الشهيد الصدر

منهجية الشهيد الصدر في التعامل الاجتهادي مع النص / الدكتور أحمد مبلغي

الاجتهاد: من المهم أن نرى أن الشهيد الصدر “قدس سره” تحرك في أي سفينة فكرية نحو الاجتهاد ونحو ترشيده وتوظيفه وتقويته؟ وأنه بأي أفكار حدد مسار الحركة المنهجية في التفاعل مع النص؟

عندما نتحدث عن عملية الاستنباط، علينا أن نعلم أن هذه العملية، لها نواة مركزية، والى جانبها عناصر هامشية.

ونعلم أنه طالما لا نفهم كلاً من النواة المركزية للاستنباط والعناصر المحيطة بها، ولا نعرف ما هو تباينهما وما هي العلاقة بينهما، فلا يمكننا بالتأكيد الانخراط في منهجية الاستنباط وإصلاحها وتطويرها، بل في الأساس لا يمكن أن تحصل لدينا معرفة أساسية بالمنهج الفقهي، فضلا عن أن نبتكر فيه ونمنحه العمق ونتوسع في أبعاده.

إن النواة الأصلية لعملية الاستنباط، هو التعامل مع النص، أما العناصر المحيطية فهي مثل القواعد الأصولية والقواعد الرجالية واللغة والعرف والسيرة والمرتكزات والآراء والأقوال وعنصر التاريخ و….

إن العناصر المحيطية في عملية الاستنباط فهي يتمثل دورها في أنها تقع حول النواة المركزية للاستنباط وتلعب دورًا في هذا الإطار، في تحقيق وتوجيه وإعطاء المعنى لهذه النواة وتشكيل نوعها، وعليه فإن طريقة وإطار التعامل مع النص (الذي هو النواة المركزية) يتحققان على أساس هذه العناصر المحيطية.

ومن هنا نجد – مثلا- أنه لا يمكننا فهم مضمون النص دون قواعد الأصول، أو سائر العناصر التي تتدخل في عملية فهم النص مثل آراء الفقهاء أو النظريات الكلامية وغير الكلامية.

التعامل مع النص -الذي هو النواة المركزية في عملية الاستنباط- له ثلاثة خطوط ومسارات أساسية، وهي:

1. عملية تحقيق إصدار النص، 2. عملية فهم محتوى النص، 3. عملية تطبيق النص.

نريد في هذا العرض العلمي أن نعرف ما هو التعامل المنهجي للشهيد الصدر فيما يتعلق بهذه النواة؟ كما نعرف ما هي أهم تلك العناصر الهامشية في رؤيته الاجتهادية.

طريقة تقديم البحث:

يتم تقديم البحث عن منهجية الشهيد الصدر في التعامل مع النص، في محورين:
▪- المبادئ الفكرية المتوفرة لدى الشهيد الصدر والتي أثرت في تكوين إطار وكيفية تعامله مع النص.
▪- قواعد وعناصر التعامل مع النص عند الشهيد الصدر.

أهمية محوريِ البحث:

بطبيعة الحال، ما يشخص ويميز العناصر المنهجية والسلوكية الاجتهادية للشهيد الصدر، هو المحور الثاني، لكن المحور الأول مهم للغاية أيضا؛ حيث إنه يعرض ويعبر عن الأفكار الأساسية والمبادئ الفكرية المصقولة مسبقا للشهيد الصدر والتي أعطت له الآفاق والنظرة الى الاجتهاد، ومهدت له الطريق لاختيار وتبني عناصر فعالة في المنهجية، وخلقت له فضاء للرؤية والمناورة والقوة في الحركة والتفكير في الاجتهاد.

لذلك من المهم جدا أن نرى أن الشهيد الصدر تحرك في أي سفينة فكرية نحو الاجتهاد ونحو ترشيده وتوظيفه وتقويته؟ وأنه بأي أفكار حدد مسار الحركة المنهجية في التفاعل مع النص؟
من هنا يجب التعامل مع المحور الأول بجدية، وبالطبع هذا المحور يمهد الطريق للمحور الثاني الذي يحدد في الواقع قواعد وأساليب وعناصر منهجية الشهيد الصدر.

 سبب ضعف الدراسات المنهجية:

يمكن الادعاء والقول بأن الدراسات المنهجية في مجال الفقه، ليست على ذلك المستوى العالي من النشاط والحضور العلمي الفعال، وسبب ذلك هو فقدان أسس كلامية مصقولة، ومبادئ انطلاقية منقحة مسبقًا.

فالكثير من المجتهدين يندفعون إلى الفقه دون أن يكون لهم موطئ قدم قوي فكري للانطلاق نحوه والدخول فيه، وببيان آخر، ان الكثير عندما يريدون الدخول في الاجتهاد، فإنهم يندفعون إليه أحيانًا دون أن يمتلكوا البنى التحتية الفكرية والنقاط المبدئية الشاملة الممهدة والمؤطرة للاجتهاد، لذلك فهم يتسرعون اليه دون أن تكون لديهم مواقف فكرية واعية تركز قبل دخولهم على منظور الاجتهاد وأهدافه وتحدياته وفرصه وجغرافياه، وبذلك أصبح فقه هؤلاء من حيث الحجم لا يتناسب مع حجم القضايا الناشئة، ومن حيث الجودة لا يلبي احتياجات العصر.

متى تكون حركة الاجتهاد أكثر علمية وسلاسة وفاعلية:

إذا تمكنا في مرحلة مبكرة (أي قبل أن ندخل مجال الاستنباط الفقهي) من تحليل الأفكار اللاهوتية والأنطولوجية والأنثروبولوجية، ومن ثم إنشاء وتنشيط وتنقيح وتأسيس هذه الأفكار، فعندئذ يمكننا من زاوية ومنطلق هذه البنى التحتية إلقاء نظرات عميقة على الساحات التي يريد الاجتهاد حضورها والانتقال إليها ومساعدة الدين وخدمة الإنسان بها ومواجهة العالم المعقد وقضاياه الكبيرة عبرها.

إذا تمكنا من بناء وتنسيق وإعداد مثل هذه الأفكار في هذه المرحلة، فسنجعل أجواء وأهداف الاجتهاد أكثر ذكاءً ودقة، وحركة الاجتهاد أكثر علمية وسلاسة وفاعلية، وفي هذه الحالة سيكون دخولنا إلى الاجتهاد أكثر جدوى وحكمة وأكثر مسؤولية.

البنى الفكرية للاجتهاد لدى الشهيد الصدر
يتم تقديم ومتابعة البحث حول هذه البنى الفكرية على مرحلتين: في المرحلة الأولى سأعرض تعريفاً لهذه المنطلقات الفكرية للاجتهاد، وفي المرحلة الثانية سأعرض هذه المنطلقات من منظور الشهيد الصدر.

هذه التدوينة الحالية تتعلق بتقديم المرحلة الأولى، وعدة التدوينات القادمة تتعلق بتقديم تلك الأفكار الأساسية التي قدمها الشهيد الصدر بقصد تكوين رؤية عقلانية حول الاجتهاد، وجغرافيته، وخصائصه.

تعريف البنى الفكرية للاجتهاد
البنى الفكرية للاجتهاد هي الأفكار التي إذا ضاعت، سيفقد الاجتهاد تلك المواصفات اللازمة، وبالتالي تفقد قدرته على تحقيق فلسفته الوجودية، وهي: “كونه جسرًا بين الشريعة والحياة”.

يتم شرح ذلك من خلال النقاط:
أ) كل فعالية أو مؤسسة لها فلسفة وجودية إذا ابتعدت عن هذه الفلسفة ولم تستطع تحقيقها فإن صلاحيتها وصحتها وشرعيتها تزول وتضيع.

ب) كل فلسفة وجودية – لأي شيء كانت – يتوقف تحقيقها على توافر مواصفات في ذلك الشيء، بحيث لا يمكن للشيء الذي له هذه الفلسفة الوجودية أن يحقق تلك الفلسفة إلا من خلال تلك المواصفات وبفضلها.

ج) لا يمكن توفير المواصفات الضرورية لشيء ما (المتعلقة بفلسفته الوجودية) إلا من خلال تكوين صورة ذهنية وفكرية متكاملة عن هذا الشيء وأوضاعه وأبعاده وأهدافه في مرحلة مبكرة.

د) في هذا الاطار، من المؤكد: ۱- أن الاجتهاد له فلسفة وجودية لأنه ممارسة تدريجية وشاملة ذات أبعاد ومكونات وجوانب وهو شديد الحساسية. ۲- لا يمكن تحقيق هذه الفلسفة الوجودية للاجتهاد على الإطلاق دون أن يتسم الاجتهاد بمواصفات ترتبط وتتعلق بتلك الفلسفة. ٣- لا يمكن إنشاء هذه المواصفات في الاجتهاد ما لم يتم تشكيل فكر عام شامل حول الاجتهاد مسبقًا.

إذا كان هذا هو الحال، فهناك ثلاثة أسئلة:

الأول: ما هي الفلسفة الوجودية للاجتهاد؟ والثاني: تحقيق الاجتهاد لفلسفته الوجودية يتوقف على اتسامه بأية مواصفات وخصائص؟ والثالث: ما هي الأفكار العظيمة المسبقة الخالقة لتلك المواصفات والخصائص في الاجتهاد؟

هـ – أما السؤال الاول فجوابه: أن فلسفة الاجتهاد الوجودية هي أنه يلعب دور الجسر بين الشريعة وحياة الإنسان؛ الدور الذي يتمثل في ان يستكشف ويستخرج المحتويات والأفكار الكامنة والمتأصلة في الشريعة، وينقلها للأجيال الجديدة بمختلف حاجاتها وتحولاتها.

وتكمن أهمية وأصالة هذا الدور في أنه (أي الاجتهاد) هو الجسر الوحيد بین الشريعة والانسان بحيث إنه في غيابه ستبقى الأجيال بلا قوة للوصول إلى الشريعة، وستبقى الشريعة بلا سبيل لنقل محتوياتها إلى البشر.

و – أما السؤال الثاني، فجوابه: أن أهم المواصفات التي يجب اتصاف الاجتهاد بها، هي كالتالي:

١) القدرة على التعامل بدقة مع النصوص وخلق أفضل سياق وأكبر فرصة لنا للحصول على فهم دقيق لزوايا النص والمحتويات المتأصلة فيه.

٢) التواصل مع العالم الواقعي والموضوعي، من خلال التعرف الدقيق على عمق التطورات الاجتماعية في المجتمع.

٣) رصد ومراقبة مصير الدين عبر ارتباطه بالفتاوى التي تنشأ عن حركة الاجتهاد.

والمقصود أن الاجتهاد في الحقيقة يجب أن يراعي باستمرار الخط الحديدي الذي أنشأه للوصول إلى الشريعة، فهل هذه السكة الحديدية تتجه لخدمة الدين، أي تجعل وجود الدين في المجتمع أكثر بروزًا؟ أو يخلق مشاكل للدين؟ فهذا أمر يجب على المجتهد أن ينتبه إليه باستمرار في الإطار الذي اختاره
إذا كان الاجتهاد غير مكترث بهذه القضية، فمن المؤكد أنه سيتجه تدريجياً نحو إلحاق ضرر كبير وأساسي بالدين وبالشريعة بدلاً من خدمتهما.

٤) وجود عين قوية للاجتهاد تركز على مشاكل واحتياجات الإنسان المعاصر. إذا كان الاجتهاد غير حساس تجاه احتياجات الإنسان ولا يلتفت إليها فكيف يمكن اعتباره جسرا بين الشرع والحياة؟! الاجتهاد الذي لا ينقل حلول الشريعة ومحتوياتها إلى الحياة، فهل يمكن اعتباره جسراً ؟!

ز – أما السؤال الثالث فجوابه: أن هذا هو ما نبحث عنه خلال هذا العرض (الذي يتم عبر عدة حلقات وأقسام على التوالي)، وطبعا نسعى بطبيعة الحال لتقديم تلك الأفكار العامة والشاملة والدقيقة المتعلقة بالبنية التحتية للاجتهاد ومساره من منظور الشهيد الصدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky