الاجتهاد: تكمن أهمية “التقریرات الأصولیة” التي خطّها يراع المحقق الكبير الشيخ حسين الحلّي (رضوان الله تعالی عليه) في إضافة نافذة جديدة يطلّ القارئ من خلالها على الآراء الرصينة، والأفكار المتينة، والمباحث الثمينة التي ألقاها أستاذه الأعظم الميرزا محمد حسين الغروي النائيني – تغمّده الله – أحد مؤسسي المدرسة الأصولية الحديثة في النجف الأشرف –
و يمكن من خلال الاطلاع على ما في هذه التقریرات مع ما في «أجود التقریرات» و «فوائد الأصول» الوقوف بشكل شامل و دقيق على آراء و أفكار و مباني الميرزا النائيني، تغمّده الله، هذا.
مضافاً لما في هذه التقریرات من مزايا فريدة من نوعها و خصوصيات اختصّت بها دون سائر التقارير الأخر، فيجدر بنا إذاً أن نشير إلى جملة منها في هذا المقام، و هو نزر يسير من الكثير الذي تركه للقارئ الكريم عند مطالعته هذا الكتاب، و نلخصها بما يلي:
الأولى: أنّ المطالب العلمية المتينة المطروحة في هذه التقریرات الأصولية بقيت تساير الشيخ الحلّي في بحوثه التي كان يلقيها على تلامذته إلى أواخر أيامه فيعتمد عليها و ينقل منها نصوصاً كاملة تجدها بصورة واضحة في الدورة الأصولية التي طبعت حديثاً.
الثانية: أنَّ المُقرِر يُلقي دائماً على مطالب أستاذه بصورة منفصلة بقوله: (قلتُ:)، هذا بعدُ من الإبداع القليل النظير، والأسلوب الجديد في تقرير مطالب الأستاذ وعدم تركها إلا بعد التعليق عليها، وإن دلَّ على شيء فإنما يدل على النبوغ والضبط العلمي في فهم مرادات الأستاذ وبَيَانها وتوضيحها بدقة وأمانة مع ذكره لتاريخ التعليق في كثير من الأحيان.
الثالثة: أنَّ المُقرِر ذَكَرَ تواريخ مضبوطة لبداية كل درس، والإشارة إلى التعطيلات والمناسبات العامة، والخاصة التي مرَّت عليهم أثناء البحث، فيُشير إليها بدقة، ويُدوِّن في بداية كل درس أو نهايته، وستطلع على ذلك كله مثبتاً في هامش الكتاب.
الرابعة: أنَّ المُقرِر كان يَغوص في الفروع الفقهية والأصولية المتعلقة بالمسألة والبحث والتحقيق في مجال أدقِّ المطالب العلمية وأعمقها، وطرح مباحث ووجهات نظر غزيرة حبَّذِيهَا في مسائل الأصول بشكل مُنقَّح لا يوجد في تقريرات الأعلام المعاصرين له، وذلك عن طريق المقارنة مع الموجود في بقية التقريرَات، ومناقشتها حسب ما هو موجود في كل تقرير، مُبيِّناً رأيه وجهة نظره مبتعداً ذلك عن غريزة حب الذات إذ يُبينها بتواضع وإنصاف رافع شائبة النقل للوصول إلى المراد المراد لأستاذه، كما يدافع عن رأيه في قِبَال إشكالات بعض أعلام تلامذته،
ومن الأمثلة على ذلك ما نَصَّه:
والإنصاف: أن ما اشتمل عليه التحرير المطبوع في مصبا هو أَوْفَق ببيان هذا المقام من هذا التحرير، فراجع وتأمل، ويعني بذلك “الأجوَد التقريرَات للسيد الخوئي”
ثمَّ إنَّ جُملة هذه التقريرَات كافية لاستغناء ستاذها مُبيّنة لطلبها، أو لا تُوافق لإدراك ما أفاده (دام ظلُه) في شرح هذه الفقرة من الرواية الشريفة، ونظيرها الكثير.
الخامسة: أنَّ المباحث والمطالب العلمية المذكورة في هذه التقريرات المشحونة بالتحقيق والتدقيق والسعة والشمول تكاد لا نجدها في التقريرات الأخرى، فهي من إبداعاته ومبتكراته التي اختصَّ بها، وحصل عليها عن طريق المناقشة مع أساتذته، أو سؤاله بعد الدرس، فذكرها بعنوان سألته فأجاب، أو قلتُ فأجاب
كما في الأمثلة الآتية:
1 ـ قُلتُ: لِمَ لا يكون الجامع هو مطلق التلبُّس أعمّ من التلبّس الفعلي والتلبّس المنقضي؟
وأجاب (دام ظلّه) عن هذا السؤال بأنّه كيف يمكن صدق التلبّس على صورة الانقضاء؟ إذ لا تلبُّس فيها.
2 ـ وقد عرض بخدمته (دام ظلّه): أنَّ الأمر الاحتياطي يمكن تصحيح عبادته بالاندكاك مع الأمر الواقعي، فأجاب بما حاصلُه ما تقدّم ذكره من عدم إحراز الأمر الواقعي في مقام الاحتياط الاستحبابي.
3 ـ وقد عرض هذا الأخير بخدمته (دام ظلّه)، وأجاب عنه بما تقدّم ذِكره، فراجع.
4 ـ عُرِضَ هذا الإشكال بخدمته بعد نزوله من المنبر، وأجاب بخلاصته بما حصلَه ما ذكرناه في ما بعد لا تقول.
5_قلتُ: يمكن أن يُستدلّ لوجوب الفحص فيما نحن فيه بأنَّ موضوع التخيير هو التساوي، كما يعطيه ما تضمنته رواياته من مثل قوله: «كلاهما عدلان»، وقول الإمام «إذن فخيِّر»، وحيث إنّه لا يحرز، فلا بُدَّ في الرجوع إلى التخيير من إحراز موضوعه الذي هو التساوي، ولكنه موضعاً وجهدياً.
وأجاب (دام ظلّه) عن ذلك بأنَّ الفرض من هذا العنوان الوجودي أمر عدمي، وهو عدم رجحان أحدهما للآخر.
السادسة: أنَّ هذه التقريرات حظيت بمتابعة ومراجعة الميرزا النائيني نفسه في عدّة موارده، إذ عالج فيها مطالب مهمّة متخلّفة فيها بين تلامذته، وكتبها بقلمه الشريف في هذا التقرير، وبعضها بقلم ولده الميرزا علي الغروي النائيني نُقِّلت بخطّه عنه، كما ستجده واضحاً في حاشية من هذا الكتاب.
السابعة: أنَّ مقرّر هذه الدروس يُعدُّ من أجلّة تلامذة الميرزا (ره)، إذ لازمَه ملازمة الظلّ للشخص، فلم يترك بحوثه طيلة حياته ولبدة (١٤) سنة، فكتب تقريرات بحثه في الفقه والأصول وصار من مشاهير مقرّري بحثه معروفاً بنزارة العلم ودقّة النظر، ففهمه لمراد أستاذه أمكن وأدقّ من غيره.
الثامنة: أنَّ المقرّر (ره) أتعب نفسه في كشف زوايا وخفايا كثيرة وبيانها بصورة واضحة، إذ نجده في بعض الأحيان ينقل بعض الوارد من تقريرات آخر خلطوطة لبعض زملائه العظام، كالسيّد جمال الدين الموسوي الكلبايكاني، والشيخ موسی الخراساني، والميرزا أبو الفضل الأصفهاني، قدس الله أسرارهم، للوصول إلى مبتغاه في استيضاح المراد.
التاسعة: أنَّ هذا التقرير اشتمل على مطالب وبحوث غير موجودة في «الأجود» والفوائد، مما استفادها من أستاذه مشافهةً وبلا واسطة، وسيشهد الشواهد والقرائن العديدة على ذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مباحث الاجتهاد والتقليد التي خلا منها التقريران المذكوران.
العاشرة: اهتمام المقرِّر بآراء أستاذه دام ظلّه بصورة كبيرة جداً وبشكل كامل، إذ يَقصِد إلى توضيحها وبيانها والدّفاع عنها وتوجيهها في مقابل آراء الآخرين، ولكن هذا لا يعني عدم مناقشته لأستاذه في موارد متعددة وعدم ارتضائه لرأي أستاذه أحياناً، وربّما يتواضع لأستاذه أحياناً أخرى ويكبر من شأنه عندما يعترف بأنّه ربّما لم يتوصّل لمقصوده من ظاهر كلامه بعد مناقشته.
الاجتهاد موقع فقهي