوثيقة في سجلات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أسهمنا معكم في تأسيسها وكأنه أراد الإشارة بأنّ فتواه تلك هي واحدة من إنجازات دار التقريب، وعلی هذه الدار أن توثّق المصدر الفعلي للفتوى، عبر وضعها في السجلات الخاصة بها. وهكذا يكون الشيخ شلتوت قد قدّم أكبر إنجازات جماعة التقريب الدار التقریب، دعماً لها، واعترافاً بدورها الرئيس.
ثالثاً : المذهب الشيعي في مناهج الأزهر والمجمع العلمي
لم يكن إقرار المذهب الشيعي في مناهج التدريس في الجامع الأزهر خطوة اعتيادية في واقع الجامع الأزهر ومستقبله، وعلى الرغم من كونها تنطوي على مبرّرات علمية أشار إليها الشيخ شلتوت، إلا أنّه لم يكن يقتصر في هذا القرار على معطياته العلمية، على أهميتها،
فالقرار في شكله ودلالته الرئيسية اعتراف بالمذهب الشيعي، وبمضمونه وأصوله الشّرعية والعلمية، ومع كل ما يقال عن تاريخ الأزهر في مجال اعترافه بالمذهب الإسلامية، لا سيما في الحقبة الفاطمية، وتصدّر المذهب الشيعي الإسماعيلي، إلا أنّ خطوة الشيخ شلتوت تبقي مختلفة تماماً عن ما سبقها.
فمذهب الإماميّة تحديداً لم يحظ باعتراف رسمي بهذه الطريقة منذ تأسيس الأزهر، ولم یکن اشتراكه في التسمية العامة مع المذهب الفاطمي سبباً لتقديمه على غيره من المذاهب الإسلامية، بل لا توجد معطيات تاريخية تؤيّد أيّ دور تعليمي لأعلام الإمامية في العهد الفاطمي، فضلاً عن غيره.
لقد تمت بهذه الخطوة عملية فصل غير مسبوقة، بين مناهج الدراسة الفقهية عن بعض المقولات الكلامية الخاصة بها، وهي المرّة الأولى التي يتمّ التعاطي فيها مع أعمال الفقهاء، بعيداً عن بعض أصولهم الكلامية التي لا شك بتأثيرها العام على تلك الأعمال.
فالسائد في التاريخ هيمنة المقولات الكلامية، لا على منهج الفقيه ومواده المعتبرة فحسب، بل على تقييم هذا المنهج ونتائجه المقرّرة من قبل الأطراف الأخرى المختلفه معه في المذهب.
ولا شك بأنّ الحِشرية العلمية كانت تدفع الكثير من الفقهاء السّنة والشيعة للاطلاع على أعمال بعضهم البعض، لكن بنيّة النقد، واكتشاف نواحي الضّعف، وإبراز الفقه الخاص، أكثر من الإعادة الفعلية من الآخر أو البناء عليها.
كما لم تسجّل المصادر التي بين أيدينا روايات عن مستوى إقبال الأزهريين للتعرف على مضامين الفقه الشيعي، وبالتالي فالاتجاه العام الذي ساد هو مقارناتهم العلمية له، ومن المرجّح أن التيّار الغالب كان تفنيد ونقد هذه المضامين، أكثر من اعتمادها أو تقديمها على غيرها من المذاهب، وربّما ارتدّ ذلك سلباً على الموقف العام من الشيعة وعلومهم في أوساط الأزهريين، لكن القضيّة لا تكمن بالنتائج المحدودة التي توصّل إليها البعض.
فالاطلاع المباشر على مناهج الشيعة وأصولهم يسمح بتكوين صورة واقعية ونقيّة نسبياً عن هذا المذهب، الذي قد لا يشترك مع غيره في مصادر الأصول الفقهية، ولكنه يشترك بالكثير من معانيها ومعطياتها، والمناهج المعتمدة في التعامل معها.
وسيرى الفقيه السّني أنّ الاختلاف يكمن بشكل رئيسي بالأسماء التي ينقل عنها هذا المذهب، ويحصر المصادر فيها، أما ما بعد الحصول على مواد المصادر، فإنّ الكثير من الطرق ستبدو متقاربة، بل ومتشابهة في بعض الأحيان.
إذن خطوة الشيخ شلتوت تكمن في الأساس في أنّها أتاحت لطلاب الأزهر وفقهائه التعرف على الفقه الشيعي، من دون واسطة، وبطريقة علميّة قائمة على منهج المقارنة، وبعيداً عن بعض مقولاته الكلامية المخالفة للمذاهب السنّية.
في بعض تصريحاته(١۸) الخاصة بهذا المجال، أشار الشيخ شلتوث إلى بعض التفاصيل الخاصة بدراسة الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية.
فالمطلب الأول، الابتعاد عن التفريق المنهجي بين السّنة والشيعة ، ثم إنّ القضية المركزية في المقارنة تنحصر في موضوعي الحكم الفقهي والأدلّة المعتمدة(١۹).
والمطلب الثاني، السير وراء الدليل دون التفات إلى كونه موافقاً أو مخالفاً لمذهب الأستاذ أو الطالب(۲۰)، وهذا ما أشرت إليه قبل قليل، واعتبرته عملية فصل لعلم الفقه من علم الكلام. وعلى الرغم من كونه إجراءاً محفوفاً بالكثير من الاعتراضات الكلامية، التي قد تهدّد عملية الفصل هذه في الصميم، إلا أنّها محاولة قد تؤدي إلى رسم حدود جديدة أكثر دقة وموضوعية بين هذه العلمين.
المطلب الثالث، بحث مواضع الاختلاف في أصول الفقه بین المذاهب كلها، بما فيها المذهب الشيعي(٢۱)، وهذا نوع من التوغّل في مباني القواعد الفقهية العامة التي تتأسّس عليها معظم عمليات الاجتهاد الفقهي عند الجميع، وإذا كانت عملية التقعيد في الأساس عليه عقلية،
فإنّ مقارنة نتائجها بين المذاهب تبدو عملاً عقلياً بامتياز يسمح بالكثير من النقد والتقييم، من دون التعرّض إلى صدقية المواد الأساسية، حيث یبرز الاختلاف.
وإذا كانت تجربة أصول الفقه، منذ انطلاقتها مع أعلام المذاهب في القرن الثالث الهجري، وما بعده، تجربة فيها الكثير من التقارب والاشتراك بين المذاهب فإنّ التوغّل بمعطياته الأخيرة يشكّل تكريساً للمنطلقات المشتركة في هذه التجربة؛ ولأنّ المقارنة تبقى ناقصة منهجياً، إذا لم تتناول المادة الأوّلية لعلم الفقه، ومتعلّقاته كافّة، فقد أشار الشيخ شلتوت إلى المطلب الرابع في هذه الدراسة عندما حدّده بعلم مصطلح الحديث و رجاله(٢۲).
وهنا تكمن المقاربة الحاسمة في هذه الدراسة، حيث يبرز الخلاف، وتتشكّل الفوارق. لقد حصر الشيخ شلوت دراسة رجال الحديث بالرجال المشهورين وأصحاب المسانيد(٢۳)، مُبقياً على المنحى العقلي في هذه المقاربة، حيث شكّلت المقارنة المحور الرئيس.
وبالرغم من تعقيدات الموقف فقد أشار الشيخ إلى أنّ التوسّع بهذا المطلب من مطالب الفقه المقارن، يقتضي الانتقال إلى الدراسات العليا بكلية الشريعة(٢۴).
لم يوضّح الشيخ محكّات المقارنة، وإذا ما كانت بعيدة كلياً عن مذهب صاحب المسند، أو ناقل الحديث، وهل بالإمكان تجاهل ذلك كلّياً في مقام المقارنة هذه. ربما كان لمذاهب أهل السنة فرصة أوسع في هذا المجال، كونها تفصل بين الفروع، أي علم الفقه، والأصول، أي علم الكلام، وهذا ما منح الفقه مساحة واسعة في الاستقلال عن غيره من العلوم الشرعية عندهم، لكنّ الأمر يختلف في المجال الشيعي الإمامي، حيث الأصول والفروع موحّدة ومتناسقة بشكل خاص.
وعلى أيّ حال تبقي هذه الخطوة ريادية في تاريخ المذاهب الإسلامية، وبالرغم من غياب أيّة نتائج بارزة لها على مستوى التنفيذ، إلا أنّها تجاوزت الكثير من الموانع التي كانت تحول بين طالب العلم وإطلاعه الواسع، إذا ما أراد، على إنجازات الفقه خارج دائرته الخاصة. ولم تعد الإفادة من الآخر، عملية مشبوهة، أو مدعاة للشك. على الأقل من الناحية النظامية أو الرسمية.
أما في ما يتعلّق بإدخال المذهب الشيعي في مجمع البحوث العلمية، واعتبار العضوية الشيعية في نظامه الأساسي، فهي فكرة لا تقل أهمية عن القانون السالف، بل أكثر قوة، وأوسع تأثيراً منها.
وإذا كانت نتائج دراسة الفقه المقارن محصورة نسبياً في الجامع الأزهر، فإنّ دور مجمع البحوث العلمية، كما كان مقرراً، يتجاوز في مساحته مصر إلى العالم الإسلامي، بل إنّه المؤسسة المرجعية التي كان من المفترض أن تتحمّل مسؤولية تجديد الفهم الديني، ومعالجة القضايا الراهنة فيه، وهو أعلى مرجعية بإمكانها البتّ بالكثير من الخلافات المذهبية، وتحديدها، أو حصرها، في حدودها الخاصة.
لم يتعرّض النظام الأساسي الخاص بمجمع البحوث العلمية لعدد الأعضاء الشيعة، وآلية دخولهم في العضوية، كما لم يحدّد الشروط المطلوبة لذلك، ومن الراجح أنّهم، لم يكن ليشكّلوا نسبة عالية، لكن وجودهم في المجمع سوف يسهم إلى حد بعيد في تقديم المذهب بصورته الواقعية ، كما إنّه سيحد من تنامي الشّبهات والخلافات، فضلاً عن تعزيز للتقارب والتفاهم.
لقد صدر القرار الخاص بهذا المجمع، قبل فترة وجيزة من وفاة الشيخ شلتوت، وعلى الرغم من حماسه الشديد له، وسعيه الدؤوب لإقراره، إلا أنّ المعطيات الواردة حول نشاطه وبرامجه لا تفيد بإنجازات نوعية على مستوى التقارب السّني والشيعي.
فقد تقدّمت، على ما يبدو، الهموم العلمية العامة ذات المستوى الإسلامي الواسع على الأهداف الداخلية والخاصة، ويبدو أنّ فكرة الوحدة الإسلامية في هذا المجمع كانت مرتبطة إلى حد بعيد بالشيخ شلتوت ومبادراته الخاصة، حتى إذا ما توفي بعد أقل من ثلاثة أعوام على إقرار المجمع انحسرت الملامح الوحدوية، ولم نعد نسمع عن تداعيات جديدة للفكرة الأساس.
رابعاً: مواقف متفرقة
من ناحية ثانية، فقد عبّر الشيخ شلتوت مراراً عن أسفه الشديد من استخدام تفسير القرآن الكريم في مجال الخلافات المذهبية، مقترحاً إبعاد هذا الكتاب المقدّس عن هذا الميدان احتفاطاً بقدسيته وجلاله(٢٥) ومن ثم الإبقاء عليه متبوعاً وحاكماً، وليس تابعاً او محكوماً عليها(٢٦).
ولم يتردّد في مدح تفسير مجمع البيان لعلوم القرآن، للشيخ الطبرسي، وهو أحد أعلام الشيعة الإمامية في القرن السادس الهجري، عندما وجد فيه توازناً منهجياً في تناول الآيات القرآنية، بل أسهم في طباعته ضمن إطار منشورات جماعة التقريب، وكتب مقدمة له، اعتبره فيها بأنه نسيج وحده بين كتب التفسير(٢٧). وأنه کان أول – ولم يزل أكمل مؤلّف من كتب التفسير الجامعة(٢٨)، ولم ينس الشيخ شلتوت تسليط الضوء على الجانب المذهبي في هذا الكتاب، مستنتجاً أنّ المؤلف قد غلّب إخلاصه للفكرة العلمية على عاطفته المذهبية(٢٩).
إن اللقاءات العديدة والتواصل الدائم مع أعلام الشيعة في تلك الفترة، وفي مقدمتهم آية الله حسين البروجردي في إيران، وآية الله محمد حسين آل كاشف الغطاء في العراق، وآية الله السيد عبد الحسین شرف الدين والشيخ محمد جواد مغنية في لبنان والصحبة الدائمة مع العلامة محمد تقي القمي، العنصر المحرك لجماعة التقريب في القاهرة، وغير هؤلاء من أعلام الشيعة في العالم العربي والإسلامي، أمّن مناخاً ودّياً، انعكست أثاره على فكر الشيخ وإنتاجه العلمي، وقراراته العامة في الجامع الأزهر.
لقد أدلى الشيخ شلتوت بآراء عديدة حول المذهب الشيعي کشفت عن خبرة عميقة بهذا المذهب، فقد نقلت مجلة الأزهر رأيه بالخلاف القائم بين السّنة والشيعة، حيث رآه كالخلاف بین مذاهب السّنة بعضها وبعض(٣٠)، وأنّ أصول هذا المذهب واضحة ومعروفة في العقيدة والشريعة على السّواء، ولا تخرج عن كونها أصول معتبرة عند جميع المسلمين.
في العام ١٩٥٩م تنقل مجلة الأزهر عن محمود الشرقاري، أستاذ في الجامع الأزهر ومعاصر للشيخ شلتوت، عدم استغرابه من كل ما يصدر عن الشيخ شلتوت في مجال التقريب بين المذاهب، وأنه قد سمع بهذه الآراء من الشيخ منذ سنين طويلة، وهو أستاذ في كلية الشريعة، أو لاحقاً في جماعة كبار العلماء، وغيرها من اللجان العلمية، ولكن الجديد هو أنّ ما سمعناه نسمعه الآن منه وهو شيخ للأزهر بوصفه هذا…(٣١).
لا نعرف بالتحديد كيف توصّل الشيخ شلتوت إلى هذه الآراء بصورة مبكّرة من حياته، كما لا تعرف شخصية علمية ذات تأثير قوي على الشيخ حملت هذا النوع من الأفكار والآراء، ما يرجّح إمكانية وصوله إلى ما وصل باجتهاد شخصي، وعقل منفتح وقلب يستوعب الآخر المسلم كما هو، ومن دون شروط مسبقة.
وبالرغم من المعارضة الدؤوبة التي واجهها الشيخ شلتوت شخصياً، وجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية عموماً، فقد سلكت طريقها وأحدثت تحوّلاً في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي على حد تعبير الشيخ، بالإضافة إلى كونها سابقة في عالم الأديان كانوا أسبق من غيرهم تفكيراً وعملاً في تقريب مذاهبهم وجمع كلمتهم وفق تعبيره أيضا(۳۲).
خامساً: ملاحظات أخيرة
اهتم الشيخ شلتوت بكل ما له علاقة بالفكر الإسلامي، وقدّم نتاجاً معرفياً أصيلاً، لا سيما في مجال القفه والتفسير، وكانت له إطلالات لا تخلو من جدّة في مجال الأفكار التي تتصل بالعقيدة، والتديّن العقلي.
لكن مما يلاحظ في إنتاجه، الغياب النّسبي للموضوعات الكلامية، فلم يعهد عنه أنّه أنجز بحوثاً في الأصول العقائدية، على غرار ما يفعله علماء الكلام في التاريخ وفي الحاضر، لا على سبيل الإنشاء، ولا على سبيل النقد.
كما إنّه لم يتعرض بشكل معمّق للآراء الخلافية بين السّنة والشيعة في هذا المجال، وإذا ما اضطّر في بعض الأحيان لشيء من هذا القبيل، فإنّه يسعى للخروج بأفكار وسطية استيعابية لكلا الطرفين.
وهذا أمر مثير بعض الشيء، لا سيما إذا ما دقّقنا بقوة العقل التجريدي الذي يتمتّع به، وإنجازاته النوعية فيما يتعلق بالموقف من الآخر المختلف، مذهبياً أو دينياً.
والشيخ محمود شلتوت لم يتخلّ عن أي أصل من أصول العقيدة الإسلامية، كما هو ثابت عند جميع مذاهب أهل السّنة، كما إنّه لم يعلن اعتناقه لأي أصل من هذه الأصول الخاصة بالشيعة، وإذا ما تمادينا في ذلك لم يظهر الشيخ أي إشارات تفيد توليفاً أو دمجاً بين هذه الأصول، أو على الأقل تعني فهماً مختلفاً لها عن الأسلاف والنّظراء.
والحقيقة أنّه لا يمكن النظر إلى هذا الموضوع بشيء من التبسيط، أو التجاوز، لكونه يمس الخلفية التي انطلق منها الشيخ في مقارباته العلمية لموضوعات الوحدة الإسلامية، ذلك أنّه لم يطرح هذه الموضوعات من باب الموقف أو المشروع السياسي فحسب، كما هو الحال في كثير من المشاريع الوحدوية القائمة في وقتنا الحاضر.
إذن كيف نفهم هذا السلوك المحايد للشيخ شلتوت في الكلامیات الإسلامية؟
ليس لدينا في المقاربة لهذا الموضوع معطيات مباشرة، ولكن سوف نعتمد التحليل لوضع بعض النقاط الأساسية في هذا المجال.
إنّ الفكرة الرئيسة في تجربة الشيخ شلتوت في الاجتهاد، في مجال الفروع كما في مجال الأصول، لكن تجربة الاجتهاد في الأصول كانت وراء الكثير من التمذهب والعصبية المذهبية في التاريخ الإسلامي، ويبدو أن الشيخ قد قرّر أنّ التوغّل، أو التوسّع، في مجال الكلاميات قد أضرّ بالمسلمين أكثر بكثير مما نفعهم، بل إنّ الكثير من المباحث الكلامية أصبحت جزءً جامداً في تاريخ الفكر الإسلامي، ولكن آثارها الاجتماعية والفقهية السلبية لا تزال قائمة وحيّة.
فمساحات الاجتهاد الكلامي الضرورية محدودة، بينما مساحات الاجتهاد الفقهي الضرورية غير محدودة، وبينما الاجتهاد الأول يضرب في جذور الوحدة، وينشئ المذاهب المتفرّقة، فإنّ الاجتهاد الثاني يملك إمكانية التجاوز لكثير من عناصر التفرقة، وهذا هو واقع الفرق بين مذاهب السّنة والشيعة كلامياً، وواقع المذاهب السّنية الأربعة فقيهاً. وهذه ليست دعوة للعزوف عن علم الكلام مطلقاً، ولكنّها رسالة للاكتفاء بالحدود الضرورية والمفيدة له.
ثم إنّ الشيخ شلتوت رجل دين إصلاحي ونهضوي، يسعى لنقل التفكير الإسلامي من مرحلة العصبية والبغضاء، إلى مرحلة الوعي والاحترام المتبادل، ولا توجد قضية كلامية في زمانه تستحق المجازفة بمشروعه هذا الذي قدّم له أخصب سنّي عمره وفکره.
وهذا الأمر نجده في سلوكه مع غير المسلمين، حيث يسعى للتقليل من حدّة الخلاف، بل وإعادة النظر في بعض الأفكار الإسلامية الاجتهادية، بما يؤمّن مساحات مشتركة للعيش مع النصاری، كما رأينا في بعض فتاواء الخاصة بتناول طعام أهل الكتاب.
لا مجال لمناقشة مضمون آرائه في هذا المجال، لكن بالإمكان اعتبار هذه الخلفية واحدة من الأسباب التي أدّت إلى تجنّب الخوض في الكلاميات الإسلامية عند الشيخ شلتوت.
أخيراً، من المفيد الإشارة إلى أنّ إنجازات الشيخ التنظيمية والميدانية بخصوص التقريب بين المذاهب الإسلامية، لا سيما فتواه الشهيرة، بقيت يتيمة في الجامع الأزهر. فلم نعد بعد وفاته نسمع جديداً في هذا المجال، ومن المؤكّد أنه لم يتم تجاوز هذه الإنجازات إلى ما هو أهم منها، أو حتى البناء عليها بما يتناسب مع قوّتها وفرادتها.
ومن جهة أخرى، لم نعثر على تداعيات أو مبادرات مماثلة داخل الإطار الشيعي، الإمامي أو الزيدي، فعلى الرغم من الترحيب الواسع، الصادر عن كبار أعلام تلك الفترة من الشيعة، إلا أن الأمور لم تتجاوز ردّة الفعل الإيجابية، أو التأييد الحماسي. حتي بدا وكأنّ فتوى الشيخ شلتوت لم تکن سوی استعادة حق مهدور، أو اعتراف متأخّر بوجود.
لا أدري إذا كان بالإمكان ملاقاة الشيخ شلتوت بخطوة مماثلة، كما لا أعرف إمكانية إصدار آراء أخرى على مستوى التقريب بين المذاهب من وزن تلك الفتوى، ويكون لها الأثر القوي المماثل، لكن من المؤكد إذا لم نجتهد في هذا الاتجاه فإنّنا لا نلبث أن نفقد كل الحيوية في هذه الإنجازات، بعد أن فقدها نسبة کبيرة منها. وربما يأتي يوم ننظر فيه إلى هذا النوع من المقاربات التوحيدية، كنظرتنا إلى أية محاولات غير مدروسة في التفكير الإسلامي، وبالتالي تأخذ مكانها في تاريخ الفكر الإسلامي المنسي.
الهوامش
١. محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ٦٨.
٢. المصدر نفسه.
٣. المصدر نفسه، ص٦٩.
٤. المصدر نفسه.
٥. المصدر نفسه، ص٧٣.
٦. محمود شلتوت، من توجيهات الإسلام، ص٤٤٠.
٧. المصدر السابق.
٨. محمود شلتوت، تفسير القرآن، ص١١٠.
٩. محمود شلتوت، ملحق مجلة الأزهر تشرين أول ١٩٥٨.
١٠. المصدر نفسه.
١١. محمود شلتوت وآخرون، جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت ١٩٩٠.
١٢. المصدر نفسه، ص٤٠.
١٣. المصدر نفسه ص٣٨ و ٣٩.
١٤. محمد محمد المدني، مجلة الأزهر، المجلد رقم ٣٥، سنة ١٩٦٤، ص٦٥٤.
١٥. محمد شلتوت وآخرون، كتاب جماعة التقريب، ص٤٠.
١٦. راجع نص فتوى في ملحق رقم (٥).
١٧. علي أحمدي، الشيخ محمود شلتوت، تعريب عامر شوهاي، المجمع العالمي، للتقريب بين المذاهب الإسلامية، طهران، ٢٠٠٧، ص٧٥ – ٧٦.
١٨. مجموعة من المقالات والتصريحات نشرها مرتضى الرضوي في كتاب خاص معنون بالآية القرآنية ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا …) دار العلم للطباعة، القاهرة ١٣٩٨، ص٣٩.
١٩. المصدر نفسه.
٢٠. المصدر نفسه.
٢١. المصدر نفسه.
٢٢. المصدر نفسه.
٢٣. المصدر نفسه.
٢٤. المصدر نفسه.
٢٥. محمود شلتوت، تفسير القرآن، ص١٠.
٢٦. المصدر نفسه.
٢٧. محمود شلتوت، مقدمة تفسير مجمع البيان لعلوم القرآن للشيخ الطبرسي، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية مديرية الترجمة والنشر، طهران ١٤١٧هـ ١٩٩7م، ص٢٠.
٢٨. المصدر نفسه.
٢٩. المصدر نفسه.
٣٠. محمود شلتوت، مجلة الأزهر، المجلد رقم ٣١، سنة ١٩٥٩، ص٢٤٠/ ٢٤١.
٣١. محمود الشرقاوي، مجلة الأزهر، المجلد رقم ٣١ عام ١٩٥٩، ص١٤٤.
٣٢. محمود شلتوت، مقدمة كتاب قصة التقريب بين المذاهب الإسلامية، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت ١٩٩٠، ص٤٩.
المصدر: الصفحة الـ 149 من كتاب ” الشيخ محمود شلتوت، قراءة في تجربة الإصلاح والوحدة الإسلامية. للمؤلف الدكتور حسن سلهب. – منشورات مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. – سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي.
تحميل الكتاب