الاجتهاد: يقدم كتاب أنثروبولوجيا الفقه الإسلامي منظورًا مركبًا للنظر في التلقي العقلي والسلوكي للأحكام الشرعية داخل أوساط التعليم الديني الإسلامي، حالة الأزهر في مصر بالتحديد، فيجمع المؤلف بين نظريتين: الأولى «نظرية الممارسة» بوصفها نظرية كاشفة للمسافة بين الحكم الشرعي ولحظة الامتثال السلوكي له، أما النظرية الثانية فهي «نظرية الهرمنيوطيقا» التي تقدم طريقة لمعرفة كيف تكشف الأفعال عن مكنون العقول، سواء كانت هذه الأفعال تُشاهد مباشرة أو تُروى في النصوص والكتب.
مع التطور الذي طرأ على الدراسات الاستشراقية المعنيّة بالإسلام والدراسات الإسلامية، برزت عدَّة اتجاهات منهجية في معالجة قضايا العلوم الإسلامية المختلفة، انشغل بعضها بالسوسيولوجيا التاريخية لهذه العلوم في حقبٍ أو مناطق محدَّدة، وانشغل الآخر بتحليل النصوص الفقهية أو الكلامية بمختلف أنماطها (تصنيف، فتاوی، قضاء)، والحفر خلف تشکُّلات بنية هذه الآراء والأفكار الدينية.
وقد برزت أسماءٌ أكاديمية مرموقة حاولت إيجاد مقارباتٍ أكثر ترکیبيةً لمعالجة النصوص والسياقات التي وُلدِت فيها الآراء والمذاهب الإسلامية المختلفة، وطرحت نماذج تفسيرية جديدة لطبيعة التفاعل الحاصل بين النصوص والمتلقين لها، سواء من علماء الدين أو عموم المسلمين.
ومن أولى المدارس التي انشغلت بدراسة الفقه الإسلامي في الغرب مدرسة المستشرق إجناتس جولدتسيهر”، وتلميذه الذي بنى على مذهبه جوزيف شاخت؛ إذ عُدّا روّاد هذا الاتجاه المعنىِّ بدراسة العلوم الإسلامية في الغرب منذ أوائل القرن العشرين، وقد واجهت كتاباتهم لاحقا انتقادات منهجية متعددة. (1)
ومع تزايد اشتباك الدراسات الفيلولوجية والأنثروبولوجية مع دراسات الإسلام في الغرب، جوَّد عددٌ من الأكاديميين أدواتهم المنهجية وطرقَ اطلاعهم على المصادر الإسلامية الأصيلة، وحسَّنوا من أطروحاتهم في هذا المجال، فبرزت أسماء أكاديمية مرموقة تمثل هذا التوجه الجديد في الدراسات الإسلامية، منها على سبيل المثال : طلال أسد ووائل حلاق، اللذان حاولا الجمعَ – بشكل متميزٍ – بين الإثنوغرافيا والتحليل المكثَّف للنصوص العربية الإسلامية، داخل الأُطر التحليلية الحديثة الرائجة في العلوم الاجتماعية، مُبرزين أدوات التحليل الأنثروبولوجي بوصفه منطلقاً أساسيًا لمعالجاتهم.
وقد استلهم آریا نکیسا Aria Nakissa – مؤلف كتابنا هذا (أنثروبولوجيا الفقه الإسلامي)- الخبرات المنهجية التي راكمها طلال أسد ووائل حلاق في هذا المجال في تجويد أطروحته هنا، بالإضافة إلى العمل الرائد لبرینکلي میسك Brinkley Messick : «أُمَّة القلم الكتابة The Calligraphic State.”. (2)
يقدم هذا الكتاب منظوراً مركّباً للنظر في التلقي العقلي والسلوكي للأحكام الشرعية داخل أوساط التعليم الديني الإسلامي، حالة الأزهر في مصر بالتحديد، حيث يجمع المؤلف بين نظريتين : النظرية الأولى هي “نظرية الممارسة”، بوصفها نظريةً كاشفةً للمسافة بين الحكم الشرعي ولحظة الامتثال السلوكي له، سواء كانت هذه المسافة بين النص والشيخ، أو بين الشيخ والمتلقين عنه.
أما النظرية الثانية فهي “نظرية الهرمنيوطيقا”، التي تقدِّم طريقةً لمعرفة كيف تكشف الأفعال عن مكنون العقول، سواء كانت هذه الأفعال تُشاهد مباشرةً أو تُروى في النصوص والكتب.
وتركّز أطروحة هذا كتاب أنثروبولوجيا الفقه الإسلامي على اختبار الأدوات التحليلية التي يقترحها المؤلف على حالة التعليم العالي الإسلامي في مصر الحديثة، ويشتغل المؤلّف على الجانبَين الرسمي والتقليدي لتعميق النظر في بنية عملية التلقي والتلقين للمضمون المعرفي الديني في هذه المحاضن.
ويراوح المؤلف بين العرض التاريخي لطبيعة الدرس الفقهي في حقبة ما قبل الحداثة، الذي يسمّيه “التعليم الإسلامي التقليدي”، وبين المعالجة التحليلية لمختلف الدروس الفقهية بعد وصول الحداثة إلى مصر.
وقد علل المؤلف هذه المراوحة بأنه أراد أن ينقض بعض الاتجاهات التحليلية التي تصوِّر حالة الدرس الفقهي ما قبل الحداثي بأنها حالةٌ جامدةٌ وراكدةٌ وخاليةٌ من التفاعل مع مستجدات الواقع.
ويمثل هذا الكتاب إضافةً رائدة في الدراسات الأنثروبولوجية المعنيَّة بالدرس الفقهي الحديث في مصر، وهو ما دفع مرکز نهوض للدراسات والبحوث إلى تقديم ترجمته العربية للقارئ العربي، إسهامًا منه في إثراء المكتبة العربية بهذا النوع المهمِّ من الدراسات الإسلامية.
كما يعلن هذا الكتاب انتماءه بوضوحٍ إلى الأنثروبولوجيا التأويلية . ومن المعلوم أنه إذا كانت الأنثروبولوجيا قد ظهرت في القرن التاسع عشر، فإن الأنثروبولوجيا التأويلية لم تتأسَّس إلّا في مرحلة متأخرة، حيث ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين مع كليفورد غيرتز، وذلك في سباق خاص إن أردنا ضبطه، وهو بالتحديد سياق السجال “الإبستمولوجي” في مقابل الأنثروبولوجيا البنيوية والوظيفية.
وتُعَدُّ المقاربة السيميولوجية أهمَّ منظورٍ منهجيٍّ استعملته الأنثروبولوجيا التأويلية في بداية تأسيسها، وتوسُّلها لهذه المقاربة هو ما جعلها تعيد النظر جذريًّا في المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة الذي كان يُقدَّم مع كثيرٍ من الدراسات الأنثروبولوجية من منظورٍ بيولوجي وسيكولوجي.
لقد حرص کليفورد غيرتز في إعادة بنائه لمفهوم الثقافة على رفض نظرية إدوارد تایلور، بل وحتى نظرية كلايد كلوكون، وذلك من أجل التأسيس لأنثروبولوجيا تأويلية.
وبما أن الأنثروبولوجيا – بمحض تعريفها اللغوي – هي علم الإنسان / الإناسة، وبما أن الإنسان كائنٌ رمزيٌ؛ فإن ما يتناسب مع المنظور الأنثروبولوجي حقَّ التناسب هو مقاربة الظاهرة الإنسانية من منظورٍ تأویليٍّ، ومستند هذه المقاربة هو رؤية الأشياء من وجهة نظر الفاعل،
وقد حاول الكتاب الذي بين أيدينا أن ينتهج هذا المنظور، فهو يلاحظ الظاهرة ويصفها (التعليم الديني في مصر)، ويسعى إلى أن يستنطق كيف يرى الشيوخ والمتعلمون المنظومة التعليمية ومحتوياتها.
وهنا تأتي أهمية السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، الذي يدين له مختلف الأنثروبولوجيين التأويليين، حيث كان الرائد الذي أكَّد وجوب تغییر قواعد النظر السوسيولوجي، واعتماد التأويل لأنه مدخل إلى فهم المجتمعات انطلاقًا من مفهوماتها وتصوراتها، بدلا من إسقاط مفاهيم و تصوراتٍ لا تنتمي إلى المجتمع موضوع الدراسة.
أما الجديد الذي يقدِّمه کتاب أنثروبولوجيا الفقه الإسلامي هذا فهو الإسهام النظري الذي يطرحه، حيث يُضاف إلى قائمة الجهود الأكاديمية الغربية الجديدة والمفيدة فيما يتعلَّق بالبحث فيما يمكن وصفُه بـ ” علم اجتماع النص والممارسة الدينيبة”، حيث أولتْ هذه الدراسات اهتمامًا مكثّفًا بالنصوص الشرعية، سواء القرآن والسُّنة أو نصوص العلماء، بالإضافة إلى الاهتمام بتفاعل المسلمين العقلي والسلوكي والسباقي مع هذه النصوص. وهو الذي بلغ أشُدَّه هنا مع أطروحة المؤلف الذي مزج بين عدة أدواتٍ منهجية في حقل العلوم الاجتماعية ، لينجز لنا هذا العمل التحليلي المتميز
كما يركّز هذا الكتاب على حالة الدرس الفقهي في الأزهر، بوصفها دراسة حالة تعطينا – كما سيظهر خلال الكتاب- عمقًا تحليلياً أكثر دقّةً وانضباطًا على المستوى المنهجي، بالإضافة إلى معايشة المؤلف للحالة المدروسة وتفاعله معها تفاعلًا مباشرًا، وإجرائه المقابلات وتدوينه الملاحظات خلال إقامته في مصر، وهو الأمر الذي أكسبه ميزةً منهجيةً ضروريةً للبحوث الميدانية التحليلية.
وهنا يأتي سؤال مهم: ما أهمية مثل هذه الدراسات بشكلٍ عام؟ وما الإضافة التي تقدِّمها للمعرفة العربية الإسلامية؟
وجواب ذلك إجمالًا: أن البحث في تشكُّلات البنى المعرفية في أي بيئة أو حضارة يُعَدُّ بحثًا في التاريخ والماهية وتفکیكًا تلقائيًّا لمكونات الوعي الراهن ومآلاته، وليس هذا التفكيك تفکيکًا بغرض الهدم ويقطع مع الماضي، وإنما هو تفكيكٌ كاشفٌ لتاريخ طويل من التراكم المعرفي والثقافي، والبحث في أدقِّ مكوناته يكشف أمورًا كثيرةً تتعلَّق بالأبعاد النفسية والاجتماعية والدينية التي كانت تحكم السياق التاريخي المدروس.
وإذا ما تتابعت الدراسات في التنقيب عن ظواهرَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ دقيقةٍ في مدًى زمنيٍ محدَّد، فمن المؤكَّد أننا سنخلص إلى نتائج مهمَّة تكشف لنا أجزاءً من الصورة التاريخية التي لا نعلم كلَّ تفاصيلها بطبيعة الحال.
ومن العوامل التي دفعت مرکز نهوض للدراسات والبحوث إلى ترجمة هذا العمل، هو تفوُّق المعطيات السوسيولوجية والأنثروبولوجية المتعلِّقة بالمضمون المعرفي الإسلامي بين كثيرٍ من الكتب والمجلدات التراثية، وغياب التصنيف التخصُّصي العربي الذي يجمع شتات هذه المعطيات، فضلًا عن غياب ما يتعلّق بالتاريخ الإسلامي الحديث؛ إذ إن الفضاء المعرفي العربي تُعوزه مثل هذه الدراسات التاريخية التحليلية بشكلٍ واضحٍ، وإن توافرت معطياته وسهلت على الباحث العربي.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة قد تعرض للقارئ العربي في أثناء هذا الكتاب، ويمكن بيانها على النحو التالي:
نظرا للتباين الجليِّ بين المعجم الإنجليزي والمعجم العربي الإسلامي فيما يتعلق بالمفردات الدينية، فإن نقل مقصود المؤلف من حقله الدلالي الإنجليزي إلى العربية يتطلب وعيًا من القارئ بصعوبة توليد مفردة / مفردات إنجليزية ترادف المفردة العربية الدقيقة التي يقصدها المؤلف؛ لذا سنجد أن المؤلف قد استخدم عدة مفردات وجمل تقتضي دلاليًّا – في العربية – لوازمَ باطلة في حق الله “تعالى” ، وقد حاول المؤلف والمترجم – قدر المستطاع – تجنُّب هذه اللوازم من خلال بيان مقصده الدقيق من استخدام هذه المفردة / المفردات، لكنها تبقى في التقييم العقائدي ذات إشكالٍ وتحفُّظ؛ ولذا | وجب التنبيه.
والحقيقة أن المؤلف قد لازمته رغبة منهجية ملحَّة – فيما يبدو – أن يقارب المفاهيم والديناميات التي يسعى إلى تحليلها من خلال التمثيل والتكييف البشري الواقع، ولو تطلَّب منه ذلك تشبيه أو تكييف الخالق بالمخلوق أو العكس، وهو أمر متفهَّم في السياق غير الإسلامي؛ لأنه خالٍ من التحرزات العقديّة التي تحكم السياق المعرفي الإسلامي.
الهوامش
(1) انظر نقد الدكتور الحسبان شهید لكتاب شاخت “أصول الفقه المحمدي” على موقع مركز نهوض للدراسات والبحوث، على الرابط: ftn1_#/أصول-الفقه-المحمدي-الحوزيف-شاخت،-مر/ https://noloudh-center.com
2 – (1) Brinkley Messick, “The Calligraphic State: Textual Domination and History in a Muslim
Society”, University of California Press (1996).