علم أصول الفقه

علم أصول الفقه في ضوء مقاصده .. قراءة في كتاب الدكتور أحمد الريسوني

الاجتهاد: إن كتاب ( علم أصول الفقه في ضوء مقاصده )، لبنة أولى في مشروع علمي كبير يرمي إلى تقصيد العلوم وقراءتها في ضوء مقاصدها، في أفق تجديدها وإعادة الحيوية والوظيفية والإنتاجية إلى قضاياها ومسائلها. قراءة: د. محمد قاسمي*

اذا ذكر الدكتور أحمد الريسوني، ذكرت المقاصد والأصول بأبحاثه الرائدة وتنظيراته التجديدية، وسيكون من التطويل في هذه القراءة الخوض في تفاصيل سيرته العلمية، ومساره المهني المرتبط في غالبه بمجال تخصصه الذي هو علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة تنظيرا وتنزيلا،

فالمؤلف أشهر من نار على علم في العلم والفكر، غير أن هذه الفقرة معتبرة في محل التمهيد لهذه القراءة، ونكتفي بشهرته التي طبقت الآفاق، ونشرع في بيان المقصود بحول الله.

يعتبر كتاب ( علم أصول الفقه في ضوء مقاصده ) -لمؤلفه د. أحمد الريسوني- لبنة من لبنات مشروع دار المقاصد في تقصيد العلوم، أي هو جزء من سلسة علمية تهم دراسة مقاصد العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، فالكتاب بعبارة موجزة جردٌ للمقاصد النظرية والعملية لعلم أصول الفقه عبر تاريخه وتطور التأليف فيه.[1]

يلخص المؤلف هدف الكتاب في كونه “دفاعا عن مقاصد هذا العلم –أي أصول الفقه- وعن سيرته الأولى”، وذلك عن طريق النقد المبني على “الميزان المقاصدي والمعيار المقاصدي” بغية “خدمة علم أصول الفقه، وتقويته، وتصحيح مساره، فغايته النهوض والارتقاء، وليس مجرد الانتقاد أو الإطراء”.[2]

وصف الكتاب:

صدر الكتاب عن دار المقاصد للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 1438هـ/2017، في حجم متوسط يضم 128 صفحة، كما تضمن كلمة للناشر، ومقدمة، وثلاثة فصول،ثم خاتمة، مذيَّلا بلائحة للمصادر والمراجع، وسيرة المؤلف العلمية.

أما الفصل الأول: فقد عقده لمقاصد علم أصول الفقه ، وجعل له مبحثين، الأول: في كيفية ظهور علم أصول الفقه، والثاني في المقاصد التفصيلية للعلم، وقد جعلها خمسة مقاصد.

وأما الفصل الثاني: فاستعرض فيه المؤلف مسار علم أصول الفقه وامتزاجه بعلم الكلام والمنطق وتأثره بمباحثهما ونسقيهما، فجعل الفصل في مقدمة وأربعة مباحث.

وأما الفصل الثالث: فعقده المؤلف لقضية التجديد في علم أصول الفقه ، فضمن الفصل مقدمة ومبحثين اثنين.

أما الخاتمة، فقد جعلها اقتراحا لتفيعل أصول الفقه وتجديده، وذلك بالدعوة إلى إنجاز مجامع لعلم أصول الفقه تدرس فيه مشاريعه، وتجدد فيه قضاياه، وتمد فيه أواصر الوصل بمجالات معرفية متصلة به.

السياق الفكري والمعرفي:

يمكن إجمال السياق الفكري والمعرفي لظهور الكتاب في قضية التجديد المطروحة للنقاش والإنتاج في حقل علم أصول الفقه ، فالكتاب جاء استجابة لمطلب التجديد لهذا العلم وإبرازا لجهد تنظيري وتأطيري في الموضوع، كما يمثل الكتاب رجع صدى للصحوة المقاصدية في العصر الحديث بعد بزوغ دراسات وبحوثا رائدة في بابها.

كما لا يمكن إغفال “الحاجة الملحة للقيام بعملية (تقصيد) تشمل جميع العلوم الشرعية”[3]، والكتاب إجابة نظرية وعملية لهذه الحاجة العلمية الملحة.

الأفكار الرئيسة لكتاب علم أصول الفقه في ضوء مقاصده :

استطاع الدكتور أحمد الريسوني الوصول إلى هدفه من الكتاب انطلاقا من عرض مفاصله بشكل محكم ومتسلسل وسلس، فالفكرة الرئيسة للكتاب هي تقصيد علم أصول الفقه ، أي: الإبانة عن مقاصده الحاكمة لمسائله ووظائفه، وهذا التقصيد هو ما سيجعل هذا العلم يرجع إلى سيرته الأولى بوصفه علما وسليا للاستنباط والاجتهاد،

وفيما يلي تفصيل لفكرة الكتاب، وما ارتبط بها من مباحث خادمة ومعززة:

أولا: التأريخ لظهور العلم: انطلاقا من تفاعلات معرفية داخلية في بنية الفقه وفهم الدين، وأخرى خارجية متعلقة بالواقع العملي للمكلفين،

وفي هذا جعل المؤلف المبحثَ الأول من الفصل الأول، فعرض فيه حيثيات بروز هذا العلم إلى الوجود على يد مؤسسه الأول الإمام الشافعي، وقد لخصها في الحوار المعرفي والجدل الفقهي الدائر بين فريقين من المسلمين، وهما أهل الحديث وأهل الرأي،

فقد “اشتد الخلاف والسجال بين الفريقين في غضون القرن الثاني الهجري، حتى أصبح نوعا من الخصومة والصراع، ونشأت عن ذلك تساؤلات ونقاشات علمية ومنهجية عديدة، (…) وفي خضم هذه الفورة المعرفية وتداعياتها وتطلباتها، بدأت أولى المسائل والإشكالات المنهجية الأصولية في تاريخ الفقه الإسلامي والثقافة الإسلامية تتشكل وتتولد”[4]،

فنشأة علم أصول الفقه كانت نتيجة لهذه النقاشات وما تضمنتها من أسئلة منهجية ومعرفية ترمي إلى ترشيد الفهم البشري لنصوص الوحي واستمداد الأحكام العملية منه.

ثانيا: التقصيد المباشر لعلم أصول الفقه: وذلك باستعراض أهدافه وغاياته العلمية والعملية انطلاقا من نصوص المتقدمين من الأصوليين، وقد عمد المؤلف إلى اقتفاء اصطلاح بعض الأصويين واعتبارهم سندا علميا له، من ذلك ما كتبه الشيخ عبد الوهاب الشعراني،

وعنون به لكتابه (منهاج الوصول إلى مقاصد علم الأصول)، على أن مراد الريسوني بالمقاصد ليس هو المعنى التخصصي لها وإنما “الأغراض والفوائد والوظائف التي لأجلها أسس، ولأجلها يطلب ويدرس”[5].

وقد استقرأ المؤلف مقاصد العلم من كتابات المتقدمين وبحوث المتخصصين من المتأخرين، فضلا عن خبرته الطويلة ووعيه بإشكالاته وقضاياه، وقدكان استعراضه لهذه المقاصد بنفس نقدي كما سلف، معللا هذا النقد بأنه “نقد ذاتي“، لكونه من المتخصصين ومن أهل الدار، كما رمى بهذا النقد “خدمة علم الأصول وتقويته وتصحيح مساره”،

ومن ههنا فإن مقاصد علم الأصول أجملها المؤلف في:

معالجة قضية الاختلاف في الدين.
تقعيد القواعد لتفسير النصوص.
ضبط الاجتهاد في الدين.
بيان أصول المذاهب والدفاع عن صحتها وحجيتها.
تقعيد منهج التفكير والاستدلال العلمي.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المقاصد تعد وظائف لعلم الأصول، وقد بحثها المؤلف ورتبها بطريقة منسجمة، بحيث تكون الوظيفة مفضيىة إلى أختها في نسق منسجم وبناء منهجي سليم.

ثالثا: نقد التأثير الكلامي في علم أصول الفقه: وهو ما خصص له الفصل الثاني من الكتاب، واعتبر هذا التأثير الكلامي لعلم الأصول منحصرا في طور وصفه بالدخن والوهن، ومراده بالدخن التمازج وعدم الصفاء المنهجي والمعرفي لعلم أصول الفقه، أي امتزاجه المغلوب بعلم الكلام،

وهذا المعنى قد اقتبسه المؤلف من حديث حذيفة بن اليمان في صحيح البخاري، أما الوهن فواضح معناه فيالضعف، وكلا الوصفين في طور واحد، لكون المؤلف يعتبر التمازج المبالغ فيه بين الأصول والكلام –أي الدخن- من عوامل ضعف وظائف الدرس الأصولي –أي الوهن- “ومجمل ذلك ومعظمه يرجع إلى المنحى الكلامي والمنهج الكلامي الذي سار فيه عدد كبير من الأصوليين”[6].

وبعد هذا البيان المفهومي والاستعمالي لمفردتي (الدخن والوهن)، تطرق المؤلف إلى قضايا متممة ومتصلة بالموضوع، نجملها في الآتي:

الأصوليون بين الارتباط الفقهي والارتباط الكلامي: وازن فيه بين اهتمامات الأصوليين الفقهية واهتماماتهم الكلامية، وفي هذا السياق يقر الريسوني تقسيم الدكتور عبد الوهاب أبي سلميان لاتجاهات الأصوليين الأربعة (الاتجاه المعتزلي، والاتجاه الأشعري، والاتجاه الماتريدي الحنفي، والاتجاه السلفي الحنبلي)، مع إضافة اتجاه خامس، وهو (الاتجاه الظاهري)،

منبها على أن المالكية والشافعية المنضوين في الاتجاه الكلامي الأشعري “لم يكونوا جميعا راضين ولا مسايرين لهذا الطابع الكلامي الذي أضفي على علم أصول الفقه، بل كان منهم رافضون له ومتبرمون منه، وخاصة منهم الذين اشتغلوا بالفقه والحديث”[7]،

ومعنى هذا أن هؤلاء الأصوليين فضلوا النزوع بأصول الفقه إلى ما وضع له في الأصل، وهو إفادة الفقه عن طريق الاجتهاد بقواعد الأصول.

مزالق الأصوليين المتكلمين: وبعد هذه الموازنة تطرق الريسوني بالنقد -سيرا على خطى الإمام الصنعاني وصنيعه في كتابه (مزالق الأصوليين)- لمسالك المتكلمين في الأصول،

وقد وصف هذا في المبحث السابق بــ(الغزو الكلامي لعلم أصول الفقه)، ففصل في هذا (الغزو) على نحو تمثيلي وتطبيقي بإيراده جملة من المسائل الكلامية المقحمةفي الأصول،

منبها على أن هذا التأثير كان على هيئات متنوعة، منها:[8]
إدخال قضايا ذات طبيعة كلامية لا أًصولية.
صبغ المسائل الأصولية بالصبغة الكلامية.
الاشتغال بقضايا لا ورود لها ولا معنى لها.
هواية الجدل وتكثير الخلاف.
تكثير الخلاف اللفظي.
الاشتغال بغير المقصود.

ثم ختم هذه الجولة/المبحث ببيان “حقيقة الاستفادة الأصولية من علم الكلام والمنطق”، وبين أن علم الأصول “استفاد من عدة علوم سبقته، ومن علوم أخرى واكبته، ويمكن أن يستفيد من علوم حديثة في هذا العصر”[9]، لكن المرفوض في نظر الريسوني هو “الإفراط والإغراق في ذلك”[10] وإلا فالاستمداد الوسط والقاصد الهادف،لا شك في قبوله، بل وفي طلبه واستحبابه.

الجمود الفقهي وتضاؤل الاعتماد على علم أصول الفقه: وفي هذا المبحث ناقش ظاهرة التفريع في الفقه دون الرجوع إلى القواعد والمستندات الأصولية المبِينة عن مسالك استنباط الفروع،

واعتبر هذه الظاهرة مؤثرة بالسَّلب في علم أصول الفقه ومسهمة في إضعاف تأثيره، وهي ذريعة إلى ركود وجمود الفقه الإسلامي.

وقد استلهم المؤلف وصف العلامة محمد الحجوي الثعالبي لهذه لمرحلة بـ”طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم”[11]، فاعتبر هذا الضرب من الاشتغال بالفقه “في مثل هذا المناخ وفي ظل هذه الثقافة، لم يُبق لعلم أصول الفقه الكثير مما يؤديه ويحتاج إليه”[12]، فأصبح تعاطي الأصول “في أحسن الأحوال لأجل التمرين الفكري، أو لأجل الدفاع عن المذهب واختيارات الشيوخ”[13]،

وههنا استلهم الريسوني تجربة الإمام الذهبي في احتسابه على العلماء في كتابه الصغير حجما الكبير نفعا (زغل العلم)، ونقل كلمته المعبرة عن شدة نقده للمقلدين وضرورة كفِّهم عن الأصول، إلا بغاية التضلع منه بعيدا عن التزلف به للمناصب والوظائف.[14]

وقد حصر الريسوني -في إطار الهيمنة الفروعية واستكثار صاحبها من الفقه دون الأصول- اشتغال هؤلاء بعلم أصول الفقه في ثلاثة أمور:

دراسته لفهم اجتهادات السابقين وتراثهم الفقهي والأصولي.
استعماله في الرياضة الفكرية والتمرينات الفقهية.
استعماله في المناظرات والمنافسات المذهبية.

والناظر في هذه الاستعمالات يجدها بلا شك لا تخدم المقصد ولا الوظيفة الأساس لعلم أصول الفقه، بل يرى أن مثل هذه المذاهب من الاستعمال اشتغال بفضول العلم وليس بصلبه، وهو ههنا ينتقد الشيخ أبا زهرة رحمه الله في اعتباره الاشتغال الذهني والعقلي بعلم أصول الفقه دون وظائفه الأساس عاملا لم يضعف الأصول،

واعتبر هذا المآل “لا يناسبه سوى الرثاء والأسف” بحيث “انتقل من خدمة الوظاف المنهجية الضرورية، إلى خدمة التحسينيات الذهنية، انتقل من الاشتغال بالأصول، إلى الاشتغال بالفضول”[15].

إن تطرق المؤلف لمرحلة ضعف الدرس الأصولي لم يكن بمنأى عن اقتراح الحلول المسعفة في إعادة الحيوية إليه، بل كان تمهيدا منه إلى بيان المسلك المقترح للنهوض بوظائفه، وهو مسلك التجديد.

رابعا: تجديد علم أصول الفقه من خلال وظائفه: وهو ما تطرق إليه في الفصل الثالث من الكتاب، فجعله امتدادا لما سبق في الفصلين ونتيجة لهما ومقتضى عمليا لحصيلتهما،

ومحصلة هذا الفصل نجملها في الآتي:

يؤكد الريسوني على كون تجديد علم أصول الفقه أمر تمليه طبيعة العلم، وذلك لأن كثيرا من الدارسين يظن أن هذا العلم قتل بحثا ولا مجال للتجديد فيه، وهذا المنحى رده الريسوني بكونه كلام “حفظة مدرسين، لا كلام فاحصين دارسين”[16]،

وذلك لأن التجديد لهذا العلم “يحتاجه ويطلبه من يريدون لعلم أصول الفقه أن يستأنف مكانته القيادية، على صعيد العلوم الإسلامية، وعلى صعيد الفكر الإسلامي، وعلى صعيد الحياة الإسلامية”[17]،

ولهذا جعل المؤلف لهذا التجديد جبهتين رئيستين:

“الأولى: جبهة الإرث الأصولي وما تحتاجه من تحقيقات ومراجعات وتنقيحات وصياغات جديدة، وذلك بغية تأهيل العلم لاستعادة مكانته ورسالته وفاعليته وفق ما تقتضيه مقاصده الأصلية.

والثانية: جهة المتطلبات الجديدة لزماننا وظروفنا، وهي تطوير الفكر الأصولي واستكمال البحث والتحقيق في قضايا لم توف حقها، وإنتاج أفكار ومباحث وأدوات أصولية جديدة، تستثمر الفرص والإمكانات، وتسد ما ظهر من الثغرات والإشكالات”[18].

ويستدرك الريسوني مسلما بيقين “بأن لهذا العلم أركانه الثابتة ومسلماته الراسخة التي لا كلام فيها، وله نفائسه التي لا مثيل لها ولا غنى عنها”[19].

وفي هذا السياق جعل المؤلف لتجديد علم الأصول مسلكا اصطلح عليه بـ(التمسك بالمقاصدوالمكاسب، والخروج من المزالق)، فاعتبر أن التجديد ينبغي أن يكون من داخل المقاصد والوظائف التي اضطلع بها العلم، ومن ذلك تزكية الجانب المنهجي في فقه الاختلاف، “فالفكر الأصولي من شأنه ومن مقصاده أن يعلمنا: كيف نتفق؟ وأيضا كيف نختلف؟ حين نختلف”[20]، وقد ركز في هذا الجانب على جهة الاتفاق لكون الجهة الأخرى مسلمة ومحل اتفاق بين مؤرخي هذا العلم.

ومن هذا المنطلق، فإن الريسوني في هذا المبحث يدعو إلى تغليب جانب الوفاق العلمي والمنهجي في قضايا علم الأصول، بدل الإغراق في تشقيق الخلاف والبحث عنه في كل مكان، “ولذلك فالفكر الأصولي اليوم، لا بد له أن يلوي ويعود إلى أصله ومنطلقه، وأن يصحح الخلل ويسد الخرق.

لا بد أن نوجه الأنظار أولا إلى عناصر الاتفاق ووجوه الاتفاق، وإلى عناصر الوحدة المنهجية والتوافق الفكري؛ فهذا هو الأول والأولى، ثم تأتي الاختلافات بعد ذلك، وداخل دوائر الاتفاقات”[21].

وارتباطا بموضوع التجديد فقد دعا الريسوني إلى مراجعات أصولية في باب الاجتهاد، وخاصة ما يتعلق بشروط المجتهد التقليدية، فاقترح توسيع دائرة وصف الاجتهاد لتشمل المفكرين وعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرهم،

وأكد على أن هؤلاء جميعا لهم الأهلية في الاجتهاد حسب الوقائع المتصلة بمجال اشتغالهم، وإذا تعلق الأمر بالحكم الشرعي لم يسغ للفقيه المجتهد الانعزالعن آرائهم ونتائج بحوثهم وخلاصات أفكارهم، بل يجعلها نصب العين، ويستعين بها في استنباط الحكم، ليكون أكثر موافقة لمقصود الشرع ولحقيقة والواقع.

وفي هذا السياق وازن المؤلف في الاجتهاد بين فقهاء الجزئيات وفقهاء الكليات، وبيَّن بأن الأصل الجمع بينهما ومحاكمة الجزئيات إلى الكليات، ورجوع الفقهاء في الفروع إلى فقهاء الأصول والمقاصد لكونهم أحكم في النظر وأشمل في التعليل.

كما طرق مسألة غاية في الأهمية والخطورة تعنى “بحصر الاجتهاد في الظن والظنيات”، وهل يمكن تعديته إلى بعض القطعيات أو ما وصف بالقطعيات؟ والظاهر من كلامه أن القطعيات لا يجوز الاجتهاد في القدر المقطوع به فيها، لكون الاجتهاد ههنا ضربا من العبث في الدين.[22]

غير أن المسألة التي استرعت انتباه الدكتور هي: هل يمكن للاجتهاد في الظنيات أن يرقى إلى مرتبة القطع في نتائجه أم لا؟

ثم ختم الفصل الثالث بمسألة واقعية فيعالم الاجتهاد والفتوى، وهي استقلالية المجتهدين وتبعيته للسلطة الرسمية في البلاد، وقد أكد الريسوني كما هو رأي القدماء والمحدثين في المسألة،

وكما هي طبيعة الاجتهاد في الدين، على أن المجتهد الأصل فيه الاستقلالية، وأن تأميم الاجتهاد والفتوى يجعلها “فتوى تحت الطلب، أو كتمانا من الرهب”[23]، ويجعل المجتهدين “يدورون مع السطان حيث دار، وأن يسيروا خلفه حيث سار، وأن يكونوا جنودا مجندين وراء القائد، وفي خدمة السياسةالمتبعة والقرارات المتخذة (…)

وبعبارة وخلاصة شبه أصولية: من لم يكن مستقلا في فكره ورأيه ومواقفه، فليس موثوقا في اجتهاده”[24].

بعد هذا البيان لأغلب أفكار الكتاب، يتبين لنا بأن المؤلف بناها على تسلسل منهجي ووظيفي، بحيث يكون المتقدم ممهدا للمتأخر، والمتأخر نتيجة للمتقدم، وكل هذا في اتجاه بوصلة محددة سلفا، وهي إبراز المقاصد المنهجية والوظيفية للدرس الأصولي عبر تنظيراته وتجاربه.

الأطروحة المركزية للكتاب:

من خلال استعراضنا لأهم مضامين الكتاب، يتبين أن أطروحته الرئيسة هي الدفاع عن علم أصول الفقه من خلال وظائفه ومقاصده المنهجية والعملية الكامنهة في قضاياه ومسائله، والتي منها انطلق أول ما انطلق، والإبانة عنها تنصيصا لتكون سهلة المأخذ وفي متناول منتسبي هذا العلم تأليفا وتدريسا ومدارسة ومطالعة.

إن الحديث عن تجديد علم أصول الفقه كان مثار إشكالات منهجية ومضمونية ووظيفية، وقد قُدِّمت في الإجابة عنها مقترحات نظرية، وأخرى عملية، قاربت الموضوع من زوايامختلفة واهتمامات متباينة.

غير أن مقترح الريسوني في هذا الكتاب كان في اتجاه الإبانة عن مقاصد علم الأصول، بحيث يكون التجديد داخليا ومن صميم طبيعة العلم، لا من مؤثرات خارجية أجنبية عنه.

ولا شك أن التجديد لأي صرح مادي أو معنوي خارج مكوناته وبيئته تغريب وإخراج له عن طبيعته ومقاصده، ومن ذلك علم أصول الفقه، ويمكن إبراز ملامح أطروحة الريسوني بهذا الصدد في الآتي:

ربط العلم بمقاصده ووظائفه المنهجية والوظيفية إرجاعٌ له إلى أصله ومنشئه، فعلم أصول الفقه لا يمكن أن يفيد المطلوب منه خارج مقاصده، وإلا فإن الباحث يبحث عن شيء لا علاقة له بهذا العلم، وقد احتلت هذه الفكرة مكانها الأرحب في فكر الريسوني، لكونه رجلا مقاصديا يدافع عن المقاصد بما أوتي من علم ومنهج،وقد نال علم الأصول من هذا الدفاع حظه في هذا الكتاب.

بيان الدخيل والوافد المقحم من القضايا والمباحث في علم الأصول، وتمحيصه قبل إبعاد ما لا صلة له بالعلم أمر تمليه الضرورة المنهجية والطبيعة المعرفية لعلم الأصول،

فقد اعتبر الريسوني أن من أخطر ما جنى على علم الأصول هو ما وصفه قبل بالغزو الكلامي، بحيث أصبح المطالع لبعض مصادر هذا العلم تغشاه ضبابية في النظر، لكونه لا يدري هل الكتاب الذي أمامه كتاب في الأصول أم كتاب في علم الكلام؟ !

التمييز المنهجي بين مدارس الأصوليين ومصادر استماداداتهم المعرفية والمنهجية خطوة لا بد منها لفهم مضامين علم أصول الفقه، وهي بالتبع عملضروري في مسار التجديد المطلوب، علما بأن لكل مدرسة لها خصوصياتها شكلا ومضمونا، فاستحضار مثل هذا من صميم المنهج القويم في التجديد.

إحصاء المكاسب والإيجابيات من القضايا والمسائل في الأصول، والتمسك بها، وتعزيزها جزء من التجديد والتقصيد لهذا العلم، لكيلا يقع المجدد في إنكار الجميل ودعوى السبق في أمر قتل بحثا، فلا بد إذن من هذه القناعة المعبرة عن أمانة المجدد وشكره لجميل السابقين.

استثمار القُوى الفكرية والعلمية لتخصصات أفراد الأمة في الاجتهاد الشرعي من صميم الاجتهاد المطلوب،فالأصل في المعارف التكامل، وخاصة إذا علمنا بأن النوازل متشابكة المسارات والمآلات،

فعمل المجتهد الفقيه ههنا قاصر عن الجواب فيها بما يشفي الصدر ويذهب الغم، ولا شك أن المطالع لتراث الفقهاء والأصوليين سيجد هذه النزعة التكاملية في باب الاجتهاد أصيلة ومؤصلة.

ربط الجانب الوظيفي لعلم أصول الفقه بالواقع العملي للأمة، وإعادة حيويته والإبانة عن سلطته المعرفية والقيمية في واقع الاجتهاد، وذلك بتحقيق مبدإ استقلالية المجتهدين، وبناء أعمالهم خارج السلط بمختلف أشكالها.

هذه عناصر أطروحة د. الريسوني، ويمكن الرجوع إلى أصلها من عباراته وأفكاره المعبر عنها ببنانه في الكتاب المدروس.

لقد كان المنهج المتبع في الكتاب، وإن لم يفصح عنه المؤلف، جامعا بين الوصف والتحليل والاستنباط، فقد عمد إلى نصوص من التراث فاستسثمرها وصفا لمضامينها وتحليلا لأبعادها المعرفية والقيمية والمنهجية، ثم استخلاص ما جعله ركيزة بحثه وهي المقاصد العامة لعلم الأصول،

كما عمد الريسوني إلى نقد بعض المقولات والأفكار المتعارضة مع طبيعة العلم ومقاصده، من مثل ما ذكر قبل في عرض مضامين الكتاب، وهذا النقد عنده مبني على مراجعات أصولية منسجمة مع رؤيته المقاصدية للعلم.

ولا شك أن الكتاب له مراجع تسنده علميا ومنهجيا، جعلها المؤلف مختلفة المراتب ومتنوعة المنزع، يمكن تصنيفها فيالآتي:

مصادر تراثية: يمكن التمثيل لها برسالة الشافعي، وإحكام ابن حزم، وبداية المجتهد لابن رشد الحفيد، وإعلام الموقعين لابن القيم،وتخريج الفروع للزنجاني وغيرها، من كتب الأصول والفقه التي استثمرها المؤلف في التأصيل لأفكاره.

مراجع مباشرة في الموضوع: ومن بينها الكتاب الجماعي الموسوم بالتجديد الأصولي وهو عمل تطبيقي يمثل إجابة عملية عن سؤال تجديد علم أصول الفقه،

وكتاب الخلاف اللفظي عند الأصوليين للدكتور عبد الكريم النملة، وكتاب علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه للشيخ عبد الله بن بيه، وكتاب الدكتور محمد عوام الموسوم بالفكر المنهجي العلمي عند الأصوليين، وهوكتاب رائد في بابه، لأنه يجيب عن سؤال المنهج في الدرس الأصولي، وكيف أسهم الأصوليون في بناء النقد العلمي والوعي المنهجي …

مراجع تأريخية لعلم أصول الفقه: وفي مقدمتها كتاب (الفكر الأصولي .. دراسة تحليلية نقدية)للدكتور عبد الوهاب أبي سليمان، ويعد من أجود ما كتب في الباب بلغة أكاديمية جامعة بين السرد التاريخي والتحليل العلمي والنقد الاستشرافي،

وكتاب (تطور علم أصول الفقه وتجدده) للدكتور عبد اسلام بلاجي، وكتاب(تطور الفكر الأصولي الحنفي) لمؤلفه هيثم خزنة، وهي كتب تؤرخ للعلم في مراحله ومذاهبه المختلفة.

مراجع منهجية: مثل كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق (تمهيد في تاريخ الفسلفة الإسلامية)، وكتاب تلميذه الأستاذ علي سامي النشار (مناهج البحث عند مفكري المناهج البحث عند مفكري الإسلام)، وغيرهما من الكتب المرجعية في الباب.

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن موضوع الكتاب لم يسبق إليه بهذا التصور، لهذا كان المؤلف مستثمرا لكتابات متفرقة فيه، فلم يتعرض لنقد مؤلفات بعينها في الباب،

وإنما استخلص منها عصارة مقاصد علم الأصول، ناقدا لبعض أفكارها في سياقات مخصوصة، متوسلا في ذلك بلغة عربية فصيحة، جامعة بين العمق والوضوح، بعيدة عن التقعر، مستعملا مصطلحات العلم الدقيقة، واضعا أمامه مقصد البيان والإيضاح على عادته الخطاب والتأليف.

وبعد، فإن الكتاب يعد إضافة إلى الدراسات النقدية لعلم أصول الفقه على صعيدين مهمين:

أولهما: الصعيد المنهجي؛ بحيث يمثل مرجعا للدارسين للنسج على منواله وتتميم ما لم يتمه من مقاصد العلم المبثوثة في مظان وتجارب أخرى، والذي جعله –عندي- مرجعا منهجيا هو تصوره العام المرسوم في مقدمته وثنايا فصوله.

ثانيهما: الصعيد المعرفي؛ بحيث اكتنز على قِصرهمضامين معرفيةً يمكن بسطها في مؤلفات أخرى مفردة، فمثلا: يمكن للباحثين تقصي مستندات وشواهد و تطبيقات كل مقصد من مقاصد الكتاب على حدة، فيجعل في كتاب مستقل،كما يمكن توسيع بعض القضايا المطروقة فيه على جهة الاختصار وإعطاءها حقها من البحث …

على سبيل الختم:

إن كتاب ( علم أصول الفقه في ضوء مقاصده) كما قدمنا سلفا، لبنة أولى في مشروع علمي كبير يرمي إلى تقصيد العلوم وقراءتها في ضوء مقاصدها، في أفق تجديدها وإعادة الحيوية والوظيفية والإنتاجية إلى قضاياها ومسائلها،

ولا نكون مبالغين إن اعتبرناه مرجعا نظريا لهذا المشروع الكبير في علم أصول الفقه، وقد ساعده على ذلك انسجام منطلقاته المنهجية والمعرفية، ومخرجاته ونتائجه المحققة في متنه والمرتقبة من أعمال أخرى تتممه.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

الهوامش

* أستاذ مادة التربية الإسلامية، بأكاديمية جهة درعة تافيلالت، المغرب

[1]– ينظر: أحمد الريسوني، علم أصول الفقه في ضوء مقاصده، دار المقاصد، ط1، سنة: 1438هـ/2017م، (ص 15).
[2] المرجع نفسه: (17).
[3]– علم أصول الفقه في ضوء مقاصده: (ص 15).
[4]– المرجع نفسه: (ص 22). وقد مثل لهذه الإشكالات بأمثلة منها: رواية الحديث النبوي، وما شروط تصحيحها وقبولها؟ خبر الواحد، هل هو حجة كافية؟ حجية أقوال الصحابة، الناسخ والمنسوخ من الآيات والأحاديث …
[5]– المرجع نفسه: (ص 27).
[6]– علم أصول الفقه في ضوء مقاصده: (ص 53).
[7]– المرجع نفسه: (ص 55). وقد مثل لهؤلاء الأصوليين بـالإمام أبي الوليد الباجي وابن السمعاني وأبي إسحاق الشيرازي.
[8]– ينظر الصفحات: 62، 63، 66، 67، 69.
[9]– المرجع نفسه: (ص 71).
[10]– المرجع نفسه: (ص 72).
[11]– الحجوي الثعالبي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، ط 1، سنة: 1416هـ/1995م، دار الكتب العلمية، بيروت، (2/ 189)
[12]– المرجع نفسه: (ص 75).
[13]– المرجع نفسه.
[14]– يقول الإمام الذهبي: “أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم أن الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهد، ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهدا به، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرأ لتحصيل الوظائف (…)، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخبال”. الذهبي، زغل العلم، تحقيق: محمد العجمي، مكتبة الصحوة الإسلامية (ص: 41).
[15]– المرجع نفسه: (ص 76).
[16]– المرجع نفسه: (ص 80).
[17]– المرجع نفسه: (ص 81).
[18]– المرجع نفسه.
[19]– المرجع نفسه: (ص 83).
[20]– المرجع نفسه: (ص 85).
[21]– المرجع نفسه : (ص 86).
[22]– المرجع نفسه: (ص 110).
[23]– هذه العبارة نقلتها سماعا عن الدكتور رشيد ناصري حفظه الله، الأستاذ بالكلية متعددة التخصصات بالرشيدية.
[24]– (ص 113، 114).

 

المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ أحمد الريسوني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky