يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب: يتناول الباب الأول: لمحة تاريخية في الإمامة، واقتراب الشيعة من الدولة، والمدرسة الشيعية في الحكم. ويدرس الباب الثاني: المشروطة والمستبدة..إيران وتركيا، المشروطة والمستبدة في العراق. أما الباب الثالث فيعالج: النائيني مفكر المشروطية. ورسالة “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”.
موقع الاجتهاد: صدر حديثاً عن معهد الدراسات الاستراتيجية ببيروت (2006) كتاب “المشروطة والمستبدة” للباحث العراقي رشيد الخيون، وقد تضمن 450 صفحة من الحجم المتوسط.. وكانت المناسبة مرور مئة عام (1906-2006) على الحركة الدستورية، والتي عُرفت بالمشروطية. وهي حركة من أجل نظام دستوري بإيران وتركيا، والعراق. قادها فقهاء النجف، واختلفوا حولها بين مشرط مؤيد للدستور ومستبد مؤيد للحكم المستبد مع نشدان العدالة. وكما هو معلوم كان العراق خاضعاً للدولة العثمانية، وفي أحايين تخضع مناطق من جنوبه للدولة القاجارية الإيرانية، ومن قبل للدولة الصفوية.
وكانت النجف حينذاك مسرحاً للخلاف الكبير بين فريقي المشروطية والمستبدة، وقد انقسم علماء المرجعية الشيعية إلى فريق يؤيد الحياة الدستورية، ليضع حداً للاستبداد السياسي والديني في الوقت نفسه، وفريق آخر تشبث بنظام الحكم الاستبدادي خشية من انهيار التقاليد الدينية، والتفريط بسطوتها على المجتمع، وخشية من الفوضى لعدم تدرب الناس على البانتخاب وكل ما يتعلق بالدستور.
لأن فصل الدين عن الدولة، أو الحكم العلماني، كان طريق الحكم البرلماني والدستوري بالبلدان الأوروبية. وقد جعل خلو الشرق من تلك التجربة التأثر بتلك الدساتير أمراً واقعاً. ولم ينفه علماء الدين المؤيدون للمشروطية، بل شجعوا على نقل تلك التجربة مع الحفاظ على التقليد الديني والاجتماعي. وذهبوا إلى التصريح بأن الحياة البرلمانية والدستورية ما هي إلا موروث إسلامي، أبدعها المسلمون واحتضنها الغربيون، في ما بعد، بعد الإطلاع عليها عبر الحروب الصليبية، مثلما ورد في رسالة الميرزا محمد حسين النائيني “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”.
الأحداث مثلما نراها بعراق اليوم، والمنطقة بشكل عام، تشير إلى التقارب بين الزمنين: حركة المشروطية وخلافها الشديد مع المستبدة وبين ما يحصل من النزوع إلى الديمقراطية، ومحاولات التخفيف من الدكتاتورية السياسية. وقد تغيرت الأحوال ولم يعد هناك ما يُحرم الاستعانة بالأجنبي من أجل الديمقراطية، بعد العيش تحت نظام موغل في الاستبداد والفردية، مثل النظام العراقي السابق.
بل إن هناك إشارات كثيرة إلى طلب علماء الدين قبل قرن من الزمان المعونة من الأجنبي غير المسلم، وقد حصل أن كاتبَ أصحاب المشروطية الإدارة الأمريكية آنذاك من أجل المساعدة على تحقيق الهدف. كذلك هُدم، أثناء الصراع من أجل المشروطية، السور الطائفي العالي بين الشيعة والسُنَّة، فحصل الاتصال بين علماء النجف وأصفهان ومشيخة الإسلام باستانبول، عبر دعم متبادل في الفتاوى والرسائل. ومن أجل الدستور حل الوئام الاجتماعي بين الأرمن والمسلمين في تركيا بدلاً من الكراهية، وحصل التقارب بين المسيحيين والمسلمين وبقية التكوينات الدينية والمذهبية في أصقاع الدولة العثمانية.
كان للمشروطيين والمستبدين فقهاء ومفكرون، هؤلاء ينظرون وأولئك يفتون ويحشدون الأتباع حولهم، وبطبيعة الحال كانت العامة تلتف حول المستبدة، لأن الإقناع بالتغيير أو التجديد له متطلباته الثقافية والحضارية. أما المحافظة على السائد فلا تكلف غير تقوية الواعز الديني، لذا تجد أن أغلب أتباع المشروطية كانوا من المتنورين من أدباء وشعراء ومتمردين على الاستبداد، وفي مقدمتهم الميرزا النائيني والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد محسن الأمين، والشاعر صالح الجعفري، والشاعر علي الشرقي وغيرهم.
غير أن مَنْ يتابع تفاصيل الخلاف بين الفريقين يجد مؤثرات موجبة لفرط عقد الفريق المشروطي بعد وفاة رائده الآخوند الملا محمد كاظم الخراساني، وكان أخطر المتراجعين مفكر المشروطية نفسه، وهو الميرزا النائيني.
ومن التعسف بمكان أن يُحصر التراجع عن طلب الدستور والبرلمان بانتهازية المتصدين طلباً للمرجعية، مع أنها لايُنال تمامها إلا برضا العامة، إنما هناك كم من الأخطاء والتجاوزات الفظيعة التي دفعت علماء دين إلى التخلي عن مطلبهم ومبتغاهم الذي ناضلوا دونه بقوة وثبات.
كان في مقدمة تلك الأخطاء الفوضى التي صاحبت إعلان الدستور بإيران، وإعدام علماء دين، والتهديد بالخلل في الحياة العامة. ونرى أن ما حصل كان أمراً طبيعياً، فبعد الاستبداد الطويل، وما فيه من موجعات اجتماعية، تأتي نسمة الحرية عاصفة، وتمارس كردة فعل شديدة، أثارت البغضاء ضد الحرية نفسها، وكان هذا جزءاً من دوافع الإمام محمد كاظم اليزدي في تبني المستبدة حتى صار فقيهها الأول.
وعلى الرغم من قصر سنوات الخلاف، وما أسفر عن تبني المشروطية رسمياً بإيران، إلا أنها أسست لعصر قادم، وظلت منطلقاً لدى أحرار إيران والعراق معاً. ليس على المستوى السياسي فحسب بل على المستوى الاجتماعي والثقافي، تجسدت ذلك في محاولات ودعوات إلى التجديد، حتى ظل المجتمع النجفي منقسماً على نفسه إلى فريقين متوازيين في كل الأزمنة، بين نزعة التحرر ونزعة الرجعية.
ومن المعلوم أن النجف ليست كغيرها من المدن والمجتمعات، إنها مدينة دينية بمعنى الكلمة، ومغلقة لمذهب ودار لحوزته العلمية. يأتيها الطلبة “من كل فج عميق”. وكلٌ يحمل ثقافته ومفردات لغته وطبائع مجتمعه، والكثير منهم يتوطنون، ويبرزون مراجع دين كباراً، يذوبون داخل المجتمع النجفي، ولا يبقى من ولائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم الأصلية شيئاً. وهي بهذا المعنى حاضرة دولية، يتعقد داخلها الصراع الحضاري بين أقوام واتجاهات. يحصل هذا من دون المساس بهويتها، وشخصيتها القيادية بالنسبة لشيعة العالم. فما أن تناول علماؤها موضوع المشروطية والمستبدة، القادم من إيران وتركيا، حتى أصبحت هي عاصمة الصراع، ومركز الإفتاء في هذا الأمر.
الكتاب بمجمله قراءة في تاريخ الخلاف بين المشروطية والمستبدة، حاول قدر الإمكان إضاءة تلك الفترة، مع مقدمة وافية لمسألة الإمامة في الإسلام، لأنها كانت ومازالت عصب الخلاف. ولولا ما تركه الميرزا محمد حسين النائيني من نظرات عميقة في كتابه أو رسالته “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” حول المشروطة والصراع بين الاستبداديين والدستوريين، فما وصلنا من تاريخ تلك المرحلة كان مجرد أخبار مناوشات وصدامات بين علماء الدين والسلطة الاستبدادية من جهة، وبين علماء الدين أنفسهم من جهة أخرى. ومثلما كان للخلاف بين الحزبين قصص مثيرة فلرسالة النائيني، وبقاء أثرها، حتى يومنا هذا، قصة أكثر إثارة.
تبرأ صاحبها، وأخذ يطاردها من مكتبة إلى أخرى، ليدثرها إلى الأبد، حتى لا يبقى منها ما يشهد على أفكاره التنويرية الخطيرة، ليس بمفاهيم (1909)، وهو عام النشر، بل بمفاهيم عصرنا الحالي. شرعت رسالة أو كتاب “التنبيه…” للديمقراطية. ومن دون أن يجعل مصنفها، وهو من مراجع الدين الكبار، الذكورة شرطاً من شروط دخول البرلمان والحكم بشكل عام، كتصويت أو تشريح.
كذلك لم يجعل الهيئة التشريعية محتكرة لدين أو مذهب، بل ربط حق الناس أو المواطنين أجمع بما يساهمون فيه من مالية أو خراج للدولة. وفي ذلك الزمن الغابر ربط الديمقراطية بالتعليم والاستبداد بالجهل، وجعل التعليم هدف الدولة المنتخبة الأول، وجعل العدالة أو المساواة والحرية أصلين مقدسين. بينما يبادر شيخ دين عراقي، بعد مئة عام على صدور رسالة النائيني، ويكتب مسودة دستور يلزم فيها عضو البرلمان أن يكون مسلماً، وملتزماً بأحكام الشريعة. وأن يكون للمرجعيات الدينية والهيئات الدينية العليا الحق في اقتراح قوانين أو إلغاء أخرى.
انتبه رواد المشروطية أنفسهم إلى أهمية الكتاب، وهذا ما جاء في قرضه من قبل الآخوند ملا كاظم الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني. وبعد حين جذب الشاعر النجفي صالح الجعفري، فعمل خلافاً لرغبة المؤلف على ترجمته ونشره. كذلك تنبه إليه الأديب النجفي جعفر الخليلي، وحاول ترجمته ونشره أيضاً. إلا أن من أشد علماء الدين اهتماماً بالكتاب هو آية الله محمود الطالقاني، أحد رجال الثورة الإيرانية البارزين، وقد جعله منطلقاً إلى مشروطية كاملة، تتعدى بطبيعة الحال مشروطية ولاية الفقيه المطبقة بإيران حالياً. بل جعله الطالقاني دليلاً للإجازة في التأثر بالآخرين من غير المسلمين، فهو يعترف في مقدمته للرسالة، بعد حين من طبعتها الأولى، أن الديمقراطية أو الحياة الدستورية ليست من سياسات بلداننا، بل أتتنا من الخارج، فشجعها العلماء وآزروها.
في محاولة مقارعة الاستبداد المعاصر، تطلع العديد من الباحثين، من مؤيدي المشروطية والديمقراطية طبعاً، إلى الاستعانة بموروث ما أنتجه الخلاف بين المستبدة والمشروطية، واستحضاره كأثر مشجع لقبول مفهوم وممارسة الديمقراطية في البلاد الإسلامية، تبناه علماء دين لا يشك في إيمانهم. وهو بالفعل أثر مغرٍ ومؤثر بعد سبات طويل، ووسط دعوات مناهضة الديمقراطية باسم الدين، ومحاولة إلصاق تهمة الإلحاد بها، وأنها مخلوق أوروبي يتعارض مع الإسلام تعارضاً قوياً. فجاء كتاب توفيق السيف “ضد الاستبداد”، وهو عبارة عن مقدمة لترجمة كتاب “تنبيه الأمة..”، غير الترجمة الأصلية على يد الشيخ الشاعر صالح الجعفري كاشف الغطاء (ت 1979).
يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب: يتناول الباب الأول: لمحة تاريخية في الإمامة، واقتراب الشيعة من الدولة، والمدرسة الشيعية في الحكم. ويدرس الباب الثاني: المشروطة والمستبدة..إيران وتركيا، المشروطة والمستبدة في العراق. أما الباب الثالث فيعالج: النائيني مفكر المشروطية. ورسالة “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”. وبسبب صعوبة رصد شخصيات المشروطة والمستبدة كافة، اقتصر البحث على أحوال زعماء المشروطية والمستبدة في العراق فقط: الآخوند الخراساني، المرجع محمد كاظم اليزدي، المرجع حسين الخليلي، والشيخ عبد الله المازندراني، والميرزا محمد حسين النائيني، والسيد هبة الدين الشهرستاني. حيث نجد في حياة كل شخصية من هذه الشخصيات تفاصيل تضيء البحث في صراعات تلك الفترة.
عموماً، يبقى تاريخ المشروطية والمستبدة، الذي قاد إلى دولة دستورية في تركيا وإيران، وساهم في تهيئة العراق لتقبل مفهوم الديمقراطية في العشرينيات، خلفية ناضجة بمعاييرزمنها للنزعة الديمقراطية والدستورية في المستقبل، تاركة أثرها على علماء الدين في العهود اللاحقة، فليس من عالم يقف ضد الدستور والديمقراطية إلا من باب حماية الدين والتقليد السائر. لهذا حاول علماء الدين بالنجف، عند كتابة الدستور العراقي مؤخراً، التدخل بما يترك للدين هيمنة في التشريع، ولم يقفوا ضد مبدأ الدستور نفسه.
أمور عديدة عادت مرة أخرى، وكأن الزمن توقف عن الدوران. عاد الشيعة يلحون على الدستور، لكن من دون فريق مضاد، بينما تحرك السُنَّة ضده تماماً، وكانت النسبة الأكبر في التصويت عليه في أكتوبر 2005 في المناطق الشيعية والكردية. وحثت المرجعية الدينية الشيعية على قبول الدستور، بينما حثت المرجعية السُنيَّة، ممثلة بهيئة علماء المسلمين، في المناطق الغربية ذات الكثافة السُنية على رفضه. وأخيراً أُقر الدستور مع تقريب وجهات النظر بإضافة مادة تجوز التغيير في مواد. وما أن انتهى الخلاف مع السُنَّة حتى بدأ الخلاف على موقف الدستور من قانون الأحوال الشخصية، وبدأت المرأة بحملة مكثفة ضد ترك العراقيين أحراراً في معاملاتهم الفقهية والتشريعية، أي الرجوع إلى مذاهبهم.
يحضر تاريخ الحركة المشروطية، بعد مرور قرن من الزمان، قوياً في الأحداث، إلى درجة تثير الفضول في الدراسة والإطلاع، فهي مازالت صالحة كأرضية للانطلاق من جديد إلى مشروطية جديدة، وسط الاندفاع الديني، الذي لا ينسجم كثيراً مع تحقيق مشروطية كاملة، على حد عبارة آية الله محمود الطالقاني. إضافة إلى الإزدواجية في الحركات الدينية والطائفية بين النزوع إلى الاستبداد الديني والمذهبي وبين ممارسة الديمقراطية والحياة الدستورية، وسط خراب شامل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. حتى بدا الأمر بين الكيانات الدينية واللادينية صراعاً بين مستبد ومشروط.
المصدر: المدى الثقافي