سيتناولُ الكاتب ( هشام العبد) في هذه المقالة القصيرة مُقارنةً بين نظرة كتب الفقه إلى المولود نتيجة علاقةٍ غير شرعيَّةٍ وبين نظرة كتاب الله له.
موقع الاجتهاد: حين نتحدَّثُ عن علاقةٍ غيرِ شرعيَّةٍ فإنَّنا نقصدُ كلَّ اتصالٍ جنسيٍّ بين رجلٍ وامرأةٍ خارج إطار الزَّواج الإسلاميِّ الذي يهدفُ إلى سكنِ الزَّوجين وإقامةِ جسور المودَّة والطَّمأنينة بينهما[1] ويحفظُ حقوقَ كلٍّ منهما النفسيةّ والاجتماعيَّة والمادِّيَّة التي فصَّلها كتابُ الله.
إنَّ كلَّ اتصالٍ جنسيٍّ بين رجلٍ وامرأة خارج إطار الزواج يُسمَّى “زنا”، وقد حرَّمَ اللهُ تعالى في عدَّة آياتٍ الاقترابَ من تلك الفاحشة[2] وأقرَّ عقوبةً تقتضي بجلد كلٍّ من الزَّاني والزَّانية 100 جلدةً[3] حين تتوافر شروطُ إقامة الحدِّ عليهما[4].
سأتناولُ في هذه المقالة القصيرة مُقارنةً بين نظرة كتب الفقه إلى المولود نتيجة علاقةٍ غير شرعيَّةٍ وبين نظرة كتاب الله له.
أوَّلاً : المولودُ من علاقةٍ غيرِ شرعيَّةٍ في كتب الفقه التقليدي :
إنَّ المولودَ النَّاتجَ عن اتصالٍ جنسيٍّ غيرِ مشروع يجب أن يُنسَبَ إلى أُمِّه البِكر، لا إلى أبيه، وإن كانتِ الزَّانيةُ مُتزوِّجةً فإنَّ المولودَ يُنسَبُ إلى زوجها كما يُجمِعُ أكثرُ فقهاء المسلمين مُستندين بذلك إلى روايةٍ عن رسول الله تقول : ” الوَلدُ للفِراش وللعاهر الحَجَر”[5].
أي إنَّ كل ولد جاءت به زوجةٌ أو أمةٌ يستمتع بها سيدُها [6]فهو لاحقٌ به إذا كان مضى على الدخول أقلُّ مدة الحمل وهو ستَّة أشهر. قال النووي في شرحه للحديث السَّابق: “معناه أنه إذا كان للرجل زوجةٌ أو مملوكةٌ صارت فراشاً له فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد، وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيرُه من أحكام الولادة، سواء كان موافقاً له في الشَّبه أم مخالفاً، ومدَّة إمكان كونه منه ستَّة أشهر من حين اجتماعهما”[7].
والذي نفهمُه من هذا الرَّأي هو أنَّ الإنسانَ لو زنى بامرأةٍ فولدتْ منه بنتاً فيجوزُ له أن يتزوَّجَ هذه البنت، حيثُ إنَّ الزِّنا لا يثبتُ به نسبٌ للولد الزَّاني، فكما يقولُ الإمامُ الشَّافعي في مذهبه الجديد :”ماء الزِّنا لا حُرمة له ولا يثبتُ به نسب”[8]
قادَ هذا الرأيُ الفقهيُّ إلى حرمان المولود من علاقةٍ غير شرعيَّةٍ من ميراث أبيه إذا كانت الزَّانيةُ بكراً.
أمَّا الحسن وابنُ سيرين فقد قبلا بأن يُنسَبَ المولود من الزِّنى إلى الواطئ بشرط إقامة الحدِّ على هذا الأخير كما يقولُ ابنُ قدامة في المغني : “وقال الحسن ، وابن سيرين : “يَلحَق الواطئَ إذا أُقيمَ عليه الحدُّ ويرثه””.[9]
وذهبَ بعضُ الفقهاء إلى أبعدَ من ذلك حين ناقشوا مسألةَ كراهية إمامة ابن الزِّنا في صلاة الجماعة، جاء في “الموسوعة الفقهية” (45 /217-218): اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَا : فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَرَاهَتِهَا وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ :
قَال الْحَنَفِيَّةُ : تُكْرَهُ إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا إِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ مِنْهُ ، لأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُعَلِّمُهُ ، فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْجَهْل ، وَإِنْ تَقَدَّمَ جَازَ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يُكْرَهُ أَنْ يُجْعَل إِمَامًا رَاتِبًا كُلٌّ مِنَ الْخَصِيِّ أَوِ الْمَأْبُونِ[10] أَوِ الأَقْلَفِ[11] أَوْ وَلَدِ الزِّنَا أَوْ مَجْهُول الْحَال .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : لَوْ كَانَ الأْفْقَهُ أَوِ الأقْرَأُ أَوِ الأْوْرَعُ صَبِيًّا أَوْ مُسَافِرًا قَاصِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ وَلَدَ الزِّنَا أَوْ مَجْهُول الأبِ فَضِدُّهُ أَوْلَى . . . وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّ إِمَامَةَ وَلَدِ الزِّنَا وَمَنْ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهُ مَكْرُوهَةٌ “.
وتناقلتْ بعضُ كتب الحديث رواياتٍ مكذوبةٍ منسوبةٍ إلى رسول الله تُحرِّمُ دخولَ الجنَّة على ولد الزِّنا كما في الرواية القائلة : “لا يدخل الجنَّة ولدُ زانية “[12]
أمَّا الشِّيعة فقد ذهبوا إضافةً إلى ما سبقَ إلى عدم قبول شهادة ولد الزِّنا، وتناقلوا الرِّوايات في ذلك عن أئمَّتهم ومنها :
معتبرة أبي بصير ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟ «فقال: لا» فقلت : إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أ نّها تجوز «فقال : اللّهمّ لا تغفر ذنبه ، ما قال الله للحكم : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) »[13]
عن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): «لاتجوز شهادةُ ولد الزنا»[14]
ثانياً : مُناقشة الآراء الفقهيَّة السَّابقة على ضوء كتاب الله :
أقرَّ كتابُ الله قاعدةً وقانوناً لا يجوزُ لأحدٍ تجاهلُه، يقتضي هذا القانونُ نسبةَ الولد إلى أبويه الذين اجتمعا في علاقةٍ جنسيَّةٍ دون تفريقٍ بين الزَّواج الشرعيِّ والزِّنا المُحرَّم. يقولُ تعالى :
” ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ” الأحزاب 5
وفق الآية فهناك نوعان من الآباء : آباءٌ معروفون وآخرون مجهولون، وفي الحالتين سمَّاهما اللهُ تعالى “آباء”. فولدُ الزِّنا الذي لا يُعرَفُ أبوه لا يجب أن يُنسَبَ إلى غيره، سيكونُ أخاً للمُسلمين في دينهم وعوناً لهم.
وقد بيَّنَ اللهُ تعالى في كتابه أنَّ الإنسانَ خُلِقَ من ماءٍ يخرُجُ من صُلب الرَّجل : “فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ”. الطَّارق 5-7
والمولودُ يجبُ أن يُنسَبَ حتماً إلى الصُّلب الذي خرجَ منه الماءُ الدَّافق لحظة القيام بعلاقة جنسيَّة، سواء أكانتْ علاقةً شرعيَّةً أم لا، وإلى هذا يُشيرُ قولُه تعالى : “وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ” النِّساء 23
وفي قصَّة نوحٍ التي يرويها كتابُ الله دليلٌ آخرُ يؤكِّدُ ما ذهبنا إليه، حيثُ يقولُ تعالى : “وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ” الأنبياء 76
في هذه الآية لم يستثنِ اللهُ تعالى أحداً من أهل نوح، وحين خاطبَ نوحٌ اللهَ راجياً منه إلحاقَ ابنه معه في السَّفينة “وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ” هود 45، أجابَه اللهُ تعالى بما يلي : ” قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ” هود 46
لم يكن يعرف نوح عليه السَّلام أنَّ ذلك الولد مولودٌ من علاقةٍ غيرِ مشروعةٍ، وبأنَّه في الحقيقة ليس ابنَه ولم يخرج من صُلبه، وهذا ما أشارتْ إليه بوضوح الآيةُ التَّالية :
“ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا” التَّحريم 10
أي أنَّ امرأةَ نوح قد ارتكبت الفاحشةَ التي نتجَ عنها ولدٌ لم يُنسَبْ إلى نوح عليه السَّلام.
إنَّ اجتماعَ رجلٍ وامرأةٍ في علاقةٍ جنسيَّةٍ خارج إطار الزواج مُحرَّمٌ بكلِّ تأكيد، لكنَّنا لا نستطيعُ فهمَ نسبة الولد إلى الزَّانية دون الزَّاني مع أنَّهما شريكان في العلاقة المُحرَّمة، فمنَ المعلوم أنَّ الرِّجالَ أكثرُ قدرةً على تلبية الاحتياجات المادِّيَّة المُتصوَّرة للاعتناء بالطِّفل الوليد فضلاً عن الاحتياجات العاطفيَّة والنفسيَّة التي تستلزمُ وجودَ الأبوين معاً مع طفلهما الوليد.
لا يوجدُ فرقٌ في هذا الحُكم بين المرأة الزّأنية التي لها زوجٌ أو تلك التي ليس لها زوج، ولعلَّ الرِّوايةَ التَّاليةَ المنسوبةَ إلى رسول الله عليه الصَّلاةُ والسَّلام تؤيِّدُ كتابَ الله تعالى : حدَّثني محمَّد بن بشَّار حدَّثنا ابن أبي عدي عن هشام بن حسَّان حدثنا عكرمة عن ابن عباس أنَّ هلال بنَ أميَّة قذفَ امرأتَه عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : “البينة أو حدٌّ في ظهرك”. فقال : يا رسولَ الله إذا رأى أحدُنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البيِّنة ؟ !
فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : “البينة وإلا حدٌّ في ظهرك”. فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلنَّ الله ما يبرئ ظهري من الحد.
فنزل جبريلُ وأنزل عليه “والذين يرمون أزواجَهم” فقرأ حتى بلغ “إن كان من الصَّادقين” فانصرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها. فجاء هلالُ فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : “إن الله يعلم أنَّ أحدَكما كاذبٌ فهل منكما تائبٌ ؟” ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة. قال ابن عباس فتلكأتْ ونكصتْ حتى ظننَّا أنَّها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضتْ. فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم : أبصروها فإن جاءتْ به أكحَلَ العينين سابغ الأليتين خدلج السَّاقين فهو لشريك ابن سحماء. فجاءت به كذلك فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن[15].
إذاً فقد وضعَ رسولُ الله احتمالَ نسبة المولود إلى الزَّاني مُعتمداً في ذلك على ما توافر بين يديه ذلك الوقت من تشابهٍ شكليٍّ يُمكنُ أن يُلاحَظَ بين المولود والزَّاني، أمَّا لو لم تكن الزَّانيةُ متزوِّجةً فلا شكَّ أنَّ المولودَ يجب أن يُنسَبَ إلى الزَّاني والزَّانية معاً.
ولا شكَّ أنَّ تطوَّر العلم اليوم يُساعد في تحديد نسبِ شخصٍ ما عن طريق تحليل البصمة الوراثيَّة DNA حيثُ يتمُّ أخذُ عينة حمض نووي من الطفل والأم والأب، و في حالة وجود نسخة من أحد مواقع الحمض النووي موجودة لدى الطفل و غير موجودة لدى الشخص الأخر فإنه يستبعد أن يكون هو الأب الحقيقي له.
لعلَّ الفقهاء الذين اجتهدوا في تفسير عبارة رسول الله : ” الوَلدُ للفِراش وللعاهر الحجر” دون النَّظر في كتاب الله، ثمَّ بنَوَا على اجتهادهم في الفهم الخاطئ لها حُكماً شرعيَّاً قد ساهموا في إفساد حياة كثيرٍ من الأطفال الذين لم يكن لهم ذنبٌ سوى أنَّ أبويهما زانيان !
فقول رسول الله_إنْ صحَّ_ يؤكِّدُ ما ذهبنا إليه من نسبة الولد إلى مَنْ اشتركا فعلاً في إنجابه، ومن المعلوم أنَّ إنجابَ طفلٍ يقتضي اشتراكَ رجلٍ وامرأةٍ في فراشٍ واحدٍ سواءَ أكان ذلك بعلاقة شرعيَّة أو بزنا.
وأمَّا قولُ الشَّافعي : “ماء الزِّنا لا حُرمة له ولا يثبتُ به نسب”، فهو مردودٌ بكتاب الله تعالى الذي أكَّدَ على أنَّ العقدَ على امرأةٍ لا يكفي لتحريم ابنتها، بل إنَّ الدُّخولَ بها هو علَّةُ التحريم كما يقولُ تعالى :
“حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا” النساء 23
فُمخالفة الزَّاني لأمر الله لا شبهة فيه، ودخولُه في علاقة جنسية غير مشروعة مُخالفٌ حتماً لأمر الله، لكنَّ كلَّ ذلك لا يعني أنَّه يستطيع الزواجَ من ابنته من الزِّنا.
وبقولنا هذا قال جمهورُ أئمة المسلمين، كأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه، ومالك وجمهور أصحابه، وهو قولُ كثيرٍ من أصحاب الشافعي نفسِه .
واستدل الجمهورُ بقول الله تعالى: حرِّمت عليكم أمَّهاتُكم وبناتُكم [النساء: 23]. وهذه بنته؛ فإنها أنثى مخلوقة من مائه. هذه حقيقة لا تختلف بالحِلِّ والحرمة. ويدل على ذلك حديثُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، في امرأة هلال بن أمية.
وقد اختار ابن القيم قول الجمهور قائلاً: “وقد دلَّ التحريم بلبن الفحل، على تحريم المخلوقة من ماء الزاني دلالةَ الأَوْلى والأحرى؛ لأنه إذا حرُم عليه أن ينكح من قد تغذت بلبنٍ ثارَ بوطئه، فكيف له أن ينكح من قد خُلق من مائه نفسه بوطئه؟ وكيف يحرِّم الشارع بنته من الرضاع لما فيه من لبن كان وطء الرجل سببًا فيه، ثم يبيح له نكاح من خُلق بوطئه ومائه نفسه؟ وهذا من المستحيل[16]“.
على ضوء ما قُلنا في ثبات النَّسب بين الزَّاني وولده من الزِّنا، فإنَّ علاقةَ الميراث بينهما ثابتةٌ أيضاً، فولدُ الزِّنى يرثُ أبويه الزَّانيين إن ماتا.
إنَّ مجرَّد فتح نقاشٍ حول أحقِّيَّة ولد الزنى بإمامة جماعة ٍ من المُسلمين في صلاتِهم أمرٌ يبعثُ على الدَّهشة لأنَّه ينتهكُ أبسطَ قوانين العدالة الإلهيَّة التي لم تُفاضلْ بين البشر إلَّا على أساس التقوى والعمل الصَّالح دون النَّظر إلى الأنساب.
يقولُ تعالى : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحُجُرات 13
فالتُّقوى لا علاقةَ لها بنسبٍ ما، بل هي شيءٌ يكتسبُه الإنسانُ حين يستخدمُ الملكات التي أودعها اللهُ فيه في طريقٍ ارتضاه الله له، فابنُ الزنى ليس مسؤولاً عن الفاحشة التي ارتكبها أبواه، ومَنْ يُحمِّله وزراً لم يفعله فقد خالفَ وضوحاً قولَ الله تعالى :
“قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ” الأنعام 164
قال ابن عبد البر : ” ليس في شيءٍ من الآثار الواردة في شرط الإمامة في الصَّلاة ما يدلُّ على مراعاة نسب ، وإنما فيه الدلالة على الفقه والقراءة والصَّلاح في الدين ” [17]
إنَّ قبولَ بعض الروايات المكذوبة التي تتحدَّثُ عن حتميَّة دخول ابن الزنا نارَ جهنَّم لا يُمكن أن تُقبَلَ من مُسلمٍ يعرفُ أدنى شيءٍ عن عدالة الله، فكيف قبلَ بعضُ الفقهاء والرُّواة افتراءَ مثل تلك الأكاذيب ونسبتَها إلى رسول الله ؟
إنَّ باب التوبة مفتوحٌ أمام الزَّاني نفسه ، وهو بذلك يستطيعُ أن يتوبَ وأن يُكفَّرَ عن خطئه، فما بالُ بعض فقهائنا الذين يُصرُّون على تحميل إنسانٍ جاء إلى الحياة بغير إرادةٍ منه وزرَ فعلٍ فاحشٍ قام به آخرون ؟
إنَّ عدمَ قبول شهادة ابن الزِّنا افتراءٌ على الله القائل : ” وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ” الطَّلاق 2
فما المانعُ من أن يكونَ المولودُ من علاقةٍ غير شرعيَّةٍ عدلاً وتقيَّاً ؟
لماذا يُصِرُّ بعضُ مَن يتحدَّثون باسم الإسلام على الافتراء على الله وتشويه صورة دينه ؟
إنَّ الشَّهادةَ يجبُ أن تٌقبَلَ ممَّن قذفَ المُحصنات فلم يأتِ بشهداء يُؤيِّدونه فأُقيمَ عليه الحدُّ ثمَّ تاب وأصلحَ[18]، فلماذا لا يقبلُها بعضُ الفقهاء ممَّن لم يرتكبْ أيَّ ذنبٍ ؟ !
ثالثاً: هل قولُ الفقهاء بأنَّ أقلَّ مُدَّة الحمل هي ستَّة أشهر صحيحٌ ؟ متى يبدأُ الحملُ ؟
استدلَّ الفقهاءُ في قولهم هذا بالآية التَّالية : “وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ” الأحقاف 15
ولمَّا كانت مُدَّةُ الفِصال عامين كما تقولُ الآيةُ التَّالية : “وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ” لقمان 14 فتكونُ أقلُّ مدَّة الحمل حسابيَّاً هي ستَّةُ أشهر، نعم هذا صحيح، لكن متى يبدأُ الحمْلُ ؟
يقولُ تعالى مُبيِّناً طبيعةَ المادَّة الأساسيَّة التي خُلِقَ منها الإنسان : “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ” المؤمنون 12
فالطِّينُ مزيجٌ من الماء والتُّراب، وهو المادَّةُ الأوَّليَّة في خلق الإنسان، ثمَّ يُتابعُ تعالى مُبيِّناً مراحلَ خلق الإنسان : “ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا” المؤمنون 13_14
إنَّ مراحلَ الخلق السَّابقة لا تقتصرُ على الإنسان فقط، بل تشتركُ فيها كلٌّ المخلوقات الحيَّة، والدَّليلُ على ذلك هو قولُ الله تعالى عن الإنسان : ” ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ” المؤمنون 14
أي أنَّ نفخَ الرُّوح في الإنسان هو الذي يُميِّزُه عن بقيَّة المخلوقات الحيَّة : “ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ” السجدة 6_9
أي أنَّ تسويةَ الإنسان وتمييزَه عن بقيَّة المخلوقات الحيَّة يقترنُ بلحظة نفخ الرُّوح فيه وتزويده بمَلَكات السَّمْع والبَصَر والفؤاد التي لا تتواجدُ عند المخلوقات الأُخرى، لذلكَ قال تعالى : “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” الأعراف 179
فمُدَّة حمل الإنسان في رحم أُمِّه تبدأُ من لحظة نفخ الرُّوح فيه “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ” الأحقاف 15
فالضمير “ه” في ” حَمَلَتْهُ” يعودُ على الإنسان، وقُلنا إنَّ إطلاقَ صفة “الإنسان” مُرتبطٌ بنفخ الرُّوح.
في تلك المرحلة وما يليها يُصبحُ الجنينُ قادراً على التفاعل مع ما يُحيطُ به من أصواتٍ وقادراً على الحركة داخل الرَّحم.
من الآيات المخلوقة نعرفُ أنَّ المُدَّةَ اللازمة من أجل خروج إنسانٍ مُكتملٍ من رحم أُمِّه تستغرقُ تسعة أشهر و12 يوماً تقريباً في الحالات الطبيعيَّة.
وبالعودة إلى الآيتين اللتين استدلَّ بهما الفقهاءُ : “ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا”، “”وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ”” يتبيَّنُ أنَّ الحدَّ الفاصلَ بين تلقيح البويضة ونفخ الروح هو :282 يوماً “المدَّة الطبيعيَّة الكاملة لخروج الجنين من الرَّحم”_180 يوماً “مدَّة الحمل الحقيقي بالإنسان” =102 يوماً.
وعلى هذا يتبيَّن أنَّ عمليَّة خلق إنسانٍ مُكتملٍ وقادرٍ على الحياة لا يُمكنُ أن تتمَّ خلال 6 أشهر فقط، لكنَّ الفقهاءَ الذين لم يفصلوا بين مرحلة الخلق الأوَّلي”المُشتركة بين كلِّ المخلوقات الحيَّة” وبين نفخ الرُّوح”بداية تشكُّل الخلق الآخر الذي سُمِّيَ”الإنسان”” وقعوا في خطأ تحديد الحدِّ الأدنى للحمل والولادة ب 6 أشهر!
أي أنَّ الفقهاءَ اعتبروا أنَّ الحملَ يبدأ من لحظة تلقيح البويضة، وهذا غيرُ صحيح كما رأينا في الآيات السَّابقة.
حين يبتعدُ الفقيهُ عن كتاب الله ويستندُ إلى الأوهام والروايات المكذوبة في استنباط أحكامٍ شرعيَّةٍ فإنَّه يفقدُ دورَه الإصلاحيَّ في المجتمع، وأسوأ حالات الفساد المجتمعي تلك التي تُبَرَّرُ باسم الدِّين وباسم الله، وبسبب خوف المُسلمين من الدُّخول في نقاشاتٍ تُحاولُ تصحيح الأخطاء الفقهيَّة، تحوَّلت هذه الأخيرة إلى مُسلَّماتٍ لا يجرؤ أحدٌ على مُخالفتها، أمَّا نسفُ القرآن الكريم وعدمُ الالتفات لآيات الله فلا يُثيرُ فينا أيَّ خوفٍ، لذلك تحوَّلنا إلى مُجتمعٍ فاسدٍ بغطاءٍ “ديني” !
هشام العبد
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
[1] انظر : سورة الرُّوم، الآية 21
[2] انظر : سورة الإسراء، الآية 32
[3] انظر : سورة النُّور، الآية 2
[4] انظر : سورة النُّور، الآية 4
انظر : سورة النِّساء، الآية 15
[5] البخاري (2053) ومسلم (1457)
[6] في الحقيقة لا يحلُّ الاستمتاعُ بالجاريات دون زواج، وتفصيلُ هذا الموضوع في الرَّابط التَّالي :
http://www.hablullah.com/?p=2742
[7] شرح النووي على مُسلم، كتاب الرِّضاع، باب الولد للفراش وتوقِّي الشُّبهات
[8] انظر : “زاد المعاد ج 4 ص 173 ” وما بعدها وتفسير القرطبى ج 5ص114 “
[9] المغني، كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام، الجزء السَّادس، فصل 4922
[10] المأبون هو شخصٌ فُعِلَ به فاحشة
[11] الأقلف هو شخصٌ لم يُختَتن
[12]الإمام أحمد في مسنده (2/203)، وقِيل عنه : حديثٌ حَسَنٌ صحيح !
[13] الوسائل 27 : 374 / كتاب الشهادات ب 31 ح 1 ، والآية في الزخرف 43 : 44
[14] الوسائل 27 : 375 / كتاب الشهادات ب 31 ح 3
[15] صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة النُّور، باب ويدرأ عنها العذاب، رقم الحديث : 4470
[16] ابنُ القيِّم، زاد المعاد في هدي خير العباد، ص507
[17] “الاستذكار” (2 /168)
[18] سورة النُّور4_