الاجتهاد: مع حلول شهر رمضان تتكثف الأسئلة..أسئلة الذات، وأسئلة الواقع، كيف نسمو إلى مستوى القيم التي جاء بها رمضان؟ ولماذا نهدر كأمة فرصة رمضان لنكون على طبق الصورة التي أرادنا الله أن نكون عليها؟ ومع هذه المساحة من كلمات العلامة السيد حسين فضل الله(رض).
في هذه الأيام التي ننتظر فيها شهر رمضان المبارك، يروى أنَّ رسول الله (ص) وقف خطيباً في آخر جمعة من شعبان، من أجل إعداد المسلمين روحياً وفكرياً وعملياً، للدخول في هذا الشهر من موقع الوعي للمسؤوليات التي تنتظر الإنسان المؤمن ليرتفع بروحه وبقلبه وبكل طاقاته ليكون قريباً من الله تعالى وحبيباً له، فهذا الشهر هو شهر القرب إلى الله، وقد وصفه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) في دعائه عند دخول شهر رمضان بأنه “شهر الرحمة وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر الإسلام”، كأن الإمام (ع) يريد أن يقول للناس: إنكم في هذا الشهر تتحركون في بيوتكم وأسواقكم ونواديكم، وفي كل مواقع النشاط في حياتكم، في ظلال رحمة الله، فالله ينظر إليكم بعين الرحمة.
ويقول (ع) لنا: أيُّها المؤمنون، إنكم جمعتم في هذه السنة التي عشتموها _ بين أواخر رمضان وبدايات رمضان آخر _ الكثير من الخطايا والذنوب، واختزنتم الكثير من العيوب، وأخذتم بالكثير من القذارات الروحية والفكرية والعملية، وقد حان وقت الطهور، لأن الإنسان عندما يشعر بقذارة جسده، فإنه يسرع إلى تطهيره من كلِّ القذارات، ألا نفعل ذلك في كل يوم؟ ولكن هناك قذارة أكثر خطورةً من قذارة الجسد والثوب، وهي قذارة العقل عندما يحمل فكراً خبيثاً، وقذارة القلب عندما يحمل عاطفة شريرة، وقذارة الطاقة عندما يحركها الإنسان في اتجاه الشر لا في اتجاه الخير. لذلك، اجلسوا وافحصوا قلوبكم بين يدي الله، واسألوه أن يطهِّر عقولكم بالحق، وقلوبكم بالمحبة، وطاقاتكم بالخير، حتى تكونوا جديرين بضيافته، وأية ضيافة أكثر إحساساً بالسعادة أن الله يستضيفك، ونحن نعرف أن المضيف يرعى الضيف بكل ما لديه من إكرام.
أن تشعر بضيافة الله أن تدخل إلى بيت الله طاهراً، وبيت الله طاعته وتقواه ومواقع عبادته، لذلك عندما ندخل في ضيافة الله، علينا أن نتطهّر لنخرج من شهر رمضان بعد ذلك طاهرين مطهّرين.
وهو شهرالإسلام، فالله تعالى أنزل القرآن الكريم في شهر رمضان ليهتدي به الناس، ليقرأوه ويتدبّروه ويفهموه، ليملأوا عقولهم من عقل القرآن، ويملأوا حياتهم بكلِّ قيم القرآن، {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}. وعندما يكون رمضان شهر الإسلام، فلا بد لنا من أن نعيش الإسلام كله في هذا الشهر، أن يدرس كل واحد منا هل أن ذاته إسلامية؟ هل يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه؟ هل يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه؟ هل يأخذ بالحق أم يأخذ بالباطل؟ إذا كان شهر الإسلام، فعلى كل واحد منّا أن يفتش هل أن بيته بيت إسلامي؟ هل أن عياله وأولاده يطيعون الله أم يعصونه؟ هل يحملون الإسلام في عقولهم أم يحملون الكفر؟ وأن يفكر كل واحد منّا كيف نحمي الإسلام من كل الذين يكيدون له، وإن نستذكر ما حققه المسلمون في شهر رمضان، حيث انتصروا في بدر في بداية الجهاد، وكان الفتح المبين للنبي (ص) في مكة عندما فتح الله لنبيّه الفتح المبين.
وهو شهر التمحيص الذي يمحّص فيه الإنسان كلَّ نقاط ضعفه ليحوّلها إلى نقاط قوة، وأن يستزيد منها إذا كانت نقاط قوة، وعندما نعيش هذه الروح في ضيافة الله وأجواء كرامته، فإن أنفاسنا تسبّح، ونومنا يتحوّل إلى يقظة عبادية، وأعمالنا سوف تكون مقبولة، ودعاءنا سوف يكون مستجاباً، وسوف يمنحنا الله الكثير الكثير عندما ندعوه بنيّات صادقة وقلوب طاهرة من أجل أن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن نطلب منه المغفرة لأنه موسم المغفرة والعفو والرضوان، ولهذا يقول رسول الله (ص): “فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم”، لأنه يخسر رأس ماله في الموسم.
ويبيّن لنا رسول الله (ص) الأساليب التي يواجه فيها الإنسان هذا الشهر عندما يصوم، وذلك من خلال نقطتين: الأولى أن يتذكر جوع الفقراء والمساكين، وسيأتي الحديث عن هذا الموضوع. والثانية هي الحالة الروحية، وذلك أنك إذا جعت في شهر رمضان، فعليك أن لا تشغل بجوعك أو عطشك، بل أن تفكّر بيوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، وأن تتذكّر جوع يوم القيامة وعطشه، فإذا طال وقوفك بين يدي الله لأنك حمّلت ظهرك أوزاراً وخطايا، فسوف يطول موقف الحساب يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ولكنك إذا كنت قد تخفَّفت من ذلك، فسوف يكون الحساب يسيراً، وسوف تنقلب إلى أهلك في الجنة مسروراً. لذلك تذكّروا بجوعكم وعطشكم هذا جوع يوم القيامة وعطشه، حتى لا تجوعوا ولا تعطشوا هناك.
ويريدنا رسول الله (ص) أن نتصدّق على الفقراء والمساكين، فإذا أكلنا وتلذَّذنا بأطايب الطعام والشراب، فإن هناك أناساً لا يجدون الطعام الطيب والشراب الذي يروي ظمأهم: “تصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم”. ويريد (ص) للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم: “وقرّوا كباركم ـ لأن الكبار هم الذين سبقونا إلى الإسلام وطاعة الله، وحصلوا على التجربة وفتحوا لنا أبواب الحياة في تربيتهم لنا وصبرهم علينا ـ وارحموا صغاركم”، لا تتعسفوا بهم، ادرسوا عقولهم ومشاعرهم وآلامهم وأحلامهم، لأنهم بدأوا الحياة وليست لديهم تجاربكم وخبرتكم، لذلك ارحموهم، فلا تحاسبوهم حساباً عسيراً على أخطائهم، بل أن ترحموا أخطاءهم بأن توجهوهم برفق وعاطفة وحنان.
وأراد الله تعالى منا أن نصل أرحامنا، حتى الرحم القاطع، فإنّ صلة الرحم تطيل العمر وتزيد في الرزق.. وعلينا أن نتقي الله في أسماعنا وأبصارنا، فلا نحدّق بما يحرم علينا من النظر، ولا نلقي بأسماعنا إلى ما يحرم علينا من السمع.
ويريدنا الله تعالى أن نرحم الأيتام وأن نتحنن عليهم، أن نكون آباءهم بدل آبائهم، وأمهاتهم بدل أمهاتهم، حتى لا يشعروا بالضياع والسقوط: “تحنّنوا على أيتام الناس يتحنَّن الله على أيتامكم”. ويريدنا النبي (ص) أن نتوب من ذنوبنا، أن يحضر كل واحد بين يديه ذنوبه، وأن يستذكرها في نفسه ومع عياله وفي عمله وتجارته، وفي كلماته ومواقعه ومواقفه، ليشهد الله على ذلك ويقول: يا ربّ إني نادم على ما فعلت وعازم على تركه، والله تعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوابين، فأي كرم هذا الكرم الإلهي؟
ويشجعنا رسول الله (ص) بأن ندعو الله في أوقات الصلاة، لا تستعجلوا القيام منها، ادعوه في قنوتكم وركوعكم وسجودكم، فإن الدعاء مستحب في كل حالات الصلاة، والتعقيب بعدها بتسبيح الزهراء (ع) وبعض الأدعية، والنبي يركز على هذا الوقت، لأنها “أفضل الساعات، ينظر الله عباده فيها بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه”. وقد أراد النبي (ص) أن نحسن أخلاقنا مع الناس من حولنا، والجائزة في ذلك هي “جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام”. “ومن خفف عما ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه يوم القيامة”، وما ملكت يمينك تنسحب على الزوجة والأولاد والعمّال الذين هم تحت يديك، “ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تلا فيه آيةً من القرآن فكأنما ختم القرآن في غيره من الشهور، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار”..
ثم يختم النبي (ص) بأن الجنة في هذا الشهر مفتّحة الأبواب، فاسألوا الله أن لا يغلقها عنكم بمعاصيكم، وإن النار مغلقة فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، وأن الشياطين مغلولة فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم.
إننا عندما ندخل في شهر رمضان في ضيافة الله، فإن علينا أن نفتح قلوبنا بالمحبة للمؤمنين جميعاً، وأن نتخفف فيه من عصبياتنا وحساسياتنا وكل خلافاتنا، إننا نختلف ولكن علينا أن نرجع الأمر إلى الله ورسوله. وعلينا في هذا الشهر أن نتواصى بالحق وبالصبر، وندعوه لأن يوفّقنا أن نخرج منه سالمين غانمين، وليكون عيدنا عيد الطاعة، كما قال عليّ (ع): “إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد”. إنه يقول لنا بأننا نستطيع أن نحوّل كل أيامنا إلى أعياد، عندما نحوّل كل أيامنا إلى أيام لطاعة لله.