الاجتهاد: منذ عام 1976، حين دخلتُ عالم الوقف بفضل المرحوم حسن كلشي (1922-1976) رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة بريشتينا ونشرتُ أول مقالة لي، شاركتُ في ندوات ومؤتمرات كثيرة عن الوقف ضمن ما سُمّي الصحوة الجديدة أو الموجة الجديدة من مقاربة الوقف التي تميزت بدخول باحثين من العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والقانون والتاريخ الخ ) وأثمرت حصيلة جديدة من الدراسات عن تاريخ الوقف وعلاقته بالدولة والمجتمع عبر القرون وصولاً إلى انكماشه في بعض الدول وازدهاره في بعض الدول في العالم العربي / الإسلامي. / بقلم: محمد م. الأرناؤوط
في البداية كانت نسبة المعمّمين هي الغالبة في هذه الندوات والمؤتمرات، باعتبار أن الاهتمام أو التأليف في الوقف كان حكراً على العلماء، ثم زادت بالتدريج نسبة غير المعمّمين أو القادمين من أقسام العلوم الاجتماعية، وهو ما كان مفيداً في الخروج بالوقف من الكتب المصفرة إلى الحياة من جديد، وبخاصة مع الكشف عن أهمية الوقف في المجتمع المدني المنشود بالاستناد إلى الخبرة التاريخية، أو أهمية الإدارة الحديثة في استثمار أصول الأوقاف التي كانت تدر القليل وأصبحت الآن في دول الخليج تدر الكثير.
وفي هذا السياق تستحق ورشة العمل عن الوقف التي دعت إليها جامعة جورج تاون في الدوحة خلال كانون الأول (ديسمبر) المنصرم التوقف عندها لأكثر من سبب. فمع أن الجهة المنظمة دعت الجهة المعنية (وزارة الأوقاف) إلا أن الحضور اقتصر على الباحثين في العلوم الاجتماعية الذين يعملون منذ عقود في الوقف، ولذلك تميزت هذه الورشة بمقاربات مدنية في غيبة كاملة لـ «العلماء» انعكست على الحصيلة العامة للورشة. ومن ناحية أخرى تنوعت المشاركة من اليابان إلى الولايات المتحدة لتستعرض تجارب من الماضي وتتبّع تجارب معاصرة وتستشرف الآفاق الممكنة للوقف في المجتمعات العربية والمسلمة. وبالإضافة إلى هذا وذاك تميزت الورشة بسقف مفتوح للنقاش وهو ما جعلها تجمع بين أوراق عمل غنية بخبرة أصحابها ومناقشة أقرب ما تكون إلى العصف الفكري.
في الأوراق المدخلية قدّم د. يحيى محمد مقاربة لغوية بعنوان «اقتفاء أثر الوقف في اللغة» استعرض فيها مترادفات الوقف واستخداماتها اللغوية والشرعية في الحجج الوقفية الخ، بينما قدم تورو ميورا ورقة بعنوان «مقارنة إقليمية بين الأوقاف حتى العصر الحديث: اليابان والصين وسورية»، كما قدم الألماني تيلمان لوهسه ورقة بعنوان «المؤسسات العامة في غرب القرون الوسطى».
أما في ما يتعلق بتجرية الوقف عند المسلمين بين الماضي والحاضر فقد قدّم د. منذر القحف ورقة «الوقف كأساس لنشوء المنظمات غير الربحية «، وقدّم د.مراد جيزاكشا ورقة بعنوان «من التخريب الى الإحياء – تجربة الوقف في ماليزيا وتركيا»، وقدّم د.إبراهيم غانم ورقة بعنوان «الوقف بين مرونة المجتمع المدني ومركزية الدولة»،
وقدّمت راندي ديغلهم ورقة بعنوان «التحول في القيمة الاجتماعية للوقف: من المبادرة الفردية إلى سيطرة الدولة»، بينما قدّم محمد النقري ورقة عن مسؤولية السلطة الدينية العليا (المسؤولة عن الوَقف وفق القوانين) عن الفساد في إدارة الوَقف بالاستناد الى ما كشفت عنه الصحافة في السنوات الأخيرة ووصل إلى محاكمة المسؤولين عن الوَقف أمام القضاء المدني، وحظي وقف المرأة بورقتين الأولى لمحمد الأرناؤوط «وقف المرأة بين الماضي والحاضر» والثانية لـ د. رمضان الخولي «المرأة كناظرة على الوقف».
وتركزت المناقشات الغنية التي دارت حول الطابع المدني للوقف باعتباره نتاجاً للاجتهاد البشري الذي تنبّه مبكراً الى محدودية مهمات الدولة السلطانية وتوسّع في أنواع الوَقف (وقف الماء، وَقف الخبز، وقف الحليب، وقف الكتب، الوقف على دور العلم، الوقف على دور الشفاء أو البيمارستانات الخ) التي تلبي الحاجات المختلفة للمجتمع من دون انتظار ذلك من الدولة.
ومن هنا دعا د. منذر القحف الى «استرداد الوَقف من المشايخ» بمعنى التأكيد على طابعه المدني العام الذي كان لا يفرّق بين المسلمين وغير المسلمين والذي كان يشكّل دعامة المجتمع المدني إزاء الدولة السلطانية ذات المهمات المحدودة.
ومع هذا الانحسار للطابع المدني للوقف إلى الطابع الديني الضيق استحضرت بعض الحالات النمطية التي تعكس مدى تراجع ثقافة الوَقف والمجتمع المدني.
ففي حالة الأردن، على سبيل المثال، أصبح الوَقف في العقود الأخيرة يكاد يقتصر على الجوامع التي تحمل أسماء مؤسسيها وتحوّل لوزارة الأوقاف لكي تعيّن لها الأئمة والخطباء والمؤذنين، ما أدى إلى «حال ازدحام» في الجوامع بعد أن تجاوز عددها الستة آلاف في الوقت الذي تحتاج الوزارة الآن إلى تعيين ثلاثة آلاف إمام، وهو فوق طاقتها بالطبع.
وبعبارة أخرى كان من الأفضل للمجتمع لو أن الذين أسّسوا بعض هذه الجوامع التي تفتقد الأئمة حالياً،أقاموا منشآت أخرى توفر خدمات للمحتاجين في المجتمع (مستوصفات، مراكز رعاية أيتام الخ).
أما الدولة الحديثة بالاسم والشمولية بالفعل في العالم العربي / الإسلامي فقد كان الوَقف ضحيتها من ماليزيا الى الجزائر مروراً بالعراق وتركيا وسورية ومصر وغيرها التي رفعت شعارات تحديثية وقومية واشتراكية.
ففي الورقة التي قدّمها د. مراد جيزاكشا عن حال الوَقف في ماليزيا وتركيا بيّن كيف أن الوَقف كان ضحية هنا وهناك سواء باسم التحديث أم باسم الدولة المركزية العلمانية، إلى أن جاءت الديموقراطية في تركيا و»أنقذت الوَقف ».
وتشهد تركيا في العقدين الأخيرين عودة الوقف إلى الحياة العامة وهو ما قوى كثيراً المجتمع المدني هناك. وفي هذا السياق أيضاً تحدث د. ابراهيم بيومي عن تأثير العدل والاستبداد السياسي في الوَقف عبر التاريخ ، اذ إنه عندما كان المسلمون يحظون بدولة عادلة كان الوَقف يزدهر بينما كان الوَقف ينحسر حينما يبتلي المسلمون بدولة ظالمة.
ولكن انحسار الوَقف لا يعود فقط إلى تعسف الحكام، حيث لدينا من تسلّط على الأوقاف، وإنما إلى فساد الإدارة وحتى إلى فساد المسؤولين عن الأوقاف.
أما المقصود بفساد الإدارة فهو التهاون في استثمار أصول الوَقف (الأراضي والمسقفات الخ) اذ تؤجّر بأقل من أجر المثل لكي تستفيد الإدارة من الفارق. ويستشهد هنا د. غانم بحالة مصر حيث العائد من استثمارات الأوقاف يبلغ 3.5 في المئة فقط بينما العائد في السوق يصل إلى 18-25 في المئة.
والأسوأ من ذلك هو فساد كبار المسؤولين عن الأوقاف الذي بيّنه محمد النقري في ورقته عن لبنان في السنوات الأخيرة الذي أوصل رأس المؤسسة الأمينة على الأوقاف إلى المقاضاة وإلزامه ردّ أكثر من مليون دولار الى الأوقاف التي استغلها لمصلحته الشخصية أو لمصلحة أولاده.
وقد أثار هذا ضمن المناقشات ضرورة فصل أصول الأوقاف (الأراضي والمسقفات الخ) عن وزارات الأوقاف التي أصبحت كبقية الوزارات في الدولة، وجعلها في مؤسسة مستقلة تقوم باستثمارها وفق آلية السوق لتحقق أعلى الإيرادات لتوجّه نحو المصارف التي حدّدها الواقف، وهو ما يتطلب الشفافية والنظارة الجماعية المؤلفة من ذوي الخبرة في هذه المؤسسات حيث لدينا في الكويت تجربة رائدة منذ 1993.
المصدر: الحياة